1099
1

books.almaaref.orgbooks.almaaref.org/static/documents/zoqaq.doc · Web viewكلّ هذه الذكريات والأصوات، کانت لا تزال تتردّد في زوايا حنجرة

  • Upload
    others

  • View
    31

  • Download
    0

Embed Size (px)

Citation preview

Page 1: books.almaaref.orgbooks.almaaref.org/static/documents/zoqaq.doc · Web viewكلّ هذه الذكريات والأصوات، کانت لا تزال تتردّد في زوايا حنجرة

1

Page 2: books.almaaref.orgbooks.almaaref.org/static/documents/zoqaq.doc · Web viewكلّ هذه الذكريات والأصوات، کانت لا تزال تتردّد في زوايا حنجرة

2

دا- ذكريات السيدة زهراء حسيني الكتاب:21سادة القافلة - -الجزء الثاني-

السيدة أعظم حسينيتدوين: ناشر النس��خة

األصلية:سوره مهر

مركز المعارف للترجمةترجمة:دار المعارف اإلسالمية الثقافيةإصدار:

الطبع�����������ةاالولى:

2017بيروت

علي عليقإخراج فني:دبوقطباعة:

ISBN [email protected]

00961 01 467 54700961 76 960 347

Page 3: books.almaaref.orgbooks.almaaref.org/static/documents/zoqaq.doc · Web viewكلّ هذه الذكريات والأصوات، کانت لا تزال تتردّد في زوايا حنجرة

3

Page 4: books.almaaref.orgbooks.almaaref.org/static/documents/zoqaq.doc · Web viewكلّ هذه الذكريات والأصوات، کانت لا تزال تتردّد في زوايا حنجرة

4

Page 5: books.almaaref.orgbooks.almaaref.org/static/documents/zoqaq.doc · Web viewكلّ هذه الذكريات والأصوات، کانت لا تزال تتردّد في زوايا حنجرة

5

المحتويات

7إشارة

8مقدمة لبترجمة

11مقدمة الكتاب

17ظل أبي تراب.1

35هيئات وطيب.2

55للرياضة ترانيم.3

77بين إلزام واختيار.4

115الجبهة األولى.5

157..وأي درر.6

213قنابل الظالم.7

235.. وتحررت خرمشهر.8

253شدوا أحزمتهم.9

Page 6: books.almaaref.orgbooks.almaaref.org/static/documents/zoqaq.doc · Web viewكلّ هذه الذكريات والأصوات، کانت لا تزال تتردّد في زوايا حنجرة

6

289جسور فوق األلغام.10

321في فم األسد.11

335..وفاحت عطور العشق..12

365للعرفان لون واحد.13

391معترضون وأصدقاء.14

447مثلث النار والوفاء والشوق.15

535قعر القدر لذيذ.16

565ترجمة الوثائق والصور

Page 7: books.almaaref.orgbooks.almaaref.org/static/documents/zoqaq.doc · Web viewكلّ هذه الذكريات والأصوات، کانت لا تزال تتردّد في زوايا حنجرة

7

إشارة

الترعرع في زقاق نقاشها، حمامات الس��يد ب��اقر، ص��فاء نن��ه ب��ري، ش��هامات السيد أبو تراب وصوت السالم الذي كان يسمع رده على بع��د ع��دة أزق��ة من تلك الناحية. صوت مجالس العزاء، جرس نوادي رياض��ة الفت��وة )الزورخان��ة(،

صوت االنهيار الثلجي، صوت العشق في ليلة ماطرة، صوت فاطمة خانم.

صوت أزيز الرصاص والشظايا، برد الجبال، حرارة الص��حارى، عي��ون الوال��دةوفاطمة القلقة.

مروءة شباب المحلة، جبين علي أصغر أرسنجاني، ذكريات قاس��م ده باش��ي،ل ك ليالي الجنوب الحافلة بالقنابل المضيئة، ش��باب الهيئ��ة خل��ف الس��اتر، تش��

كتيبة ال تلطم تحت أي راية سوى...

كل هذه الذكريات واألصوات، کانت ال تزال تتردد في زوايا حنجرة الس��يد أبي الفضل كاظمي كما حبيب��ات المط��ر ال��تي تبقى في س��اق س��نبلة القمح؛ وه��اامين[، نحن اآلن نقرأها كلها أو معظمها في هذا الكتاب زق��اق نقاش��ها ]الرس�� ال��ذي خطت��ه أنام��ل الس��يدة راحل��ة ص��بوري، حيث انتقت ه��ذه ال��ذكريات واألصوات الجميلة من أصل حنجرة السيد، وجمعتها باق��ات جميل��ة في مع��ابر

هذا الكتاب.

إننا اآلن نجتاز معابر هذه الحياة، ونعود ]بالذكرى[ إلى س��نوات ليس��ت بعي��دة منا كثيرا. سنوات تطلع كالشمس من خلف هذه الكلمات واألس��طر، لنتع��رف فيها إلى شخص��يات كث��يرة، في مق��دمتهم شخص��ية الس��يد أبي الفض��ل؛ فه��و الذي ترع��رع وأص��بح رجال في زق��اق نقاش��ها، ينقلن��ا الي��وم بكلمات��ه إلى تل��ك

السنوات.

مكتب أدب وفن المقاومةم(.2009ش)1388حوزه هنري خريف

Page 8: books.almaaref.orgbooks.almaaref.org/static/documents/zoqaq.doc · Web viewكلّ هذه الذكريات والأصوات، کانت لا تزال تتردّد في زوايا حنجرة

8

مقدمة الترجمة

مدهش أن يس��رح وج��دان ش��اب نح��و ظالل يعش��قها وال يس��مح بتالش��يها من كيانه، حتى لو وقف أم��ام الن��ار وحدي��د ال��دبابات، من دون أن يقع��ده الخ��وف والقلق. فم��ا يروي��ه الس��يد أب��و الفض��ل ك��اظمي، في زق��اق نقاش��ها يحف��زك

الكتشاف الدوافع، فتعرفها في طيات صفحاته واحدة بعد أخرى.

��ا من ص��ورها ومس��تغرقا في أبعاده��ا ��ا في التفاص��يل، ومرتوي ستمضي متروي الروحية، متنقال بين أحداث وشخص��يات تب��دو متناقض��ة ظ��اهرا، لكنه��ا متآلف��ة

باطنا.

هنا يحكي عن قبض��ايات األزق��ة وفتواته��ا، ذوي األلق��اب والوش��وم والمق��البوالدراجات!

وهن��اك يكش��ف عن رياض��ات وقبس��ات لط��ف مخب��وء، تجلى به��ؤالء الش��باب المتسكعين في أزقة الجبهة وعلى مائدة العملي��ات وطيب الرفق��ة، وبمك��امن

الصفاء في نفوسهم.

في الكتاب، ثمة خواطر تلمع كخاتم عقيق ومنديل عزاء. ال يتخلى عنهما، ذاك المحب الض��احك، رغم مع�ارك كاب��د فيه�ا ج�راح الب�دن وآالم ال�روح، وعاش��ر شخصيات رفيعة وقائدة. وتراه يومض بإشارات عن دور زوجته في درب��ه؛ من اللقاء األول وعلى امتداد الزمن السردي والنفسي. وفيما يخبرن��ا أب��و الفض��ل

عن أصدقاء الجبهات، منذ ما قبل الثورة، الى

Page 9: books.almaaref.orgbooks.almaaref.org/static/documents/zoqaq.doc · Web viewكلّ هذه الذكريات والأصوات، کانت لا تزال تتردّد في زوايا حنجرة

9

تلك اللحظ��ات الجاذب��ة، نع��رف كي��ف تلتقي رغب��ة ال��رفض والمعارض��ة ألج��لاإلصالح، مع الترحال إلى محافل فداء عامرة.

مت على مع�ابر لتش�ق المس��ير بن�ا إلى ك�واكب س��ابحة في هي يوميات قس��المسارات الحسينية. وأي مسارات! وأي خيط موصول!

من إشراق حب الرفيق األوحد إلى حب سبيله والمسلك إلى رضوانه، محم��دوآله عليهم السالم.

هذا الكتاب.. في خضم أضواء هذه المشاهد، وضمن مجموعة أدب الجبهة يس��رنا أن نق��دم

في سلس��لة س��ادة23الترجم��ة العربي��ة لكت��اب زق��اق نقاش��ها؛ اإلص��دار ال��� بعناوين وأشعار تتألأل بين المراحل.1القافلة؛ وقد صدرناه

نقدمه بين يدي الشباب؛ الناهلين من ينابيع الق��راءة، الن��اظرين في ق��دراتهم،والمؤمنين بأنهم يستطيعون التغيير وقادرون، فيتركون أثرا مما يبدعون.

هكذا ال تضيع كنوز الجهاد، كما يلفت االمام القائد الخامنئي بقولهإن اله��اجس الذي أحمله في ذهني هو ه��اجس ض��ياع ثقاف��ة الح��رب وثقاف��ة الث��ورة، وفي الحقيقة روحية الثورة؛ تلك الروحية ال��تي أوج�دت في الح��رب س�احة للرش��د

.2والتكامل

وال يسعنا في هذه اإلشارة إال أن نتقدم بالش�كر الجزي�ل لك�ل من س�اهم في إنجاز هذا العمل فريق الترجمة الحاجة فاطم��ة ش��وربا واألخت إيم��ان ص��الح. والسيد محمد جعفر المسكي الذي وضع المادة األولى لترجم��ة مجموع��ة من

المعابر.

فريق المراجعة والتحرير في مركز المعارف. ونخص السيدة

مختصر 1 مثل أو حكمة إلى مضافا معبر؛ لكل عنوان بوضع قمنا الكتاب لفصول وتمييزا للفائدة تعميما. نفسه المعبر نصوص في ورد شعري بيت من مقتطع

2 ( ال� اإلصدار المقدمة؛ الندية؛ الذكريات نسائم كتاب .14يراجع نفسها( السلسلة من

Page 10: books.almaaref.orgbooks.almaaref.org/static/documents/zoqaq.doc · Web viewكلّ هذه الذكريات والأصوات، کانت لا تزال تتردّد في زوايا حنجرة

10

نجوى الموسوي في مراجعة وتقديم الكتاب.

المدقق اللغوي األستاذ عدنان حمود.

المصمم الفني األخ علي عليق.

ناشر النسخة العربية دار المعارف اإلسالمية الثقافية.

وال ننسى مؤسسة )س��وره مه��ر( ومع��دي النس��خة الفارس��ية ال��راوي الق��دير وصاحب الذكريات السيد أبو الفضل كاظمي؛ الكاتبة راحل��ة ص��بوري؛ ومكتب

أدب وفن المقاومة.

مركز المعارف للترجمةه.المحرر1439 رجب األصب13

Page 11: books.almaaref.orgbooks.almaaref.org/static/documents/zoqaq.doc · Web viewكلّ هذه الذكريات والأصوات، کانت لا تزال تتردّد في زوايا حنجرة

11

قصة هذا الكتاب

��ا في زي�ارة عائلي��ة، حين20061في إحدى ليالي فص��ل الربي�ع من الع�ام ، كن سمعت وصفا ألحد قدامى المقاتلين، حيث جرى حديث مشوق تناول أس��لوب حياته ونمط معيشته، وشجى حديثه وذكرياته بطريقة شعرت معها بأننا نفتق��د

.2لمثل هذه الذكريات بين كتب مذكرات الدفاع المقدس

كنت سعيدة جدا في تلك الليلة ألنني عثرت على موضوع ممتع لكتاب جدي��د، فقررت الذهاب لاللتقاء بهذا المقاتل، إال أنني لم أكن أعرف عنوانه، وجل م��ا كنت أعرفه أنه كان قائد كتيبة ميثم في ي��وم من األي��ام. وعلى ه��ذا األس��اس

قصدت أليام متوالية، بعض األماكن التي احتملت بأنه معروف فيها.

ذهبت إلى مسجد أرك، وإلى مراكز الهيئات ال��تي ش��هدت اجتماع��ات ق��دامى المجاهدين، لكنني في كل محاول��ة كنت أرج��ع خالي��ة الوف��اض، إلى أن ذهبت

في3م إلى تكية2007مع أخي في غروب أحد أيام الص��يف الح��ارة من ع��ام شارع )فدائيان إسالم(، الواقعة في الجهة المقابلة لمسجد

للعام 1 .1385موافق شمسي هجري2 . العشرين القرن ثمانينات في االسالمية الجمهورية على المفروضة الثمانية السنوات حرب أيالمراسم 3 أو والعزاء العبادة مراسم إلقامة مكان وهي العثمانيين، عهد إلى يعود تأسيسها أول تكايا؛ جمعها

. األخرى الدينية

Page 12: books.almaaref.orgbooks.almaaref.org/static/documents/zoqaq.doc · Web viewكلّ هذه الذكريات والأصوات، کانت لا تزال تتردّد في زوايا حنجرة

12

)فيروز آبادي(، في أحد أزقة طهران القديمة، التي على ال��رغم من ض��يقها ال تشعر بانقباض الص��در. عن��د غ��روب ذل��ك الي��وم ك��ان الن��اس يس��تعدون ألداء الصالة والدعاء مفترشين األرصفة، وإذا برجل أربعيني ينهض من بين الجم��وعا أنن��ا غرب��اء عن ويتوج��ه إلين��ا بمج��رد أن وق��ع نظ��ره علين��ا، حيث ظه��ر جلي

المنطقة.

سألني من تريدين، يا أختاه؟.

قلت ل��ه أبحث عن الس��يد أبي الفض��ل ك��اظمي، قائ��د كتيب��ة ميثم، أتيت لكيأجري معه مقابلة.

فور س��ماعه باس��م الس��يد أبي الفض�ل، ابتس��م وب�ان الس�رور على مالمح��ه، وبلحن مليء بالمحبة واالعتزاز ق��ال أعرف��ه جي��دا. ك��ان قائ��دي أي��ام الح��رب.

اذهبا إلى شارع )صدر األشراف( وخذا عنوانه من مسجد )التوفيق(.

قصدنا ش��ارع ص�در األش�راف، ونحن في قم��ة الس�عادة لمحالف�ة الح�ظ لن��ا.، رافقن��ا أح��د الش��بان عندما وصلنا إلى مسجد )التوفيق( كان الظالم ق��د ح��ل

الواقفين أمام المسجد إلى منزل السيد أبي الفضل.

عندما فتح الباب وقع نظري على رجل خمس��يني، طوي��ل القام��ة وذي نظ��رةحادة وثاقبة.

دعانا بمحبة لكي نحل علي��ه ض��يوفا في ه��ذه الليل��ة، وكأن��ه يعرفن��ا من��ذ زمن طوي��ل، لكن في تل��ك الليل��ة وفي زق��اق نقاش��ها نفس��ه تح��دثت مع��ه بش��كل مختصر عن فكرة جمع ذكريات الحرب، وأجلت توضيح التفاص��يل إلى جلس��ة

أخرى بعد أن أعطيته رقم هاتفي ليعاود االتصال بي.

في طريق عودتي إلى المنزل لم تكن تفارقني ص��ورة نعل��ه الحري��ري، فمن��ذ زمن طويل لم أر مثل هذا النعل في قدم أحد، وكذلك لم يف��ارقني خاتم��ه وال

طريقة كالمه.

Page 13: books.almaaref.orgbooks.almaaref.org/static/documents/zoqaq.doc · Web viewكلّ هذه الذكريات والأصوات، کانت لا تزال تتردّد في زوايا حنجرة

13

بعد أن مضى أسبوع أو أسبوعان على لقاء تلك الليلة، أظه��ر أخ��يرا ش��جاعتهوشهامته المعهودة باتصال هاتفي أبلغني فيه استعداده للمقابلة.

وفي الي��وم نفس��ه ح��ددنا موع��دا للمقابل��ة والتع��ارف في مكتب أدب وفنالمقاومة، وأجريت المقابلة األولى.

كان راوينا يتكلم بطالقة باللهجة الطهرانية األصيلة الممزوجة بأدبيات األبطال )القبضايات(، بعيدا عن التكل��ف األدبي المعاص��ر؛ بحيث إن��ني وج��دت نفس��ي

وبعد االنتهاء من المقابلة أمام كم هائل من المصطلحات والكلمات الخاصة.

في بداية األم�ر، ظننت أن كلمات�ه وعبارت��ه لن تتس�ع له�ا س��طوري وأوراقي، ولن أستطيع أن أف��رغ محت��وى كالم��ه ليص��ل إلى الق��ارئ بالش��كل المناس��ب والالئق، لكن على أي حال، هو لم يكن بمنزلة موضوع تحقيقي ح��ول الت��اريخ الشفهي للحرب؛ بل اخترته كممثل لذلك الجيل الذي تبعدني عدة فراسخ عن

أدبه وثقافته.

كنت أجري المقابالت يوما بين يومين ولمدة ساعتين كل م��رة، وانتهيت منه��ا بعد ثالثة أشهر. وكان حاصلها تسجيل صوتي مدت�ه أرب�ع وس��تون س�اعة، وم�ا يقارب العشرين ساعة محادثة تلفونية. بعد ذلك تم تفريغ أش��رطة المق��ابالت

المسجلة؛ كلمة كلمة.

م. في البداية س��عيت إلى2008بدأت بتدوين وكتابة الذكريات منذ ربيع العام ��ف أن أعرض األحداث بعيدا عن أي شكل من أشكال التنمي��ق الخي��الي والتكل األدبي المعروف في كتابة الذكريات، حتى أكون قد أديت حق األمان��ة، ونقلتبشفافية الكالم الذي تلقفته لمدة ساعات من المقابالت، إلى مقصده سليما.

بعد االنتهاء من تدوين نص الرواية كاملة قرأها الراوي مرتين، حيث

Page 14: books.almaaref.orgbooks.almaaref.org/static/documents/zoqaq.doc · Web viewكلّ هذه الذكريات والأصوات، کانت لا تزال تتردّد في زوايا حنجرة

14

قام باإلصالحات ال��تي يراه��ا مناس��بة، وإزال��ة الغم��وض عن بعض المض��امين،��رني بتق��ديم وت��أخير بعض األح��داث، وك��ان خالص��ة ك��ل ذل��ك ه��ذه وأحيانا ذك

الرواية التي بين أيدينا.

وهنا أرى أنه ال بد من ذكر نقط��ة مهم��ة، وهي أن ه��ذه الم��ذكرات نقلت على لسان قائد الكتيبة الوحيد الذي خدم في الجبهة كتعبوي ومتط��وع في الفرق��ة

محمد رسول الل��ه، وال��ذي ش��ارك طيل��ة أي��ام الح��رب في عملي��ات ع��دة27 بص��فته قائ��دا لكتيب��ة ميثم. وفي8 وك��ربالء5كعنصر حر، وفي عمليات كربالء

العملي��ات المختلف��ة ك��ان عرض��ة بش��كل مس��تمر لرص��اص الع��دو وش��ظاياه، فأصيب بجروح خطيرة بل ومميتة، م��ا زالت آثاره��ا وأعراض��ها إلى الي��وم في جسده وحيات��ه. فق��د أدخ��ل م��رتين إلى مستش��فى ساس��ان بس��بب ع��وارض صحية ناشئة عن استنشاق الغ��ازات الكيميائي��ة الس��امة أثن��اء الح��رب، ولكن��ه ظل يشارك ويتابع جلسات المقابلة بفضل ثقته بنفس�ه، وإرادت�ه القوي�ة ال�تي

يتمتع بها مجاهدو هذا البلد.

تستحق ذكريات هذا السيد التأمل واالهتمام من حيث إنه كان قائد كتيبة وكان على تواصل وارتباط بمراكز القرار والقيادات الرفيعة المس��توى في الح��رب، كم��ا ك�ان على معرف�ة بخط��ط الح�رب والخرائ�ط، ه�ذا من جه�ة، ومن جه�ة أخرى، كان على احتكاك وتواصل وثيق بالعناص�ر داخ�ل المجموع�ات القتالي�ة�ة من المجاه�دين إلى عم�ق وقوات الهجوم. فكان يتقدم ليل��ة الهج��وم م��ع ثل جبهة العدو ويقاتلوا األعداء وجها لوجه. إن عرض وحكاية مش��اركته وحض��وره في هاتين الساحتين المعقدتين، دفعاني إلى البحث والتحقيق في تاريخ حرب

السنوات الثماني وعملياتها.

كانت نتيجة هذه التحقيقات بنظري مهمة ج��دا، ألن��ني كلم��ا بحثت في خط��ط الحرب وخرائطها والكتب البحثية والتحليلية حوله��ا، تحققت من ه��ذه النقط��ة

أكثر، وهي أن لحن الكالم العذب والجذاب لرواية ذكريات

Page 15: books.almaaref.orgbooks.almaaref.org/static/documents/zoqaq.doc · Web viewكلّ هذه الذكريات والأصوات، کانت لا تزال تتردّد في زوايا حنجرة

15

الحرب، ومعرفة الثقافة والعالقات االجتماعية واإلنس��انية الحاكم��ة على جم��ع المجاهدين في فترة الح��رب، أك��ثر أهمي��ة وجاذبي��ة من الدراس��ات والتحالي��ل

العسكرية الجافة.

في الخت��ام أق��ول إذا م��ا اس��تطعت من خالل ت��دوين ه��ذا الكت��اب أن أعكس صورا من زوايا الحرب المفروضة وتضحية مجاهدي كتيب��ة ميثم، ف��إنني أع��زو

ذلك إلى ألطاف الله الرحمن، وتسديد شهداء الحرب العظام.

وهنا ال بد من أن أشكر جميع األش��خاص ال��ذين س��اعدوني بلهف��ة إلنج��از ه��ذااألمر الهام. وخاصة

- جناب السيد مرتضى سرهنكي م��دير مكتب أدب وفن المقاوم��ة ال��ذي ك��انالداعم األساس إلنجاح هذا العمل.

- عائلة السيد أبي الفضل كاظمي، لتعاونها الجدي. - عوائل الشهداء الكرام الشهيد علي أص��غر أرس��نجاني، حس��ن بهم��ني، ح��اج قاسم دهباشي، عائلة حجة اإلسالم الشيخ محمد علي نجفي، لتقديمهم ص��ور

شهدائهم األعزاء وسيرهم الذاتية. - المجاهدين المضحين دوما جناب الس��يد محم��د الل��ه ص��فت، مجي��د عاب��دي،

داوود محمدي، الحاج أمير صفري، لرفدهم إياي بصور بعض الشهداء. - الفريق الفني لمكتبة الحرب التخصصية، وبالخصوص الس��يد عس��كر عب��اس

نجاد، لتقديمه المصادر والمعلومات العسكرية والحربية.- السيد محمد سليمان حشمتي، لتعريفه براوي هذا الكتاب.

- زوجي المضحي وابني العزيز بوريا، لمحبتهما ومعاونتهما اللتين ال تنسيان.- وكل من مد لي يد العون.

راحلة صبوري2009حزيران

Page 16: books.almaaref.orgbooks.almaaref.org/static/documents/zoqaq.doc · Web viewكلّ هذه الذكريات والأصوات، کانت لا تزال تتردّد في زوايا حنجرة

16

Page 17: books.almaaref.orgbooks.almaaref.org/static/documents/zoqaq.doc · Web viewكلّ هذه الذكريات والأصوات، کانت لا تزال تتردّد في زوايا حنجرة

17

ظل أبي تراب

..واإلحرام الحقيقي في البحث عن الحبيب

الواق��ع بين ش��ارعي ص�فاري وخراس�ان في منطق�ة1ولدت في زقاق نقاشها في طهران. وال�دي الس��يد أب�و ت��راب ك�اظمي طباطب��ائي،2محطة الترامواي

. أمض��ى أي��ام ش��بابه في بل��دة زواره3ك��ان من جماع��ة القبع��ات المخملية الزراعية، قرب مدينة أصفهان، وتعرف تل��ك البل��دة بمدين��ة الس��ادة ألن أغلب

أهلها من السادة الهاشميين.

بلغني عن والدي الكثير من المديح، وأنه عرف في قريته ومحيطها بالتس��امح��ه لم والصفح والكرم واإلحسان. وعلى الرغم من كونه أحد وجهاء البل��دة، لكن

ومضيافا،4يتعلق بحطام هذه الدنيا الفانية. كان نبيال شهما

1 ) في ) علم اسم هو كما فأبقيناه نقاشها زقاق أو حي االسم بهذا عرف وقد الدهانين؛ أو الرسامين أيالكتاب.

2 . دودى ماشين كارد بالفارسيةالمروءة 3 أصحاب يرتديها ما غالبا المخمل، من مصنوعة لها حواف ال القبعات من نوع المخملية القبعات

. إبان جماعته مع قام الذي قصاب مهدي الحاج كان وآخرهم طالبا يردون وال سائال يخيبون ال الذين والشهامةتوزيع ومراكز مطابخ من بالقرب واألطفال للنساء الحماية بتأمين إيران على الحلفاء وهجوم العالمية الحرب

.) والراوي. ) نجفي الحسن أبو للمؤلف عاميانه، فرهنك كتاب من الطعام4 ) من ) مجموعة وديدن مسلك السالفة األزمنة في كانت ، الشهامة أو الفتوة جوانمردي جوانمرد؛ بالفارسية

. عليهم، واالغداق واستضافتهم أمورهم، وتدبير الناس إعانة دأبهم الفتية أو الفتيان اسم عليهم يطلق الشباب . - - . كالمه وبدأ الفتوة عن حديثه في نامه قابوس في المعالي عنصر فصل وقد والسخاء الكرم بمبدأ عمال

. الناس صفات من ثالثة هي الفتوة أن بني يا اعلم بالقول

Page 18: books.almaaref.orgbooks.almaaref.org/static/documents/zoqaq.doc · Web viewكلّ هذه الذكريات والأصوات، کانت لا تزال تتردّد في زوايا حنجرة

18

وما انفك يستقبل على مائدته المدعوين وغير الم��دعوين، ويالزم��ه في اللي��ل والنهار شخصان أو ثالثة من األقارب واألصدقاء والكسبة، يحلون ضيوفا عن��ده

على مائدة الغداء أو العشاء.

بع��د س��نوات، وألس��باب ع��دة، ت��رك وال��دي زوجت��ه األولى في زواره قاص��دا طهران من أجل تحسين الدخل والمعيشة، مصطحبا معه أوالده الثالث��ة ال��ذين شبوا واشتد عودهم، وهناك وفق للعمل في نزل يستقبل المس��افرين، يملك��ه يهودي ي��دعى عب��ادي، ويق��ع عن��د البواب��ة القديم��ة لح��رم الش��اه عب��د العظيم

الحسني المعروفة ببوابة حضرتي )وهي حاليا في أول شارع صاحب جمع(.

ا في بل��دة زواره، وق��د امتل��ك ج��دي ض��يعة ��ة أيض�� 1عاشت عائلة والدتي الثريا للفن والش��عر. ولكن وع��ددا من األراض��ي يعم��ل فيه��ا الفالح��ون، وك��ان محب الزمان غدر به ففقد ثروت��ه وتب��دلت أحوال��ه؛ م��ا اض��طر أمي وإخوته��ا الثالث��ة لترك القرية والرحيل إلى طهران على أمل أن يجدوا حياة أفضل. أحد ه��ؤالء اإلخوة خالي السيد عب�اس، اس�تطاع أن يعم�ل عن��د وال�دي في ن��زل عب��ادي،

كانت تربط العائلتين معرفة قديمة ووثيقة.

في أحد األيام، وألمر ما، ذهب والدي إلى منزل أهل والدتي، فوق��ع في حبه��ا من النظرة األولى، ولم تحل األع�وام الثالث�ون ال�تي ش��كلت الف�ارق العم�ري بينهما دون زواجهما. فوالدتي كانت شابة يافعة وحيوية، على عكس أبي الذي كان كبيرا في السن، وكان قد زوج ولدين من أوالده؛ لهذا أظن أن والدتي قد ضحت وآث��رت مص��لحة إخوته��ا على نفس��ها في ه��ذا االرتب��اط. بع��د زواجهم��ا اشترى والدي منزال في منطقة محط��ة ال��ترامواي حيث انتقلت أمي وعائلته��ا

للعيش فيه، وفي ذلك المنزل القديم ولدت أنا

1 . وبساتين مزرعة

Page 19: books.almaaref.orgbooks.almaaref.org/static/documents/zoqaq.doc · Web viewكلّ هذه الذكريات والأصوات، کانت لا تزال تتردّد في زوايا حنجرة

19

العبد الفقير، أبو الفضل.

م(،1956مرضت والدتي وأدخلت المستشفى في العام ال��ذي ول��دتني في��ه ) وكنت االبن الخامس بين إخ��وتي الس��بعة. وفي خض��م تل��ك الف��ترة وأح�داثها، أعطى والدي إحدى غرف المنزل ل��زوجين ليس��كناها بش��كل م��ؤقت، إذ ك��ان متعارفا في ذلك الوقت أن من عنده غرف إض��افية، يق��دم إح��داها ل��ذي عف��ة��ا ��ا لس��نوات عدي��دة مجان من المحت��اجين، من دون أي مقاب��ل، فيس��كنها أحيان

ويعيشون مع بعضهم البعض كعائلة واحدة.

من هؤالء، أتى العم بهرام وزوجته معصومة آينه دار التي ص��اروا ينادونه��ا في��زل، وق��د1منزلنا بري . قب��ل ق��دومهما، كان��ا يعمالن في بيت أح��د أص��حاب الن

قادهما القدر إلى والدي. كانت السيدة بري تبل��غ من العم��ر اث��نين وأربعين أو ثالث��ة وأربعين عام��ا، متوس��طة القام��ة، م��دبرة، ذكي��ة ومؤمن��ة. وأدى مجيئه��ا المترافق مع مرض والدتي إلى تقربي منها بعفوي��ة، وق��د زاد تعلقي به�ا يوم��اا ثانية لي، أو بتعبير آخر كالمربية ال��تي أرس��لت إلي بعد يوم، حتى أصبحت أم

من السماء حتى ترعاني، وعندما كبرت قليال، صرت أناديها ماما بري.

وكما قيل لي الحقا، إن ماما بري ظلت تحملني في قماطي كل يوم وتأخذني إلى المستشفى ألرضع حليب أمي، ومن ثم تعي��دني ظه��را إلى الم��نزل. وألن مام��ا ب��ري وزوجه��ا ال ينجب��ان فق��د أحب��اني كث��يرا. في عم��ر الثالث أو األرب��ع سنوات ك�انت مام��ا ب��ري تجلس�ني في حجره�ا وتعلم�ني س��ورة الحم�د وآي�ة الكرسي، وعندما أقرأها كله�ا بش�كل ص�حيح عن ظه�ر قلب، تعطي��ني ج�ائزة

. وفي وقت2تشجيعية عبارة عن الزبيب والقضامة

1 Perri2 . والمحمص المجفف الحمص

Page 20: books.almaaref.orgbooks.almaaref.org/static/documents/zoqaq.doc · Web viewكلّ هذه الذكريات والأصوات، کانت لا تزال تتردّد في زوايا حنجرة

20

��دها وأتعلم منه��ا أداء الصالة كانت تضع لي تربة إلى جانب س��جادتها ح��تى أقل الفريضة. وكم غفوت في الليل وهي تسرد لي قصصها. تعلقت بها إلى درج��ة أني صرت أتناول غدائي وعشائي في غرفتها، وكلما طبخت مرق اللحم تض��ع في غطاء القدر قطعة من اللحم والش��حم، ومن ثم تفص��ل اللحم عن العظم وتطعمني إي��اه؛ فق��د كنت أحب ه��ذا الطب��ق كث��يرا. في إح��دى الم��رات، عن��د الغداء، ولشدة ولعي ونهمي رحت أدور ح��ول قص��عة م��رق اللحم، فانس��كبت

على قدمي وأحرقتها.

ر معي، وكلم��ا أما العم بهرام فكان رجال كادحا، وقد اهتم بي كثيرا ولم ويقص�� عاد من عمله ليال، أفرغ كل ما جناه خالل يومه على السجادة، فأس��رع نح��وه

ألجمع التومانات، وال أعيد إليه المال حتى يعطيني تومانا ترضية ومكافاة.

اعتادت ماما بري الذهاب مرة أو مرتين خالل األسبوع للزيارة، فتأخذني معها ألنني -بحسب قولها- كنت األكثر لباقة واألفض�ل ح�ديثا من بين األوالد، لك��أني فيهم المغرد كالبلبل. وكانت زيارة ق��بر ابن بابوي��ه وق��بر الس��يد والش��اه عب��د العظيم وسيلة من وسائل التسلية بالنسبة لنا في تلك األيام. فق��د راق��ني في

طفولتي الذهاب للزيارة وقضاء بعض الوقت واالستمتاع بمشاهدة حينا.

نا يعرف ب�ساحة الحفرة، ألن أطرافه مليئة بالشقوق والحف��ر، ويش��به كان حي ساحة دائرية الشكل أفرغ التراب منها. في تلك الفترة ك��انت منطقتن��ا مليئ��ة

بحانات الترياق والطرب والقمار.

في ما مضى، غالبا ما أدخلت صفات األشخاص واألم��اكن في إطالق األس��ماء عليها، كنت تجد أن كل اسم يحمل عالمة خاصة عن ذاك المكان أو الشخص،

إذ ساد بين الطهرانيين إطالق األلقاب والكنى؛ فاسم العائلة

Page 21: books.almaaref.orgbooks.almaaref.org/static/documents/zoqaq.doc · Web viewكلّ هذه الذكريات والأصوات، کانت لا تزال تتردّد في زوايا حنجرة

21

في ذل��ك ال��وقت لم يكن مت��داوال بينهم. ولنف��رض أن أح��دهم ت��رك ش��اربيه ينموان حتى أذنيه، أو أن الزمان أفقده شعر رأسه فص��ار أص��لع، ف��إنهم حتم��ا سيضعون إلى جانب اسمه لقب أبو ش��نب، أو األص��لع، كت��ذكرة بالش��اربين أو

بالصلع.

��ني أدركت آخ��ر أيام��ه، ك��ان أما ذلك ال��ترامواي ال��ذي لم أح��ظ بركوب��ه، ولكن لكثرة الدخان األسود والغليظ المنبعث من��ه والن��اتج1يسمى ب�سيارة الدخاني

��ز عن احتراق الوقود، فقد دخل مرحلة التقاعد عن��دما ص��رت أس��تطيع أن أمي بين الحسن والق��بيح، وش��يئا فش��يئا أص��بح يع��د من الماض��ي. فالن��اس س��ابقا استخدموا ذلك الترامواي لالنتق��ال من أعلى س��احة ش��وش إلى ح��رم الش��اه عبد العظيم، وهو المتنزه خ��ارج المدين��ة، فمن أراد أن يبلغ��ه مش��يا لن يص��ل إليه إال بشق األنفس، خاصة عندما يذهب م��ع العائل��ة. وبع��د ف��ترة من توقف��ه عن العمل وضعوه في وسط الحديقة العامة كمعلم جميل مقصود للمشاهدة،وكل طفل كان يولد في محيط ذلك الحي يلقب مباشرة بابن محلة الدخاني.

في ذلك الزمن، ركبت يوما مع ماما ب��ري في عرب��ة يجره��ا ثالث��ة أحص��نة من محطة الترامواي الواقع��ة في أول ش��ارع خراس��ان، وقص��دنا م��دفن الس��يدة مل��ك خ��اتون. وهي زوج��ة طغ��رل أح��د مل��وك إي��ران الق��دامى، لم تكن من السادة، ولكنها كانت امرأة جديرة والئقة، لطالم��ا ق��دمت المس��اعدة أله��الي مدين��ة ري. وهم في المقاب��ل وفوه��ا الجمي��ل ب��إطالق لقب الس��يدة، واتخ��اذ

المحبين قبرها مزارا.

ا، ولكثرة الحفر فيه؛ كانت في ذلك اليوم، سلكت العربة طريقا ترابي

1 . دودى ماشين. باماشين-

Page 22: books.almaaref.orgbooks.almaaref.org/static/documents/zoqaq.doc · Web viewكلّ هذه الذكريات والأصوات، کانت لا تزال تتردّد في زوايا حنجرة

22

تهتز وتصدر الكثير من األصوات، حينها كنت أتناول المثلجات التي اشترتها لي ماما بري بسعادة ال تقدر. ومن سوء حظي أنني لم أك��د أنهيه��ا ح��تى أص��ابني ألم حاد في أسناني ال يمكن وصفه، فصرت أص��رخ من أعم��اق قل��بي ووص��ل صراخي إلى عنان السماء. وضعت رأس�ي في حج�ر مام�ا ب�ري أبكي وأتل�وى من األلم. مسحت بيدها على رأسي وهمست بشيء في أذني، وفج��أة اختفى األلم. مسحت دموعي بكم قميصي وس��ألتها م��اذا فعلت ح��تى ذهب الوج��ع؟،

قالت ال شيء يا بني، فقط قرأت سورة اإلخالص ونفخت في وجهك.

مع مرور األيام أدركت كم أن الخالة بري امرأة نقية، مؤمنة، صبورة، قنوع��ة، طاهرة ومحافظة على الوضوء والذكر وصالة الليل بش��كل دائم. وأش��هد الل��ه أنها لم تتفوه يوما بكذب أو غيبة أو نميمة أو شكوى. وغالبا ما كانت صامتة أو مشغولة بالذكر والتسبيح. علمتني الخالة بسيرها وسلوكها، اإليمان والعرف��ان العملي، وأض���فت على حي���اتي برك���ة ورحم���ة. وتل���ك األطعم���ة التقليدي���ة،

الفحمي، والموق��د النفطي، ك��انت تظه�ر منتهى القناع��ة بالنس��بة1والس��ماورالمرأة.

مهما كان شأن اإلنسان وعمره فه��و بحاج��ة لناض��ج كب��ير في الس��ن يرش��ده. فدائما ما يبحث الناس عن مرشد لهم في المدارس المختلف��ة، وق��د يغفل��ون وجود أشخاص حولهم أنقياء الباطن، مخلصين، مؤمنين، يستطيعون أن ي��بينوا لهم الطري��ق المس��تقيم ح��تى ال ي��تيهوا عن ج��ادة الص��واب. ه��ؤالء أنفس��هم�اب وال في مصابيح الطريق وه��داة ال�درب يعلمونن�ا أش��ياء ال نج��دها ال في كت

مدرسة.

منذ اليوم الذي تعرفت فيه إلى ماما بري حتى اليوم الذي أقعدت فيه،

1 . والكهرباء الغاز على تعمل منه أنواع صنعت ثم ومن الفحم، على يعمل كان الشاي، إلعداد إناء

Page 23: books.almaaref.orgbooks.almaaref.org/static/documents/zoqaq.doc · Web viewكلّ هذه الذكريات والأصوات، کانت لا تزال تتردّد في زوايا حنجرة

23

��ة أو توق��ع لمقاب��ل. في تل��ك األي��ام لم تنعم ال��بيوت بقيت تخدمنا من غ��ير من بوجود المياه الساخنة، وال التمديدات الصحية، فكانت ت��أتي بالمي�اه من الب�ئر،

.1وتغسل الثياب واألمتعة في الحوض، وتطهو الطعام على البابور

ما زلت أذك��ر جي��دا في أي��ام طفولتن��ا أنهم لك��ثرة م��ا ك��انوا يغس��لون الثي��اب واألمتعة في حوض الماء يصبح آسنا في نهاية األسبوع، وإذا لم ينظف بسرعة ويزال الوحل منه تستوطنه الديدان والبعوض، وال يمكن لألسماك الحمراء أن تعيش فيه، عندها يأتي دور محمد منظف األحواض؛ فيرفع بنطاله إي��ذانا بب��دء��ا من الف��رح كلم��ا عملية إف��راغ الم��اء اآلس��ن من الح��وض. وأن��ا أقيم مهرجان حضر، أجلس في الزقاق إلى جانب القناة حيث يفرغ محمد مياه الحوض دلوا دلوا؛ فأضع يدي فيها إلى المرفق أللتقط األسماك الص��غيرة الحم��راء، وألعب به��ا. وأبقى ألعب وأغ��وص في تل��ك المي��اه اآلس��نة إلى أن ت��أتي مام��ا ب��ري

وتجرني إلى الغرفة.

إلى جانب قيامها بأعمال المنزل، كانت ماما بري تعت��ني بي وب��إخوتي، الكب��ار منهم والصغار، ما فسح المجال أمام أمي لتقوم باألعمال الخيرية، وتأخ��ذ دور المصلحة والمرشدة في المنزل والحي. وما يزال زق��اق نقاش��ها ش��اهدا علىخت في ال��ذاكرة. مكان��ة وال��دي مئات األعمال الخيرية التي قامت بها، وترس�� ومسلكه وأخالق��ه أدت إلى أن تك��ون لوال��دتي مكان��ة ومنزل��ة ل��دى الج��يران. وكلما أرادوا أن يخيطوا عباءة بيضاء)تشادور( لعروس ك��انوا ي��أتون بالقم��اش

والمقص حتى تقص أمي القصة األولى تبركا، ألنها من السادة.

لم تقص��د أمي مدرس��ة، ولكنه��ا ترع��رعت وس��ط عائل��ة عريق��ة في الش��عر واألدب. ك��انت تق��رأ أش��عار حاف��ظ وس��عدي، وكأنه��ا ق��د حص��لت على إج��ازة

جامعية. وفي كل سؤال أسأله أو مسألة أستشيرها بها كانت تختم

1 . الكاز على يعمل موقد

Page 24: books.almaaref.orgbooks.almaaref.org/static/documents/zoqaq.doc · Web viewكلّ هذه الذكريات والأصوات، کانت لا تزال تتردّد في زوايا حنجرة

24

حديثها ببيت من الشعر. في إحدى المرات سألتها أنت ال تجي��دين الق��راءة والالكتابة فكيف تعرفين كل هذه األشعار؟.

فأجابتني في صغري، كان ي�أتي إلى منزلن��ا في زواره الم��يرزا ه��دايت ق�ريب��ق حول��ه ويع��زف الموس��يقى على والدي، وهو شاعر أيضا، في الليل كنا نتحل

، وأنا جالسة إلى جانبه، فأحفظ كل2، ويقرأ أشعار حافظ والشاهنامه1آلة التارما يقرأه عن ظهر قلب.

وعن كرم والدتي حدث وال حرج، كانت تق��ول دائم��ا يجب أن يظ��ل ب��اب بيت الرجل مشرعا دائما للضيوف، فالناس يقصدون المنزل الذي يس��تقبلهم أهل��ه بوجه حسن، ال فق��ط بالس��فرة المم��دودة. وله�ذا لم ت�نزعج ق��ط من ض��يوف والدي في أي وقت. وكان من عادتها إقام��ة مجلس ع��زاء في الي��وم الح��ادي عش�ر من ش�هر مح�رم ك�ل س�نة، وبقيت على ه�ذه الع�ادة ح�تى بع�د م�رور خمسين عاما، وبقيت ت��زور بمفرده��ا بي��وت بعض ج��يران الحي ال��ذين بالك��اد

نذكرهم نحن أو نزورهم.

أدركت وال��دتي طب��اع وال��دي أك��ثر من أي أح��د، وله��ذا اس��تمرا على وف��اق، فحافظت على غرف�ة اس��تقبال الض�يوف مرتب��ة ونظيف�ة. في ك�ل ي�وم وف�ق عادته عند الظهيرة، كان أبي يأتي إلى المنزل مص��طحبا مع��ه بعض المع��ارف والض��يوف، فيق��ول ي��ا الل��ه ي��ا الل��ه، وي��دخل مباش��رة إلى الغرف��ة، المع��دة

الستقبالهم.

ك��ان بيتن��ا مؤلف��ا من ط��ابقين، وخمس غ��رف، وغرف��ة اس��تقبال هي األك��برواألوسع واألنظف من بقية الغرف. وألن إعداد الطعام لمثل هذا

1 . التركي العود أو البزقبمنزلة 2 وهو فردوسي، المشهور الفارسي للشاعر تراثي شعري كتاب الملوك ملحمة أو الملوك كتاب

. على الحفاظ في الملحمة هذه ساهمت والخرافية الحقيقية القصص الشعر قالب في جمعت وطنية ملحمة. الفارسية واللغة التراث

Page 25: books.almaaref.orgbooks.almaaref.org/static/documents/zoqaq.doc · Web viewكلّ هذه الذكريات والأصوات، کانت لا تزال تتردّد في زوايا حنجرة

25

الع��دد من الض��يوف ليس ب��األمر الس��هل أب��دا؛ فكلم��ا زاد ض��يوفه أوك��ل أم��ر الطعام ألمي وللسيدة شيرين، التي عمل ابنها حارسا في النزل. وفي الصباح يقول للسيدة شيرين أعدوا طعاما لعش��رة أش��خاص! يجب أن يك��ون الطع��ام��ا نن��ادي الس��يدة جاهزا عند الظهيرة والمائدة محضرة الستقبال الضيوف.. كن شيرين بالعم�ة. هي من كرمانش��اه، وتتح��دث باللهج��ة الكرمانش��اهية العذب��ة، وصاحبة ذوق رفيع، ومدبرة منزل مرتبة وفطن��ة. أم��ا طبخه��ا اللذي��ذ فال يعلى

عليه، كما كان بإمكانها الطهو لخمسين شخصا في آن واحد.

بعد أن يذهب الضيوف يأتي دورنا مع أمنا لنتحلق ح��ول وال��دي. وعلى ال��رغم من مرور السنوات فإن هيبة والدي ما تزال حاضرة في المنزل. ك��ان طوي��ل القامة، عريض المنكبين، قوي البني��ة، هيبت��ه تج��برك على اإلص��غاء إلى كالم��ه والعم��ل وفق��ه. ف��إذا رأى مص��لحة في ت��زويج ش��اب وش��ابة بت األم��ر برف��ع الصلوات، وهكذا كان يضع لهما حجر األس��اس لحي��اة مش��تركة، فال رأي يعل��و على رأيه. وإذا ما حصل خالف أو شجار بين أف��راد عائل��ة يك��ون ه��و المص��لح بينهم. يقول كثيرون إن السيد تراب كان حالل المش��اكل. لكن، بس��بب ص��غر س��ني لم أس��تطع أن أدرك أيام��ه وأعرف��ه جي��دا. وح��تى عن مدين��ة طه��ران القديمة فإني ال أذكر سوى أشياء مبهمة عن شكلها، وكل ما علمت��ه عنه��ا ه��و ما سمعته من أمي، ولكن الراسخ في ذهني أنها عرفت من��ذ الق��دم كعاص��مة التجارة والعمل والرزق. وكل من كانت قدماه تطآن طهران، وامتل��ك القلي��ل من الحنكة والدراية، ال يكاد يمض��ي ع��ام على إقامت��ه فيه��ا ح��تى يجم��ع م��اال، ويصبح ميسور الحال، ويعيش في بحبوحة ورخاء. وألج��ل ذل��ك أص��بح مت��داوال على األلسن يكفي أن تمشي في شوارع طه��ران لتجم��ع األم��وال. م��ا دفعهم

لبناء أسوار وبوابات ضخمة

Page 26: books.almaaref.orgbooks.almaaref.org/static/documents/zoqaq.doc · Web viewكلّ هذه الذكريات والأصوات، کانت لا تزال تتردّد في زوايا حنجرة

26

في أطرافها للحفاظ على األمن من جهة، ولتسهيل تردد التجار والعم��ال، منجهة أخرى.

عندما هاجر والدي من زواره إلى طه�ران. ك�ان لتل�ك المدين��ة س��ت بواب��ات، وعلى كل بوابة برج وسور وحارس. مع غروب الشمس تغل��ق البواب��ات، ومن

يأتي بعد ذلك، عليه االنتظار خارجا إلى صباح اليوم التالي.

وفي زمان الشاه ناصر الدين بلغ عدد البوابات اثنتي عشرة بوابة، وقد شقت طرق ترابية تصل م��داخل المدين��ة بمركزه��ا. كم��ا حف��روا ع��ددا من الخن��ادق

واألخاديد في محيط طهران، واستخدموا ترابها في البناء.

بعد ذلك أصبحت هذه الحفر ملجأ للمدمنين والس��ارقين والمج��رمين. ك��ل م��اان حكم رضا خ��ان عت مدين��ة1ذكرته كان إب ، وق�د ذهب وتالش��ى بع�د أن توس��

طهران، ولم يبق منه سوى االسم وبعض المعالم المندرسة.

شيدت بالقرب من تلك البوابات نزل كث��يرة الس��تراحة المس��افرين وم��بيتهم. وفي أول شارع صاحب جمع كان هناك محط��ة لتفري��غ حمول��ة الجم��ال، حيث عرفت بمحطة الجمالين، وألنه لم يكن يسمح للجمال بالتجوال داخل المدينة، ك��ان عليهم إف��راغ حمولته��ا من البض��ائع هن��اك، في��أتي النق��الون والحم��الون

لوضعها على البغال والعربات التي تجرها الخيول، ونقلها إلى داخل المدينة.

زل( الکب��یرة والص��غيرة من اللبن في تلك الحقبة، بنيت محطات القواف��ل )الن والطوب، وكان هناك شيء مشترك فيما بينها؛ أنها محاطة بحجرات مبنية من

اللبن، وفيها دواوين ومصاطب مرتفعة قليال عن مستوى

الطاغوتية ) 1 البهلوية الدولة مؤسس والديكتاتور، وقد( 1925�1941الشاه بعده؛ رضا محمد ابنه وجاء ؛. األبد إلى بمملكتهم الخميني االمام بقيادة االسالمية الثورة أطاحت

Page 27: books.almaaref.orgbooks.almaaref.org/static/documents/zoqaq.doc · Web viewكلّ هذه الذكريات والأصوات، کانت لا تزال تتردّد في زوايا حنجرة

27

��ا به��دف األرض، ومعدة الستراحة المسافرين. أما سقف ال��ديوان فك��ان مقبب دف��ع الح��رارة وال��برودة، أو إلعطائ��ه ش��كال جميال، أو لع��ل بعض��هم )في ذل��ك الزمن( لم يكونوا يعرفون صناعة شكل آخر من األسقف. أم��ا الج��انب اآلخ��ر من المحط��ة فك��ان يض��م مش��ارب للمي��اه ومس��تودعا للقش والقمح. ومن��ذ الصباح الباكر يبدأ صانعو العجالت والسكافون والح��دادون بالعم��ل في الجه��ة األخرى من المحطة بجد ونشاط، ولكل واحد منهم حجرته التي ي��دفع أجرته��اا دف��ع الم��ال مقاب��ل إي��داع لوالدي. كما كان على مالكي الجمال والتج��ار أيض��

أحصنتهم وعرباتهم وإنزال بضائعهم هناك.

زل( في ذلك الوقت باألمر السهل، فهي تحتاج إلى لم تكن إدارة المحطة )الن التحلي باألمانة والحنكة والكياسة والخ��برة. وك�انت تع�د من األعم�ال المهم��ة��ا والمربحة، وليس بمقدور أي شخص حديث العهد بهذه المهنة أن يص��بح أمين عند أصحاب السوق والتجار. واستطاع وال�دي بإيمان��ه وص��دقه في العم��ل أن

يحتل مكانة في قلوب أهل المنطقة والتجار والكسبة.

��زل. ما زلت أذكر ذلك اليوم الذي أمسكت فيه يد وال��دي وذهبت مع��ه إلى الن

ا عن��د الحائ��ط يبكي من مص��يبة ألم�ـت ب��ه. وفي الطري��ق رأيت رجال جالس�� أرسل والدي أحد عماله الذي يثق به في إنجاز أعماله وقال له انظ��ر م��ا ب��ال هذا الشخص. فرجع العامل قائال ال شيء سيدي، أصيب بداء السل، ويجب أن يذهب إلى المستشفى، ولكنه ال يملك المال. فما كان من والدي إال أن أخ��رج

من جيبه ماال وأعطاه للعامل وهمس في أذنه شيئا لم أفهمه.

وألنني سبق وسمعت أنه ك��ان ل��دى وال��دي زوج��ة)أولى( وأوالد، ل��ذلك ظننت في أيام طفولتي أن ذلك الرجل المصاب بالسل هو أخي غير الشقيق أو أح��د

أقربائنا حتى أعطاه المال من دون تردد. ولكنني في ما بعد أدركت

Page 28: books.almaaref.orgbooks.almaaref.org/static/documents/zoqaq.doc · Web viewكلّ هذه الذكريات والأصوات، کانت لا تزال تتردّد في زوايا حنجرة

28

��ا، وحينه��ا تعلمت من أبي أل��ف ب��اء الرحم��ة والس��خاء أن��ه ك��ان إنس��انا غريبوالشهامة.

ومن أجل هذه الرحمة والكرم ونصرة الضعيف التي كان يبديها تجاه اآلخرين، أحبه واحترمه الصغار قبل الكبار، وأح��نى الش��باب والش��يبة رؤوس��هم أمام��ه. فكل وجيه خسر رأس ماله وكسدت بضاعته وأصبحت مروءت��ه وس��معته على��ا. هك��ذا ظلت ��ه لن يرج�ع خائب المحك كان يطرق باب أبي، وهو على يقين بأن أخالقه؛ فهو ال يبالي إذا م��ا ك��ان المحت��اج إنس��انا جي��دا أو س��يئا، المهم عن��ده قضاء حاجة هذا اإلنسان، فلم يكن يحفل لماض��ي المحت��اج وس��وابقه؛ ف��األمر سيان عنده أكان من أصحاب السوابق أو األشقياء، الم��دمنين أو المس��جونينا؛ فكل من يطلبه لحاجة تراه يندفع الفارين من وجه العدالة، أو كان رجال عادي

بكل وجوده لقضاء حاجته.

اشتغل لدى والدي عشرون سائقا، بعضهم كان يحم��ل الفواك��ه والخض��ار من النزل بواس��طة العرب��ات ليأخ��ذها إلى المدين��ة، إم��ا لل��بيع أو لتس��ليمها لتج��ار السوق، والبعض اآلخر، وظيفتهم نق�ل الرك�اب بالعرب�ات والح�افالت، فيخ�رج الجميع في الصباح الباكر إلى العمل ليعودوا ليال ويض��عوا ح��افالتهم وعرب��اتهم

عند حارس النزل.

أما أنا فان��دفعت بفض��ولي الطف��ولي وحب االطالع إلى معرف��ة ورؤي��ة أص��غر التفاص��يل في ال�نزل، وس��عدت بمش�اهدة الس��كافين والح��دادين، كلم�ا رأيت

حصانا أو بغال كنت أرميهما بأي شيء يقع في يدي من حجر أو قطع خشب.

ا عند الظهيرة إلى قهوة مش علي1اعتاد والدي أن يذهب يومي

1 . المقدسة مشهد مدينة زار من على يطلق لقب مشهدي، مخفف

Page 29: books.almaaref.orgbooks.almaaref.org/static/documents/zoqaq.doc · Web viewكلّ هذه الذكريات والأصوات، کانت لا تزال تتردّد في زوايا حنجرة

29

التي تقع مقاب��ل ال��نزل. فيس��تقبله ص��احب القه��وة ويض��ع ل��ه متك��أ ويهتم ب��ه ويكرمه. كان والدي يدخن النرجيلة ويتحدث عن المواضيع اليومي��ة واألح��داثرون ل��ه بعض في ذلك الزمان، والجميع هناك من عمال أو عاطلين ك��انوا يس��

أمورهم ويشكون همومهم.

��ا م��ا دخن كب��ار في ذلك الوقت زرع الخش��خاش )األفي��ون( في الق��رى، وغالب��ا على اإلطالق، ب��ل ب��دا أم��را متعارف��ا علي��ه السن الترياق، لم يعتبر األمر عيب ورائجا، وربما كان يوحي بش��يء من األبه��ة أو كدالل��ة على الغ��نى. كم��ا وج��د أشخاص يشكون من آالم مبرحة في الق�دمين والظه�ر واستس�لموا للض��عف. فيقوم الطبيب حينها بإعطائهم الترياق لتسكين آالمهم فيصبحوا مدمنين علي��ه

إلى آخر العمر.

في ذل��ك ال��وقت ك��ان الم��دمنون على األفي��ون والحشيش��ة ي��بررون إدم��انهم ، وأثر الترياق مقارنة1ويقولون لكل شيء سلطان، وسلطان النشوة الهرويين

به ال شيء يذكر، وهو بمنزلة عشبة طبية.

في أحد األيام، جاء أحدهم إلى والدي وهو ج��الس في قه��وة مش علي وق��ال ل�ه ي��ا س��يد ت��راب لس��ت أمل��ك ق��وت ي��ومي. ف��أخرج أبي توم��انين من جيب��ه

وأعطاه إياهما من دون أي سؤال.

فقال أحد الجالسين قرب والدي سيدي ال تعطه شيئا هذا الشخص مدمن.

فسأله والدي هل أنت واثق من كالمك؟.- أجل أنا والجميع يعلم أنه مدمن.

يفوق 1 المفعول قوي مخدر وهو بالماء، وغليها حرقها بعد الخشخاش زهرة عصارة من محضر الهرويين. بكثير األفيون

Page 30: books.almaaref.orgbooks.almaaref.org/static/documents/zoqaq.doc · Web viewكلّ هذه الذكريات والأصوات، کانت لا تزال تتردّد في زوايا حنجرة

30

- حسنا، وإن يكن مدمنا، اذهب وناده.

وعندما استدعاه قال له والدي لم أكن أعلم أنك مدمن، خ��ذ ه��ذين التوم��انيناآلخرين ألجل إدمانك، وما أعطيتك إياه سابقا هو نصيب زوجتك وأوالدك.

وكثيرا ما تداول الناس مثل هذه القصص المؤثرة عن والدي، معظمهم انتق��ل 1951إلى رحمة الله تعالى، وما زال األحياء يشهدون على ذلك. بين العامين

م، ك��ان ك��ل من ي��أتي إلى طه��ران من زواره والق��رى المج��اورة له��ا1961و يسأل عن نزل عبادي والسيد تراب، فال يطل الوقت حتى يصبح مال��ك حج��رة

بكل لوازمها، وكل ذلك بفضل جود أبي وكرمه.

قبل الغروب كان والدي يقضي ساعة إلى ساعتين بجرد الحسابات، ثم يذهب إلى الم��نزل فيخل��ع معطف��ه ويعلق��ه على الج��دار، ثم يجلس ويب��دأ بالتس��بيح

واضعا يده على ركبته المثنية.

كانت أمي تقول ل��ه ي��ا س��يد، إن دخلن��ا الي��ومي س��بعة أو ثماني��ة تومان��ات أاليتوجب علينا الحج؟.

، أم��ا إذا اس��تطعت1فيجيب وما مكة غير حجر يرشدنا إلى الصراط المستقيم إدخال الفرح على قلب أحد، أو حفظ ماء وجهه، فكأنك زرت مكة أل��ف م��رة، هذا ليس بأقل من زيارتها، بل ربما إن الثواب ال�ذي تكس��بينه أك�ثر من ث��واب

الحج بمئات المرات.

في طفولتي كنت أجلس إلى ج��انب وال��دي، أو على ركبت��ه، وأس��تمع لحديث��هوحديث كبار العائلة. كنت أذهل بسبحته الصفراء اللون )السندلوس(

في 1 هو الحقيقي واإلحرام المستقيم الصراط إلى يرشدنا حجر غير مكة وما وترجمته شعر بيت من مصرع. الحبيب عن البحث

Page 31: books.almaaref.orgbooks.almaaref.org/static/documents/zoqaq.doc · Web viewكلّ هذه الذكريات والأصوات، کانت لا تزال تتردّد في زوايا حنجرة

31

المصنوعة من الكهرب األلماني، فمادتها تلمع كلما وق��ع عليه��ا الض��وء، وك��ان يعجبني خاتمه العقيق، ومن ذل��ك الحين تمنيت ل��و أني أمتل��ك س��بحة وخاتم��ا

مثلهما.

في أحد األيام عند الظهيرة ذهبت إلى النزل ممسكا بيد والدي، وكان العم��ال في الديوان العلوي قد طبخوا مرق اللحم ألنفسهم، ال أعرف ألي سبب وغاية توجه والدي نحو القدر، وفج��أة رف��ع غط��اءه ومن ثم أدار وجه��ه نح��و العام��ل وسأله من أين أتيت بحبات الليمون المجفف الكب��يرة ه��ذه؟. فأج��اب العام��ل لقد تمزق أحد أكياس الليمون، ووقعت منه بعض حبات الليمون فأخذت أربع��ا منها ووضعتها في القدر. لم يكد العامل ينهي كالمه حتى غض��ب وال��دي وق��ام بركل القدر بقوة فسقط من أعلى الديوان ووقع في باح��ة ال��نزل، وانتش��رت حبات الحمص والفاصولياء في كل مكان. وقع العامل المسكين أرضا، ولشدة خوفه لم يعد يستطيع أن يتزحزح من مكانه، شتمه والدي ببعض الش��تائم، ثم

أخذ بيدي وخرجنا من النزل.

وعندما شاهده السيد عبادي مالك النزل، تبعه مسرعا وقال ي��ا س��يد ت��راب!!ما حدث ليس باألمر الجلل، لقد أساء العامل التصرف، لقد أخطأ...

لم يستمع والدي لهذا الكالم، وظل يمشي بسرعة وهو يقول لو آمن اإلنس��ان بالموت والقبر ويوم الحساب، لما مد يده إلى مال غيره، ال يمكنني أن أك��ون شريكا م��ع ه��ؤالء في أك��ل الم��ال الح��رام. وه��ذه الحادث��ة أدت إلى أن ي��ترك والدي نزل السيد عبادي إلى األبد. لم يمض وقت حتى قام والدي بعقد اتفاق مع شخص نسيت كنيته، لكن، ما زلت أذكر اسمه ما شاء الل�ه، وه�و مع�روف باسم ما شاء الله كور، وينص العقد بينهما على أن يتولى والدي إدارة ال��نزل، وتكون األرباح بينهما مناصفة. يقع نزل ما ش��اء الل��ه ك��ور ب��القرب من مي��دان

شوش وجرف عش النحل، إلى األعلى

Page 32: books.almaaref.orgbooks.almaaref.org/static/documents/zoqaq.doc · Web viewكلّ هذه الذكريات والأصوات، کانت لا تزال تتردّد في زوايا حنجرة

32

منه يقع نزل حسين بلند. هذا الجرف مث��ل أغلب حف��ر وأج��راف طه��ران في��ه جحور عديدة ومختلفة الحجم حيث كان يتس��كع في��ه المش��ردون والس��ارقون وقطاع الطرق والمدمنون ويتخذون منه وكرا لهم، وألن جحوره ك��انت كث��يرة عرف بجرف عش النحل. كان ميدان شوش يتصل أيضا بشارع ترابي ع��ريض انتشرت مستودعات القش والقمح والحظائر على جانبيه، ثم تحول فيم�ا بع�د إلى سوق بيع الزجاج، وما زال هناك حتى يومنا هذا. وفي تلك الس��نة اش��ترى والدي شاحنة من طراز انترناشيونال ليسهل عملي��ة نق��ل البض��ائع من ال��نزل إلى السوق. وكان سائقها األخ أكبر، وبفضل الله بدأت عجلة الزمان تدور كما

يتمنى والدي ويشتهي، وتحسن وضعه المالي كثيرا.

كان وال�دي ش��ديد التعل��ق بالعائل��ة، ومش��غوال على ال�دوام بإقام��ة الس�هرات واستقبال الضيوف وزيارة األعمام واألرحام القريبين والبعيدين منهم. في تلك

، اجتم��ع م��ا يق��ارب األربعين أو الخمس��ين عائل��ة من1السنة، في يوم الطبيعة أقاربن�ا، وك�ان أكثرن�ا يمتل�ك ش�احنات، فركبناه�ا وذهبن�ا في نزه�ة إلى ج�ادة مشهد. كانت تلك المنطقة تتمتع بسهول خضراء جميل��ة وتك��ثر فيه��ا األش��جار والمزروعات التي تس��مح لألوالد ب��اللعب، وللكب��ار باله��دوء واالس��ترخاء. ك��ان

وك��رة الق��دم، ويقض��ون وقتهم بالتن��ازع من2الرجال يلعبون لعب��ة دق الح��ابي الفائز ومن الخاسر. كان الح��اج محم��د رحم�تي أح�د األق�ارب البعي��دين، وه�و بطل العائلة، مفتول العضالت، ق��وي البني��ة، وحين يض��رب الخش��بة الص��غيرة

بالمضرب تطير ما يقارب السبعين مترا. وعند

1 . الشمسية الهجرية السنة في شهر أول من عشر الثالث وهو الطبيعة يومحجرين، 2 على يوضع قصير وآخر طويل شجرة غصن عن عبارة وهي الشعبية، األلعاب من لعبة الحابي دق

من الخصم أفراد أحد يتمكن ال ،كي ممكنة مسافة أبعد إلى الطويل الغصن بواسطة قذفه الالعبين أحد وعلى. به اإلمساك

Page 33: books.almaaref.orgbooks.almaaref.org/static/documents/zoqaq.doc · Web viewكلّ هذه الذكريات والأصوات، کانت لا تزال تتردّد في زوايا حنجرة

33

تقسيم الفرق، كانت كل فرقة تريد الحاج محمد معها.

أما حسن خان عامري، عاشق الضحك وإض��حاك اآلخ��رين، فينتق��ل من حلق��ة إلى أخرى، يشرب الشاي، ويلقي الدعابات والطرائ��ف فيغش��ى على الجمي��ع من شدة الضحك. وهكذا، فقد طغت على الجميع عالقات المودة واأللف��ة، فال

تكبر وال استعالء.

وض��من أج��وائهن، ك��انت النس��اء يض��ربن على ال��دف والطبل��ة، ويص��نعن مناسباتهن الخاصة، وفي الختام توضع األطعمة التي جيء به��ا على الس��فرة،

ويتناول الجميع الطعام هنيئا مريئا.

وكان في العائلة والمعارف أشخاص )ق��د توف��وا اآلن، وهنيئا ألرواحهم(، إذ لم ير أو يسمع عنهم أنهم اغتابوا أحدا، أو تناقلوا النميم��ة وغيره�ا. وك�انوا جميع��ا

شاكرين للنعم اإللهية.

تسليتنا األخرى كانت خالل الذهاب في أي��ام الص��يف إلى قري��ة حص��ار حس��ن التي تتميز بهوائها العليل ومياهها العذبة، وتقع بالقرب من مدينة ورامين،1بك

ومختارها السيد حسين، وهو من أقارب والدي البعيدين؛ كان يتلعثم في نطق الكلمات، فيستغرق ساعة حتى يقول جملة واحدة. فكنا نلقبه ب�السيد حس��ين

. ولكن، يشهد الله أنه كان رجال مؤمنا، كريما وطيبا، ك��ان يكرمن��ا2الرز بحليب ويقدم لن��ا من فاكه��ة بس��تانه، ويعطين��ا ص��ناديق العنب والتف��اح واإلج��اص، أو

يرسلها لنا.

عندما جاءت ابنة السيد حسين إلى مدينتنا أعطتها أمي إحدى غ��رف الم��نزل، وبقيت ضيفة في منزلنا م��دة طويل��ة. كنت دائم��ا أنظ��ر إليه��ا نظ��رة األخ إلى

أخته.

1 .) ( . بك حسن حصن قلعة أو حصن حصار2 . بالحليب األرز كما الكالم رخو ألنه بالحليب األرز بحلويات تشبيهه

Page 34: books.almaaref.orgbooks.almaaref.org/static/documents/zoqaq.doc · Web viewكلّ هذه الذكريات والأصوات، کانت لا تزال تتردّد في زوايا حنجرة

34

Page 35: books.almaaref.orgbooks.almaaref.org/static/documents/zoqaq.doc · Web viewكلّ هذه الذكريات والأصوات، کانت لا تزال تتردّد في زوايا حنجرة

35

هيئات وطيبإن أخذوا.. فقد أخذنا

ك��ان عم��ري س��ت س��نوات حين التحقت بمدرس��ة "جمش��يد" في ش��ارعا ا ش��اهي واح��دا، أش��تري مروح��ة ورقي��ة1"درخشنده". اعتدت أن أصرف يومي

وقطعة قمر الدين، أستمتع بت��ذوقها وأن��ا في ط��ريقي إلى الم��نزل. في بعضا في صندوق الحظ، فيحالفني الحظ أحيانا ألربح قرانا، األيام كنت أرمي شاهي

وأحيانا أخرى كنت أرمي عشر شاهيات وال أربح شيئا!

اعت��دت على وض��ع دف��اتري وكت��بي في غرف��ة الخال��ة ب��ري، حيث كنت أنج��ز فروض��ي بس��رعة ال��برق وأنطل��ق إلى الحي، أللعب ك��رة الق��دم، الح��رامي والبوليس، والسلم واألفعى حتى غروب الشمس. كانت دراس��تي جي��دة ح��تى الصف الرابع. تحلى األساتذة باللطف، وبعضهم كانوا عديمي الرحمة يضربون

التالميذ بالكابل والخرطوم.

لطالم��ا ب��دا ب��واب مدرس��تنا "نركيس��ان"، عج��وزا عب��وس الوج��ه بخيال س��يئ الخل��ق، ال أح��د من التالمي��ذ يطي��ق رؤيت��ه. ك��ان ي��بيع على عربت��ه في باح��ة

المدرسة المثلجات والنقوالت صيفا، والشمندر والفول الساخن شتاء. في

1 . تومان ثم قران ثم شاهي الكاتب زمن في طهران في النقد ترتيب

Page 36: books.almaaref.orgbooks.almaaref.org/static/documents/zoqaq.doc · Web viewكلّ هذه الذكريات والأصوات، کانت لا تزال تتردّد في زوايا حنجرة

36

��نيت برك��ة مس��تطيلة؛ كلم��ا اق��ترب عي��د رأس الس��نة، وسط باحة المدرسة ب يقوم نركيسان بإفراغ الحوض ليس�تقبل الس�نة الجدي��دة بم��اء نظي��ف حس��ب قوله. كان قاع الحوض إسمنتيا منخفضا، ويوجد وس��طه منخفض آخ��ر ص��غير، فابتكر نركيسان لعبة، ووضع وعاء فيه وقال لن��ا: "ك��ل من يس��تطع أن ي��رمي

ا داخل الوعاء، يربح تومانين". شاهي

حتى تلك السنة حيث كنت في الصف الرابع لم يفلح أحد في رمي النقود في ذلك اإلناء، وإن أفلح، لم يحصل على ش��يء، ألن جن��اب نركيس��ان ك��ان يفلت من الجائزة بش�تى األع�ذار. ك��انت مص��در كس��ب جي��د ل��ه، فك��ل ي��وم ي��رمي األطفال عشرات النقود، وفي النهاية تصبح كله��ا من نص��يب نركيس��ان. بعض

التالميذ األغنياء كانوا يرمون قرانا، ولكن ال يربحون شيئا.

ا. في إح�دى اللي��الي رحت أروي الحكاي�ة وقد حان الوقت ليلقنه أحدهم درس�� إلخوتي، السيد مهدي والسيد باقر -أخوي األكبر مني س�نا- وكالهم�ا درس فيا من الس��يد ب��اقر مدرسة جمشيد. على الرغم من أن السيد مهدي أصغر س��ن إال أن فطنته وذكاءه جعاله يصبح في السنة الدراسية نفسها مع الس��يد ب��اقر.

، وكان يعرف في الحي ب�"مهدي السبع" ألنه1كان حاذقا فطنا قوي الشخصية كان يأخذ أربعة من أقرانه ويق��ف في وج��ه األش��قياء من متس��كعي حين��ا، وال يع�رف الخ�وف طريق�ا إلى قلب�ه. كم�ا ب�ات م�اهرا ومحترف�ا في ك�رة الق�دم

وألعاب الشرط وكان الفوز حليفه دوما.

قام مه��دي بثقب قطع��ة نق��ود معدني��ة من طرفه��ا بمس��مار وم��رر خيط��ا في الثقب وعقده وقال: "إن رميتها هكذا ستدخل في اإلناء مئة في المئ��ة". وفي اليوم التالي وقفت إلى جانب الحوض في باحة المدرسة صوبت على اله��دف

بدقة ورميت القطعة المعدنية، وما إن تجاوزت اإلناء حتى سحبت الخيط

1 . نافذة شخصية أي دار؛ تيغ عبر

Page 37: books.almaaref.orgbooks.almaaref.org/static/documents/zoqaq.doc · Web viewكلّ هذه الذكريات والأصوات، کانت لا تزال تتردّد في زوايا حنجرة

37

فسقطت في وسطه. فارتفعت أصوات التصفيق والتشجيع من الطالب الذين تجمعوا حولي، وتحولت األنظار إلى نركيسان الذي استش��اط غض��با واش��تعل قهرا. قال ناظر المدرسة الذي كان يراقبنا من بعيد لنركيس��ان: "ه��ذه الم��رة

لن تفلت من تقديم جائزة التومانين".

في صباح اليوم التالي، اصطف كل التالميذ ح��ول ح��وض الم��اء وفي ح��وزتهم قطع نقدية مربوطة بخيطان. ما دفع نركيسان إلزالة اإلن��اء والتخلي عن ه��ذه

التجارة. ومنذ ذلك الموقف ونركيسان ال يطيق رؤيتي ويعبس في وجهي.

وبما أني ذكرت اسم إخوتي، ال بأس في أن أتحدث عن السيد ب��اقر قليال؛ ه��و االبن األول في عائلتنا. كانت أمي تردد دائم��ا: "الس��يد ب��اقر ه��و األك��ثر ش��بها بأخالق والده من بين أبنائي". صدقت أمي؛ فالسيد ب��اقر رج�ل ش��جاع س��خي وكريم، وعرف في الحي بحذاقته وذكائه، وبسبب أخالقه الجميلة هذه؛ تعلقت به كثيرا وأحبته بشدة. لكنه لم يمتنع عن الدخول في بعض الشجارات ألن��ه الا للعائل��ة واألص��دقاء، وخادم��ا بين يقبل الضيم والمذلة. كان خدوما للناس محب قدمي أمي. كما كان كثير المرح والم��زاح، فعن��دما يش��رع في الح��ديث يلت��فا لحديث��ه. واألجم��ل من ذل��ك أن��ه لم يحب يوم��ا أن يأك��ل أو الجمي��ع حول��ه حب يمشي بمفرده. فإذا ما وجد في جيبه خمس��ة تومان��ات دع��ا خمس��ة أش��خاص

لتناول الطعام معه.

كان السيد باقر يملك سبعين أو ثم��انين ط��يرا من الحم��ام الجمي��ل، ولم يكن يتفوق عليه أحد في تربيتها. صرت أتباهى في حينا بطي��وره، وأردت أن أص��بح مثله خبيرا في نموها، فكنت أصعد ك��ل ي��وم إلى الس��طح وأجلس إلى ج��انب��ني لم أص��ل إلى مس��تواه أب��دا. أقفاصها وأشاهده يلعب معها ويروض��ها، ولكن

وقد أصبح شديد الحب والتعلق بطيوره، إلى درجة أنه حفظ

Page 38: books.almaaref.orgbooks.almaaref.org/static/documents/zoqaq.doc · Web viewكلّ هذه الذكريات والأصوات، کانت لا تزال تتردّد في زوايا حنجرة

38

اسم كل واحد منها برغم شبه بعضها ببعض. تربية الحمام متجذرة في تراث الطهرانيين، وخاصة في جنوب المدين��ة، حيث تجد على أسطح أكثر المنازل أقفاص الطيور، ألنهم يعتق��دون أن اإلبق��اء على كائن حي في المنزل ضروري لدفع البالء، وإذا عملنا على تكثير النسل الجي��د من الحمام فكأننا نزيد من النسل الطيب للبشر، وإذا ذبحنا السيئ منها فكأننا

قللنا من النسل السيئ للبشر.

ضمت منطقتا دوالب وغياثي أفضل مربي الحمام وأشهرهم من قبيل محم��ود آهنكر، أصغر سماورساز، وايرج زاغي، ومحمد مرغي، وما شاء الل��ه س��وري، وحميد فخريان الماهر في كرة القدم أيضا. فكل بحسب إمكانات��ه ك��ان ي��ربيا. ويكثر من الحمام ما استطاع. بعضهم اهتم بالعصافير والدجاج والديوك أيض�� إال أن أي طائر ال يأخذ مكانة الحمام، وليس كل من امتلك الحمام أصبح مربيا له. فمربي الحمام الحقيقي يتفانى في سبيل طيوره. كان السيد ب��اقر يق��ول: "يجب أن تحرق الشمس وجه مربي الحمام وتسمر بشرته، وعليه أن يض��حي��ا وي��ترك الحي��اة ومل��ذاتها، ليقض��ي ال��وقت م��ع الحم��ام، وإال فلن يك��ون مربي

ا". حقيقي

عندما كنت أصعد إلى السطح كان يعطي��ني حفن��ة من القمح ويق��ول لي: "إن طعم القمح لذيذ، عندما تأكله الحمامة تصبح مطيعة لص��احبها". وب�دوري كنت أرمي القمح وأنادي: تعالي تعالي، فتتجمع الحمامات بكل أنواعه��ا من ح��ولي:

جموح وسرور وبيضاء الرأس والمطوقة وسوداء الذيل.

امتلكت حمام���ة في منتهى الجم���ال تس���ر العي���ون وتس���حر األلب���اب، هي سرورالذهبية، لونها كلون الذهب المعرق بخيوط سوداء، وكانت عندي تع��ادل ال��دنيا بم��ا فيه��ا؛ وق��د أس��رت ف��ؤادي وتعلقت به��ا كث��يرا. كنت أس��تيقظ من

الخامسة فجرا ألجلها، وأصعد إلى السطح إلطعامها.

Page 39: books.almaaref.orgbooks.almaaref.org/static/documents/zoqaq.doc · Web viewكلّ هذه الذكريات والأصوات، کانت لا تزال تتردّد في زوايا حنجرة

39

للطيور بعض الصفات المرتبطة بنسلها تماما كالبش��ر؛ بعض��ها ص��الح وبعض��ها طالح. حمامات سرور التي كنا نرعاها كانت من النسل الجيد، جميلة وفري��دة من نوعها، وكنا نسميها سرور النارية وسرور الذهبية وسرور السريعة وسرور

الزعفرانية و...

كل مربي الحمام في حينا كانوا يطلبون إحدى بيوض ه�ذا الن��وع ح�تى يك�ثروا منها فراخا. وبما أن السيد باقر ال يستطيع أن يرد أو يخيب طالبا، وفي الوقت نفسه لم يكن يرغب في أن يشاركه أحد في امتالك حمام السرور؛ كان يثقب

البيضة بإبرة فيدخل إليها الهواء فال تفقس وال يخرج منها فرخ.

احتضن الس��يد ب��اقر الطي��ور وكأنه��ا أطفال��ه، يتفحص عيونه��ا ويع��زل الح��والء والقبيحة منها حتى ال تضر بنسل طيوره. الحمامة الجيدة يجب أن تك��ون ذات منقار جميل وعينين كب��يرتين. فك��ان ي��زاوج بين الحمام��ات الجي��دة والجميل��ة ويس��تخرج منه��ا فراخ��ا أجم��ل وأجم��ل. الحمام��ة الجي��دة هي ال��تي تع��ود إذا��ذهب تعب ص��احبها س��دى. وح��تى إن ض��لت طريقه��ا وج��اعت ابتع��دت، وال ت وعطشت ال تخون صاحبها وتحط على أسطح الجيران، بل تبقى تحلق وتبحث

حتى تجد طريق العودة.

كان الكثيرون في طهران يقض��ون وقتهم في تربي��ة الحم��ام بس��بب البطال��ة.��ا ي��رعى والبعض ك��انوا أثري��اء ويملك��ون الكث��ير من الم��ال فيس��تأجرون مربي طيورهم على السطح. وهن��ا ال يص��ح أن نس��ميه م��ربي حم��ام أو عاش��قا له��ا.

والبعض اآلخر كان يؤمن رزقه من بيع الطيور وشرائها.

عليك أن ترى الفراخ وهي تخرج من البيوض، فهنا تب��دأ حكاي��ة العش��ق. قب��لعيد رأس السنة )الهجرية الشمسية بداية الربيع( بشهرين

Page 40: books.almaaref.orgbooks.almaaref.org/static/documents/zoqaq.doc · Web viewكلّ هذه الذكريات والأصوات، کانت لا تزال تتردّد في زوايا حنجرة

40

يبدأ الريش بالظهور على الفراخ، وبعدها عليك أن تجعل الف��رخ يق��وم بجول��ة ط��يران برفق��ة حمام��ة قديم��ة مروض��ة ومتمرس��ة على الط��يران والع��ودة، فيقومان بجولة صغيرة ويعودان. وما إن يحطا حتى نقص جناح الطائر الي��افع،

فإن لم نفعل بقي يطير في الجو حتى يضل طريق العودة.

كان السيد باقر مولعا ببعض الحمامات: "األم��يرات"، وهن في غاي��ة الجم��ال، كنا نسمي الحمام الب��ني األبيض ال��رأس ب��األميرة. لم أر أح��دا بمه��ارة الس��يد

.1باقر في تربية الطيور*

دعوا روحي تكمل لكم الحديث: في صفي األول، ذات ليلة من لي��الي الش��تاء الب��ارد، كنت نائم��ا تحت كرس��ي التدفئ��ة في غرف��ة الخال��ة "ب��ري"، وإذا بي أس��تيقظ على ص��وت ص��راخ أمي فركضت إلى غرفتها. رأيت أبي ممددا على األرض وسط الغرف��ة، ك��انت أمي تبكي، ووضعت يدها على وجه أبي وأغمضت عينيه. كنت شبه نائم ولم أع م��ا الذي يجري. جلست على ركبتي عند الب�اب وح�دقت إلى وال�دي. إلى أن أتت خالتي وأعادتني إلى غرفتها ووضعتني في فراشي. هي أيضا كانت تبكي، وقد

احمر وجهها من شدة البكاء.

في صباح اليوم التالي، ارتديت مالبسي كالمعتاد وذهبت إلى المدرس��ة وك��أنشيئا لم يحدث ليلة األمس. ولكن الصمت كان يعم أرجاء المنزل.

1 . السيد أن صحيح الشباب من غيره انشغاالت عن باقر السيد شغلت ولكنها للوقت، هدر إنه أحدهم يقول قديؤذ ولم لسانه، وشر شره الناس كفى أنه إال كثيرا، إليها يتردد ولم والمنابر، المساجد أهل من يكن لم باقر

. . ورجولة كرم بكل الجميع مع وتقاسمه إال شيئا يملك لم قط أحدا . في السبب هم باقر السيد أصدقاء كان فقد والحسد البخل هو بلدنا في الناس حياة أفسد الذي الشيء ولكن

. قلبية بنوبة توفي النهاية وفي الطريق، وضل ورزقه عمله ترك فقد وجمال ذكاء من به يتحلى كان لما هالكه،العام .1997في اسمه- يذكر أن بمجرد لفراقه تنهمر أمي دموع زالت وما عليه، الله رحمة م

Page 41: books.almaaref.orgbooks.almaaref.org/static/documents/zoqaq.doc · Web viewكلّ هذه الذكريات والأصوات، کانت لا تزال تتردّد في زوايا حنجرة

41

في الحص��ة الثاني��ة طلب��ني ن��اظر المدرس��ة. ذهبت إلى مكتب��ه، ف��رأيت أميتتحدث إليه: "لقد توفي أبوه، واليوم دفنه، جئت آلخذ أبا الفضل..".

فقابلها الناظر بكل عناد ق��ائال: "ومن أين له��ذا الص��غير أن يفهم مع��نى م��وت أبيه، أنت تتس�ببين بتخلف�ه عن المدرس��ة والدراس��ة، تخيلي حائط��ا فق�د أح�د أحجار أساسه ألن يبنى مائال؟". أن��ا لم أفهم م��ا دار من ح��ولي، ولك��ني أذك��ر أمي جيدا، كلما أصرت أكثر زاد عناد الناظر أكثر، وفي النهاية لم أحضر جنازة

والدي.

في اليوم الثالث أو السابع من يتمي، لست أذكر بدقة، ألبسوني قميصا أسوداللون وذهبنا جميعا إلى قبره، حيث دفن في مقبرة الولي عبد الله.

ما برحت أمي تبكي وتذكر حسناته وفضائله وطبعه الكريم والمضياف وحنان��ه ورأفته. ولم تكن الوحيدة التي وصفته بذلك، بل كان ذلك ح��ديث ك��ل النس��اء والرجال من عائلتنا وأقربائنا. كثير من أصحاب المرائب المعروفين في يومن��اهذا يدعون شخصيا أنهم تربوا على يد والدي وتعلموا منه الشهامة والمروءة.

من بين هؤالء، السيد حسن خدائيان )رحمه الل��ه( ال��ذي ردد دائم��ا: "يجب أن تمر قرون حتى يخرج من رحم الزمان قرين للسيد تراب؛ ك��ان م��أوى وملج��أ للضعفاء والمساكين. مئات من المشاكل والعقد حلت على يدي��ه من دون أن يحدث أي جلبة أو يعلم أحدا. إن الس��يد ت��راب ك�ان مص��درا للبرك�ة في الحي

وفي العائلة"...

نعم، وافته المنية ودفن تحت التراب ويا لسعد من جاء الدنيا طاهرا ورحل عنها طاهرا.

انتقل والدنا إلى رحمة الباري، وشيئا فشيئا صار الزمان يظهر وجهه

Page 42: books.almaaref.orgbooks.almaaref.org/static/documents/zoqaq.doc · Web viewكلّ هذه الذكريات والأصوات، کانت لا تزال تتردّد في زوايا حنجرة

42

اآلخر ويكشر عن أنياب��ه، ولم نع��د نعيش الرف��اه واألم��ان المعه��ودين. لم نع��د نرى الضيوف أو نش��هد موائ��د الطع��ام المم��دودة في ك��ل ي��وم. فق��ط العم��ة ش��يرين واظبت على زيارتن��ا. ك��انت أمي تق��ول: "إن كب��ير العائل��ة كخي��ط

التي ال1السبحة، إذا انقطع تتالشى العائلة، وحينها تصبح سبحة الشاه مقصودتقدر بثمن، ال تساوي قرانا".

عقد العم "ما شاء الله كور" برجولته ومروءته وشهامته المعه��ودة اتفاق��ا م��عزل ويعطي نصف األرباح شهريا لوالدتي لتؤمن أخي غير الشقيق، بأن يدير الن حاجات المنزل. ولكن أخي -سامحه الله- كان يعطي أمي بعد منة وأذى مبلغا

بسيطا ال يكفي حتى لشراء خبز أطفالها اليتامى السبعة.

فغالبا ما أمسى خالي السيد عباس يتحمل هذا العبء الثقيل، أعزه الله بح��ق��ؤ أو ت��ذمر. السيدة الزه��راء. لق��د ك��ان يغطي نفق��ات منزلن��ا من دون أي تلكرت أم�وره بع�د عمل��ه م�ع وال�دي في خاصة وقد تحسن وضعه الم�ادي وتيس�

زل. فاشترى مخزنا في ساحة اإلعدام ا وزيوتا وحبوبا.2الن قد ملئ أرز

ا، فم��ا إن ي��راني ح��تى يض��ع ي��ده كانت أمي ترسلني إليه مرة أو مرتين شهري على كتفي ويقول: "ما بك يا فتى؟ لم��اذا تعبس في وجهن��ا؟" ثم يرس��ل معي

محمل��ة بكيس أرز وتنك��ة زيت وع��دة كيل��وات من3عرب��ة أو دراج��ة ناري��ة*��ا في ذل��ك الزم��ان تعت��بر الحبوب، ومقدارا من المال لوالدتي. خمسون تومان مبلغ�ا ال ب�أس ب�ه، وفض�ال عن ذل�ك ك�ان يعطي�ني بعض النق�ود مص��روفا لي،

ويرسلني إلى المنزل.

1 . ثمنها زاد شفافيتها زادت وكلما وشفافة، خضر بحبات الثمن باهظة سبحة مقصود الشاه سبحةثم 2 الدين نصر السيد مرقد من بالقرب قاجار شاه محمد زمان في بنيت محمدية، ساحة هي اإلعدام ساحة

. المحكومين فيها وأعدموا منصة وسطها في نصبوا ألنهم اإلعدام، ساحة ثم الغار، بوابة سميت3 . عجالت ثالث ذات عربة

Page 43: books.almaaref.orgbooks.almaaref.org/static/documents/zoqaq.doc · Web viewكلّ هذه الذكريات والأصوات، کانت لا تزال تتردّد في زوايا حنجرة

43

ومع ذلك بقيت دائما أفكر بأن أجد لي عمال ومصدر كس��ب. في الص��يف كنت أشتري الذرة والك��رز من الس��وق وأبيعه��ا في الحي. وعن��دما ازدادت خ��برتي في ال��بيع والش��راء وت��ذوقت حالوة جم��ع النق��ود، أخ��ذت من مص��طفى ب��ائع��ا من ف��ترة المثلج��ات عرب��ة، وب��دأت أبي��ع المثلج��ات في م��دخل الحي يومي الظهيرة إلى ما قبل الغروب، الواحدة بشاهي واحد. بعد عدة أشهر أحض��رت اثنين من ص��بية الحي ال��ذين يص��غرونني س��نا ويطيعون��ني جي��دا. وأعطيت كال منهما عربة ليبيع��ا المثلج��ات في م��دخل الحي، وأن��ا وقفت أبي��ع في الم��دخل

اآلخر.

ا واح��دا لك��ل من ا على تومان واحد، أعطي ش��اهي بالمجموع كنت أحصل يومير لي الصبيين، وأدخر عن��د خ��التي ب��ري خمس��ة ري��االت. فك��انت خ��التي تحض�� بنفسها فطور يوم الجمعة بهدف التشجيع وتعد البيض المطهو مع الطم��اطم،ا. ال أنس��ى طعم ذاك الفط��ور. ك��انت خ��التي تق��ول: وتجلب لي مش��روبا غازيا، ألن مال��ه من ك��دك وع��رق جبين��ك أنت ي��ا أب��ا "بالتأكيد سيكون فطورا ش��هي

الفضل".

في أحد األيام كنا جالسين نتناول الغداء فقصت لنا خالتي حادثة خلع الحج��اب وقالت: "كان شرطة الشاه يهاجمون كل امرأة يرونه��ا في األزق��ة، وي��نزعون حجابها ويمزقونه ويدوسونه تحت أقدامهم. لذلك كن��ا نخش��ى أن نض��ع ق��دمنا خارج المنزل، وكنا نخرج فقط في الليل. فمثال إذا أردنا أن ن��ذهب إلى زي��ارة أو دعوة؛ يقف الرجال للحراسة على مدخل الزقاق، وكنا نحن نخ��رج من بيت وندخل آخ�ر، ثم ن�ركض ونخت�بئ في ال�بيت الت��الي، وهك�ذا إلى أن نص�ل إلى

مقصدنا".

عندما توفي والدي كان خالي "السيد علي" قد تزوج حديثا وانتقل إلى منزل��هالجديد، فصار يأتي إلى بيتنا ليصطحبني معه كلما أراد أن يذهب

Page 44: books.almaaref.orgbooks.almaaref.org/static/documents/zoqaq.doc · Web viewكلّ هذه الذكريات والأصوات، کانت لا تزال تتردّد في زوايا حنجرة

44

��ا من��ه وأحببت��ه كوال��دي، وقص��دت إلى هيئة عزاء اإلم��ام الحس��ين. كنت مقربا. زيارته كل حين. كم ذكرتني هيبته بوالدي، وقد شابهه في طبعه السهل أيض�� ال أنسى أول مرة ذهبت فيها مع خالي إلى الهيئ��ة، وك�انت هيئ��ة "قاس��م نع�ل

بند".

في بعض الليالي كنا نذهب إلى هيئة صديقه "قاسم أبو شنب". ربما لقب هذا األخير بذلك ألنه كان أصلع الرأس ولديه شاربان كبيران أك��ثر من المتع��ارف، وكان ]قاسم[ حيدر إحدى أك��ثر الهيئ��ات ش��هرة، وال��تي ن��اهز عمره��ا الثالثين عاما. في السابق كانوا يس��مون الهيئ��ة باس��م كبيره��ا ومؤسس��ها والمس��ؤول عنه��ا، وك��انوا يدعون��ه "حي��در الهيئ��ة". وك��انت هيئ��ة "حس��ن قص��اب"، وهيئ��ة "الشيخ تقي" و"عباس نجار" وهيئة "حسنيون" من أشهر الهيئات. على سبيل المثال: الحاج حسن قيداني )رحمه الله( قام بخدم��ة الن��اس في هيئت��ه لم��دة خمسين عام��ا من دون انتظ��ار مقاب��ل من أح��د، وك��ان يقيم المراس��م ص��باح الجمع��ات في المس��جد تحت راي��ة هيئ��ة ص��احب الزم��ان|. الح��اج س��ليماني، والحاج "أمر الله قصاب"، والحاج غفوري، والحاج حسين باقري، والحاج غالما شاطريان، والحاج محمد نور تاج والحاج "ما شاء الله عب��د اللهي" كلهم أيض�� كانوا يلقبون ب�"حيادرة" هيئة منطقتنا. وكان مقر الهيئ��ة ومح��ل إقام��ة الع��زاء يدعى "سه خانه". الحاج السيد قص��اب، والح��اج أك��بر خال��دي، والح��اج "أك��بر سالخ" وزوجته "بتول سردار" كلهم أقاموا العزاء ونصبوا خيام العزاء لسنوات مديدة. بعد وفاة الحاج السيد قص��اب أغلقت هيئت��ه. ولكن أبن��اء "الح��اج أك��بر خالدي" والحاج "أكبر كردبجه" أبق��وا ش��علة هيئ��اتهم مض��اءة. وك��ذلك اإلخ��وة��رين المع��روفين في طه��ران. وق��د بني��ا رضوان الذين كانوا وما زالوا من الخي��ا، ك��ان ي��ؤوي المش��ردين والفق��راء ليال. لق��د في مدخل منطقة "دوقلو" مرآب

كانوا حقا

Page 45: books.almaaref.orgbooks.almaaref.org/static/documents/zoqaq.doc · Web viewكلّ هذه الذكريات والأصوات، کانت لا تزال تتردّد في زوايا حنجرة

45

من أهل الخير والعمل الصالح.

في هيئ��ة1كان خالي السيد علي يقف في الوس��ط، وك��ان ه��ادي المظل��ومين "قاسم أبو شنب". وفنون هذا العمل يجب أن تنبع من طبيع��ة الم��رء ومعدن��ه فهو ال يعلم في مدرسة أو معهد. فه��ادي المظل��ومين يق��ود الالطمين، وينظم الصفوف، وأحيانا يحمس��هم ببعض األدعي��ة والش��عارات ال��تي يطلقه��ا بص��وت أعلى من الجمي��ع. وك��انت بني��ة خ��الي تس��اعده في ه��ذا العم��ل، فه��و طوي��ل القامة عريض المنك��بين، ق�وي مفت��ول العض��الت، وحام��ل راي�ة الهيئ��ة. وحين يقف في الوسط ويقود الالطمين يتجاوزهم جميع��ا ط��وال. ك��ان عاش��قا متيم��ا باإلمام الحسين علي��ه الس��الم، أبيض القلب وس��خي ال��دمع. في ه��ذه الهيئ��ة؛ هيئة قاسم أبو شنب، شد خالي مئزرا على خصري وكانت تل��ك الم��رة األولىا قميص��ه ووق��ف بج��انبي التي ألطم فيها على صدري العاري. خلع خ��الي أيض�� يلطم. لقد غرس خالي حب اإلمام الحسين علي��ه الس��الم في قل��بي وجعل��ني

متعلقا إلى األبد بحب سيد الشهداء عليه السالموعشقه.

وبالمناسبة، في السنة ذاتها التي اعتدت فيها على الهيئ��ة وك��ثر ت��رددي إليه��ا،نا مركزا للمراسم العاشورائية حيث نصبت الخيام وأقيم العزاء. ك��ان أصبح حي خالي الس��يد علي يه�دي الالطمين واقف�ا في وس��ط المس�يرة، وينظم حرك�ة

اللطمية ومسارها.

اشتهر في تلك الحقبة رواديد معروف��ون، منهم الش��اه حس��ين، وأك��بر ن��اظم، وأحمد شمشيري، والرادود باقر، وال��رادود اس��مال، والس��يد عب��اس، والس��يد

كمال حسيني وحسن ذو الفقاري. وعندما كان هؤالء يعتلون

1 . على يطلق كان كربالء في للمظلومين نموذج السالم عليه الحسين اإلمام عزاء في الصدور على الالطمون . قصص الهيئات ولمرتادي المظلومين هادي لقب الالطمين صفوف وينظم الوسط في يقف الذي المسؤول

. - المحرر أثرها عمق على وتشهد الكتاب، هذا في سنكتشفها

Page 46: books.almaaref.orgbooks.almaaref.org/static/documents/zoqaq.doc · Web viewكلّ هذه الذكريات والأصوات، کانت لا تزال تتردّد في زوايا حنجرة

46

المنبر ويقرأون العزاء وأشعار المدح والرثاء تنهمر الدموع مدرارة على وجوه الناس. ك��انوا بكلم��اتهم يقرب��ون العب��د من الخ��الق. من الع��ادات ال��تي ك��انتا ل�ه، سائدة بين الناس آنذاك، أنه إذا ابتلي أحدهم بم�رض عض�ال ال عالج طبي أو إذا كان لهم حاجة، يلق�ون قميص الم�ريض أو ص��احب الحاج��ة تحت أق��دام الالطمين ليش��فى. إذ ك��انوا يعتق��دون أن أق��دام الالطمين ودم��وعهم تش��في المرض��ى وتكش��ف الك��رب. كث��ير من الع��ادات والتقالي��د ك��انت تج��ري في

الهيئات: بعضها ما زال ساريا، وكثير منها زال مع الزمن.

عرفت رجاال كثرا من أمثال خالي السيد علي وخالي السيد حبيب اللذين اتبعاعادات وسجايا جيدة في حياتهما، فكانا قدوة لي وألمثالي.

أما خالي السيد حبيب فكان من المحب��وبين بين أه��ل حين��ا، ومن اللطي��ف أن أتحدث عنه قليال. هو أيضا تأثر بأخالق والدي، ويعد من نتاج تربيته، وسعى ألنا وكريما مع الناس. شهرة والدي وفضائله وحسناته ال��تي ذاع يكون مثله سخي صيتها بين الناس أدت إلى أن يكن الناس االحترام والتقدير نفسيهما ألخوالي،

ويتوقعون منهم األخالق والسلوك عينه.

في السنة ذاتها التي انتقل فيها خالي حبيب من "زواره" إلى طهران، استأجر دكانا في ساحة بائعي الجملة وبدأ العم��ل ب��بيع الجمل��ة. وأخ��برني ق��ائال: "في السابق عندما كن��ا ن��ذهب إلى "جه��رم وج��يرفت" لجلب البض��اعة، ولم يك��ف المال الذي بحوزتنا كنا ننتف خصلة شعر من شاربنا ونض��عها أمان��ة ل��دى ب��ائع الجملة، ونقول: هذا شاربي أمانة لديكم، وهذه البضاعة لي عندما أبيعها أسدد ديني، فيقبل بذلك. لماذا؟ ألن كلمة الرجل ك��انت كلم��ة ووع��ده وع��دا. وك��أن شعيرات الشارب كانت الضمانة لكلمة الرجل. بشكل عام إذا أردت أن تكونا بعهدك ووعدك ال��ذي قطعت��ه، فتم��وت رجال ينبغي أن تكون عند كلمتك، ووفي

وال تخلف بوعدك. فالرجولة

Page 47: books.almaaref.orgbooks.almaaref.org/static/documents/zoqaq.doc · Web viewكلّ هذه الذكريات والأصوات، کانت لا تزال تتردّد في زوايا حنجرة

47

والشهامة تعني الوفاء بالوعد، وقضاء حاجات الناس.

كان لخالي السيد علي والسيد حبيب أصدقاء كثر في حين��ا، وك��انت عالقتهم��ا بأهل الحي قوية ومتجذرة. وفي منطقتنا وطدت التقاليد الجيدة ه��ذه العالق��ة وباركتها. على سبيل المثال، كان ك��ل كس��بة الحي، وخاص��ة من هم من أه��ل رياضة ال�"زورخانه" يذهبون جميعا إلى نادي ال���"زورخان��ه" الواق��ع في زق��اق

، بقصد ممارس��ة الرياض��ة الجماعي��ة عن��د الس��اعة السادس��ة ص��باحا،1غريبانا في فق��ه التج��ارة لتك��ون وبعدها يذهبون إلى المسجد الجامع ليحضروا درس�� تج��ارتهم حالال ومطابق��ة لألحك��ام الش��رعية. وفي تم��ام الثامن��ة يفتح��ون

دكاكينهم.

من بين األصدقاء الذين الزموا خالي السيد حبيب على الدوام: محمد باقريان. ولشدة جماله وحسن وجهه ووسامته وبنيته الرياضية عرف في حينا ب�"محم��د عروس". عندما كان يمر في الحي نقف ونتأم��ل عض��ديه ومنكبي��ه العريض��ين وجسمه الرياضي وعضالته المفتولة وقامته الطويلة. عيناه الكبيرت�ان وش�عره المجعد وهيبته ووقاره وهدوؤه في مشيته كانت تسحر عيون الناظرين. دائم��ا ما كان يذهب برفقة خالي حبيب إلى المسجد والهيئ��ة، وكلم��ا رآني نظ��ر إلي

بمحبة وحنان.

اعتدت بسرعة على قضاء الوقت في الحي. من��ذ الص��باح كنت ألعب بال��دحل��ة، وأراقب ذه��اب الن��اس وإي��ابهم، والح��وادث وك��رة الق��دم والس��لم والحي والشجارات والخالفات العائلية أو االجتماعية، وبعبارة أخ��رى ك��ل أخب��ار الحي الجديدة توافرت لدي. كنا ننشغل ب��اللعب فال نش��عر بانقض��اء ال��وقت وحل��ول الظالم. وفي الليل غالبا ما كنت أذهب إلى المسجد والهيئة، وهناك إلى جانب

اإلفادة من التعاليم الدينية سنحت لي الفرصة

1 . غريبان زقاق في الجامع المسجد زقاق في طهران سوق في تقع

Page 48: books.almaaref.orgbooks.almaaref.org/static/documents/zoqaq.doc · Web viewكلّ هذه الذكريات والأصوات، کانت لا تزال تتردّد في زوايا حنجرة

48

للتعرف إلى أشخاص جدد، وتكوين صداقات كث�يرة. إلى ج�انب ذل�ك لم يخ��ل األم��ر من الخالف��ات والش��جارات بين األص��دقاء أو م��ع األش��قياء في الحي. وحماي��ة الص��ديق، والوق��وف إلى جانب��ه، وع��دم التخلي عن��ه ك��انت األهم في

عالقاتنا.

إحدى الحوادث ال��تي ش��هدتها في حين��ا تع��ود لش��هر خ��رداد في ص��يف الع��ام م[، حيث كنت ألعب كرة القدم تحت حر الش��مس. ومن مك��ان1963]1342

اللعب، أي في أول ش��ارع "أنب��ار كن��دم" وس��احة "أمين الس��لطان"، ك��ان بإمكاني أن أرى دكاكين ب��ائعي الجمل��ة والش��احنات والعرب��ات ال��تي تف��رغ أو تحمل الخضار والفواكه والبضائع، وأسمع العاملين لدى بائعي الجملة يمزقون حناجرهم من الصياح لجذب الزبائن. فجأة خرجت مجموعة من الناس وس��ط السوق تحمل العصي وتردد الهتافات، وقد بدت عصيهم بثخانة عصا ال��رفش، وأعتقد أنهم اشتروها من ش��ارع "ص��احب جم��ع". ك��انت هتاف��اتهم دفاع��ا عن السيد الخميني: "خميني يا حبنا/ نبذل الدم إذا أمرتنا" و "الخميني أو الموت". وقد القوا تشجيعا من الن��اس ال��ذين تجمع��وا ح��ولهم. خ��رج المتظ��اهرون من الساحة واتجهوا نحو س��احة الش��اه، ولم تمض دق��ائق ح��تى وص��لت س��يارات الش��رطة، ترج��ل منه��ا رج��ال الش��رطة والمخ��ابرات وب��دأ الص��دام وإطالق الرص��اص. أن��ا وأص��دقائي وقفن��ا ن��راقب من بعي��د م��ذهولين وخ��ائفين مناالقتراب. ذلك اليوم رأيت "محمد عروس" وسط المتظاهرين يركض ويهتف.

بعد عدة أيام، س�معت من خ�الي الس�يد ح�بيب أن الش�رطة اعتقلت "محم�د عروس" وعددا من رؤوس الثورة، وألقوا بهم في السجن. في تل��ك الحادث��ة، كنت للم���رة األولى أس���مع باس���م الس���يد الخمي���ني. فث���ورة خ���رداد ع���ام

م[ ضد الشاه بدأت من هناك، ولذلك سميت ساحة1963]حزيران 1342

Page 49: books.almaaref.orgbooks.almaaref.org/static/documents/zoqaq.doc · Web viewكلّ هذه الذكريات والأصوات، کانت لا تزال تتردّد في زوايا حنجرة

49

، وبقيت على ه��ذا االس��م وأص��بحت منطلق��ا للث��ورة1الش��اه بس��احة "قي��ام"* اإلسالمية. محبتي لمحمد عروس ومكانته لدي، جعلتني أتابع حادثة ذلك الي��وم وأتقصى أخبارها، وأدت إلى نش��وء ص��داقة حميم��ة وقوي��ة بي��ني وبين محم��د.

ولذلك أود هنا أن أكمل قصة "محمد عروس".

م[. علمت من خ��الي الس��يد ح��بيب بخ��روج "محم��د1977ه.ش ]1356ع��ام عروس" بعد ثالث��ة عش��ر عام��ا من الس��جن. وألني كنت مهتما بأخب��اره ذهبت لرؤيته، خاصة أن الوقوف ضد الشاه في تلك الحقبة كان ح��ديث الن��اس، وأن أشخاصا أمثال محم��د ع��روس من ال��ذين ذاق��وا م��رارة س��جون الش��اه حتم��ا

لديهم الكثير ليتحدثوا عنه.

ظل محمد كسابق عهده وس��يما حس��ن الوج��ه وق��وي البني��ة، لكن، ب��دا علي��ه االنكسار. تحدثنا ساعات، ومن األشياء الممتعة التي قالها: "في السجن، ك��ان معنا ع��دد من العلم��اء المعممين، فأرس��ل نظ��ام الش��اه بعض المج��رمين من أصحاب السوابق إلى زنزانتنا نفسها، ليتسببوا بأذيتهم وإه��انتهم. وك��ان ه��ؤالء المجرمون إذا تحاذق عليهم أحد أوقعوا به، وق��د وض��عوا قواع��دهم وق��وانينهم الخاصة في السجن، ومنها قانون ينص على أنه ال بقاء لشخص��ين بينن��ا: األول الخائن، والثاني قليل الشرف، أي الشخص ال��ذي ينظ��ر إلى أع��راض الن��اس.

ا من قوانينهم على أنفسهم". ولكنهم لم يطبقوا أي

سألته: "في ذلك اليوم عندما نزل بائعو الجملة إلى الساحة في شهر حزيران م.كنت ألعب مع أصدقائي في الزق��اق. أود بش��دة أن أع��رف1963من العام

ما حصل بعد ذلك".

تحدث السيد محمد عن حادثة ذلك اليوم: "بعد أن هاجمنا رجال

1 . والثورة النهضة

Page 50: books.almaaref.orgbooks.almaaref.org/static/documents/zoqaq.doc · Web viewكلّ هذه الذكريات والأصوات، کانت لا تزال تتردّد في زوايا حنجرة

50

الشرطة والسافاك قيدونا واقتادونا إلى مقر الشرطة، ك��ان الح��اج إس��ماعيل رضائي، والحاج حسين شمشاد، وحسين كادري، والحاج توسلي، والحاج عليا. نوري، والحاج علي حيدري ومرتضى طاري قد تظاهروا معنا، ف��اعتقلوا أيض�� وكلهم كانوا من ب��ائعي الجمل��ة في الس��وق، ولكنهم نزل��وا معن��ا إلى الش��ارع وهتفوا من أجل السيد الخميني، وكان األب�رز بينهم "طيب". بع�د س�اعات من

مكبال وألقوه في زنزانتنا.1اعتقالنا أحضروا طيب حاج رضائي

��ه عندما أخذونا إلى سجن "باغ شاه"، كان طيب معنا أيضا. لم أقترب منه، ألن كان من أتب��اع الش��اه، ودائم��ا م��ا أحي��ط بأص��حاب الس��وابق وع��رف بالق��درة والبطش. إلى درجة أنه عندما رزقت "فرح بهلوي" بابنه��ا األول وأنجبت رض��ا بهلوي، قام طيب بإضاءة الزقاق والحي بكامله. ول��ذلك م��ا إن رأيت طيب لم أبال بحاله وأدرت له ظهري. كان مكبل الي��دين، س��لم وق��ال: "ي��ا محم��د، أن��ا لست كما تظنون". لم أجبه؛ لك��ني كنت أعلم أن الس��افاك تن��وي أن تس��تغل "طيب" لتشوه صورة وسمعة السيد الخمي��ني بين الن��اس. في ذل��ك الزم��ان،

. وكالهما2وقع شجار بين طيب وشعبون

أمين 1 ساحة في دكانه كان حيث طهران في المعروفين الجملة وبائعي الكسبة من رضایي حاج طیب . . حسين. أبوه الصابون صناعة في بداية وعمل طهران في ترعرع ولكنه قزوين إلى أصوله تعود السلطان . - الخدمة - طيب أمضى أن بعد الحطب وبائعي الكسبة من وزمالؤه طيب أصدقاء نقله لما طبقا قوني قره

. . مرة ذات والتهور بالعراك عرف ذلك بعد ومن كرمنشاه في شجار أثر على السجن في به ألقي العسكريةوينشغل والمشاكل الشجارات ليترك براءته ثبتت أن بعد وعاد القتل، بتهمة سنوات ثالث عباس بندر إلى نفي

. . كان الناس خدمة في حياته وأمضى الصالح والعمل الخير لفعل ا محب شهما شجاعا رجال كان والعمل بالتجارة . بالرياء أبدا يصب ولم والمشردين واليتامى القصر سجن في والمساجين كهريزك مأوى في المسنين يساعد

. . فكانت السالم عليه البيت وأهل الحسين باإلمام خاصة وعالقة محبة قلبه في حمل لقد والغرور والكبروآخرها کندم انبار شارع في أولها طهران، في مسيرة أكبر محرم من األوائل العشر في يقودها التي المسيرة

. ولكن نوري، علي الحاج منزل في العزاء مجلس يقيم طيب كان سيروس وتقاطع ومولوي الشاه ساحات في.) عزيزي ) لحسام الفتوات سيرة كتاب من مصيره غيرت خرداد من عشر الخامس ثورة

2 .) ( ) المخ ) عديم بشعبان يلقب وكان جعفری شعبان شعبون شعبان

Page 51: books.almaaref.orgbooks.almaaref.org/static/documents/zoqaq.doc · Web viewكلّ هذه الذكريات والأصوات، کانت لا تزال تتردّد في زوايا حنجرة

51

��ر. ك��ان كانا من ]المشكلجيين[ األقوياء في جن��وب طه��ران ول��ديهما أتب��اع كث شعبون من الرياضيين ومن أتباع الشاه؛ وأما طيب فكان كاس��با كادح��ا وب��ائعا وراعيا لأليتام. م��ع أنن��ا س��معنا دائم��ا عن تأيي��د وحب طيب جملة كريما سخي للشاه، لكن سرعان ما انقلبت اآلية وأصبح ض�د الش�اه. الل�ه وح�ده يعلم بم�ا يعتمل في قلب طيب، من ثورة وانتفاضة. لقد عقد المس��ؤولون في طه��ران جلس��ة كي يج��بروا طيب ب��أن ي��دعي أن الخمي��ني أعط��اه الم��ال كي يح��رض الكسبة في السوق. ذلك اليوم في المحكمة نظر طيب إلى الض��ابط نص��يري وقال: "إذا سلمنا أنكم تقولون الحق؛ في قانون الرجول��ة ل��دينا، نحن ال نق��ف في وجه أبناء السيدة الزهراء عليها السالم. أنا ال أعرف هذا السيد؛ لك��ني لن

أقف في وجهه".

وفي النهاية حكمت محكمة الشاه على إس��ماعيل ح��اج رض��ائي، وطيب ح��اج رضائي وعلي وعلى الحاج علي نوري باإلعدام، وعلى اإلخوة كاردي وشمشاد

والبقية بالسجن مدة عشر أو خمس عشرة سنة.

وبعد إعالن الحكم، نقلونا إلى زنزانتنا. وفي وسط الليل أتى ض��ابط الش��رطة وأيقظنا بالضرب على باب السجن وق��ال: "محم��د ب��اقري وح��اج علي ن��وري،

ا وخفف حكمكم درجة واحدة". جاللة فخامة الشاه أصدر عفوا ملكي

قالوا ذلك كي يغضب طيب ويخشى اإلعدام ويطمع بالعفو، فيرجع عن كالم��ه ويقب��ل ب��أن يق��ول إن الخمي��ني حرض��ني بالم��ال؛ لكن طيب ال��ذي حبس في زنزانة أخرى صاح بصوت عال: "قل هذا الكالم ألمك! قلته��ا م��رة، وس��أعيدها

مرة أخرى؛ أنا ال أقف في وجه ابن السيدة الزهراء".

في الليلة التالية، س��معنا أص��واتا من زنزان��ة طيب. عرفن��ا أن��ه أخ��ذ لإلع��دام.عندما كانوا يجرونه ضرب على قضبان زنزانتي وقال: "يا محمد، اذا رأيت

Page 52: books.almaaref.orgbooks.almaaref.org/static/documents/zoqaq.doc · Web viewكلّ هذه الذكريات والأصوات، کانت لا تزال تتردّد في زوايا حنجرة

52

الخميني يوما، أبلغه س��المي وق��ل ل��ه: كث��يرون رأوك فب��ايعوك؛ نحن لم ن��رك.1لكننا بايعناك"

وبعد نصف ساعة، سمعنا صوت إطالق رصاص فعرفنا أن��ه انتق��ل إلى رحمت��ه تع��الى. ك��ان طيب مث��اال للرجول��ة وأض��حت عاقبت��ه خ��يرا. وم��ا زلت إلى اآلن

متحيرا مما فعله طيب".

عندما ذكر محمد هذه القصة، سالت الدموع على وجنتيه وقال: "كلما تذكرت تلك الليلة، اعتصر قلبي ألما. لقد عذبوا "طيب" كثيرا ح��تى يطلب العف��و من الش��اه؛ لكن الل��ه إذا أراد أن يه��دي أح��دا فال مض��ل ل��ه. س��يبقى اس��م طيب

والحاج إسماعيل رضائي خالدا إلى يوم القيامة".

استمعت ذلك اليوم لما قاله محم��د بدق��ة، وكنت أفك��ر دائم��ا من يك��ون ه��ذا الخميني حتى يض��حي طيب بنفس�ه من أجل�ه؟ كالم محم�د ال�ذي ال مثي�ل ل�ه جعلني أتشوق لمعرفة المزيد. ومنذ ذلك الحين صرت أك��ثر من ال��ذهاب إلي��ه

ورؤيته.

لقد بذل السيد محمد جهدا كبيرا إلنجاح هذه الثورة. فقد تحمل مرارة الحبس في سجون "قزل قلعه"، و"بندر عباس" و"سيرجان"، وأمضى مرحل��ة ش��بابه فيه��ا، ولكنهم لم ينص��فوه حق��ه. وك��ذلك كث��ير من ح��املي راي��ة ث��ورة خ��رداد

م. الذين انتقلوا إلى رحمة الله، بقيت أسماؤهم مجهولة.1963

م. عن��دما أص��بت، أتى الس��يد محم��د لعي��ادتي وليطمئن إلي،1984في ع��ام وكان ذلك لطفا منه وشرفا لي. ظل بسيطا متواضعا ولم يحمل أحدا منة ما

صورة 1 معه والتقطوا الخميني اإلمام لزيارة الثورة رجال من عدة مع محمد ذهب الثورة، انتصار بعد. آخر. حر طيب، اإلمام قال لإلمام، طيب رسالة محمد نقل وعندما تذكارية

Page 53: books.almaaref.orgbooks.almaaref.org/static/documents/zoqaq.doc · Web viewكلّ هذه الذكريات والأصوات، کانت لا تزال تتردّد في زوايا حنجرة

53

تحمله من أجل الثورة وما قاساه في غي��اهب الس��جون، فلم يط��الب ب��أجر أو مقابل، ولم يقل يوما: إن هذه الثورة ثورتي ألني قد قدمت الكثير من أجله��ا، وأمضيت سني عمري في السجن. بل بقي متواضعا، حسن السيرة لم ينتظ��ر

يوما رد الجميل من أحد.

م. أرسل "الشيخ رفسنجاني" رسالة عن طريق "السيد رضا طال"1993عام بأنه يري��د أن يلتقي بمحم��د ع��روس. وقمت أن��ا بمس��اعدة رض��ا طال بتنس��يق موعد اللقاء، وأخذت محمد عروس إلى الشيخ رفسنجاني. وما إن رآه الشيخ رفسنجاني حتى دمعت عيناه وضمه إلى صدره وفرح لرؤيت��ه كث��يرا. في ذل��ك اليوم قال الشيخ: "ال تستهينوا بمحمد هذا. إن��ه رج��ل عظيم. في تل��ك الس��نة عن��دما زج بي وبالش��يخ ن��اطق ن��وري وع��دد من المعممين في الس��جن، ق��ام الشاه بوضع بعض المجرمين وأصحاب السوابق معنا في الزنزانة نفسها حتى يقوموا بأذيتنا وإهانتنا. هناك وقف األخ محمد بكل رجولة وشجاعة في وجههم

جميعا، ولم يسمح ألحد بالتعرض لنا. إننا جميعا مدينون له".

ثم نظر إلى محمد وقال: "أين أنت اآلن وماذا تصنع؟".

فقال محمد: "عندي دكان في سوق الخضار".- الدكان ملك لك؟

- نعم.

فقلت: "ال يا سيدي هو مستأجر".

على الفور كتب الش�يخ رفس�نجاني رس�الة، أم�ر فيه�ا بإعط�اء دك�ان لمحم�د ليجني منه رزقه. ولكن غدر الزمان أجبر السيد محمد على بيع ش��قته لي��ؤمن

ثمن هذا الدكان. ففي ذات الوقت الذي حصل فيه المتفرجون

Page 54: books.almaaref.orgbooks.almaaref.org/static/documents/zoqaq.doc · Web viewكلّ هذه الذكريات والأصوات، کانت لا تزال تتردّد في زوايا حنجرة

54

على الثورة على القصور، أص��بحت زوج��ة محم��د المؤمن��ة الص��ابرة بال م��أوىوانكسر قلبها.

م أص��يب األخ محم��د1997وبعد معاناة كبيرة أعطوه ذلك الدكان. وفي ع��ام بنوبة قلبية جعلته عليال طريح الفراش عاما ك��امال، كنت دائم��ا أزوره في بيت��ه

إلى أن انتقل إلى دار الحق، رحمة الله عليه. نعم هذه لعبة القدر؛ ولكن:"عش في هذه الدنيا وإذا ما فارقتا بين الناس". الحياه يبقى ذكرك حي

Page 55: books.almaaref.orgbooks.almaaref.org/static/documents/zoqaq.doc · Web viewكلّ هذه الذكريات والأصوات، کانت لا تزال تتردّد في زوايا حنجرة

55

للرياضة ترانيم

..وكل األماكن بيوت عشق

في الثانية عشرة من عمري، ذهبت إلى ثانوية جهان. في تلك الف��ترة، ب��دأت أتعلم مفاهيم الرجولة وأتخذ قراراتي في الحي��اة. كنت أدرس ص��باحا وأعم��ل بعد الظهر عند خالي الس��يد علي في المقهى ال��ذي يق��ع على حاف��ة الطري��ق في بداية شارع "محطة الترامواي"، ويت��ألف من حديق�ة ص�غيرة نص��بت فيه�ا

عدة مصاطب، بعضها في الداخل وبعضها في العراء.

ا، فأنا المدلل وال أقوم باألشغال الص��عبة، أك��ثر كنت أتقاضى تومانا واحدا يومي األعمال ألقيت على عاتق عاملين اثنين في المقهى، فيما يجلس خالي خل��ف

الصندوق ويأخذ األموال.

عن��د الظه��يرة، يمتلئ المقهى ب��رواده من مختل��ف أص��ناف الن��اس: الع��وام، ، واألش��راف،1والمثقفين، واألميين، والعاطلين من العمل، والكسبة، والفتوات

واألعيان وأصحاب القبعات المخملية الذين يأتون لالستراحة والحديث وشرب الشاي. نعم، كان الجمي��ع ي��أتون من ك��ل ح��دب وص��وب ومن ك��ل الطبق��ات،

األثرياء والفقراء، خاصة أولئك الذين تعبوا وملوا من أجواء

رواد 1 أن المعروف ومن عدمه؛ أو تدينهم عن النظر بغض بذلك؛ ومشهورون والمروءة؛ الشهامة أصحاب. أيضا الجماعة هذه من هم وأبطالها الزورخانة رياضة

Page 56: books.almaaref.orgbooks.almaaref.org/static/documents/zoqaq.doc · Web viewكلّ هذه الذكريات والأصوات، کانت لا تزال تتردّد في زوايا حنجرة

56

المنزل وضجيج األوالد، حيث يجدون متنفسا لهم.

"2 في تلك الف��ترة يحم��ل بخبرت��ه ومهارت��ه عش��رين "اس��تكانة1كان القهوجي شاي على كفه ومعصمه وساعده ح��تى مرفق��ه ويوزعه��ا على الزب��ائن: وثمن

"االستكانة" عشر شاهيات، وقد راجت أنواع شاي "كلكته" و"الهيجان".

إذا كان الش��اي خفيف��ا أو ثقيال أو ق��ديما، س��كب الزب��ون الش��اي في الص��حن ووضعه جانبا؛ ويعتبر هذا الفعل أشد من مئة شتيمة بذيئة للقه��وجي، فيس��ارع معتذرا إلى تبديل كوب الشاي للزبون. أم��ا النرجيل��ة فلم تكن تق��دم للجمي��ع،

إنما لألثرياء فقط، حيث تعد بالتبغ "الخونساري" المعروف.

"، فتمأل3كنا من الساعة الثانية عش��رة إلى الواح��دة والنص��ف نق��دم "ال��ديزي رائحتها أرجاء الحي. فمن أراد أن يأكلها ويعقبها بتدخين الترياك، توجه ليجلس على األرائ��ك في الخ��ارج. وبع��د انص��راف األثري��اء أو الن��اس الع��اديين ال��ذين ي��دفعون ثمن الطع��ام، يجم��ع القه��وجي األواني الفارغ��ة ليغس��لها ويجففه��ا، وبعدها يحين وقت البؤس��اء والفق��راء والمتس��ولين لي��أكلوا ال��ديزي بالمج��ان. ومن ه��ؤالء: "اب�رام ل�ره، وغالم هفت رن�ك، وعلي ش�له، ورمض��ون، وب�رات، وأمير كيريج"، الذين كانوا يتسكعون قرب المقهى من قب��ل الظه��يرة بس��اعة

حتى يحين دورهم لتناول الغداء.

فكنا نضع األرائك بجانب بعضها بعضا ونفترش سفرة واحدة، يجتمع��ون عليه��ا لتناول الطعام بالمج�ان. ومن بين ه�ؤالء "محم��د ك�اوميش" ال�ذي ك�ان ي�أتي

، يركبونها بعد180ليأكل بالمجان مع أنه يملك سيارة مرسيدس من طراز

1 . المقهى في يعمل من كل قهوجي2 . خصر ذات وتكون حجما الشاي أكواب أصغر الشاي استكانةإناء 3 في وتقدم تطهى والحمص، والبطاطس والطماطم والدهن اللحم من يعد قديم طعام صنف ديزي

. الخبز من خاص نوع مع التنور، داخل يوضع الفخار من خاص

Page 57: books.almaaref.orgbooks.almaaref.org/static/documents/zoqaq.doc · Web viewكلّ هذه الذكريات والأصوات، کانت لا تزال تتردّد في زوايا حنجرة

57

الغداء متوجهين إلى نبعة علي لالستحمام، وكانت هذه عادتهم في كل يوم.

عباس الخياط صاحب دكان بج��وار مقهى خ��الي، ك��ان يجادل��ه في ه��ذا األم��ر دائم��ا، ويق��ول: "إلى م��تى س��تجمع ه��ؤالء االس��تغالليين هن��ا، إذا ك��ان محم��د كاوميش ال يملك الم��ال، فمن أين ل��ه ه��ذه الس��يارة؟"، فيجيب��ه خ��الي ق��ائال: "هون عليك يا عم. هذه الدنيا ال تستحق كل هذا االهتمام. إذا أخ��ذوا من��ا قليال

من الطعام فقد أخذنا منهم كثيرا من الثواب..".

ا، كان "أب��رام ل��ره " أك��ثرهم1من بين هذه المجموعة البائسة والمستغلة نسبي فطن��ة ومه��ارة في عمل��ه. حيث اس��تفاد من ع��دة أم��اكن ومرات��ع للكس��ب واالستغالل. فكان بثيابه البالية والممزقة وحذائه المهترئ يس�تعطف ويس�تجر شفقة كل من رآه. لعله لقب ب�"ل��ره" لبس��اطته وص��دقه وتلعثم��ه في الكالم،

ولكنه لم يكن هكذا بنظري.

أحد األماكن التي واظب "أبرام" على التسول فيها والكسب منه��ا، ه��و حم��ام "جال أبو القاسم". كنت أذهب مع خالي علي أسبوعيا إلى حم��ام ج��ال، فق��د اعتاد خالي أن يأخذ قيلولة ما بعد الظهر هناك، حيث المكان بارد كالس��رداب، فيذهب أوال إلى غرفة تبديل المالبس الواقعة في السرداب من خالل ال��نزول

عشر درجات لألسفل.

كان أبرام يخفي نفسه في زوايا الحمام ويتوارى عن أنظ��ار الزب��ائن. وعن��دما يهم أحدهم بالخروج ودفع أجرة الحمام، يظهر فج��أة ويق��ف بجانب��ه. فيش��فق الزبون ويسأله: "أهال أخي أبرام، م��اذا كنت تص��نع؟" فيق�ول أب�رام: "م��� م�م� ماء وص صص صابون..." فيقوم الزب��ون المس��كين ال��ذي ال يع��رف ش��يئا من

حيل أبرام بدفع أجرة الحمام عنه. وهكذا يدفع

1 . والصدق والطيبة بالبساطة يعرفون إيران ووسط جنوب يقطنون قوم وهم اللر، قوم من أي لره

Page 58: books.almaaref.orgbooks.almaaref.org/static/documents/zoqaq.doc · Web viewكلّ هذه الذكريات والأصوات، کانت لا تزال تتردّد في زوايا حنجرة

58

ا أج��رة حم��ام أب��رام ال��ذي لم يس��تحم وال م��رة. سبعة أو ثمانية أشخاص يومي وعند الغروب يأخذ صاحب الحمام حسابه ويعطي الب��اقي ألب��رام. فق��د اعت��اد مثل باقي البؤساء على هذه الحياة الخاطئة. وح��تى ل��و أص��بح أث��رى األثري��اء، لبقي ينتظر المغفلين كل يوم في حم��ام "ج��ال" ويعيش حيات��ه كالمتس��ولين،

فهذه هي طبيعته.

��ة.1بعد مرور سنوات، أغلق خالي المقهى واستأجر مقصف أحد المعاهد الفني أظن أن سخاء خالي هو السبب في عدم نجاح المقهى، م��ا اض��طره إلغالق��ه. ومهما يكن، فبعد أن أتى خالي إلى المعهد صرت أعم��ل في وقت االس��تراحة خلف الصندوق، وأتقاضى خمسة تومانات يوميا. كنت معروفا بالفطنة والذكاء والحذاقة. كان المعهد مختلطا للشباب والشابات، وكان في ص��فنا فتات��ان. لم أكن أهتم لألمر، فق��د كنت من أه��ل الهيئ��ات والمج��الس الحس��ينية، وأخالقي وتربيتي لم تكونا لتس�محا لي ب�االنخراط في أج�واء كه�ذه. ك�ان خ�الي يق�ول دائما: "الرجل الحقيقي، يصون أعراض الناس، ويعتبرها مثل عرضه، فيتعامل

معها بالمقدار نفسه من الغيرة والتعصب".

م. ومن بعد هيئة "كل قاسم" األكثر شهرة في حينا، انطلقت1967في العام هيئة جديدة باس��م "نوباوك��ان ب��اب الح��وائج" )ص��غار ب��اب الح��وائج( وارتاده��ا شباب زقاق "نقاشها" والزقاق الخلفي من أمثال: محمد مشهدي باقر، وأمير عطري، وحسين محمودي، وداوود ني��ازي، ورض��ا طال، ومرتض��ى ع��رب زاده، وناصر كلهر، وحاج علي جمشيدي، والجميع ك��انوا يكبرون��ني بس��نتين أو ثالث، وقد سبقوني في االنضمام إلى الهيئة والمشاركة في مراسم الع��زاء واللطم. مؤسس الهيئة وحيدرها كان "أبو القاسم ك��اظم ده باش��ي"، الص��ديق الحميم

ألخي السيد مهدي؛ وهو

1 . الفراغ أوقات في واللهو والشرب لألكل عمومي محل مقصف

Page 59: books.almaaref.orgbooks.almaaref.org/static/documents/zoqaq.doc · Web viewكلّ هذه الذكريات والأصوات، کانت لا تزال تتردّد في زوايا حنجرة

59

ش��اب طوي��ل القام��ة، حس��ن الوج��ه، أني��ق ودائم االبتس��امة. يك��برني بع��دة سنوات؛ ولكن نقاءه وص��فاءه ومودت��ه جعلت أفئ��دة الش��باب في حين��ا ته��وي إليه؛ بحيث إنك تنجذب إلي��ه من اللق��اء األول، وت��ود مالزمت��ه بمج��رد أن ت��رى مروءته ومسلكه. وقد شكل فريقا لكرة القدم بمساعدة السيد مهدي وشباب الحي، وأسموه "ع��وامر". فك��انوا يش��اركون في المس��ابقات وي��دربون األوالد على أصول اللعبة. وفيم��ا بع��د أدركت أن "قاس��م" ش��كل فري��ق ك��رة الق��دم كذريع��ة ليلم ش��ملنا ويجمعن��ا، فك��ان يلعب معن��ا المب��اراة في النه��ار، ويقيم

،1دروس الق��رآن واألخالق في اللي��ل، باإلض��افة إلى بعض المس��ابقات الدينية وتقديم بعض الج��وائز المحبوب��ة والجاذب��ة من قبي��ل ثي��اب أدي��داس الرياض��ية واألحذية الرياضية. فقد أراد بهذه الطريقة أن يشد الشباب نحو األمور الدينية ويبعدهم عن جو الفساد السائد حينها. فكلما ذكرت ك��رة الق��دم دب النش��اط��ف في عروقنا، وكنا نشارك في التحديات بين مدارس المدين��ة بفريقن��ا المؤل من ش��باب الحي، واس��مه "ك��اوه". ويق��وم "ع��زت ج�ان ملكي" من الالع�بين الق��دامى والعب ال��دفاع في فري��ق "اس��تقالل" بتنس��يق وت��رتيب جلس��اتا ك��ان االنقس��ام بين مش��جعي ف��ريقي طه��ران قائم��ا، الت��دريب. حينه��ا أيض��

والبعض من مشجعي األزرق، وقاسم من الفئ��ة2فالبعض من مناصري األحمرا ويأخ�ذنا إلى ملعب "أمجدي�ه" لنت��درب أو ا يستأجر باص�� األولى. وكان أسبوعي

لنشاهد مباريات كرة القدم.

في إحدى المباريات المحلية، قابل فريقنا في الملعب فريق حي آخر. لم أكنا بقاسم شاركت في جميع المباريات ذا خبرة في كرة القدم، ولكني حب

1 . النتائج ويعلن إجاباتنا يصحح ثم الشباب بين يوزعها أوراق على الدينية األسئلة يكتب قاسم الحاج كان . المسابقات. تلك إحدى إلينا بالنسبة وضرورية مهمة كانت حينها الدينية المعلومات تلك ومعرفة والفائزين

. الكتاب آخر في وضعت بصورة وثقتالثياب 2 بلون يلعبان زاال ما الفريقان استقالل، فريق ثوب لون واألزرق بيرسبوليس فريق ثوب لون األحمر

. هذا يومنا إلى نفسه

Page 60: books.almaaref.orgbooks.almaaref.org/static/documents/zoqaq.doc · Web viewكلّ هذه الذكريات والأصوات، کانت لا تزال تتردّد في زوايا حنجرة

60

والتمرينات. تقدمنا عليهم في تلك المباراة بهدفين لهدف واحد. فنادى قاس��م قائ��د الفري��ق ق��ائال: "نحن ض��يوف على ه��ذا الحي، ومن الس��يئ أن يخس��روا ]على أرضهم[. دع النتيجة تنتهي بالتساوي، افعل ما اس��تطعت ح��تى ال تري��ق

ماء وجوههم".

في ذلك الزمان، لم يكن أحد يملك تلفازا سوى عائلة "محمد ك��اظم بوره��ا"، وك��انت من العوائ��ل الكب��يرة، األص��يلة، المض��يافة والكريم��ة، وتمل��ك مغس��لة��ا ن��دخل بينهم سجاد. وفي كل أسبوع عن��دما ك��انوا يحج��زون "نبع��ة علي"، كن ونذهب معهم للتنزه. وعندما بدأت مباريات كأس الع��الم في مكس��يكو س��يتيا وقت الغ�روب عن��د ب�اب "ك�اظم بوره�ا". اجتم�ع م�ا يق�ارب األربعين شخص�� وصرنا عندما يفتحه ندخل جميعا ونشاهد التلفاز إلى آخر الليل، كانت الزوج��ة تقدم لنا الضيافة، ولم تعبس مرة في وجهنا، ب��ل ظلت ودودة. رحم الل��ه روح

محمد ومهدي كاظم بورها وأبويهما، وأسكنهما فسيح جناته.

عندما قويت عالقتي بالحاج قاسم وصارت أكثر حميمية، صرنا ن��ذهب ليال إلى المسجد ونتحدث طوال الطريق، حيث كان يقدم لي النص��ائح بص��وته اله��ادئ والودود. ال أذكر أنه تحدث يوما بسوء أو سلبية عن أحد في حينا، أو ح��اول أنب ألص�دقائي، ولم يبعدني عن أحد من شباب الحي، ك�ان يع�رف أن�ني متعص��

يأت يوما على ذكر مساوئ أي منهم.

لقد أتى قاسم ليحدث ثورة! أتى إلى حي كان أكثر ش��بابه من الع��بي القم��ار��ه لم ي��دخل يوم��ا ي��ده في جيب أح��د ليفتش عن ورق وش��اربي الخم��ور. لكن اللعب والممنوع��ات. وعن��دما ك��ان يدرس��نا األخالق لم يقله��ا مباش��رة أتيت ألحارب القمار. وفي ال��وقت ال��ذي ك��ان الجمي��ع يقول��ون ال تفعل��وا ه��ذا، ه��ذا

سيئ. أتى قاسم ليقول لنا ماذا نفعل، لنفعل الخير والصالح، وما هي

Page 61: books.almaaref.orgbooks.almaaref.org/static/documents/zoqaq.doc · Web viewكلّ هذه الذكريات والأصوات، کانت لا تزال تتردّد في زوايا حنجرة

61

األعمال الصالحة، ولم نعهد لذلك مثيال من قبل.

كان يردد دائما: "يلجأ للقمار من ال يحسن القيام بأي عمل، لكن، حتى الف��وزبالقمار خسارة. وال ثمرة له، ليس سوى هدرا للعمر وإتالفا للوقت".

لقد فجر بإنجازاته وسلوكه هذا ثورة في أرواحنا ووج��داننا من حيث ال ن��دري. ولقد أعطى الله "قاسم" هيبة جعلت أفئدة ح��تى ش��اربي الخم��ور واألش��قياء والفتوات والفاسدين تميل إليه، فأصبحوا يحلفون باسمه، ويعتبرونه قدوة في الصدق واألمان��ة واإليم��ان. ولم يكن ه��ذا بالش��يء الهين أو البس��يط في ذل��ك

الزمان.

لم تعجب أخالق قاسم هذه الكثيرين، وكانوا ينتقدونه بأنه لماذا يصاحب حفن��ة من الفت��وات وأص��حاب الس��وابق وي��أتي إلى المس��جد، ولم��اذا يتعام��ل في

األساس بوجه حسن مع أشخاص كهؤالء.

ا طائشا، وقد توافرت لدي األرضية للقيام بأي خطيئ��ة، أما أنا فكنت حينها شاب أي إن المحي��ط ال��ذي عش��ت في��ه ك��ان من الممكن أن يق��ودني إلى الهاوي��ة، ولكن بفضل قاس��م تب��دلت نظ��رتي للحي��اة ورحت أرى البع��د المعن��وي فيه��ا، وأهتم بتهذيب النفس وتزكيتها. عندما كنا نذهب مع الشباب خل��ف قاس��م إلى المسجد، لم يكن أحد يأتي على ذك��ر القم��ار ولعب ال��ورق، فاحترام��ا لقاس��م الذي دخل في قلوبنا وأحببناه وأطعناه كنا نق��دس حرم��ة بيت الل��ه والمس��جد

الذي يأخذنا إليه. وبفضل هيبة قاسم وروحه وأخالقه الحسنة غدونا نستمع إلي��ه ونطيع��ه داخ��ل المسجد وخارجه. إن اإلنسان في مرحلة الش��باب يك��ون محفوف��ا بالمخ��اطر، مستعدا لالنسياق وراء أهوائه وشهواته وملذات دنياه، لذلك من الض��روري أن

يجد إلى جانبه من يرشده، ويضيء طريق الصالح أمام

Page 62: books.almaaref.orgbooks.almaaref.org/static/documents/zoqaq.doc · Web viewكلّ هذه الذكريات والأصوات، کانت لا تزال تتردّد في زوايا حنجرة

62

ناظريه. إن قصة شبابي كانت أعق�د من ذل�ك: فق��د ك��اد الج��و المس��موم من حولي أن يأخذني ويغرقني في الفس��اد. خالل ف��ترة مليئ��ة ب��الحيرة والض��ياع؛��را ��را ومتكب توجب علي االختيار بين أن أصبح فاسدا، من أه��ل الفت��وات، متجب شديد البطش، أو أن أكون ضعيفا خاضعا لألقوياء. كم��ا ك��ان للفت��وة في ذل��ك

الزمن آدابها وعاداتها.

في ذلك الزمان أدى البعض مثل "ناصر مل��ك مطيعي" دور الرج��ال الش��رفاء الغيارى على أعراض الناس، ومثل "بهروز وثوقي" الف��ادي أص��دقاءه بروح��ه؛

كانا قدوة للرجال.

من بين الش��باب واألص��دقاء، كنت أبحث عن األقوي��اء واألذكي��اء، ألني أك��رهالجبناء الضعفاء، وأحب مرافقة األقوياء. إلى أن تعرفت إلى "أحمد أورند".

أحمد شاب من أبناء منطقتنا، ومن أولئك الحاذقين األذكياء المتم��يزين، وك��ان عاشقا للممثل "بهروز وثوقي". ومن بعد مش��اهدة فيلم��ه "قيص��ر"، أص��بحتا وراح يقل��ده في مش��يته، ��ه انتع��ل ح��ذاء قيص��ري حركاته مثل قيص��ر، ح��تى إن

وقصة شعره، بحيث صار يعرف شيئا فشيئا ب�"أحمد قيصر".

��ني قال لي الجميع آنذاك إن أحمد صديق سوء ويجب علي االبتع��اد عن��ه؛ ولكن عرفته نقي القلب، يمتل��ك ب��ذرة طيب��ة ون��واة للت��دين. وتيقنت من ذل��ك؛ ألني كنت األكثر قربا منه، رغم أنه من مربي الحمام والمقامرين المهرة، ولم يق��و عليه أحد في القمار. كلما رمى النرد جاء ستة مزدوجة، فلم يس��تطع أح��د أنيتفوق عليه، فصاروا يأتون بالمقامرين الماهرين من بقية األحياء ليتباروا معه.

سألته ذات مرة: "يا أحمد، كيف تعلمت كل هذه األالعيب والخدع،

Page 63: books.almaaref.orgbooks.almaaref.org/static/documents/zoqaq.doc · Web viewكلّ هذه الذكريات والأصوات، کانت لا تزال تتردّد في زوايا حنجرة

63

وكيف تحصل على ستة مزدوجة دائما؟".

- إذا قلت سري للجميع، فلن أكون الملك في هذه اللعبة؛ لكن األمر أك��ثر م��ا يرتبط بحظ الفرد، وبعضه يعود للخبرة، وكما يقال: أعطني الحظ وارمني في

البحر.

خالل فترة صداقتي ألحمد، تعلمت منه مختلف الحيل واألالعيب، ومررت ك��ل��ا ط��ويال ح��تى اس��تطعت أن1ما تعلمته من الخدع أثناء لعبي .. اس��تغرقت وقت

أفهم رغم ذكائي أن أحمد كان يضع قليال من م��ادة الرص��اص في ال��نرد ال��ذييستخدمه، فيصبح أحد أطرافه أثقل وكلما رماه حصل على العدد ستة.

مذ أتى قاسم إلينا، أصبح أحمد قيصر يتردد إلى المسجد، وبات مولعا بمروءة قاسم وأخالقه. وفجأة انقلب رأسا على عقب، وتغيرت أخالقه، وأص��بح أحم��د

شخصا آخر.

في وقت تردد بعضهم إلى مقهى "أحم��د ب��اده" في أول ش��ارع ري، أو مقهى "ماه طاووس"، ليشربوا كؤوس الخمر ويلهوا ويسكروا، ك��ان قاس��م يمنع��ني عن ذل��ك ويق��ول: "ال تلح��ق به��ؤالء. إنهم كالطوف��ان، وح��ذار أن يغرق��وك معهم..". ونستعيض بالذهاب إلى شارع ري، نش��رب "الس��فن آب" المخل��وط

بعصير الليمون الحامض ونتحدث ونمرح. بات قاسم يمنعني عن

1 . أحمد بجانب أجلس لنلعب، نجتمع كنا عندما أحيانا سهولة بكل والتركس والطرنيب الجوكر أربح فصرت . فهي تومانات، بعشر اآلس ورقة بأن شرطا نضع كنا مثال بخطواته ويتنبأ منافسه خطط يكشف كيف وأرى ... . كانت أالعيبي إحدى الجولة يربح اآلس ورقة عنده كانت ومن منا كل ورق نعد ثم اللعبة في األهم الورقةعند اللعب من القادمة الجولة في أتلمسه نافر، خط فيها فيبقى اآلس ورقة طرف على بأظافري الضغط

. الجولة في فأربح اآلس ورقة أنها خالله من فأعرف األوراق، توزيعطرفه في يوجد يدهم؛ في للعب مخصوصا خاتما يضعون كانوا والقمار الورق بلعب الماهرين الخبراء بعض

. . جميعها أذكرها أعد لم أخرى خدع هناك كانت الخصم أوراق خاللها من يرون مرآة

Page 64: books.almaaref.orgbooks.almaaref.org/static/documents/zoqaq.doc · Web viewكلّ هذه الذكريات والأصوات، کانت لا تزال تتردّد في زوايا حنجرة

64

فعل األشياء السيئة التي يقوم بها اآلخرون.

كان قاسم يقول: "إن لدى أحمد ب��ذرة ط��اهرة طيب��ة، ولكنه��ا بحاج��ة إلى من يرويها، وأحمد بحاجة إلى شخص يأخذ بيده ويضيء له طريق��ه. أن��ا على يقين بأن عاقبته س��تكون خ��يرا. في ه��ذه ال��دنيا، ك��ل يبحث عن ص��احب ل��ه، فه��ذا يذهب إلى أماكن اللهو وذاك يذهب إلى المسجد. وهذا يربي الحمام والطيور،

وآخر يجالس الناس ويقضي حوائجهم".

"كل يبحث عن صاحب، أكان صاحيا أو سكران..وكل األماكن بيوت عشق، أكانت مساجد أو أماكن لهو"

أعترف اليوم أنه ل��و لم ي��دخل قاس��م حي��اتي أو ب��األحرى ل��و لم أتبع��ه، لك��ان مصيري مجهوال. وكان من حسن حظي أن قاسم ظهر في حياتي في مرحل��ة��ل من إمكاني��ة أن أص��بح أس��يرا صباي، فدخلت في الهيئة وفي ج��و دي��ني، قل

للمفاسد.

اس��تقرت كلم��ات قاس��م في أعم��اق قل��بي، كم��ا حبب��ني بأس��اتذة األخالق والعرفان. فكنا نذهب في بعض األيام مع "حسين محمودي" -من شباب هيئ��ة

، وه��و من كب��ار أس��اتذة1ب��اب الح��وائج- إلى مجلس الش��يخ "ح��ق ش��ناس" األخالق، وصديق والد حسين "الحاج محمد"، ومن المؤمنين األتقي��اء. وكالهم��ا

من العارفين واألولياء الصالحين، ولديهما أتباع ومريدون

1 ) عام ) ولد التهراني شناس حق الكريم عبد . 1919الميرزا عند والعرفان والنحو المقدمات درس طهران في . الله آية الشيخ عند قم في واألصول الفقه درس آبادي الشاه الله وآية تنكابني رضا محمد الحاج الشيخ

عام. أمين 1953بروجردي مسجد في وعمل الشرعية، واألمور الدين في الناس مشاكل لحل طهران قصد . شغل العلمية الحوزة طالب أو الكسبة أو العلم أهل من أطيافهم بمختلف الشباب وتربية تهذيب على الدولة

من لبرهة مطهري الشهيد بمدرسة ا وحالي ساالر ب�سبه سابقا المعروفة الدولة فيلسوف مدرسة مدير منصب . المجاهدون كان الحكمة في السبزواري ومنظومة واألصول والفقه والكفاية المكاسب فيها ودرس الزمن،

. عام في فضيلته توفي وقد والعرفان األخالق في دروسه يؤمون أكثرهم تجد فكنت خاصا، ا حب م.2007يحبونه

Page 65: books.almaaref.orgbooks.almaaref.org/static/documents/zoqaq.doc · Web viewكلّ هذه الذكريات والأصوات، کانت لا تزال تتردّد في زوايا حنجرة

65

كثر، فكانا يقدمان لهم غذاء الروح والكمال المعنوي، وخاص��ة للش��باب ال��ذينكانت أرواحهم ظمأى للمعرفة واإليمان.

في أحد األيام، حضرت برفقة حسين في مجلس الشيخ حق شناس، فتح��دث سماحته عن جبل حجر العقيق وكرامة العقيق قائال: "العقيق هو أول جبل أقر

بأحقية اإلمام علي...".

وبما أني كنت مولعا بالخواتم والسبحات، حفظت أقواله. ومن هناك عدنا إلى والد حس�ين محم�ودي، وقصص��ت على الح��اج محم�د م��ا س��معنا عن العقي��ق واألحجار الكريمة. عندها أخذني الحاج إلى قبو الم��نزل، وأخ��رج من ص��ندوقه العتيق خاتما حجره كحبة الرمان وألبسني إي��اه، ثم ق��ال: "ه��ذا الخ��اتم ت��ذكار

لك، أنت سيد؛ سوف ينفعك، ويجلب لك النور والهداية".

؛ لون حجره كلون حبات الرمان األحمر،1كان ذلك الخاتم بالفعل جميال وجذابا يلمع ويتألأل، فيخطف بريقه األنظار. إطاره من الفضة ومنح��وت علي��ه ب��اللون األسود. كان الخاتم الذي لطالما حلمت به. مساء ذلك اليوم، في مسجد أمين الدول��ة، رأى الش��باب الخ��اتم في ي��دي، فق��الوا: "من أين جئت به��ذا الخ��اتم الثمين؟ كأنه حي وفيه روح، ويتحدث إلى ناظره!! الجميع يتمناه، لكنه ال يليق

إال بيد السادة".

غير الذين ذكرتهم، س��كنت في حين��ا عوائ��ل كث��يرة أخ��رى متدين��ة ومعروف��ة. فتاريخ زقاق "نقاشها" يعود لستين عاما. ومن هؤالء عباس كاكا زعيم الن��ادي الرياضي أللعاب القوى في الحي، والذي س��لك أك��ثر الش��باب نهج��ه. "الح��اج غفور خياط" إمام الص��الة في مس��جدنا، لم يكن ش��يخا معمم��ا، لكن��ه ك��ان ذا

علم وتقوى وصالح، وله هيبة المعمم بين أهل الحي. "الحاج

1 .) ( -.. المحرر حينها قط أتوقعها أكن لم ظروف في به تعلقي واستمر

Page 66: books.almaaref.orgbooks.almaaref.org/static/documents/zoqaq.doc · Web viewكلّ هذه الذكريات والأصوات، کانت لا تزال تتردّد في زوايا حنجرة

66

حسين طال" من المؤمنين الزاهدين، كان يقيم موائد الطعام على حب اإلم��ام الحس��ين في ليل��ة والدت��ه؛ ويطه��و مق��دارا من األرز ويطعم ثالثمئ��ة ش��خص، فيحتار الجميع من بركة تلك الليالي. وفي ليالي السبت ظلت مج��الس ال��ذكر��بين قائمة وحافلة في دار "ناد علي". كما كنا ننعم ببرك��ة بعض األفاض��ل الطي من قبيل الحاج قيصر، والحاج حس��ن ص��فوي، الخل��وقين، المؤم��نين وف��اعلي

الخير.

وق��د أسس��ا في الحي برفق��ة الس��يد "جولي��ده نيش��ابوري" منظم��ة ش��عراء اإلسالم، فأقاموا الجلسات والندوات الشعرية والثقافية. ك��ل ه��ؤالء ك��انوا من قاطني زقاق "نقاشها" لما يقارب الستين أو السبعين عاما. وبس��بب إيم��انهم وورعهم وعبوديتهم وببركة أنفاسهم، ساد جو من اإليمان والروحانية في حينا. وألني كنت أحب الش��عر والش��عراء والهيئ��ات، أدخل��ني الح��اج كم��ال حس��يني بينهم على ال��رغم من ص��غر س��ني، فق��د امتلكت موهب��ة وأرض��ية خص��بة في الشعر. فتعلمت القص��ائد والبح��ور والق��وافي واألوزان، ورحت أكتب األش��عار

الدينية، فكنت أؤلف اللطميات وأعطيها ليال للرادود ليقرأها في المجلس.

في إح��دى اللي��الي أقيم المجلس في م��نزل "الح��اج أك��بر إقب��ال ف��ر"، وك��ان . وه��و من ب��ائعي1للحاج أكبر عينان كعيني الغراب، لهذا لقب��وه ب��أكبر الغ��راب

الجملة في ساحة "أمين سلطان" الذين اعتقلوا في أحداث حزيران من العام م، لكنه هرب في ما بعد إلى مشهد. ثم ظه�ر بع��د أن ه��دأت األوض��اع،1963

وال أعلم إن عاد لمزاولة أمور الثورة في الخفاء.

تل��ك الليل��ة لفتت انتب��اهي ص��ورة موض��وعة على ال��رف في م��نزل "أك��برالغراب"، ولما هم الخطيب بصعود المنبر ورأى الصورة، قال: "يا حاج،

1 . الحرب في شهيدا هادي ابنه فر إقبال أكبر الحاج قدم

Page 67: books.almaaref.orgbooks.almaaref.org/static/documents/zoqaq.doc · Web viewكلّ هذه الذكريات والأصوات، کانت لا تزال تتردّد في زوايا حنجرة

67

أنزل هذه الصورة، سوف تفضحنا".

"لمن هذه الصورة؟" سألت الحاج قاسم.

"هذا السيد الخميني، من مراجع اإلسالم الكبار. وقد نفي اآلن وهو يعيش فيالنجف األشرف" هكذا أجابني قاسم.

ا. وفي بيت��ه، ك��انت كان "أكبر الغراب" يحتفظ بالرس��الة العملي��ة لإلم��ام أيض�� المرة األولى التي أرى فيها صورة اإلمام الخمي��ني، لك��ني لم أعب��أ بالموض��وع

لصغر سني.

في ذلك الوقت عملت في معمل لقص الورق، فقد عرفني الح��اج قاس��م منخالل عالقاته ومعارفه الكثيرة في السوق إلى أحدهم ألعمل عنده.

"، وب��الطبع1معم��ل قص ال��ورق مك��ان عملي، مج��اور ل��دكان "مرش��د كب��ابي حالفني الحظ عدة مرات ونلت في وقت الغداء سيخ كب��اب على رغي��ف خ��بزا. اتسمت من يد مرشد كبابي. كان مرشد من أولياء الله الصالحين، مؤمنا تقي حياته وملبس�ه ومأكل��ه بالزه�د والبس�اطة، وك�ان حس�ن المعش�ر يس�عى في قضاء حوائج الناس. يقع دكانه خلف المسجد الجامع، ويبعد عنه خمسين مترا. وق���د كتب على حائ���ط دكان���ه: "ال تمش من دون وض���وء، إن األرض تح���زن

لذلك".

1 . افتتح األمر وبادئ طهران، في ولد كبابي بمرشد المعروف نهاوندي عابد أحمد ميرزا الحاج الحكيم العارف . . فاشترى البعض بعضهما عن انفصال بعد ما وفي كباب مطعم كبابي مصطفى السيد برفقة شميران في

آخر إلى وبقي النجارين، سوق حيث طهران سوق في الجامع للمسجد الشرقي الجانب في دكانا مرشد . بارعا، وخطيبا متكلما كان ألنه االسم بهذا مرشد عرف األرز مع الكباب وجبات تقديم في هناك يعمل عمره

مليئة وحكايا قصص قالب في وحديثه نصائحه يقدم أو الشعر، من بأبيات أحيانا ويستدل بروية يتحدث . يد مد عن يوما يتوان ولم ومشاكل، تعقيدات أي دون من يسيرة بسيطة حياته كانت والمعاني بالمفاهيم . نقش الله شاء ما مسجد في بابويه ابن قبر قرب مرشد الحاج المرحوم مزار يقع والضعفاء، للفقراء العون

.) قرن ) كاسب بهترين كتاب من الوجود سر تعرف حتى العالمين كال في اسع قبره على أشعاره أحد

Page 68: books.almaaref.orgbooks.almaaref.org/static/documents/zoqaq.doc · Web viewكلّ هذه الذكريات والأصوات، کانت لا تزال تتردّد في زوايا حنجرة

68

ناهز عمر السيد مرشد حينها الخامسة والستين، كان نحي��ل الجس��م، ذا لحي��ة بيضاء قصيرة، ووجه مشرق دائم االبتسامة. يقولون حتى القط��ط عن��د دكان��ه مقسوم رزقها لديه. ريثما يحض��ر الطع�ام يلبس مرش�د مريل�ة بيض�اء، ويض�ع م الكب��اب بالملعق��ة إلى لقم أم��ام ال��دكان موق��دا يعم��ل على النف��ط، يقس�� يطعمها للعاملين لدى أصحاب المهن والفقراء حتى يتذوقوا طعمه. كتب على

باب الدكان: "نقبل الدين، بقدر استطاعتنا".

عند الظهيرة، كنت أحيانا أرى مرشد، يحمل ملعقة وقدحا من السمن البل��دي الساخن الذي تفوح رائحته الش��هية في األرج��اء، وي��دور بين ط��اوالت الزب��ائن ليسكب ملعقة من السمن على األرز لمن أراده أكثر دسما، ومن ثم يسمعهم

بيتا جميال من أشعاره. ومن أبيات مرشد المشهورة:"كربالء تعني موطن العشق الحسيني

".1سكانها نائمون وبالدماء مضرجون

م. وك��انت خدمت��ه في الق��وات1967ذهب قاسم إلى الخدمة اإللزامي��ة ع��ام الجوية، وسلم هناك مخبز الجيش. عن��د ك��ل غ��روب ك��ان يحم��ل م��ا اس��تطاع حمله من الخبز، ويطرق ب��اب ك��ل ال��بيوت ويعطي رغيفين س��اخنين للجمي��ع. كث��يرون أمس��وا ينتظ��رون قاس��م لي��أتي ويحض��ر لهم الخ��بز. علمت من أح��د أصدقائي أن قاسم كان على عالقة بالتجار واألثري��اء، ومن خاللهم يس��د رم��ق عدد من العوائل المحتاجة الفقيرة، لكنه ال يخ��بر أح��دا بم��ا يفعل��ه من أعم��ال الخير. تتلمذ قاسم على يد "الشيخ شجوني"، وبقي على عالق��ة وارتب��اط ب��ه، وكان يأخذ منه اإلرشاد. رحل قاسم فجأة إلى كرج ألسباب أجهلها، مع أنه من

أصل طهراني، وكل عائلته تقيم في طهران، ومع ذلك

1 . اند خوابيده بيرهن يك با جمله ساكنانش عشق آباد حسين يعني كربال سرزمين

Page 69: books.almaaref.orgbooks.almaaref.org/static/documents/zoqaq.doc · Web viewكلّ هذه الذكريات والأصوات، کانت لا تزال تتردّد في زوايا حنجرة

69

ذهب إلى كرج وتزوج هناك وأقام عرسا بهيجا في صالة "سياره"، دعاني إليهمع بعض من شباب الحي.

أحد األساتذة الذين تع�رفت إليهم عن طري�ق قاس��م، وال��ذي مأل ف��راغ غي��اب قاسم وبعده عني، هو كبير الحي "الح��اج ماش��اء الل��ه عب��داللهي"، المع��روف

ا مفتول1ب�"ماشاءالله عباس بربر "، كان طويل القامة عريض المنكبين، رياضي العض��الت، حس��ن الوج��ه وس��يما، وحس��ن المعش��ر، ومهتما ب��أمور الن��اس وحاجاتهم. وفي حين ذهب كثيرون إلى مقهى "ماه طاووس"، ه��ادرين وقتهم وعم��رهم في��ه، كنت أرى الح��اج ماش��اء الل��ه كم يش��قى ويتعب ويعم��ل بج��د

وحرقة قلب في بناء مسجد الحي وفي األعمال الخيرية.

كان "الحاج ماشاء الله" و"جعفر سالخ" من أبط��ال الن��ادي الرياض��ي أللع��اب��ا القوى، وقد فتح لي الطري��ق لل��دخول إلى ن��ادي "ش��اه م��ردون". ظ��ل غالب برفقة "الحاج إسماعيل قرباني" الملقب ببطل العاصمة. وبقي��ة أص��دقائه هم

عباس زندي، ومصطفى طوسي، وعباس حريري وغالم رضا تختي.

في ذلك الزمن، حظي البطل الرياضي والبهلواني بعظمة ومكانة وكان مح��ط اهتمام بين الناس، فله الح��ل والفص��ل، وكلمت��ه مس��موعة فی الحي من بع��د ش��يخ الج��امع وال��رادود. أم��ا "الح��اج ماش��اءالله" فق��د ك��ان من المؤم��نين الصالحين، باإلضافة إلى كونه من عشاق النادي الرياضي، وقد أحبه بق��در م��ا أحب المسجد. ذات م��رة ح��دثني في طريقن��ا إلى الن��ادي وق��ال: "إن الن��ادي الرياضي مسجدنا الثاني، ول��ه حرمت��ه وقدس��يته، فال يجب أن تدخل��ه من دون وض��وء. في الن��ادي ي��ذكر أم��ير المؤم��نين؛ وببرك��ة ه��ذا ال��ذكر يش��فى بعض

المرضى؛ ولذا فإن في الغيبة وأكل المال الحرام انتهاك لحرمة

1 . العابدين المؤمنين ومن واألبطال، الرياضيين من وكالهما بربر، عباس الحاج أخو بربر الله شاء ما الحاج. اللوزية أعينهم شكل بسبب ببربر لقبوا ولعلهم مشهد إلى تعود أصولهم

Page 70: books.almaaref.orgbooks.almaaref.org/static/documents/zoqaq.doc · Web viewكلّ هذه الذكريات والأصوات، کانت لا تزال تتردّد في زوايا حنجرة

70

النادي. إذا أردت أن تحمل اسم النادي وتتفاخر بهذا االس��م فعلي��ك أن تحف��ظ عينك ولسانك، عش ببساطة كأي شخص عادي، ولكن، احفظ حرمات الن��اس وأعراضهم، وراع الحالل والحرام. وعليك أن تس��لك الطري��ق نح��و الل��ه، وه��و

طريق البر واإلحسان لعباد الله".

كان نادي "شاه مردون" يقع في شارع "ري" بمنطقة "انبار كندم"، وه��و بن��اء مؤلف من طبقتين، بوابته قصيرة. في الطابق السفلي أقيمت قاعة منخفضة للت��دريب، وفي الط��ابق العل��وي يوج��د إي��وان ف��رش بحلب��ة مص��ارعة يت��درب ويتبارز عليها الرياض��يون وأبط��ال المص��ارعة الش��عبية. فيم�ا بع�د ه��دم مب��نى

النادي وضمت أرضه إلى حديقة عامة.

كنت أنا أصغر المبتدئين في النادي. كان عرفا س��ائدا بأن��ه ال يح��ق للرج��ل أن تطأ قدمه داخل النادي حتى يكتمل شاربه أو كما يقولون: حتى تعلق الفرشاة في ش��عر ذقن��ه. وعن��دما ي��دخل يعت��بر مبت��دئا، ويجب أن يجلس لف��ترة م��ع المتفرجين إلى حين أن يتقن فنون هذه الرياضة، وحينها يدخل بين المت��دربين والرياضيين. عندما جئت إلى النادي، قام الحاج ما شاء الله بعقد الحزام على خصري؛ وهذا الح��زام يعق��د على خص��ر المبت��دئ بطريق��ة خاص��ة ال يتقنه��ا إالا وقص��يرا ا وبنط��اال عريض�� الخبيرون والمتمرسون. أما هو فكان يرتدي قميص�� ويضع الحزام أيضا. والقصد من وضع الحزام هو التشابه والتناس��ق في الل��ون والملبس بين الرياضيين. في النادي الرياضي الكل سواسية؛ فال فض��ل ألبيض على أسود وال فضل ألمير على فقير، وه��ذه م��يزة الن��ادي. فيم��ا بع��د خ��اطواروه إلى الركب��ة، ثم عرق��وه وش��جروه بالتص��ميم البنطال بشكل أض��يق وقص��

األصفهاني، فأصبح بالشكل الذي هو عليه اليوم.

في النادي الرياضي ال يتحدث أحد أو يتفاخر بحسب أو نسب أو جاه.

Page 71: books.almaaref.orgbooks.almaaref.org/static/documents/zoqaq.doc · Web viewكلّ هذه الذكريات والأصوات، کانت لا تزال تتردّد في زوايا حنجرة

71

فالتعامل مبني على أصل ثابت هو الصدق واإليمان. ولذلك بنوا مدخل الن��ادي قصيرا حتى تحني رأس��ك من��ذ اللحظ��ة األولى ال��تي تخط��و فيه��ا إلى الن��ادي، فتضع الغرور والتكبر جانبا. فالتواضع هو أول درس يتعلم��ه الرياض��ي، ول��ذلك

يبنون ساحة التدريب منخفضة عن سطح األرض ومكان جلوس المتفرجين.

نقش على مدخل نادي "شاه مردون" هذا البيت من الشعر:"من الحركة والقوة تأتي الرجولة

ومن الكسل والضعف تأتي الخمولة"

ا قب��ل الب��دء بالتم��ارين الرياض��ية، ك��ان "الح��اج ماش��اءالله" يعلمن��ا ح��ديثا دينيويقول على الدوام: "األحاديث والروايات تصونكم وتمنع عنكم المفاسد".

ص، ب��الترحيب بك��ل ثم يق��وم المرش��د أو ال�دليل الج��الس في مكان��ه المخص��ص حس��ب مرتبت��ه. على س��بيل المث��ال ش��خص، وتقديم��ه إلى مكان��ه المخص�� يكتفي ب��التلويح بي��ده والق��ول "أهال وس��هال" لل��ترحيب بالمبت��دئين. وي��رحب بالمتمرسين بقرع الج�رس والص�لوات، وباألبط�ال البهلوان�يين بق�رع الج��رس والق��ول "ش��رفنا البط��ل". وي��رحب بالس��ادة وكب��ار الس��ن بق��رع الج��رس والصلوات العالية ويقول: "أهال وس��هال. ش��رفتنا.. على محب��ة علي: ص��لوات" وهكذا. وحين يستوي كل شخص في مكانه المحدد، يقرأ المرشد أش��عارا في مدح أمير المؤمنين، وأبياتا من الشعر في الثناء على الله والرس��ول ويض��رب على الدف، فيخشع المستمعون. ثم يت��دربون ويتمرن��ون وهم يس��معون ه��ذه

المدائح، فكأن الفرد -كما يقولون- يهذب ويبني الروح والجسد في آن.

مرة وهم يعدون: "واحد الله40يحمل الرياضيون العصا ويرفعونها

Page 72: books.almaaref.orgbooks.almaaref.org/static/documents/zoqaq.doc · Web viewكلّ هذه الذكريات والأصوات، کانت لا تزال تتردّد في زوايا حنجرة

72

الرحيم، اثنان ال عظيم غير الله... أربعون، صلوات على خاتم األنبياء". في نادي الرياضة، يجب أن تكون كل حواسنا متوجهة إلى الله، مث��ل العب��ادة. أما األداة المستعملة فهي عصا خشبية رفيعة من أح��د أطرافه��ا حيث يمس��ك بها الرياضي وغليظة من الطرف اآلخر وهي ترمز إلى السيف، وتك��ون ثقيل��ة ح��تى يت��درب به��ا المنتس��ب ويق��وي عض��ده، ويق��وى على محارب��ة الظلم

واالستغالل في زمانه.

بعد ذلك يأتي دور القوس الخشبي، وهو يرم�ز لق�وس النش�اب، فيوض�ع على األرض ويستلقي الرياضي على بطنه ويرفع نفسه بيدي��ه الل��تين يض��عهما على القوس، ويتدربون عليه ويمارسون تمارين الضغط بأشكال مختلفة، والمرشد

يردد: "واحد الله واحد، اثنان ال عظيم إال الله.".

ثم يحملون الل��وح الخش��بي الش��بيه بال��درع، ويرم��ز إلى ال��درع ال��تي يحمله��ا المقاتلون، ويوجد منها أوزان مختلفة تبدأ بعشر كيلوات وتص��ل ح��تى الثالثين. رأس اللوح مقوس، ويصنع هكذا فقط ليكون شكله أجم��ل ال غ��ير، فيرفعون��ه

ويتدربون به وأيضا يردد المرشد: "واحد الله واحد، اثنان ال عظيم إال الله..".

وفي النهاية، ينتهي التدريب بالدعاء الذي يردده المرشد: "اللهم العن الشمر،اللهم العن يزيد. إلهي بحق محمد وآل محمد، اكتبنا من محبي علي...".

أحد التقاليد واألعمال الجيدة في النادي التي ما زالت تقام إلى يومنا هذا، هو حل مشكالت وعق�د من ض�اقت بهم ال�دنيا وأص�بحت س�معتهم على المح�ك. فتكون المراسم بالترتيب التالي، يقوم المرش��د بتنظيم ع��رض رياض��ي، مث��ل

الحفل المسمى "كل ريزان"، ويقوم الجميع بتمارين الضغط

Page 73: books.almaaref.orgbooks.almaaref.org/static/documents/zoqaq.doc · Web viewكلّ هذه الذكريات والأصوات، کانت لا تزال تتردّد في زوايا حنجرة

73

ب، ويدور بين الجميع في النادي قائال: "أض��اء الل��ه وفي النهاية يحمل كيس قن في عمرك، وأبعد عنك المرض والسقم، وأنجاك من الظلم والظلم��ة، وحف��ظ

ماء وجهك بين العيال واألوالد، أجرك على حبيب بن مظاهر...".

وحينها يضع الجميع النقود في الكيس كل بقدر ما يريد، بحيث يدخل الش��خص يده في الكيس فال يعرف المبلغ الذي تبرع ب��ه، كي ال يتس��رب الك��بر والري��اء إلى قلب الفرد. ثم يقدم هذا المال للمرشد وللمس��تخدم في الن��ادي ليقت��ات من��ه، أو يق��دم لمس��اعدة من م��ال علي��ه ال��زمن، وب��ات من ض��عفاء الن��اس

وفقرائهم.

أحد األبطال الرياضيين في ذلك الزمن "شعبان جعفري" وك��ان اس��مه أش��هرمن نار على علم.

أذكر جيدا أنه أقام في يوم ميالد "الشاه" احتفاال كب��يرا ال نظ��ير ل��ه في نادي��ه الواقع في "بارك شهر" وصلت أخباره إلى كل أرجاء المدين��ة. وق��د دع��ا إلي��ه كل الرياضيين؛ لكن الحاج ماشاءالله لم يأذن لنا بالذهاب حتى للتفرج، ومنعنا قائال: "شعبان، ليس متدينا، وهو على صلة بالشاه وحاشيته، لذا ال نستطيع أن

نعتبره بهلوانا ونقبل دعوته".

ص��حيح أن ش��عبان ك��ان من رواد ن��ادي ألع��اب الق��وى والمص��ارعة الش��عبية )الزورخانه(، إال أنه لم يكن يملك مصباحا يضيء طريقه ويهديه إلى الص��واب. وسمعت أنه أدخل الراقصات والمغنيات إلى النادي في ذل��ك الحف��ل. لم يكن

دخول المرأة إلى النادي مقبوال لدى البهلوانيين األوائل والكبار.

م، نظ��را لتعلقي1974انض��ممت إلى ن��ادي أب��و مس��لم للمص��ارعة في ع��ام الش��ديد برياض��ة المص��ارعة، وكنت أذهب م��رة أو م��رتين أس��بوعيا للت��دريب،

علمني السيد "كودرزي" فنون المصارعة وأساليبها. وفي ذلك النادي

Page 74: books.almaaref.orgbooks.almaaref.org/static/documents/zoqaq.doc · Web viewكلّ هذه الذكريات والأصوات، کانت لا تزال تتردّد في زوايا حنجرة

74

تع��رفت إلى أص��دقاء ج��دد، أش��داء وأقوي��اء في المص��ارعة. من بينهم جعف��ر وأصغر رنجبران...1جنكروي، وإبراهيم هادي*

كانوا أكبر مني بسنة أو سنتين، ويفوقوني خبرة وتجربة في المص��ارعة؛ ولكنشيئا فشيئا تقربنا من بعضنا البعض وصارت تربطنا صداقة حميمة.

بعد فترة جاءنا ش��اب وس��يم، حس��ن الوج��ه، ق��وي البني��ة، مفت��ول العض��الت، أسمر اللون، أسود العينين، ذو هيبة ومظهر رج��ولي ج��ذاب، وبس��رعة كب��يرة

أصبح اسمه متداوال على ألسن الجميع؛ أحمد متوسليان.

ب��دا علي��ه من النظ��رة األولى أن��ه ق��وي متعج��رف، ل��ذا ك��انوا ينادون��ه "أحم��داألسود".

قالوا إنه طالب في الجامعة، ويشارك أحيانا في النشاطات السياسية. ت��درب في النادي على المالكمة، وكانت عالقتي به س��طحية ال تزي��د عن الس��الم وردا السالم. كنت أراه مرة في األسبوع تقريبا، ثم ب��دأنا نتع��رف إلى بعض��نا بعض�� أكثر فأكثر. هو من أبناء حي "ميدان قيام". كنت حينها عاشقا للن��ادي وللهيئ��ة وأمضي وقت فراغي فيهما، ولم أكن أتع��اطى السياس��ة، ل��ذا لم ألح��ق كث��يرا

بالحاج أحمد.

م.، في يوم عاشوراء، أقيم مجلس العزاء في1975في شهر محرم من عام منزلنا. كانت أمي وأخوالي يعدون األيام، متحمسين لدورهم في ه��ذا اإلحي��اء، خالفا لبعض النساء اللواتي اختلقن األعذار والحجج حتى ال تقام المجالس في بي��وتهن حينه��ا، فاستض��افة الهيئ��ة وإقام��ة المجلس لم تكن ب��األمر الهين. إذ تطلبت الكث��ير من المراجع�ات والقي��ام بالعدي��د من الخط�وات اإلداري��ة، ك��أن

تقدم طلبا لمخفر الشرطة في الحي، وتأخذ موافقة رسمية

عام - 1 في المعارف دار عن وصدرت ترجمت ابراهيم على سالم قصة .2017بطل

Page 75: books.almaaref.orgbooks.almaaref.org/static/documents/zoqaq.doc · Web viewكلّ هذه الذكريات والأصوات، کانت لا تزال تتردّد في زوايا حنجرة

75

بإقامة المجلس؛ وإن لم تفع��ل اقتحم رج��ال الش��رطة بيت��ك، وأغلق��وا الهيئ��ة وعطل��وا المجلس. في تل��ك الس��نة حين أقمن��ا المجلس في بيتن��ا، وطلبت

لمراجعة المخفر على أنني مؤسس الهيئة وصاحب المجلس.

ذهبت؛ وق��ابلتني ام��رأة غ��ير محجب��ة جالس��ة خل��ف مكتبه��ا، وب��دأت تس��ألني وتستجوبني. أعطتني ورقة وقلم��ا وق��الت: "أكتب من المش��رف على الهيئ��ة،

ومن مؤسسها، ومن الذي يقرأ العزاء لكم، ومن الرادود فيها".

ا ووقعت أسفل الورقة. أجبت عن كل هذه األسئلة خطي

ا ممثل الهيئ��ة وأق��ود الالطمين، فق��د ك��انت ه��ذه المهم��ة بعدها أصبحت تلقائيتناسبني، وهي متجذرة في ذاتي ومعدني وتجري في عروقي.

كلما انطلقنا في المسيرة حرص بعض عناصر الش�رطة على المش�ي بجانبه�ا لمراقبتن��ا ح��ذرا من أن يطل��ق البعض ش��عارات مناهض��ة للش��اه، وتتح��ول

المسألة إلى سياسية.

في إح��دى الم��رات، نظم الس��يد "س��ازكارا" لطمي��ة لمجلس��نا، فيه��ا طعمسياسي؛ وكان أحد أبيات اللطمية:

"بعزمنا وهمتنا بقاء اإليمان / لن يستمر سوى نظام القرآن"

على الفور نقل المخبرون ذلك، وانهال علينا رجال الشرطة، واعتقلوا "ناص��ر كلهر" والسيد "سازكارا" واقتادوهما إلى المخفر. فقام حسن قصاب، وك��انت له معارف كثيرة في صفوف الشرطة والمخ��ابرات، ب��إجراء بعض االتص��االت،

ونجح في فك أسرهما.

لكننا لم نكن نبالي بهذه المسائل، وسعينا دائما إلقام��ة المراس��م والمج��السبهدوء وسالم وبشكل يرضي أهالي الحي ويضمن سالمتهم.

Page 76: books.almaaref.orgbooks.almaaref.org/static/documents/zoqaq.doc · Web viewكلّ هذه الذكريات والأصوات، کانت لا تزال تتردّد في زوايا حنجرة

76

في الس��نة التالي��ة، في ظه��ر عاش��وراء، وألول م��رة أتى "داوود ني��ازي" إليوقال: "لقد وجدت مكانا جيدا؛ دعنا نذهب إليه.".

وافقت على الذهاب معه، ألني كنت قد نذرت أن أق�وم بعم�ل في�ه مواس�اة..كل سنة في ظهر عاشوراء على حب اإلمام الحسين عليه السالم.

وهكذا ذهبت برفقة محمد مشهدي باقر وداوود نيازي وعدد من االصحاب إلى حي جواديه تناولنا الحل��وى لنق��وى على القي��ام بالش��عائر، ثم دخلن��ا إلى هيئ��ة

"محرم تركي" عند الظهيرة... الحشود كالمحشر وكأن القيامة قامت..

Page 77: books.almaaref.orgbooks.almaaref.org/static/documents/zoqaq.doc · Web viewكلّ هذه الذكريات والأصوات، کانت لا تزال تتردّد في زوايا حنجرة

77

بين إلزام واختيار

لو سقط جسدي الفاني، لن أكف عن نصرة الخميني

. وجاءت خ��دمتي في1م. التحقت بخدمة العلم اإللزامية1977في شتاء العام الق��وات الجوي��ة للجيش ودورتي العس��كرية في مدين��ة ت��بريز. ذهبت ولم أكن أعلم ماذا ينتظرني وكيف سأتحمل البقاء هناك، ورحت أفك��ر في نفس��ي: أن��ا في طهران بالكاد أتدبر أمري، فكيف بي في تبريز. إض�افة إلى ذل�ك فس��وف

يجبروننا على حلق رؤوسنا، وهذا األمر ال يعجبني وال يروقني أبدا.

��ه يبع��د عن المدين��ة ح��والي كان المعسكر التدريبي خ��ارج مدين��ة ت��بريز، ولعلخمسة عشر كيلومترا.

لم أقو على تحمل شتاء تبريز القاسي، وبردها القارس، وص��قيعها ال��ذي يفت الحجر. خاصة أن الثكنة العسكرية تقع وس��ط ص��حراء قاحل��ة مغط��اة ب��الثلج، وفي المس��افة الفاص��لة بين الثكن��ة العس��كرية والمدين��ة ال يوج��د أي تجم��ع سكني. ال أعلم كيف أمضيت اليوم األول، لك��ني في الي��وم الث��اني ه��ربت من

الثكنة العسكرية، وبشق األنفس وبصعوبة بالغة، تنقلت من

1 .) ( -. المحرر والمعابر الحبات تعددت وبعدها العسكرية، حياتي سبحة من حبة أول تلك كانت

Page 78: books.almaaref.orgbooks.almaaref.org/static/documents/zoqaq.doc · Web viewكلّ هذه الذكريات والأصوات، کانت لا تزال تتردّد في زوايا حنجرة

78

سيارة إلى أخرى حتى وصلت إلى طهران. عن��دما وص�لت إلى الم��نزل ك�انت أمي تطهو حساء الخضار لتقوم بتوزيعه بنية عودتي سالما؛ وما إن رأتني حتى

صاحت: "أبو الفضل! لماذا عدت؟ ألم تذهب إلى الخدمة العسكرية؟".

أمضيت عدة أيام أتسكع في الحي، ومن ثم عدت إلى تبريز؛ لكني لم أستطع أن أتحمل المعسكر التدريبي. ولم يمض أسبوع حتى هربت مجددا، لكني هذه المرة ذهبت إلى "محم��ود آق�ا كله�ر"، وال�د أح�د أبن��اء حين��ا في ت�بريز. فل��ف "السيد محمود" يدي بجب��يرة من جص كع�ذر له��روبي، ومن خالل الوس��اطات والتودد إلى هذا وذاك، تم نقلي إلى ثكنة "جكش" العس��كرية التابع��ة للق�وات

الجوية في طهران.

في اليوم األول، وأثناء التدريب الصباحي، جاء رئيس الثكنة العسكرية الضابط"خاتمي"، وقال: "اصطفوا.. بسرعة".

ما إن اصطففنا حتى شرع بالصياح في وجوهنا قائال: "ه��ذا الول��د، ابن الكلب، جاءني يقول يا سيدي، إذا أردت أن أودع ماال في حسابك، فكيف السبيل إلىا ح��تى أت��أخر س��اعة واح��دة ك��ل ص��باح؟ ذلك؟ كم أضع لك في حسابك شهري

في بان��ك "ملي"، ف��رع "جال��ه". ..618يريدني أن أقول له مثال رقم حسابي ، تستطيعون أن تشتروا ذمتي؟".1تظنون أنكم إن أتيتم على أربع عجالت

بقي الضابط يخطب ويصيح فينا نصف ساعة، وقد وصلت رسالته بشكل جيد. فأن��ا ابن طه��ران وق��د فهمت م��راده على الف��ور، وتلقيت رس��الته من أول الحديث، وعرفت ماهيته وهدفه. الماكر أراد أن يقول بين السطور ادفع�وا لي

األموال. فالذين امتلكوا المال أو الوساطات كانوا

1 . المترفين بعض بها يأتي التي الفاخرة للسيارات تحقيرا

Page 79: books.almaaref.orgbooks.almaaref.org/static/documents/zoqaq.doc · Web viewكلّ هذه الذكريات والأصوات، کانت لا تزال تتردّد في زوايا حنجرة

79

يتولون األعمال المكتبية والخدماتية. أم��ا أبن��اء الق��رى والم��دن الص��غيرة، منغير الطهرانيين فيتولون الحراسة وأصعب األمور.

في اليوم التالي، أوعز لنا باالصطفاف، وكالفرعون وقف بشموخ وقال: "نريد ... ل��ه ل��ه، هن��اك119 شخصا لألعم��ال اإلداري��ة. واح��د، اثن��ان، ثالث��ة،... 120

شخص ناقص..".

وبدأ بالعد من جديد. فقفزت كالبرق وخرجت من صفي ووقفت في ص�ف ال�� شخصا.120 الذين عدهم فاكتمل الصف وأصبح العدد 119

لكن الض��ابط ك��ان حاذق��ا ج�دا، وأدرك أني غ��يرت مك��اني. فرمق��ني بنظرات��هوقال: "تعال إلى هنا. ابن من تكون؟"

تلعثمت في ب��ادئ األم��ر، وطأط��أت برأس��ي إلى األرض. دارت في رأس��يا، قلت له: "أنا من أقارب العقيد هويدا". أسماء كثيرة ومختلفة وال إرادي

الضابط هويدا كان من المسؤولين الرفيعين، وذو رتب��ة عالي��ة في الجيش، لما، وكنت قد سمعت باسمه ذات مرة. أكن أعرفه شخصي

حالفني الحظ وأكل الطعم ومضى األمر على أحسن وجه. وقد عينني المغفل في القسم اإلداري لمعسكر قصر "فيروزه"، وأخ��ذت إج��ازة في الي��وم األول

وعدت إلى البيت سعيدا مسرورا.

امتلكت في ذل��ك ال��وقت دراج��ة ناري��ة ص��غيرة من ن��وع "هون��دا"، فص��رت بوساطتها أذهب إلى الثكن��ة العس�كرية وأع�ود منه�ا. في أح�د األي�ام وأن�ا في الطريق إلى الثكنة لفت انتباهي بناء لمستش��فى قي��د اإلنش��اء واإلعم��ار ]إلى جانب الثكنة[، ورأيت مجموعة من العمال األكراد يعملون فيه. ركنت دراجتي النارية في زاوية ما، ثم تقدمت نح��و العم��ال وس��لمت عليهم. وك��ان بح��وزتي

علبة من الشاي بزنة كيلو غرام واحد فأعطيتها لهم، فاكتسبت

Page 80: books.almaaref.orgbooks.almaaref.org/static/documents/zoqaq.doc · Web viewكلّ هذه الذكريات والأصوات، کانت لا تزال تتردّد في زوايا حنجرة

80

بتلك السرعة والبساطة صداقتهم.

ومن��ذ الي��وم الت��الي ص��رت آتي بثي��ابي المدني��ة، أركن دراج��تي في مب��نى المستشفى الذي كان قيد اإلنشاء، فأرتدي بدلتي العسكرية المس��تودعة عن��د األكراد في غرفة تبديل المالبس، وأدخل المعسكر عبر شبكة ممزقة وض��عت

على ثغرة في الجدار الفاصل بين المعسكر والمستشفى.

بعد التجمع الصباحي، غدوت أنج�ز وظ��ائفي وأنهي أعم�الي ح�تى العاش��رة أوالحادية عشرة على أبعد تقدير وأهم بالهروب.

بعد عدة أيام انتقلت إلى قسم الحراس��ة في المعس��كر. في الي��وم األول من الحراس��ة حيث كنت أرت��دي ال��بزة العس��كرية وأحم��ل س��الحي وأؤدي نوب��ة الحراس��ة والمراقب��ة، خط�ر بب�الي أن أج�ول في أط��راف الثكن�ة وأستكش��ف تفاص��يلها وخباياه��ا. خل��ف المعس��كر رأيت ورش��ات من��ازل س��كنية تابع��ة للمؤسسة العسكرية. أبنية قيد اإلنشاء ويطلق عليها "قص��ر ف��يروزه" الث��اني، وهي تحت إشراف اللواء محمدي والنقيب آقا خاني وال��رقيب أول ميرراش��د؛ ولم تكن ج��اهزة للس��كن بع��د. وك��ان الم��دعومون من قب��ل ه��ؤالء الض��باط يحرسون تلك األبنية، اثنان أو ثالثة منهم يدهنون قطع الحديد، واثن��ان يق��ودان

السيارات.

ك��ل جن��دي ف��رز إلى هن��اك، ك��ان يح��رس يوم��ا ويس��تريح في الي��وم الت��الي.��ني ده��ان م��اهر. وه��و ب��دوره فتكلمت م��ع النقيب أول ميرراش��د وقلت ل��ه إن أرسل كتابا إلى المالزم بهمنش. فال أعلم إن كان الحظ قد حالفني أو الفضل

يعود لشيء آخر، على كل حال تم قبول طلبي.

��ا ألب��واب الثكن��ة وشاء القدر وجرى القضاء بأن يصبح ابن زق��اق نقاش��ها، دهانالعسكرية وجدرانها. فصرت آتي في الصباح وبثيابي المدنية وشعري

Page 81: books.almaaref.orgbooks.almaaref.org/static/documents/zoqaq.doc · Web viewكلّ هذه الذكريات والأصوات، کانت لا تزال تتردّد في زوايا حنجرة

81

الطويل والمنكوش، أدهن قطع الحدي�د ح��تى الظه�يرة، أتن��اول وجب��ة الغ�داء،ومن ثم أدير ظهري وأغادر إلى المنزل.

وهناك عند ظهيرة كل يوم بعد الغداء، ك�انت رائح�ة التري��اق تف��وح في أرج�اء��ه ك��ان المبنى. رغم أن اللواء محمدي رجل مؤمن ال ي��ترك ف��رض ص��الة، لكن يدخن الترياق. فيجتمع هو وأقرانه وزمالؤه في اللواء كل يوم يشعلون المنقل ويشرعون في تدخينه. في ذلك الوقت تقربت منه شيئا فشيئا. ووجدته لطيفا رحيما مؤمنا. لم أعبأ بعيوبه األخرى؛ ألنه لم يكن يؤذيني في شيء. ذات ي��وم ناداني اللواء وقال لي: "هل تعرف قيادة السيارات؟" أجبته على الفور: "نعم

سيدي، أعرف".

فقال: "نسق م��ع أه��ل بيت��ك، وأخ��برهم أن��ك س��تبقى في العم��ل لع��دة أي��ام!سنذهب إلى الشمال".

في اليوم التالي ذهبنا معا إلى منزله، كان لديه سيارة من نوع "آريا" مركون��ة أمام منزله. جهزناها وجلست أن��ا خل��ف المق��ود، والل��واء جلس بج��انبي، وفي الخلف زوجته وابنتاه. ذهبن��ا إلى مدين��ة "بابلس��ر" الس��احلية. حيث يمل��ك فيال كبيرة هناك بجوار الشاطئ. والمكان مليء بالعمداء والضباط ال��ذين اجتمع��وا

هناك. كانت معاشرتهم وقضاء الوقت معهم شيئا ممتعا، وتجربة جيدة.

��ني لت��ديني كنت جالت ابنتا العميد اليافعتان في األرج��اء من دون حج��اب، لكن أنظر إليهما بعين األخوة؛ ولهذا وثق اللواء بي أكثر فأكثر. فصار يأخ��ذني مع��ه أينما ذهب، حتى إنه ك��ان يوك��ل لي االهتم��ام بابنتي��ه وزوجت��ه وي��ذهب لقض��اء بعض األعمال. تعجبت ألمر زوجته التي كانت ال ت��ؤخر فريض��ة ص��الة، وت��ؤدي

الصلوات في أول وقتها، األمر الذي بدا لي

Page 82: books.almaaref.orgbooks.almaaref.org/static/documents/zoqaq.doc · Web viewكلّ هذه الذكريات والأصوات، کانت لا تزال تتردّد في زوايا حنجرة

82

غريبا وغير مألوف من امرأة تعيش في تلك األجواء وفي ذلك الزمن.

ذات يوم سقط أحد المساكين من الطابق الرابع من تل��ك األبني��ة ال��تي ك��انت قيد اإلنشاء ومات على الفور. لهذا نقلت وأربع��ة أش��خاص آخ��رين كن��ا نعم��ل هناك إلى خدمات الثكنة. وقالوا لنا: "ابقوا هنا ما بين العشرة والخمسة عشر

يوما، وسنعيدكم إلى حيث كنتم".

نقل معنا نحن الخمسة في ذلك القسم، ش��خص برتب��ة رقيب أول، وأبع��د من معسكر "ورامين" إلى معسكرنا، فأصبح المسؤول علين��ا، وك��ان اس��مه "كل��ه

كوهي".

في يومنا الثاني من مأموريتنا في القسم الجديد، ن��اداني "كل��ه ك��وهي" أثن��اءالتجمع الصباحي، وقال لي: "تعال إلى هنا يا بن.. لماذا لم تقصر شعرك؟".

ا وحاذق��ا، ان��زعجت من��ه وآذاني وأنا الذي كنت ابن طهران، وأعتبر نفسي ذكي��ه كالمه. بقيت أفكر وأتأمل: ما هذا الكالم ال��ذي قال��ه لي أم��ام الش��باب؟! إن

الوقت المناسب ألرد عليه وألقنه درسا ال ينساه.

فاستدرت نحوه وقلت له بصوت عال وثخين: "تكلم بشكل الئق".

لم أنتظر رده وعلى الفور هاجمته بنطح��ة من رأس��ي على أنف��ه! وم��اذا ح��لبهذا األنف؟ انكسر أنفه وسال الدم وامتأل وجه "كله كوهي" دما.

انهالوا علي وأمسكوا بي ورموني في زنزانة في سجن القوات الجوي��ة. بقيت في الس��جن م��دة ثم��ان وأربعين س��اعة. وك��ان معي هن��اك خمس��ة أو س��تة أش��خاص آخ��رين، وكن��ا جميع��ا مس��جونين لمخالف��ات س��لوكية وانض��باطيةا وج��دوا بحوزت��ه أس��لحة، والخوض في شجار وع��راك. م��ا خال س��جينا سياس��ي

وتمت مصادرتها. كان يتحدث على الدوام عن اإلمام الخميني.

Page 83: books.almaaref.orgbooks.almaaref.org/static/documents/zoqaq.doc · Web viewكلّ هذه الذكريات والأصوات، کانت لا تزال تتردّد في زوايا حنجرة

83

في تلك الفترة بدأت تكثر المظاهرات ضد الشاه وتعم المناطق. فجأة صرت ترى كل الجدران واألبواب مكتوب عليها الموت للشاه، وشعارات مناهضة له.

وأضحت رائحة الثورة تفوح في كل مكان.

بمجرد أن خرجت من الس��جن، ق��ال لي أح�د الش��باب: "كل��ه ك�وهي يطلب��ك، ويريدك أن تذهب إليه". ذهبت للقائه، وما إن دخلت عليه حتى قال لي: "ماذا

فعلت يا ولد؟".

ا، ثم ح��دقت في عيني��ه نظ��رت إلى أنف��ه ال��ذي ك��ان م��ا زال متورم��ا ومحم��ربنظرات حادة وقلت له: "لم نلت أنت من أمي وكلت لها الشتائم؟".

تجادلنا لفترة وجيزة ورد علي ورددت عليه، وكان قد فهم جيدا من أكون وم��ا أكون. عندما عدت إلى المنزل قصصت على أخي السيد باقر ما جرى، وك��ان السيد باقر حاذقا وفطنا. في اليوم التالي ذهبت مع السيد باقر وأحد أصدقائه��دعي أن�ه أذكى ا ي الذي ي�دعى "حس�ين كاش��ي" إلى ورامين، وقص��دنا شخص����دعى "مرتض��ى بلن��ك دره اي". لن أتعبكم وأوج��ع رأس��كم أذكي��اء ورامين، وي بالتفاصيل؛ يكفي أن أقول إن مرتضى هذا كان ق��د خ��رج من الس��جن م��ؤخرا بعد تسع سنوات من سجنه بسبب قضية قتل. أعد مرتضى لنا الكباب وعندما

جلسنا إلى الطعام قص عليه السيد باقر ما جرى معي من شجار.

سألني "بلنك دره اي" عن مالمح الرقيب أول، وطلب م��ني أن أص��فه ل��ه، ثمتأمل قليال وقال: "إ..عباس كله كوهي! أعرفه جيدا!".

صعدنا جميعا السيارة وذهبنا إلى منزل الرقيب أول كله كوهي. وعندما س��ألنا عنه، قالوا إنه ليس هنا، وقد ذهب إلى قرية جليل آباد. تبعناه إلى قرية جلي��ل

آباد. وهناك طرقنا باب أحد الوجهاء في هذا الحي فوجدنا عددا

Page 84: books.almaaref.orgbooks.almaaref.org/static/documents/zoqaq.doc · Web viewكلّ هذه الذكريات والأصوات، کانت لا تزال تتردّد في زوايا حنجرة

84

من الفضالء مجتمعين عنده في دارته عند بركة الماء، وجالس��ين على بس��اط افترشوه على األرض. ورأينا "كل��ه ك��وهي" وص��احب ال��دار وبعض األش��خاص حول منقل الفحم. كانوا عابس��ين، مض��طربين وم��نزعجين! لكن أح��دهم ك��ان

يخفي ابتسامته وضحكته، ثم صاح: "أحضر الخروف المشوي يا سيد".

جلسنا حول مائدة الطعام وصرنا أصدقاء أنا و"كله كوهي". "كله كوهي" فهم جي��دا أني ش��خص م��دعوم، وعلم كي��ف يتعام��ل معي من حينه��ا. وفي الي��وم

التالي، عينني في أفضل المكاتب اإلدارية في الثكنة.

بع��د ذل��ك، ص��رت أذهب ك��ل ص��باح بالدراج��ة الناري��ة إلى األك��راد وبش��عري الطويل، فأبدل ثيابي وأرتدي البزة العس��كرية، وأنج��ز بعض األعم��ال اإلداري��ة��ة، البسيطة، وعند الظهيرة أعود ع��بر الش��بكة المهترئ��ة ألرت��دي ثي��ابي المدني

وأقصد المنزل على دراجتي.

ترافقت هذه األحداث م��ع ان��دالع الث��ورة واحت��دام الص��راع، وق��د أص��بح اس��م اإلم��ام الخمي��ني مت��داوال على ك��ل لس��ان في أرج��اء البالد، وص��ارت بيان��ات ورسائل اإلمام تتناق��ل من ي��د إلى أخ��رى. إلى أن ح��ل الث��امن أو التاس��ع من

حين أصدر اإلمام أم��را للعس��اكر ب��إخالء الثكن��ات1م1978تشرين الثاني عام والمعسكرات.

نحن أيضا كن��ا وس��ط ه��ذه الجم��وع وانخرطن��ا بين العس��اكر الف��ارين، وتركن��ا الثكنة العسكرية وعدنا إلى منازلنا. في ذلك الزمن، لم أكن قد انخ��رطت في مي���دان السياس���ة بع���د، م���ع أن الش���ارع حينه���ا ك���ان يغلي بالمظ���اهرات واالحتجاجات، واالعتقاالت، والقبض�ة األمني�ة ك�انت على أش�دها، والن�اس ق�د

مألوا الشوارع هاتفين منادين بشعارات قوية وقاسية ضد الشاه.

عام 1 آذر شهر من عشر الثامن أو .1357السابع ش ه

Page 85: books.almaaref.orgbooks.almaaref.org/static/documents/zoqaq.doc · Web viewكلّ هذه الذكريات والأصوات، کانت لا تزال تتردّد في زوايا حنجرة

85

ذات يوم، كنت واقفا عند مدخل الحي، فرأيت على بعد زق��اقين م��ني، ام��رأة ترتدي تشادورا أبيض اللون، ترجلت من سيارة مرسيدس. بدت من بعيد أنه��ا جميلة وحسنة البنية والقامة، لكن لم يكن وجهها واضحا لي. كما ب��دا لي أنه��ا غريبة وليست من أهالي ذلك الحي، وخاص��ة أنه��ا ك��انت تق��ود س��يارتها. وفي

تلك األحياء من النادر أن تجد امرأة تقود سيارة أو تعرف القيادة.

ت�رجلت الس�يدة ودخلت إلى الص��يدلية، ولم تمض دق�ائق ح�تى خ�رجت منه�اوصعدت في سيارتها وذهبت.

مرت هذه القصة وانقضت، وانخ��رطت في مي��دان السياس��ة، ودخلت عالمه��اا عن طريق قاسم وأصدقائه. بينما كانت نار الثورة تستعر شيئا فشيئا، تدريجي انشغلت أنا بمجرياتها وأحداثها المتس��ارعة، فنس��يت تل��ك الم��رأة وغ��ابت عن

بالي تماما.

وبما أن قاسم كان يعيش في كرج، كنا نتواص��ل ونبقى على تواص��ل دائم عن طريق هاتف "الحاج غالم" البقال في مدخل حينا، والذي كنت بح��ق م��دينا ل�ه وألتعابه وأفض��اله. أم��ا الرس��ائل الس��رية والخاص��ة فكنت أتلقاه��ا عن طري��ق

أصدقاء الحاج قاسم وحلقات الوصل بيننا.

منذ أن هاجر قاسم إلى كرج، قلت لقاءاتنا كث��يرا؛ فكنت أت��ذرع بال��ذهاب إلى رياضة المشي وتسلق الجبال في أيام الخميس والجمعة حتى أراه في ه��ذين

اليومين، وذلك على طريق تشالوس البعيد.

" وأكن له المودة واالحترام وتعلقت به إلى درجة أني كنت1كنت أحب "قاسمعلى استعداد للحاق به حتى لو ذهب إلى مدينة أبعد من

1 .) ( -.. المحرر الحقا جمعتنا التي واألحداث المواقف لكل حسابا أحسب كنت وما

Page 86: books.almaaref.orgbooks.almaaref.org/static/documents/zoqaq.doc · Web viewكلّ هذه الذكريات والأصوات، کانت لا تزال تتردّد في زوايا حنجرة

86

كرج. بلغت منزلة قاسم عندي أعلى وأرفع من منزلة معلم أو ص��ديق أو ج��ار في الحي؛ أعلى بكث���ير. فمن خالل دروس الق���رآن واألخالق، ص���قل قاس���م عقلي وذه�ني، وس��اقني إلى فك�رة المواجه�ة م��ع الش��اه. وتحت غط�اء ه��ذه التعاليم الدينية، علمني الشعارات والكالم الثوري الحاد، وب��دل حي��اتي وقلبه��ا رأسا على عقب؛ حيث كان يكلمنا ويحدثنا عن أعمال نظام الشاه وممارساته التعسفية واالعتقاالت واالغتياالت والظلم والفقر والجور وانعدام العدالة. أم��ا نحن فكنا شبانا مندفعين تتملكنا الحماسة للثورة والمواجه��ة. ولم��ا ك��ان كالما على المنطق والصدق والوقائع، تقبلنا كل أقوال��ه قاسم نابعا من العقل ومبني

بقلوبنا وأرواحنا.

صرت أذهب كل أسبوع تقريبا مع حسين محمودي إلى طريق تشالوس. حيث��ا نح��دد نقط��ة إلتق��اء، ونتف��ق على كان لقاء قاسم بنا هناك أكثر س��هولة. فكن

زمان محدد لالجتماع.

ا من ش��باب الهيئ��ة إلى في أحد أيام الجمعات، ذهبت برفقة ثالث��ة عش��ر ش��اب بستان "سي سي" المحدد للقاء، وهو بستان في غاي��ة الروع�ة والجم�ال يق��ع

بجوار طريق تشالوس.

ى في وما إن وصل الحاج قاسم حتى ق�ال لن��ا: "دعون��ا نس��تغل وقتن�ا ونتمش��المكان".

فبدأت نزهتنا في ذلك اليوم، حيث قطعنا ما يقارب اثني عشر كيلومترا س��يرا على األقدام، بين الوديان والمرتفعات، حتى بلغنا وس��ط جب��ل. فتس��ابقنا إلى تسلقه لنصل إلى مرتفع فيه، فكان المشهد الرائع حيث أشرفنا على المدين��ة وجادة تشالوس. أخذ قاسم يصور المنظر البديع بآل��ة التص��وير ال��تي بحوزت��ه،

الحظنا بالقرب منا وجود تجويف أشبه بالغار فيه فتحة

Page 87: books.almaaref.orgbooks.almaaref.org/static/documents/zoqaq.doc · Web viewكلّ هذه الذكريات والأصوات، کانت لا تزال تتردّد في زوايا حنجرة

87

سوداء اللون ومظلم��ة، لم نتمكن من تحدي��د عمق��ه. لكن، ب��دا لي أن��ه يتس��ع لشخصين أو ثالثة، كنت متيقنا من ذلك. دخل قاسم الغار، وبعد ربع س��اعة أوا من القنب. ثم وض��ع الكيس عشرين دقيقة، خرج وهو يحمل على كتفه كيس��ا على عقب، فس��قطت أمامن��ا خمس��ة مسدس��ات على األرض، قلب��ه رأس��

أتوماتيكية وبعض الرصاصات.

قال الحاج قاسم: "هي��ا احملوه�ا؛ ل�دينا الي�وم ت�دريب على الرماي��ة. كنت ق�د خبأت هذه األسلحة في هذا المكان منذ مدة، ال تفكروا كثيرا في األمر. عندما

تحين الفرصة سوف أشرح لكم كل شيء".

ثم بدأ بالحديث عن الشاه والمواجهة معه، وهدف هذه المواجهة. وبينم��ا ك��ان يتحدث ويستفيض في الح��ديث، تعلمن��ا كيفي��ة ف��ك الس��الح وتركيب��ه وطريق��ة

تلقيمه، ودربنا على ذلك.

طلق�ات ناري�ة،8ومن ثم دربنا على الرماي�ة، ف�أطلق ك�ل واح�د من�ا ح�والي ونحن جالسون ومنبطحون. صوبنا ورمينا على كل م��ا ك��ان يص��لح كه��دف من حولنا: على األحجار البارزة، أو الفواصل بين األحجار في الجبل. م��ع أني كنت ق��د قض��يت دورة عس��كرية في خدم��ة العلم، وتعلمت حم��ل الس��الح، ولكن المسدس كان غريبا وجديدا بالنس��بة لي، وك��انت ي��داي ترتجف��ان. فلم��ا رآني الح��اج ال أجي��د الرماي��ة، ق��ال: "يجب أن ال ترتج��ف أي��ديكم. أوال ص��وبوا على الهدف، ثم أطلقوا النار عليه بدقة". ومع كل طلقة، ك��ان ص��وتها يل��ف أرج��اء

الجبل وينعكس صداه ويتردد.

وبعد أن أمضينا حوالي الساعتين في الت��دريب، جم��ع قاس��م المسدس��ات في��ر مكانه��ا، إذا ��ه لم يض��عها في الغ��ار، وق��ال: "يجب أن أغي الكيس نفس��ه، لكن

بقيت في مكان واحد من الممكن أن تنكشف ويفتضح أمرنا".

Page 88: books.almaaref.orgbooks.almaaref.org/static/documents/zoqaq.doc · Web viewكلّ هذه الذكريات والأصوات، کانت لا تزال تتردّد في زوايا حنجرة

88

عندما عدنا إلى بستان "سي سي" كانت الشمس قد غابت، والجو ق��د أص��بحمظلما. وبعد أن ودعنا "قاسم"، عدنا أدراجنا إلى طهران، وعاد هو إلى كرج.

بع��د أي��ام، ن��اداني الح��اج غالم البق��ال، وق��ال لي: "ح��اج قاس��م اتص��ل، يري��د التحدث إليك". عندما كلمته قال لي: "تعال غ�دا في الص�باح الب��اكر إلى ك�رج

لوحدك".

بعد ساعة تقريبا رأيت "حسين محمودي" عند مدخل الحي. قال لي إنه ذاهب إلى كرج يوم غد. لم يجرؤ أي منا أن يخبر اآلخ��ر أن الح��اج قاس��م تكلم مع��ه

وطلب منه المجيء إلى كرج، وأنه على تواصل مع الحاج ويأخذ األوامر منه. في الي��وم الت��الي، اجتمعن��ا في بس��تان "س��ي س��ي"، وك��ان هن��اك حس��ين محمودي، وأم�ير عط�ري، وحس�ين ش�فيعي، ومحم�د مش�هدي ب�اقر، والح��اج داوود نيازي، التقينا بقاسم، وح��دثنا عن مقارع��ة الش��اه ومجابهت��ه، ومواجه��ة أدوات���ه في الحكم، وق���ال: "النض���ال والمواجه���ة، تكليفكم الش���رعي األول واألخ��ير، ال ينبغي عليكم أن تقع��دوا ص��امتين ومكت��وفي األي��دي أم��ام ه��ذا النظام". ثم أخرج عدة أوراق ووزعها علينا، وقال: "ه��ذه األوراق، بي��ان ص��در عن السيد الخميني، إن الخميني هو حامل لواء هذه الثورة، ونحن جميعا نتب��ع خطاه ونطيع أوامره. يجب أن تعلموا أن الهيئة والمجالس الحسينية والمسجد ليس��ت مج��رد أم��اكن للص��الة وال��دعاء والبك��اء واللطم. إنم��ا هي المنطل��ق للتصدي للظلم والجور والفساد. إن الشرط األول واألهم في نضالنا ه��ذا، ه��و أن نتعاه��د ونقس��م جميع��ا على أن نكتم ك��ل م��ا يق��ال من األخب��ار واألس��رار ونبقى على العهد، ونتمسك ونلتزم بهدفنا ونصر على بلوغ��ه، ونبقى في خ��ط

الكفاح. وعند إقدامكم على أي عمل استشيروني أوال. وإذا

Page 89: books.almaaref.orgbooks.almaaref.org/static/documents/zoqaq.doc · Web viewكلّ هذه الذكريات والأصوات، کانت لا تزال تتردّد في زوايا حنجرة

89

كنتم تثقون بي وتقبلون بي أخبروني واسألوني قبل القي��ام ب��أي خط��وة، لكيتنجز كل األعمال بالشكل المرجو وتسير األمور على أحسن وجه".

في ذل��ك ال��وقت لم أكن أعلم ب��أي مجموع��ات يتص��ل الح��اج قاس��م وب��أي تشكيالت يرتبط، ولم أس�أله يوم�ا عن ذل�ك. مهم�ا ك�ان األم�ر، فق�د عش�قت المواجه��ة، وه��ذا العش��ق جعل��ني أتبع��ه وأطيع��ه. في النهاي��ة وفي آخ��ر ه��ذها وقال: "سوف يقع أمر خط��ير ومهم، النصائح والتوجيهات، أعطانا دفعا معنوي كل منكم لديه مهمة وتكليف ودور في هذه المواجهة، ويجب أن تساهموا في هذه المرحلة بشكل فعال. أوال اعلموا جيدا أن تكليفكم ومهم��اتكم يجب أن ال يعرفها أح��د س��واكم، ح�تى إذا وقعتم في األس��ر وتم اس��تجوابكم، ال تفض��حوا

البقية".

عند الوداع، قال الحاج قاسم لمحمد مشهدي ب��اقر: "أنت به��ذا ال��رأس وه��ذا الشعر المجعد والطويل الفت لألنظ��ار، س��يتعرفون إلي��ك بس��رعة. واآلن بع��د

انضمامك إلينا، اذهب على الفور وقصر شعرك".

عمل فريق الحاج قاسم جاهدا وأولى أهمية بالغ��ة ألم��ر المواجه��ة المس��لحة. ك��انت ل��ديهم أه��داف كب��يرة. وك��ل أعم��الهم اتس��مت بالدق��ة والنظم وك��انواا بقاس��م، مرتبطين بمجموعات أكبر. أما أن��ا فق��د دخلت بين ه��ذه الجم��وع حب وليس للمش��اركة في أعم��الهم المنظم��ة. فبالنس��بة لي ك��ان يكفي��ني ت��أليف الش��عارات وإطالق الهتاف��ات، والمش��اركة م��ع الن��اس في المظ��اهرات. أح��د األعمال التي كانت رائجة وشائعة في المواجهات في تلك األيام، مراقبة ف��رد محدد وإبقاؤه تحت األنظار، وعندما يتم التأك�د من أن�ه من عمالء الش�اه ومن عناصر السافاك، يوكل أمره إلى أحد الش��باب، فيبقى عن��د ب��اب بيت��ه، ويبقى يراقبه ويتبعه كظله حتى يعرف كل التفاصيل عنه، ويصل إلى كل المعلوم��ات

المرتبطة به حتى مقاس حذاء

Page 90: books.almaaref.orgbooks.almaaref.org/static/documents/zoqaq.doc · Web viewكلّ هذه الذكريات والأصوات، کانت لا تزال تتردّد في زوايا حنجرة

90

أمه! فيسجل شكل ومواصفات وعن��وان بيت��ه ال��دقيق، وظيفت��ه وك��ل أعمال��ه وارتباطات��ه وس��اعات ذهاب��ه وإياب��ه، وي��راقب ك��ل تحركات��ه، ومن ثم يق��ررون اغتيال�ه وتص�فيته، وال يع�يرون انتباه�ا لمس�اءلة أح�د. وه�ذه ك�انت من ض�من المواجهة والتص��فية ومن أركانه��ا، وبه��ذه األس��اليب أنهك��وا الس��افاك وأع��داء الثورة وصفوا كثيرين من ه�ؤالء، وأبع�دوهم من طريقه�ا. أك�ثر أعم�ال الح��اج قاسم ونشاطاته سرية ولم يطلع عليها أحد. نحن جميعا من محبي��ه، ونكن ل��ه��ا أبن��اء حي واح��د؛ لكن لم يكن أح��د من��ا ليطل��ع على مودة ومحبة خاصة، وكن أعمال الحاج ونش�اطاته، أو على تفاص��يل مهم��ات أي أح��د من�ا. وعلى س�بيل

، فالحاج قاسم1المثال حسين شفيعي وأخوه كانا ماهرين في صناعة المثلثات صار يقوم بتأمين المكان لهما ليخف��وا في��ه ه��ذه المثلث��ات أو لص��ناعتها. ق��ائال لهم��ا: "خ��ذا المثلث��ات إلى المنطق��ة الفالني��ة، هن��اك مجموع��ة من الش��باب بانتظاركما". وتعودنا على هذا النحو من األعمال، فكل منا يكتم ما يسمع وم��ا

يؤمر به.

دائما ما كان يذكر ح��ديثين من األح��اديث النبوي��ة الش��ريفة إلى ج��انب كالم��ه،فيضفي على أقواله مقبولية ومصداقية.

؛2تعرف أحد أبناء حينا ويدعى "علي توكلي" إلى جماع��ة من ت��ركمن ص��حرا* وعن طريقهم أصبح يجلب مسدسات ويبيعها للناس، الواحد بخمسمئة تومان. وعن طريق علي أحضر الشباب مختل��ف أن��واع األس��لحة الالزم��ة لمش��روعنا،ا ا، أنا أيض�� وتم توزيعها في الحي، وشيئا فشيئا أصبح الجميع يملك سالحا فردي

ما استعملته، وكنت أحمله لالحتياط فقط. اقتنيت مسدسا، ولكني قل

االنفجار 1 الشديدة بالمواد يمأل سنتيمترين بقطر أضالع، وثالثة زاوية شكل على معدني ماء أنبوب المثلث. الهدف على المثلث ويرمى الفتيل يشعل االستعمال وعند بجانبه، فتيل ويوضع

2 . إيران شرق شمال في صحراوية منطقة

Page 91: books.almaaref.orgbooks.almaaref.org/static/documents/zoqaq.doc · Web viewكلّ هذه الذكريات والأصوات، کانت لا تزال تتردّد في زوايا حنجرة

91

من رجاالت الثورة وأبطال المواجهة حينه��ا، ك��ان مرتض��ى ع��رب زاده، ون��بيروح اللهي، وإسماعيل يداللهي، ورضا طال وعلي برادران.

مضت األيام والحاج قاسم يقودن��ا ويرش��دنا ويزودن��ا بالتعليم��ات، ويخبرن��ا أين نجتمع، وما هي الشعارات ال��تي يجب أن نطلقه��ا وننش��رها. ف��الجميع أض��حى

منشغال بالثورة، ويسعى لإلطاحة بالشاه، وكنا نحن من بين هؤالء الناس.

ذات يوم قررن�ا الرحل��ة عن�د الخامس�ة عص��را إلى مق�ام الش�اه عب��د العظيمللزيارة والصالة.

فاجتمعنا مع الحاج قاسم في حينا قبل الموعد المحدد لل��ذهاب، وانطلقن�ا م�عبعض الشباب وأبناء حينا إلى "شهر ري".

وعن��دما وص��لنا إلى مق��ام الش��اه عب��د العظيم، دهش��نا لمش��اهدة العدي��د من األشخاص في صحن الحرم يرددون شعار: "فلنحول كل إيران إلى فيتنام يحيا

يحيا تشي غيفارا".

لم يحتمل الحاج هذا المنظر، وعلى الفور ركض باتجاه هذا التجمع، صعد على حافة حوض الماء. لكن قدمه انزلقت فج��أة من على الحاف��ة المبلل��ة وس��قط في الحوض وابتل سرواله حتى ركبته. تمال��ك نفس��ه وص��عد ثاني��ة على حاف��ة الحوض وتوازن واستقر عليها، ووقف بهيبة وكبرياء، ثم رفع يده وصاح بصوت عال: "اسمع، اسمع، هذا الشعار شعار مضلل. نحن هنا نواجه الشاه ونحاربه، ونحن أتباع أهل البيت عليه السالم، لذا يجب أن نقول جميعا: س��نحول إي��ران

إلى كربالء يحيا أبو عبد الله".

كنا أول من ردد هذا الشعار وكررناه، ثم تبعنا الناس وهت��ف الجمي��ع ب��ه. عن��دالظهيرة عدنا إلى الحي، وذهبنا مباشرة إلى منزل "السيد حسن

Page 92: books.almaaref.orgbooks.almaaref.org/static/documents/zoqaq.doc · Web viewكلّ هذه الذكريات والأصوات، کانت لا تزال تتردّد في زوايا حنجرة

92

صفوي". كان السيد يع��رف باس��م قيص��ر األص��فهاني، وه��و ابن أخت "ص��غيراألصفهاني" - شاعر أهل البيت عليه السالم الشهير.

قال الحاج قاسم: "يا سيد حسن، أرأيت كي��ف ألف�وا ش�عرا وش��عارا يمج��دون الثائر تشي غيفارا؟ أنى للناس أن تعرف من تش��ي غيف��ارا ه��ذا، هك��ذا فق��ط

يرددون ويكررون ما يسمعون".

جلسنا معا ذلك اليوم، فكرنا وبحثنا مع السيد حسن، وألفنا شعارا دينيا جميال،أذكر جزءا منه:

حتى لو سقط جسدي الفاني لن أكف عن نصرة الخمينيالثورة حسينية والقائد خميني هل من مبارز؟!

قسما بروح أمك فاطمة لسنا نهاب الموت

وبما أننا لم نكن نملك جهازا للطباع�ة والنس�خ، كتبن��ا ه��ذا الش��عر على أوراق صغيرة، ووزعناها في اليوم التالي بين الناس، فتركت أثرا كبيرا، وانتش��ر ه�ذا

الشعار انتشارا واسعا.

"، خل��ف1ذات ي��وم، أخ��ذني الح��اج قاس��م إلى بيت يق��ع في ش��ارع "ديالمه مدرسة "عل�وي". عن�دما وص�لنا إلى هن�اك ووقفن��ا أم�ام ال�دار، أخ�رج الح�اج مفتاح��ا وفتح ب��ه ب��اب الم��نزل، ثم وض��ع المفت��اح في ي��دي وق��ال: "من اآلن فصاعدا كلما تواعدنا ونسقنا لنلتقي كان االجتماع هنا. نحن نسمي هذا ال��بيت

بالوكر، فكلما قلت لكم تعالوا إلى الوكر، كان هو المقصود".

في أحد األيام عندما طلبنا الحاج قاسم، واجتمعنا في ذلك المنزل، جاء

1 . السلطان معين شارع الزمان ذلك في يدعى كان ديالمه شارع

Page 93: books.almaaref.orgbooks.almaaref.org/static/documents/zoqaq.doc · Web viewكلّ هذه الذكريات والأصوات، کانت لا تزال تتردّد في زوايا حنجرة

93

؛ إال أن1الشيخ محمود غفاري أيضا. االسم األصلي للشيخ هو محم��د قراكوزلو الجميع كان يناديه باسمه المستعار الشيخ محمود غفاري. وقد كان من رج��ال الثورة والمناضلين الحقيقيين ضد الشاه. في ذلك الي��وم، عن��دما رأيت��ه، رحت��ر في االلتح��اق بالش��باب واالنض��مام لألعم��ال القتالي��ة والمش��اركة في أفك العمليات المسلحة؛ لكن الشيخ قال: "أصبحت األمور واألوضاع اآلن على نحو بحيث إن األعمال الثقافية واإلعالمية تفيد أكثر، وتؤثر بشكل أكبر من األعمال القتالي��ة". بع��د ذل��ك أخ��رج قلم��ه ورس��م على ورق��ة خارط��ة لع��دة ش��وارع وتقاطع��ات وق��ال: "علين��ا أن نجم��ع الن��اس في ه��ذه الش��وارع، ونس��ير فيه��ا

مظاهرات حاشدة".

منذ ذلك الحين، وحيثم��ا تظاهرن��ا وكلم��ا احتش��دنا، ك�ان الش��يخ محم��ود ي��أتية ويب��دأ ويخرج عمامته من كيس يحمله تحت إبط��ه، يعتمره��ا، ويص��عد المنص�� بإلقاء الخطابات المتشددة والشعارات الجريئ��ة والقوي��ة ض��د الش��اه، إلى أن يصيح أحدهم: "وصل عناصر مكافحة الشغب". فيصيح الشيخ محم��ود بص��وت أعلى: "رددوا الموت للشاه، الموت للش��اه..."، ومن ثم ي��نزع عمامت��ه ويعي��د

وضعها داخل الكيس، ويدخل بين الجموع ويختفي بين صفوفهم.

في كل ي��وم وك�ل ليل��ة، ك�ان ش��ارع "ري" وش��ارع "ص�احب جم�ع" يش�هدان مواجه��ات ومظ��اهرات، وإطالق��ا للرص��اص على المتظ��اهرين. وك��ان جن��وب ووسط المدينة، مركزا للص��دامات بين الن��اس المتظ��اهرين من جه��ة، وعمالء��ر ��أت مكب الشاه وعناصر الشرطة والمخابرات، من جه��ة أخ��رى. كنت ق��د خب

الصوت في قفص الحمام على سطح منزلنا.

وفي بعض الليالي كان الشباب يجتمعون في بيتنا للنقاش والتداول في

1 . دراز بازي عمليات في محمود الشيخ استشهد

Page 94: books.almaaref.orgbooks.almaaref.org/static/documents/zoqaq.doc · Web viewكلّ هذه الذكريات والأصوات، کانت لا تزال تتردّد في زوايا حنجرة

94

��ر، آخر المستجدات والتخطيط. فيق��وم مرتض��ى ع��رب زاده باس��تعمال المكب ويسب الشاه ويشتم عمالءه وأدواته بش��تائم قبيح��ة، فينتش��ر ص��وته في ك��ل الحي عبر المكبر. فال تمضي دقائق حتى تفرض قوات األمن والشرطة طوق��اا، وتنتشر في الحي بحثا عنا؛ لكنهم ال يجدون مصدر الصوت، وال يعرف��ون أمني من أي بيت صدر. فيتخبطون وتص��يبهم الح��يرة! ثم يطلق��ون ع��دة رصاص��ات

في الهواء، وينسحبون من الحي خالي الوفاض.

في النصف الثاني من شباط، وفي اليوم نفسه الذي ه��اجم في��ه الن��اس ثكن��ةا إلى ش��ارع الثكنة م��ع1"سلطنت آباد" بغية السيطرة عليها، حضرت أن��ا أيض��

عدد من الشباب. أطل��ق العس��كر والح��راس الن��ار في اله��واء، وك��ان الوض��ع خط��يرا ج��دا. م��ع ك��ل رصاص��ة تطل��ق في اله��واء ك��ان مئ��ة ش��خص يرم��ون بأنفس��هم على األرض وينبطح��ون، فالن��اس والمواطن��ون ح��ديثو العه��د به��ذه األمور، وحتى ذلك الوقت لم يكونوا قد شهدوا اشتباكات، وإطالق��ا للرص��اص، ولم يروا قتلى وجثثا ودماء. فما إن كان يصاب أحدهم بطلق ناري، حتى تقوم القيامة، وال تتوقف النساء عن الص��راخ والعوي�ل، وح�تى بعض الرج�ال راح�وا يبكون. فالجراح واإلصابات والدماء كانت ش��يئا جدي��دا عليهم. ذل��ك الي��وم في تلك الفوضى والضجة، وبين هذه الجموع رأيت "أحمد أورند" وص��ديقه "ج��واد آرداني"، وهو من المصارعين األبطال األقوياء وكان يعمل "لحام��ا" في الحي، رأيتهما يركضان نحو الثكنة وهما خائفان. تج��اوزاني وهم��ا يركض��ان، تابعتهم��ا بناظري، وفجأة وق��ع أحم��د على األرض بع��د أن أص��يب بطل��ق ن��اري. ثم ب��دأ يصرخ: جواد جواد، ويستنجد. كان الوضع سيئا وص��عبا ج��دا إلى درج��ة أني لم أستطع االقتراب من أحمد، ولم أتمكن من إسعافه ونجدته. وبعد قلي��ل حم��ل

الناس جثمانه، ورفعوه

1 . باسداران شارع يدعى حاليا

Page 95: books.almaaref.orgbooks.almaaref.org/static/documents/zoqaq.doc · Web viewكلّ هذه الذكريات والأصوات، کانت لا تزال تتردّد في زوايا حنجرة

95

على أكفهم، فصار جثمان الشهيد يتماوج على أكف الثوار ويغيب عن أنظارنا. وغدا الشهداء يتساقطون كورق الش��جر، وق��د حظي العدي��د من ش��باب حين��ا

إضافة ألحمد وجواد بشرف الشهادة في ذلك اليوم.

بقيت أستذكر ذكاء أحمد ونباهته، وأترحم على صفاء قلبه، ورجولته ومروءته،وطبعه المرح وأالعيبه وحيله البسيطة.

في إحدى الليالي الماطرة، نزلنا إلى شارع "ري" مع بعض من ش��باب الحي، ورحن��ا نهت��ف ون��ردد الش��عارات الثوري��ة. وبينم��ا كن��ا نس��ير باتج��اه س��احة "تيردوقلو"، وقبل أن نبلغه��ا لح��ق بن��ا رج��ال الش��رطة والمخ��ابرات، وهممن��ا بالفرار، فدخلنا في أحد األزقة الضيقة. وعن��دما الح��ظ عناص��ر الش��رطة، أني أقود هؤالء وأوزعهم بين األزقة وأساعدهم على الهرب، لحقوا بنا، ودخلوا في الزقاق من خلفن��ا. كنت أركض وخلفي ع��دد ال ب��أس ب��ه من ش��بابنا، انعطفت

أفراد دخلوا معي، وك��ل من��ا اختب��أ5ودخلت في زقاق مظلم ومقفل. وتبعني في زاوية من الزقاق.

فجأة التفت ورائي ورأيت امرأة خائف��ة هلع��ة، ت��ركض في الظالم وتبحث عن مخبأ ومأوى. من دون أي تفكير، اضطررنا كالن��ا للوق��وف في تجوي�ف حائ�ط، بجانب باب أحد المنازل القديمة في الزقاق، لنختبئ من الشرطة. وقفن��ا في

جنح الظالم وألصق كل منا جسده بالحائط، حابسا نفسه في صدره.

��ا، التص��قنا عندما وصل رجال الشرطة إلى الزقاق المغلق، ذرعوه جيئة وذهاب بالباب ودخلنا في العتم أكثر، بقوا قرابة الربع ساعة يقومون بدورياتهم ونحن��وا من البحث ترك��وا مختبئ��ان، أطلق��وا ع��دة رصاص��ات في اله��واء، وحين مل

الزقاق وذهبوا. أطللت برأسي واختلست نظرة، وبعد

Page 96: books.almaaref.orgbooks.almaaref.org/static/documents/zoqaq.doc · Web viewكلّ هذه الذكريات والأصوات، کانت لا تزال تتردّد في زوايا حنجرة

96

أن اطمأننت إلى انصرافهم وخل�و الزق�اق منهم، قلت للم�رأة الواقف�ة قب�اليبجانب الباب: "يا سيدة، لقد ذهبوا!".

خرج كالنا من مخبئه ووقفنا، ما استطعت رؤي��ة وجهه��ا في العتم��ة، لكن، ب��دا لي أنها ترتدي عباءة بيضاء. سرنا إلى وسط الزقاق بخط��وات متأني��ة، وفج��أة

وقع نظري على قدميها، فوجدتها حافية.

قلت لها: "إإ... يا سيدة، لماذا تسيرين حافية القدمين".

قالت: "بينما كنت أركض هاربة من رجال الشرطة، أفلت الح��ذاء من ق��دمي.فلم أجد فرصة للعودة النتعاله أو حمله".

فورا خلعت حذائي، حملته بيدي ووضعته أمام قدميها، وقلت له��ا: "انتعلي��ه، اليصح أن تسيري في الشارع على هذا النحو، من غير حذاء".

لم تقبل بادئ األمر، لكن عندما أص��ررت عليه��ا، قبلت وانتعلت الح��ذاء ببطء،وهي منزعجة وخجلة، بعدها سرنا معا إلى أول الزقاق.

كان الجو باردا والزقاق فارغا، وليس فيه سوانا، والس��كون يعم األرج��اء، ولم يكن هناك أثر ألي من المتظاهرين، فالجميع قد الذ بالفرار. عندما اقتربن��ا من عمود المصباح الكهربائي، بدا لي وجه المرأة تحت الض��وء. وهن��ا أدركت أنه��ا المرأة نفسها التي سبق أن رأيتها منذ مدة أمام الصيدلية، وكانت تقود سيارة

المرسيدس.

قلت: "أوف... هذه أنت؟ ماذا تفعلين هنا في هذا الوقت؟".

قالت: "رأيت الن�اس يهتف�ون وي�رددون الش�عارات، ف�انخرطت معهم ودخلت في المظاهرة؛ لكن مع قدوم رجال الشرطة ومحاصرتهم لنا، اض��طررت إلى

الهروب، وبينما كنت أركض وأفر من رجال الشرطة، الحظت

Page 97: books.almaaref.orgbooks.almaaref.org/static/documents/zoqaq.doc · Web viewكلّ هذه الذكريات والأصوات، کانت لا تزال تتردّد في زوايا حنجرة

97

أنكم تعرفون من أين تف��رون، وظننت أنكم األك��ثر ذك��اء ودراي��ة بين الب��اقين،فتبعتكم ودخلت في الزقاق من خلفكم".

تلك الليلة مشيت مع هذه المرأة ح��تى أوص��لتها إلى أم��ام داره��ا. على ط��ول الطريق تحادثنا، وكانت ه��ذه الص��دفة فاتح��ة عالقتن��ا وبداي��ة معرفتن��ا ببعض��نا بعضا. تدعى فاطمة، وبدت لي من اللقاء األول سيدة نجيب��ة ط��اهرة وعفيف��ة جدا. كنت أفكر في نفسي أن هذه السيدة لديها قلب ق��وي وج��رأة وش��جاعة كبيرة، إلى درجة أنها دخلت في خضم هذه المظاهرات والمطاردات في ه��ذا

الوقت المتأخر من الليل، وبمفردها أيضا.

مض��ت ه��ذه القص��ة، ولم ألت��ق به��ذه الم��رأة، إلى أن تواع��دنا م��ع الش��باب أيل��ول(،8"، في السابع عش��ر من ش��هر ش��هريور)1واجتمعنا في ساحة "جاله

عند الساعة التاسعة.

ذهبت إلى ميدان "جاله" في الموعد المحدد، مع أحد الشباب ويدعى عب��اس، . عندما وصلنا كان العالمة "نوري" قد400بدراجته النارية الضخمة من طراز

خطب في الحاض��رين، وق��د أنهى محاض��رته للت��و، وفج��أة انهم��رت علين��ا من األرض والسماء، ومن جميع الجهات، طلقات الرصاص كزخات المطر، وحيث

" اس��تدرنا من فورن��ا وع��دنا2كنا قد وصلنا إلى ساحة جاله عبر شارع "ش��هباز عبر الشارع نفسه، وتبعنا جمهور غفير من الن��اس. ان��دفع الن��اس نح��و ش��ارعا، وعل��ق في الزح�ام تحت شهباز، في حال�ة ت�دافع ش��ديد، وق�ع بعض��هم أرض�� األي��دي واألرج��ل، وس��حق بين األق��دام، وبعض��هم أص��يب بالرص��اص وج��رح

وبعضهم استشهد على الفور.

ا على األرض بين الجموع، رأيت ابن محلتنا السيد رسول شفيعي مرمي

1 . ا حالي الشهداء ساحةشارع 2 اآلن شهريور.17يدعى

Page 98: books.almaaref.orgbooks.almaaref.org/static/documents/zoqaq.doc · Web viewكلّ هذه الذكريات والأصوات، کانت لا تزال تتردّد في زوايا حنجرة

98

وقد أصيب بطل��ق ن��اري، أعاق��ه عن الح��راك. ك��ان الس��يد رس��ول يعم��ل في ص��يدلية الحي. ت��وقفت عن��ده ألس��عفه، ولم تمض دق��ائق ح��تى وص��ل إلين��ا مرتضى كاظم بور – من أبناء حينا أيضا – للمساعدة. أحطن��ا نحن الثالث��ة، أن��ا وعباس ومرتضى برسول، حملناه معا ووضعناه على الدراجة النارية، وجئنا به

". عند المدخل حملناه على أي��دينا بش��كل أفقي1إلى مستشفى "سوم شعبان ودخلنا المستشفى. كان مزدحما ويعج بالمراجعين. ومددنا رس��ول في المم��ر بجانب الحائط. أما أنا فجلست على ركبتي ووضعت رأس��ه في حج��ري. ح��تى

ا. تلك اللحظة لم يتسن لنا أن نتفحصه إن كان ميتا أو حي

ا، راح يت��أوه ويطلب ش��ربة م��اء. ك��انت ش��فتاه يابس��تين، وجدنا أنه ما زال حي ووجهه ملطخا بال��دماء. لم أس��تطع أن أح��دد مك��ان اإلص��ابة، ومن أين دخلت الرصاصة، فقد كان كل بدنه ملطخا بالدماء. بللت خرقة بالماء ووض��عتها على شفتيه اليابستين. بعد دق�ائق وص�ل إلين�ا الط�بيب، نظ�ر إلي�ه وأخ�ذ بمعص�مه

فاحصا نبضه، ثم قال: "لقد فارق الحياة".

كنت مضطربا وهلعا إلى درج��ة أني لم أدرك أن رس��ول ق�د استش��هد وف��ارق الحياة بين يدي، حتى أخبرنا الطبيب ب��ذلك. كنت فق��ط أخف��ف عن��ه وأطمئن��ه بكلماتي، وأبلل الخرق��ة وأمس��ح به��ا ش��فتيه ال��ذابلتين ووجه��ه الش��احب، ولم

أالحظ عروج روحه.

حملن��ا جث��ة رس��ول بح��زن وأس��ى، ورفعناه��ا على األك��ف، وبض��جيج وص��ياح،وبصرخات الله أكبر خرجنا من المستشفى.

لم نك�د نبل�غ الش�ارع ال�رئيس، ح�تى وص�ل رج�ال الش�رطة واص�طفوا أم�امالمستشفى وبدأوا بإطالق الرصاص، لكن بحمد الله كان أكثرها في الهواء؛

1 . شعبان من الثالث

Page 99: books.almaaref.orgbooks.almaaref.org/static/documents/zoqaq.doc · Web viewكلّ هذه الذكريات والأصوات، کانت لا تزال تتردّد في زوايا حنجرة

99

وإال لما بقينا سالمين لحظة واحدة. فلما رأين��ا م��دى ص��عوبة الموق��ف وس��وء الوضع، اضطررنا إلى أن نضع جنازة رس��ول في الش��ارع على األرض، وع��دنا أدراجنا مسرعين إلى داخل المستشفى لنتحصن في المبنى. لح��ق بن��ا رج��ال الشرطة ودخلوا المستشفى بحثا عنا. كنا عشرة أف��راد أو اث��ني عش��ر ف��ردا، وبدل أن نشيع الشهيد، رحنا نركض في ممرات المستش��فى، ونه��رب ب��احثين عن م��أوى ومخب��أ. ص��عدنا ع��بر األدراج إلى الط��ابق العل��وي ففس��ح الجمي��ع ا على عقب. ثم ج��اء أح��دهم بس��لم الطري��ق أمامن��ا، قلبن��ا المستش��فى رأس�� صعدنا عليه إلى الس��طح ع��بر ناف��ذة في الس��قف، وس��حبنا الس��لم من خالل الناف��ذة ال��تي أغلقناه��ا باتجاهن��ا. بقين��ا هن��اك ح��تى الغ��روب، وعن��د الس��اعة الخامسة بعد الظهر تقريبا نادانا بعض األش��خاص، وق��الوا: "لق��د رح��ل رج��ال

الشرطة؛ هيا انزلوا".

في اليوم التالي، ذهبنا إلى مقبرة "بهشت زه��را"، حيث جيء بأجس��اد كث��يرة للشهداء. وهناك بين الجموع، سمعت أحدهم من الخل��ف يس��لم علي. التفت،

وإذا بها السيدة فاطمة تلقي التحية!

قالت: "جئت لكي أرى من الذي استشهد من أبناء محلتنا".

وقفنا معا في المقبرة حتى انتهى تشييع الشهداء ودفنهم، ركبنا بع��دها س��يارةأخي الس��يد ب��اقر وع��دنا إلى الحي. ك��انت الس��يارة من ط��راز ]بي إم دبليو

[. في الطريق تبادلنا أطراف الحديث، وتعرفنا إلى بعضنا بعضا أكثر.2001

بعد ذلك اليوم ازدادت لقاءاتنا، حتى أص��بحنا نلتقي قليال في ك��ل ي��وم. عن��دماأخبرت الحاج قاسم بموضوع فاطمة سألني: أي نوع من الفتيات هي؟

Page 100: books.almaaref.orgbooks.almaaref.org/static/documents/zoqaq.doc · Web viewكلّ هذه الذكريات والأصوات، کانت لا تزال تتردّد في زوايا حنجرة

100

��ة وال تع��رف - إنها امرأة ذاقت الحلو والمر وقاست البرد والحر، متزن��ة وجديالميوعة.

- إذا إن كنت عازما فاطلبها للزواج؛ ال تقعن في الحرام.

في اليوم التالي تواعدنا لنذهب معا إلى المسجد ألداء الص��الة، والتقين��ا ق��رب مسجد "لرزاده". وبعد الصالة حدثتها بموضوع الزواج وعقد القران، فوافقتني

الرأي وقبلت.

طرحت موضوع فاطمة على ماما ب��ري وأمي، وح��دثتهما عنه��ا. فق��الت أمي:"إذا كنت تريدها، توكل على الله، يا علي!".

كانت أمي تعرف��ني وتع��رف طبعي وأخالقي جي��دا، وتعلم أني عني��د نوع��ا م��ا.��ر من رأيي. لطالم��ا لذلك وافقت من فورها، ولم تقل لي شيئا، ولم أكن ألغي رددت: "يجب أن تك��ون كلم��ة الفص��ل والق��رار النه��ائي في ال��بيت، للرج��ل".

وعمال بهذه القاعدة لم تقل شيئا، ولم تبد رأيا سوى الموافقة.

لكن فاطمة بالمقابل لم تخبر عائلتها بشيء؛ فأمه��ا ك��انت تت��دخل في حياته��ا كثيرا، وتري��د أن تزوجه��ا من ث��ري ومتم��ول. في نهاي��ة األم��ر بع��د أن تجاوزن��ا مرحلة إخبار األهل، ذهبنا في أحد األيام إلى إحدى المحاكم في شارع "جه��ان بناه"، وعقدنا القران. بعد ذلك استأجرت ش��قة في ش��ارع "ديالم��ه"، وانتقلن��ا للعيش فيها، وبدأنا حياتنا الزوجية ببساطة وعلى الخ��ير والبرك��ة، من دون أي

شيء من المراسم المتعارف عليها في األعراس.

ذات يوم ذهبنا على الدراجة النارية، إلى قرية "فرح زاد"، لزي��ارة ض��ريح ولي الله داوود -وهو من ساللة األئم��ة األطه��ار عليهم الس��الم-. والطري��ق الوحي��د الم��ؤدي إلى الم��زار، طري��ق جبلي ت��رابي متع��رج مليء ب��االلتواءات، وع��ر وصعب. وبينما كن��ا نس��ير على ه��ذا ال��درب ونتح��دث، فج��أة تش��تت انتب��اهي،

وتركت مقود الدراجة، فراحت تتمايل يمينا وشماال ولم أستطع

Page 101: books.almaaref.orgbooks.almaaref.org/static/documents/zoqaq.doc · Web viewكلّ هذه الذكريات والأصوات، کانت لا تزال تتردّد في زوايا حنجرة

101

السيطرة عليها. سقطنا عنها وارتطمنا باألرض. جرحت كلتا يدي، لكن فاطمة بحمد الله لم تصب ب��أذى. اض��طررت إلى ركن الدراج��ة إلى ج��انب الطري��ق، واستأجرنا حمارا إلكمال الطريق الجبلي. ركبت فاطمة على الحم��ار، وس��رت أنا مشيا بجانبها. تجاوزنا كل الهضاب والمرتفعات الترابية التي اعترضتنا، إلى أن وصلنا إلى هضبة "الس��الم"؛ وهي المك��ان نفس��ه ال��ذي س��اءت في��ه ح��ال "بهروز وثوقي" وه��و ي��ؤدي دوره في فيلم "س��وته دالن". ومن ه��ذا المرتف��ع أص��بح بإمكانن��ا أن ن��رى قب��ة م��زار ال��ولي داوود. تابعن��ا المس��ير ووص��لنا إلى المزار، ومكثنا هناك ثالثة أي�ام في ض�يافة وبرك�ة الم�ولى. ك�ان الج�و مفعم�ا بالمعنوي��ات والروحاني��ة. ففي الص��باح الب��اكر نس��تيقظ على أص��وات البغ��ال والديكة وال��دجاج وزقزق��ة العص��افير، وأج��راس الم��اعز والمواش��ي. ونتن��اول فطورا بسيطا من المنتجات المحلية في القرية، بعدها نقصد الحرم الش��ريفا م��ع ��ا ش��هي للزيارة والدعاء والعب��ادة. وعن��د الغ��داء نأك��ل خ��بزا س��اخنا، وكباب

الخضروات المحلية كالريحان.

م، بدأ الجميع يتناقل نبأ عودة اإلم��ام الخمي��ني، وأص��بح1979في شتاء العام حديث الناس وصرت ت��رى فيهم حال��ة مدهش��ة من التفاع��ل والحماس��ة. أم��ا نحن فكنا نقضي طيلة النهار في الحي وفي الشارع، ونجتمع أكثر اللي��الي في

المسجد ونعقد جلساتنا.

عمت الفوضى كل المدينة، وأصبحت الحياة العادية شبه معطلة. أحيانا ك��انت تمضي أربع وعشرون ساعة وأنا خارج المنزل. فدائما ما يوجد مظ��اهرات، أو

فرض حظر للتجوال.

��ا على دراج��تي الناري��ة، ومتوقف��ا ب��القرب من في األول من شباط، كنت راكب إس��فند" أم��ام م��دخل الجامع��ة من جه��ة ش��ارع "ولي عص��ر"،24س��احة "

ومسدسي ملقن جاهز لألطالق مخبأ في جيب معطفي، وتحت المعطف

Page 102: books.almaaref.orgbooks.almaaref.org/static/documents/zoqaq.doc · Web viewكلّ هذه الذكريات والأصوات، کانت لا تزال تتردّد في زوايا حنجرة

102

ارتديت كنزة صوفية وبنطاال عريضا ومريحا. كان الحاج قاسم ق��د أوع��ز إلين��ابأن نأتي وبحوزة كل واحد منا دراجة نارية.

أوكلت مهم��ة إع��داد وتجه��يز مراس��م اس��تقبال اإلم��ام إلى الس��يد محم��د البروجردي. وقد سبق والتقيته عدة مرات. ك��ان رجال ذا هيب��ة وأهال للمهم��ات الصعبة. أمضى سنوات عديدة في لبنان، برفق��ة ال�دكتور ش��مران، يتعلم من��ه قواع��د ح��رب الم��دن وح��رب العص��ابات، ول��دى عودت��ه إلى إي��ران دخ��ل في النضال والجهاد وحارب الشاه، كان الجميع ينادي��ه باس��مه الجه��ادي "م��يرزا". عم��ل محم��د بروج��ردي، على تنظيم الش��باب وت��وزيعهم في نق��اط مهم��ة واس��تراتيجية، في ك��ل الط��رق المؤدي��ة إلى المط��ار، فانتش��رت مجموعات��ه المسلحة وأمنت كافة الطرق، لمراقبة األوضاع وتحسبا ألي طارئ. فق��د ك��ان من المحتمل أن ينصب كمين مسلح وتتم مهاجمة موكب اإلمام الخميني بع��د خروجه من المطار، أو ت��زرع عب��وات ناس��فة على طريق��ه؛ فوض��ع البل��د غ��ير مستقر واألمن لم يكن مستتبا، وكان بمقدور أي شخص أن يفعل كل ما يحلو له. "مجاهدو خلق" من جهة اتخذوا خي��ارا آخ��ر، ومن جه��ة أخ��رى ق��ام ح��زب "توده" واليساريين ومجموعات أخرى ببعض التحركات. لكن الجو الغالب كان منسجما ومنقادا لقيادة اإلمام الخميني. وبدا واضحا للجمي��ع، أن��ه من بين ك�ل الحركات والتوجهات الموجودة، ستكون الغلب��ة والبق��اء لخ��ط اإلم��ام وللث��ورة

اإلسالمية.

انتشرت مجموعتي واستقرت قرب المطار، وعندما كانت السيارة التي أقلت اإلمام الخمي��ني تم��ر من س��احة الث��ورة، وهي محاط��ة بالحش��ود الغف��يرة من الناس، صعدت على دراجتي النارية وسرت ببطء خل��ف الس��يارة بين الن��اس،

حتى ال أصدم أحدا منهم.

بعد أن خطب اإلمام الخميني في مقبرة "بهشت زهرا"، حيث دفنت

Page 103: books.almaaref.orgbooks.almaaref.org/static/documents/zoqaq.doc · Web viewكلّ هذه الذكريات والأصوات، کانت لا تزال تتردّد في زوايا حنجرة

103

" لتفق��د1أجساد شهداء الثورة، قيل إنه ذاهب إلى مستش��فى " األل��ف س��رير ج��رحى الث��ورة، والمص��ابين خالل المواجه��ات األخ��يرة؛ ولم أعلم إن تمكن

اإلمام من الذهاب أم ال.

روا في اليوم الثالث أو الرابع ]لوصول اإلم�ام[، ق�ال لن�ا الح�اج قاس��م: "حض� أنفسكم واس��تعدوا، يري��د اإلم��ام أن ي��ذهب إلى ح��رم "الش��اه عب��د العظيم"،

للزيارة".

سارعنا بالذهاب إلى مزار "الشاه عبد العظيم"، في عدة مجموع��ات وض��ربنا طوقا حول الحرم وأطرافه وأغلقنا المداخل واألزقة المؤدية إليه. كان المكان يعج بالزائرين دوما، والطرقات مليئة بزوار الح��رم، وكث��ير منهم لم يع��وا أم��ر

الثورة بعد.

ج��اء اإلم��ام برفق��ة الح��اج "مه��دي ع��راقي" إلى الح��رم في منتص��ف اللي��ل، وهنالك تشرفت م��رة أخ��رى ب��النظر إلى وج��ه اإلم��ام الخمي��ني. كث��يرون من حولنا لم يصدقوا أن اإلمام جاء للزيارة، أو لم يشعروا ويلتفت��وا لقدوم��ه. ول��و

علموا بأن سماحته في الحرم، الحتشدوا وتجمعوا حوله ألخذ البركة منه!

( الجدي��دة، ق��امت13592م��ع اق��تراب عي��د رأس الس��نة الهجري��ة الشمس��ية) األحزاب المعارضة للجمهورية اإلسالمية، برغم ضعف تمثيلها الشعبي، وبعدما رأت أنه ال مكان لها في الثورة، باالنتق��ال إلى م��دينتي "كنب��دكاووس" و"بن��در تركمن"، وتحريك الناس هناك للقيام ضد الثورة. لقد قاموا بتضخيم المشاكل

الصغيرة، وأغروا الناس الفقراء والبسطاء

1 . الخميني اإلمام مستشفى حالياالعام 21 2 من 1980آذار

Page 104: books.almaaref.orgbooks.almaaref.org/static/documents/zoqaq.doc · Web viewكلّ هذه الذكريات والأصوات، کانت لا تزال تتردّد في زوايا حنجرة

104

بالم��ال، ووع��دوهم بالحري��ة واالس��تقالل، وفي أول تح��رك لهم على األرض حاص��روا بلدي��ة "كنب��دكاووس". ودخل��وا واختب��أوا في بي��وت الن��اس الفق��راء، وش��كلوا خط��را على حي��اة الم��دنيين، م��ا اس��تدعى الت��دخل بش��كل مباش��ر، وانجرت المسألة إلى حرب ش��وارع، وب��دأ التف��تيش والتطه��ير من م��نزل إلى منزل. كنت مع مجموعة الحاج قاسم العس�كرية ال�تي ذهبت إلى هن��اك. وفي نهاية األمر جاء الشيخ خلخالي، ليضع خاتمة لألحداث، فأطاح بع��دد من أع��داء الثورة فور وصوله، فعلم هؤالء حينها مدى جدية الثورة، وفهموا أن فيها رجاال

أشداء ال يستهان بهم. بعدها هدأت األوضاع هناك وعدنا إلى طهران.

أذكر أنه في تلك االش��تباكات، احتفظت بمس��دس ح��ربي، لكن قلم��ا أخرجت��ه واستعملته. لم أكن ألطلق النار على الناس دون مبرر وسبب، نظ��را لفك��رتي بأن المشاركة في األعمال القتالية والعس��كرية، تجع��ل القلب قاس��يا وتفق��دها، ولم أس��تطع أن أبقى بعي��دا عن قلب الرق��ة والحن��ان. لك��ني كنت فض��ولي األحداث، وال أشترك في مجريات األمور. كل الناس ال�ذين غ�رر بهم في تل�ك المدينة كانوا بسطاء وفقراء، وفقرهم هو سبب في انجرار بعضهم للقيام ضد

الثورة.

من بين األشخاص المنضمين لفريق الشيخ خلخ��الي ويرافقون��ه على ال��دوام، شخص يدعى "أصغر وصالي". كان لي شرف التعرف إليه بش��كل أك��بر خالل فترة االشتباكات. ينتمي "أصغر" إلى حي "دوالب" الواقع بين ش��ارع "ش��يوا" وشارع "كرمان"، وعلى الرغم من قصر قامته وصغر جثته، ب��دا رحب الص��در وذا قلب كبير. وكان شهما ش��جاعا ال يع��رف الخ��وف طريق��ا إلى قلب��ه، ورجال بكل ما للكلمة من معنى. سبق ورأيته مرارا أثناء التحضير، في هيئة اس��تقبال

اإلمام الخميني. حيث بدا نشيطا وفعاال ويعمل بشكل

Page 105: books.almaaref.orgbooks.almaaref.org/static/documents/zoqaq.doc · Web viewكلّ هذه الذكريات والأصوات، کانت لا تزال تتردّد في زوايا حنجرة

105

دؤوب وكان من أصدقاء محمد بروجردي المقربين منه. وفي االشتباكات التي دارت في "كنب��د" أدى دورا فع��اال ومهما، وأص��بح ش��وكة في أعين المن��افقين

وأعداء الثورة، وأذاقهم الويالت.

عرف أصغر طعم س��جون الش��اه، وه��و يع��د من رج��ال الث��ورة، ومن ق��دامى المكافحين والمناضلين ضد الشاه. أخبرني أحد أص�دقائه ذات ي�وم، أن أص�غر كان برفقة "مس��عود رج��وي" في الزنزان��ة في ف��ترة س��جن "اوين". فاختلف��ا

واختصما، فهاجمه أصغر ونطحه برأسه على وجهه.

لقد ذاع صيته منذ حبسه في سجون الشاه، وعرفه زعماء المعارض��ة وأع��داء الثورة. ومنذ صغره وشبابه حقق البطوالت في نوادي الرياضة التراثية أللعاب القوى وصاالت المصارعة الشعبية )الزورخانه(. عندما كان مصارعا في ن��ادي "كريم سياه"، كنت أنا كذلك مصارعا في نادي "شاه م��ردان" ون��ادي "الح��اج حس��ن توك��ل". في بعض اللق��اءات الرياض��ية في الزورخان��ه، كنت ألتقي ب��ه، وأسلم عليه ونتحدث. أما والد أصغر فيدعى "حسن شرخي"، وهو بطل ماهر في الحركات الدوراني��ة في ألع��اب الق��وى والمص��ارعة الش��عبية. ك��ان أص��غرقلي������ل الكالم، كث������ير العم������ل، ويفع������ل أك������ثر مم������ا يق������ول.

بعدما انتهت أعمال الثورة وهدأت األوضاع، انصرف ك��ل واح��د من أبن��اء حين��ا إلى عمل ما. فالتحق أمير عطري، داوود نيازي، محمد مشهدي ب��اقري وس��يدمحمد كشفي بالحرس الثوري. أما حسين محمودي فانشغل باألعمال الحرة.

عندما أصبح السيد رجائي رئيسا للوزراء، ذهب الحاج قاسم للعم��ل في مب��نىا. قبلت عرض��ه؛ فمن جه��ة رئاسة الوزراء، واقترح علي أن أعم��ل هن��اك أيض��

كنت متيما بالحاج قاسم وأردت إكمال الطريق معه والبقاء

Page 106: books.almaaref.orgbooks.almaaref.org/static/documents/zoqaq.doc · Web viewكلّ هذه الذكريات والأصوات، کانت لا تزال تتردّد في زوايا حنجرة

106

بجانبه، ومن جهة أخرى حان الوقت كي أجد لي عمال الئقا وتتحسن أوض��اعيالمعيشية.

عرفني الحاج قاس��م إلى الس��يد رج��ائي. رأيت رجال متواض��عا وزاه��دا يرت��دي أبسط المالبس، وقابلني بالترحاب وبوجه حسن، قبلني للعمل معه، فأصبحت موظفا في مبنى رئاسة الوزراء، وتعاقدت على العمل براتب ش��هري مق��داره

تومان، وبطاقات لباصات خط النقل العام.2800

حينه��ا اس��تحدث الس��يد رج��ائي، قس��ما جدي��دا في ال��وزارة، وأس��س مكتب: "قسم إعادة األموال الفائضة وأموال البذخ والكماليات". تسلم الس��يد "تش��ه بور" وهو صهر أخي زوجة الحاج قاسم، رئاسة هذا القس��م. وق��د وظ��ف في��ه أربعة وعش��رين موظف��ا، كنت أن��ا واح��دا منهم. في ب��ادئ األم��ر عق��د جلس��ةح لن��ا خط��وات العم��ل، وكيفي��ة نق��ل األم��وال توجيهية، وبين لنا وظائفنا ووض�� الخاصة والتابعة لحكومة الشاه السابقة ]إلى بيت المال[. أول أم��ر كلفت ب��ه كان مصادرة أموال التشريفات والمراسم في السلطة الس��ابقة. تم تقس��يمنا إلى اثني عشر فريقا، كل فريق ضم شخصين. شكلت والسيد موسوي فريقا، وبدأنا بتنفيذ المهمة. كانت ورقة مهمتنا تحوي أس��ماء خمس��ة أم��اكن؛ الن��ادي

،1الشاهنشاهي الليلي، ملعب آزادي، نادي الفروسية "اسب دواني"، نادي تاجوناد آخر لم أعد أذكر اسمه اآلن.

كان نادي الفروسية أول مكان قصدناه للتف��تيش. وك��انت الم��رة األولى ال��تي��ا كه��ذا. اس��تغرق تجوالن��ا في المك��ان، داخل��ه وخارج��ه س��اعة أرى فيه��ا مكان��ا! كن كاملة. رأينا نس��اء القص��ور الل��واتي جئن لرك�وب الخي��ل؛ أش��كاال وألوان محترفات في ركوب الخيل، ممشوقات القامة وذوات أجسام رياض��ية! ك��انت

كل واحدة منهن ترتدي معطفا وبنطاال ضيقا بالكاد يحتويهن،

1 . استقالل نادي إلى بعد ما في النادي هذا اسم تغير

Page 107: books.almaaref.orgbooks.almaaref.org/static/documents/zoqaq.doc · Web viewكلّ هذه الذكريات والأصوات، کانت لا تزال تتردّد في زوايا حنجرة

107

ويضعن على رؤوسهن الخوذ المخصصة لركوب الخيل، ويتدربن على األحصنةفي الميدان.

اكتفيت في اليوم األول بالوقوف بجانب المي��دان، وس��جلت ك�ل م��ا كنت أراه من ممتلكات، ودونته على الدفتر. فج��أة اق��تربت م��ني س��يدة طويل��ة القام��ة سيئة الحجاب، وهي ترت��دي ثي��اب رك��وب الخي��ل وتج��ر وراءه��ا حص��انا جميال،

سألتني: "أنتم تسجلون هذه الممتلكات لمصلحة بيت المال؟".- نعم.

- انظ��ر قليال، أص��غ إلى كالمي. أت��رى ه��ذا الحص��ان؟ اس��مه "رخش��ه". لق��د اشترى زوجي هذا الحصان بخمسمئة ألف تومان. وقبل أن يرس��لوه إلين��ا من لندن قاموا بإخصائه حتى ال يتمكن من اإلنجاب، فهو فريد من نوعه، وال مثي��ل لهذا الحصان في العالم كله. فكر معي جيدا، بماذا س��يفيد ه��ذا الحص��ان بيتلت علين��ا وش��رفتنا غ��دا على الغ�داء، لنتح��دث أك�ثر في ه��ذا مالكم؟ إن تفض�

الموضوع.- حسنا.

أعطتنا السيدة عنوان منزلها، وانصرفت.

في اليوم التالي لبينا ال��دعوة، وعن��د الظه��يرة ذهبت م��ع موس��وي إلى م��نزل السيدة الكبير والفخم الواقع في شارع كامرانيه. قرعنا الج�رس، فتح أح�دهم

الباب لنا وقال: "تفضلوا، ادخلوا".

دلفنا من الباب الرئيسي وتوقفنا، وإذا بالمرأة الفارسة نفسها تأتي الس��تقبالنا مرتدية قميص النوم، سلمت علينا وأهلت بنا. بدا عليها ال��ذكاء وال��دهاء. ربم��ا

ظنت أنها تستطيع أن تستخف بعقولنا وتصبغنا، لكنها لم

Page 108: books.almaaref.orgbooks.almaaref.org/static/documents/zoqaq.doc · Web viewكلّ هذه الذكريات والأصوات، کانت لا تزال تتردّد في زوايا حنجرة

108

تعلم أننا أمضينا عم��را بالص�باغة وال�دهاء وأن�ني من زق��اق "نقاش��ها" ب��ل من المحت��الين بتعبيرن��ا! عبس��نا في وجهه��ا وقلن��ا له��ا: "لن ن��دخل؛ تفض��لي م��اذا

تريدين، ما طلبك".

ذهبت السيدة وارتدت معطفا ضيقا، كالذي كانت ترتديه في نادي الفروس��ية، وال يكاد يحتويها، ودعتنا إلى الداخل. جاء زوجها أيضا، لكنها غالبا ما ت��ولت هي الحديث. أجلسونا في قاعة استقبال كبيرة ومزخرف��ة ومزين��ة. وبم��ا أني كنت لبقا في الحديث أكثر من موسوي، شرحت للسيدة وزوجه��ا، وأوض��حت لهم��ا

لماذا نصادر هذه األموال.

قالت المرأة: "إن هؤالء ال يعلمون ما يفعلون. فهم ال يعرفون القيمة الواقعية لهذه الخيول. منذ عدة أي��ام طلب��وا من كردس��تان أحص��نة لج��ر األحم��ال، وإذا بمجموعة شباب يدخلون النادي علينا ويأخذون خمسة من أفضل األنواع هن��ا! مع أنها ليست لمثل هذه األعمال، إنها أحصنة ن��ادرة وثمين��ة ج��دا، وفري��دة وال يوجد في الدنيا إال حصان واحد من كل نوع منه��ا! فمن فض��لكم، اس��محوا لن��ا إما أن نخرج هذه األحص��نة من البالد ونأخ�ذها إلى الخ��ارج، أو رتب��وا لن��ا اإلذن باالستفادة من النادي للتمرن على الفروسية. وال تمنعون��ا من مزاول��ة رك��وب

الخيل".

��ا مج��رد ��ا كن لم ن��رد عليه��ا بش��يء، أو ب��األحرى لم نس��تطع ق��ول ش��يء؛ ألننموظفين وعلينا أن نتبع التعليمات والقوانين.

بعد ذلك قامت وأحضرت علبتين، وضعتهما أمامنا وقالت: "هذه هدي��ة ص��غيرةأحضرتها لكما!".

فقلت لها: "ال؛ ال نستطيع أن نقبلها".

قمنا وودعناهما وغادرنا؛ لكن السيدة كانت مسرورة جدا بما أننا

Page 109: books.almaaref.orgbooks.almaaref.org/static/documents/zoqaq.doc · Web viewكلّ هذه الذكريات والأصوات، کانت لا تزال تتردّد في زوايا حنجرة

109

أوليناها اهتماما واستمعنا إلى مطلبها.

بعد الظهر، ذهبنا إلى نادي الفروسية مرة أخرى، وهذه المرة قصدنا مس��ؤول النادي ويدعى الحاج أحمدي، تعرفنا إليه، وهو من أبناء منطقة "خزانه". روين��ا له ما جرى بيننا وبين السيدة متدربة الفروس��ية، واستض��افتها لن��ا في منزله�ا، فأخذنا الحاج أحم��دي إلى ص��الة بابه��ا مقف��ل من الخ��ارج بش��كل محكم، فتح األقفال ودخلنا إليها، فدهشنا وذهلن��ا مم��ا رأين��اه! ك��ل أنح��اء الص��الة ممل��وءة بسروج نفيسة وثمينة، وبأدوات ووسائل للفروس��ية. أح��د ه��ذه الس��روج ك��ان هدية أرسلت من رئيس المكسيك إلى الشاه. كما ش��اهدنا هن��اك س��روجا من ذهب، وأخرى من فضة، وأخرى مزينة ومرصعة بأحجار كريم��ة وثمين��ة، وكله��ا

في منتهى الجمال.

على أحد جدران الصالة، علق نص��ف جس��م لحص��ان ]رأس��ه وص��دره[. ظننتا، ولم��ا لمس��ته في البدء أنه تمثال منحوت. لكن عندما اقتربت منه ب��دا طبيعي تأكدت من أنه حصان ط�بيعي. عين��اه كبيرت�ان في غاي�ة الجم�ال، وجل��د أبيض ناصع كبياض الثلج. عندما رآنا مس��ؤول الن��ادي معج��بين بالتمث��ال اق��ترب من��ال ل��دى الش��اه. اش��تراه ب��آالف وق��ال: "ه��ذا الحص��ان، ك��ان الحص��ان المفض�� الدوالرات. وأحبه وتعلق به كثيرا إلى درج��ة أن��ه لم يط��ق أن ي��راه يتق��دم في

السن ويشيخ، وحفاظا عليه عمد إلى تحنيطه وتعليقه على الحائط".

بعد ذلك أحصينا وسجلنا كل الموجود في النادي بمساعدة مسؤوله وبالتنسيقمعه.

في تل��ك الليل��ة ح��دثت المس��ؤول الثق��افي في مس��جد "التوفي��ق" عن ن��اديق األم��ر م��ع الفروس��ية، وعم��ا رأين��اه هن��اك. فق��ال لي: "إذا اس��تطعت، نس��

مسؤول النادي وأمن وسيلة نقل، ولنأخذ الشباب مرة في األسبوع للتدرب

Page 110: books.almaaref.orgbooks.almaaref.org/static/documents/zoqaq.doc · Web viewكلّ هذه الذكريات والأصوات، کانت لا تزال تتردّد في زوايا حنجرة

110

على ركوب الخيل".

ا ص��غيرا وجئت ب��ه، جمعت ش��باب مباشرة في اليوم الت��الي، اس��تأجرت باص�� الحي وأخ��ذتهم إلى ن��ادي الفروس��ية. ك��ان الجمي��ع مس��رورا، أخ��ذ الم��درب

يساعدهم على الركوب ثم يجول بهم فردا فردا في الميدان.

أزعج قدومنا المتدربين األص��ليين في الن��ادي وأبن��اء القص��ور، وب��دأوا ب��التهكم وقالوا: "لقد جئتنا بمجموعة من الحفاة من ساحة "شوس" الفقيرة، هؤالء لم يس��بق لهم أن رأوا حص��انا في حي��اتهم، وتري��د أن تعلمهم رك��وب الخي��ل في ساعة، ولم تجد لهم سوى جياد القصر الغالية الثمن ه��ذه وال��تي تق��در ب��آالف

الدوالرات!".

في األسبوع التالي، جاء مسؤول النادي بأبناء حيه "خزانه"، ليمارس��وا رياض��ةركوب الخيل.

ذات يوم، ذهبنا إلى ملعب آزادي، أحصينا ودونا أموال السلطة السابقة هناك،ونقلناها إلى خزينة الدولة.

وفي يوم آخر ذهبنا إلى النادي الليلي الملكي "الشاهنش��اهي". قابلن��ا م��ديره، وتح��دثنا إلي��ه فأخ��ذني إلى مخ��زن مخفي في القب��و. وج��دت هن��اك زجاج��ات وكؤوس خمر مصفوفة فوق بعضها بعضا حتى السقف، أخبرني أنه�ا مص��نوعة من الكريستال الصافي األصلي في دولة تشيكوس��لوفاكيا، يص��ل ع��ددها دون

مبالغة إلى األلفي كأس. أحصيتها كلها في الدفتر، واستغرق األمر ثالثة أيام.

عندما ذهبت برفقة السيد "تشه بور" لتقديم التقرير للسيد رجائي، دهش مما سمع وقال تعليقا على الموضوع: "بماذا يمكن أن ينفعنا كل ه��ذا المق��دار من

الكريستال؟ برأيكم ماذا نصنع بها؟ علينا أن نتخلص

Page 111: books.almaaref.orgbooks.almaaref.org/static/documents/zoqaq.doc · Web viewكلّ هذه الذكريات والأصوات، کانت لا تزال تتردّد في زوايا حنجرة

111

منها جميعها ونتلفها، أو نعرض��ها في الم��زاد العل��ني. ح�تى إنن��ا ال نس��تطيع أننعيدها إلى الدولة المصنعة؛ فذلك سيكلفنا كثيرا".

عقبت على ما قاله السيد رجائي وقلت: "في هذه األيام وفي ه��ذه األوض��اع، حيث يخاف األغنياء من إخراج سياراتهم من المنازل، وتجد األثرياء دائما بحال ترقب وتحسب من مهاجمة الناس لينتقموا منهم بجرم التعامل مع الط��اغوت

والشاه، هل يجرؤ أحد أن يشتري كل هذا الكريستال منا؟".

أظن أنها عرضت وبيعت الحقا في المزاد العلني، وع��ادت أثمانه��ا إلى خزين��ةالدولة.

استمر عملي في قسم مصادرة األموال عدة أسابيع فقط. فكنت منذ الصباح الباكر أذهب برفقة زميلي السيد موسوي إلى األماكن التي حددت لنا، وننج��ز

المهمة، وعند الظهيرة نعود إلى مبنى رئاسة الوزراء لتناول الغداء.

يتألف مب��نى رئاس��ة ال��وزراء من ط��ابقين وقب��و. وق��د ح��ول القب��و إلى مطبخ��ا عن��د الظه��يرة، نص��طف في ط��ابور الطع��ام، ون��دفع خمس��ة ومطعم. كنا يتن��اول غ��داءه وعشرين رياال مقابل وجبة الطع��ام. ك��ان الس��يد رج��ائي أيض�� معنا. فيقف مثلنا في صف الطعام، يدفع خمسة وعشرين رياال ويأخذ طعامه، ويجلس على أي طاول��ة من الط��اوالت ويتن��اول الغ��داء معن��ا. لم يكن يب��الي بالمناصب، فالمدير والمسؤول والموظف والخادم عنده سواء، يجلس م��ع أي

منهم، وكان صديقا حميما للجميع.

ذهبن��ا م��رة م��ع الس��يد رج��ائي إلى مدين��ة س��نندج لتفق��د أوض��اع الش��عبومؤسسات الدولة فيها. حينها كانت بعض الطرقات وبعض المدن لم تطهر

Page 112: books.almaaref.orgbooks.almaaref.org/static/documents/zoqaq.doc · Web viewكلّ هذه الذكريات والأصوات، کانت لا تزال تتردّد في زوايا حنجرة

112

بشكل نهائي من المعارضين وأعداء الثورة. لذلك انقس��منا ليل��ة الخميس إلى مجموعتين أو ثالث، وانطلقنا بسيارة إسعاف وسيارة أخرى من طراز ب��اترول

حتى ال نقع في كمين أعداء الثورة.

وصلنا إلى مدينة سنندج يوم الجمعة حوالي الساعة العاشرة صباحا. ك��ان منالمقرر أن يخطب السيد رجائي بالناس قبل صالة الجمعة.

فور دخولنا المدينة، توقفنا عند بركة ماء فيه��ا ن��افورة، كي نس��تريح من عن��اء السفر، ونغسل وجوهنا ونلتقط أنفاسنا. جاء أحد أبناء المدينة، ومأل كوب م��اء وقدمه للسيد رجائي، ثم توجه إليه باللهج��ة الكردي��ة ق��ائال: "عف�وا ي�ا س��يدي،

أنتم تشبهون السيد رجائي كثيرا!".

ضحك السيد رجائي وأجابه: "أنا من األقارب البعيدين للسيد رجائي".

فسأله الرجل: " ما هي قرابتك بالسيد رجائي؟".

فأجبته: "ابن عم أبيه!".

فضحك السيد رجائي وقال: "ال يا عزيزي، أنا رجائي نفسه، خ��ادمكم إن ش��اءالله".

دهش الرجل مما سمع! وارتبك في وقفته. بدا كأن��ه لم يص��دق األم��ر. بع��دهاتبسم وقال: "حسنا سيدي! سلمكم الله...".

وذهب في حال سبيله.

وصلنا إلى المصلى، وقبل أن يخطب إمام الجماع��ة خطب��تي الجمع��ة، تح��دث السيد رجائي إلى الحشد لمدة عشرين دقيقة. ما إن فرغنا من صالة الجمعة، ح��تى رأيت رجال يتق��دم من آخ��ر المص��لى باتج��اه المن��بر، ويبع��د الن��اس من

طريقه بالصراخ والصياح. دققت النظر وإذا به الرجل نفسه

Page 113: books.almaaref.orgbooks.almaaref.org/static/documents/zoqaq.doc · Web viewكلّ هذه الذكريات والأصوات، کانت لا تزال تتردّد في زوايا حنجرة

113

الذي قابلناه عند بركة الماء. وكان يتقدم ويق��ول: "أري��د أن أقاب��ل ال��رئيس...أريد أن أرى الرئيس".

عندما عدنا من مدينة سنندج، دعوت السيد رجائي في إحدى الس��هرات، لكييتحدث إلى شباب الهيئة في حينا، ويحاضر فيهم.

في تلك الليل��ة، تفاج�أت لك��ثرة الواف�دين والمنتظ��رين لقدوم�ه. وك�ان جمع�ا غفيرا ضم شباب الهيئة وعددا من أبناء حين��ا؛ لكن الس��اعة تج��اوزت التاس��عة

مساء، والسيد رجائي لم يأت بعد!

اتصلت بمبنى رئاسة الوزراء، وسألتهم عنه. فق��الوا: "لق��د مض��ى على ذه��ابالسيد رجائي وقت طويل، يجب أن يكون قد وصل اآلن".

في هذه األثناء، وبينم��ا كنت محت��ارا وال أع��رف م��ا أص��نع وأين أبحث، ج��اءني أحدهم وهمس في أذني قائال: "هناك شخص يجلس بجانبي في الخلف، يشبه

السيد رجائي كثيرا، لعله هو".

ا بين الن��اس من دون لحقت به، وإذ بي أرى السيد رجائي نفس��ه؛ ك��ان جالس��أن يعرف بنفسه ألحد، ومن دون إحداث أي ضجة أو جلبة!

تقدمت نحوه وقلت: "س��يدي. الس��الم عليكم. أنتم جالس��ون هن��ا؟ من��ذ وقتطويل وأنا أبحث عنكم. أين فريق المرافقة الخاص بكم؟".

- ال حاجة لفريق المرافقة. ركبت سيارة أجرة، وأتيت.

Page 114: books.almaaref.orgbooks.almaaref.org/static/documents/zoqaq.doc · Web viewكلّ هذه الذكريات والأصوات، کانت لا تزال تتردّد في زوايا حنجرة

114

Page 115: books.almaaref.orgbooks.almaaref.org/static/documents/zoqaq.doc · Web viewكلّ هذه الذكريات والأصوات، کانت لا تزال تتردّد في زوايا حنجرة

115

الجبهة األولى

وقال الطود الراسخ: "إنهم يظلمون أنفسهم"

الدكتور مصطفى شمران من الشخصيات ال��تي تش��رفت ب��التعرف إليه��ا بع��د انتصار الثورة. لقد قدم بحق الكثير من التض��حيات له��ذه الث��ورة، وتف��انى في خدمة األمة. وكان وجوده في تلك الفترة نعمة إلهية. في األيام األولى النتصار الثورة كنت قد رأيته م��رات في مب��نى رئاس��ة ال��وزراء، مرت��ديا قبع��ة روس��ية الشكل واضعا نظارة، وجرى بينن��ا س��الم وكالم. ولش��دة تواض��عه ولين جانب��هر كان يسلم على كل موظفي رئاسة الوزراء من كبيرهم إلى ص��غيرهم، ويس�� كثيرا لرؤيتهم، ويس�أل عن ح�ال الجمي�ع وك�ان حينه�ا مع�اون رئيس ال�وزراء،��ه ح��ارب الص��هاينة واإلس��رائيليين في واشتهر بأنه خريج جامعات أمريك��ا، وأن لبن��ان لس��نوات، وخ��اض معهم ح��رب العص��ابات. وال��دكتور ش��مران بطبيعت��ه إنسان هادئ قليل الكالم، فعليك أن تطرق بابه وتقترب منه حتى تتع��رف إلى

معنوياته وروحيته، وتعرف ما يجري بداخله، وما ينطوي في مكنونات صدره.

في أول أيام انتصار الثورة، تمادى أعداء الث��ورة واألح��زاب المعارض��ة كث��يرا، فنف��ذوا ج��رائم كث��يرة ك��ترويع المواط��نين، وقت��ل األبري��اء، وإح��داث الخ��راب

والدمار، خاصة في كردستان، حيث كانت أرضا خصبة لفوضى كهذه

Page 116: books.almaaref.orgbooks.almaaref.org/static/documents/zoqaq.doc · Web viewكلّ هذه الذكريات والأصوات، کانت لا تزال تتردّد في زوايا حنجرة

116

منذ سنوات ما قبل الثورة. فقيام الثورة وانع��دام الس��لطة الكامل��ة على ك��ل ربوع الوطن ]خالل فترة تغيير النظام[، أتاحا ألع��داء الث��ورة الفرص��ة الكافي��ة لكي يس��تغلوا المواط��نين والن��اس البس��طاء في كردس��تان أك��بر اس��تغالل، لتحقيق أه��دافهم، وذل��ك باس��تخدام وس��ائل ال��ترهيب، وال��ترغيب باالس��تقالل والحرية، وإعطاء الوعود الكاذبة بت��أمين الخ��دمات والرفاهي��ة. فجيش��وا بعض

الناس، وعاثوا فسادا في المدن والبالد، وساد القتل والسلب والنهب.

��ة في م��دن كردس��تان كل يوم كانت تأتي األخبار السيئة عن األوض��اع المتردي الحدودية، وبما أني كنت أعمل في مبنى رئاسة الوزراء، فأعرف بهذه األخب��ار

واألحداث قبل غيري.

في تلك األثناء كانت قد انتشرت أخب��ار متفرق��ة عن تأس��يس ق��وات الح��رس الثوري، وعن انضمام رجال كبار من قبي��ل محم��د بروج�ردي، أص��غر وص��الي، دوزدوزاني، أبو شريف، جواد منصوري، مرتضى رضائي، إلى هذه القوات، ما أثار الخ��وف والقل��ق ل��دى أع��داء الث��ورة حيث ك��انوا يعت��برون انض��مام ه��ؤالء األشخاص للحرس الثوري خطرا كبيرا عليهم. فأصبح ه��دفهم بالدرج��ة األولى القضاء على الحرس الثوري. فحيثما رأوا رجال مرتديا لباس الح��رس الث��وري،

وأينما ظنوا بأحد ينتمي للحرس الثوري أو على عالقة به، قتلوه على الفور.

م، وقبل أن ننطلق باتجاه كردس��تان،1979في أواخر شهر حزيران من العام ق��ام أع��داء الث��ورة في منطق��ة مري��وان في كردس��تان بنح��ر وتقطي��ع رؤوس خمس��ة وعش��رين عنص��را من الح��رس الث��وري، وس��ط أج��واء من الف��رح واالبتهاج، وأطلقوا عليه اسم احتفال الموت. كما حاصروا معسكر سردش��ت، ثم أغاروا عليه ونهبوا كل ما فيه من أسلحة وذخيرة ومؤونة، واستخدموها في

السيطرة على أغلب المدن والقرى في كردستان، وألحقوا

Page 117: books.almaaref.orgbooks.almaaref.org/static/documents/zoqaq.doc · Web viewكلّ هذه الذكريات والأصوات، کانت لا تزال تتردّد في زوايا حنجرة

117

بقوات الحرس الثوري وقوات الجيش خسائر بالغة في األرواح والعت��اد. ح��تى إنهم لم يرحموا أبناء البلد نفسه، فكانوا إذا ما احتملوا بنسبة واح��د في المئ��ة أن أشخاصا ينوون التعامل مع النظام، ويميلون قلبا إلى الجمهورية اإلسالمية،

حكموا عليهم بالقتل، وكان الموت مصيرهم المحتوم.

��ا ويجعلونه��ا عاص��مة وكانوا قد هددوا بأنهم سوف يحاصرون مدين��ة ب��اوه قريب لهم. بناء على هذه المعطيات، ذهب ال��دكتور ش��مران ال��ذي ك��ان أس��تاذا في ح��رب العص��ابات، أواخ��ر األس��بوع الث��الث من تم��وز برفق��ة ناص��ر ف��رج الل��ه

والسيد رحيم صفوي إلى كردستان.

حينها كان السيد رحيم في عز شبابه، وقد ضيق الخناق على أعداء الثورة في كردستان، وكان قدوة في الشجاعة والرجولة، وال يع�رف الخ��وف طريق�ا إلى قلبه. وكان مقداما، فلم ير يوما يبحث عن مخبأ، ويقف دائما على المرتفعات

ويقاتل ببسالة، لذا كانوا يسمونه "رحيم الجبل".

ولم��ا ك��ان من طبعي أن��ا وقاس��م أن نك��ون دائم��ا في قلب الح��دث، قص��دناكردستان حينها مع ثالثة أو أربعة شباب من زمالئي في مقر رئاسة الوزراء.

وصلنا إلى مدينة بيجار بعد الظهر، كنا جائعين وقد س��معنا الكث��ير عن الكب��ابالبيجاري، توقفنا عند أقرب مطعم كباب، وأكلنا ما لذ وطاب.

كان حديث الناس في تلك األيام وشغلهم الش��اغل: أع��داء الث��ورة وعملي��اتهم اإلرهابية وكمائنهم التي نصبت في كل مكان وزم��ان من اللي��ل والنه��ار، حيث كانوا ينفذون الهجومات المباغتة ويأسرون أي شخص، فإما يقتل بطلق ن��اري على الفور، أو يأخذونه معهم ويصبح في عداد المفق��ودين. م��ع ه��ذه األوض��اع واألح��وال لم يكن من الص��واب أن نبقى على الطري��ق بع��د حل��ول الظالم،

فقضينا الليلة في منطقة ديوان دره، ونمنا في مبنى بلديتها.

Page 118: books.almaaref.orgbooks.almaaref.org/static/documents/zoqaq.doc · Web viewكلّ هذه الذكريات والأصوات، کانت لا تزال تتردّد في زوايا حنجرة

118

في صباح اليوم التالي، رافقنا شاب كردي من أبناء البل��دة، وك��ان من ش��باب " في "ديوان دره" ويعرف كل طرقاته��ا، وتعه��د لن��ا ب��أن يأخ��ذنا إلى1"الكميته

"باوه" من طريق آمن فنصل بسالم وال ينقص منا شيء ولو بقدر شعرة.

طين انطلقنا من "ديوان دره" بسيارتين، وضعنا فيهم��ا خفي��ة رشاش��ين متوس�� (، وثالث ق��ذائف ه��اون، وبض��عة مسدس��ات، وع��دة رشاش��ات من50)كاليبر ، قنابل يدوية.G3طراز

وصلنا إلى مدينة "سنندج" عن��د أذان المغ��رب. رأيت الوض��ع س��يئا ومض��طربا ج��دا، ورائح��ة الح��رب تف��وح في أرج��اء المدين��ة، ص��رنا نس��ير ب��ترقب وح��ذر شديدين، ونحن في كل لحظة نتوقع التعرض لهجوم، وأن يفتح علينا وابل من الرصاص. كان ع�دد من المس�لحين منتش�رين في الش��وارع بأس��لحتهم، وق�د افترشوا األرصفة، وراحوا ي��بيعون األس��لحة والمش��روبات الكحولي��ة، ومجالت وجرائد سياسية أو غير أخالقية وإباحي��ة. أك�ثرهم ك�ان يرت�دي الث��وب الك�ردي

" حول جسده.2المحلي ويلف "شرشور الرصاص

وكان بينهم نساء أيضا، كن يبعن المجالت وينش��رن البيان��ات واإلعالن��ات ال��تي "، والبعض اآلخ��ر ي��روج ل���"تش��ريكهاي3ي��روج بعض��ها ل���"تش��ريكهاي ف��دايي

"، ويحملون على الثورة حملة شعواء بالكالم والشعارات. وبعض4كومله

1 . والسالمة األمن وإرساء الثورة بأعمال عالقة لها بوظيفة الموكلة الهيئة أو اللجنة2 .) الرصاص ) مخزن بالطلقات مليء شريط3 - العام في تأسست الخاصة الفدائية القوات فدايي تشريكهاي تنظيم. 1971 1350منظمة أكبر وشكلت م

. - . هذا قام المسلح بالكفاح ويؤمنون اللينينية، الماركسية اإليديولوجية يتبعون كانوا إيران في مسلح يساري . انقسام حصل الثورة انتصار بعد سنوات سبع لمدة الشاه نظام ضد والقتال المسلحة بالمواجهة التنظيم

من عدة مدن في والفساد الخراب وأحدثوا اإلسالمية الثورة مواجهة على أقدم بعضهم التنظيم، داخلالعام في التنظيم انحل أن إلى . ) 1983 1362كردستان، قاموس. أحزاب فرهنك كتاب من مقتبس وتالشى م

- ص معاصر، نكاه منشورات تشي، شانه مدير محسن المؤلف ، األحزاب (.104معجم4 - في سياسي حزب أول هي جك، كومله أيضا تدعى والتي الكردي الشيوعي الحزب الكوملة جماعة

وتطلعات قومية أسس على العراق في السليمانية مدينة أكراد أسسه والذي بإيران، الكردية المناطق- – . العراق في الكرد الناشطين أبرز من جودت محمود يعتبر المستقلة كردستان دولة لتشكيل انفصالية

. مع المنطقة في السياسية التحوالت بمقتضى الجماعة هذه قامت بعد، ما وفي الحزب لهذا األصلي المؤسسومنذ الديمقراطي، الحزب اسم عليه أطلقوا وحينها الحزب، في واألهداف البرامج بعض بتغيير الزمن، مرور

( . أوضاع كتاب من مقتبس والخارج الداخل في اإلسالمية الثورة ومواجهة معارضة على عمل الوقت ذلك - ص برزويي، مجتبى المؤلف ، كردستان في السياسية األوضاع كردستان (.283سياسي

Page 119: books.almaaref.orgbooks.almaaref.org/static/documents/zoqaq.doc · Web viewكلّ هذه الذكريات والأصوات، کانت لا تزال تتردّد في زوايا حنجرة

119

". لم1المعارضين كان يلوح في الهواء بأعالم رسم عليه��ا ش��عار "المجاه��دين يكن من المقرر أن نمكث في "سنندج"، ل��ذلك مررن��ا من ج��وارهم ببطء ولم

نحدث أي جلبة حتى ال نلفت انتباههم، وخرجنا من المدينة.

لكردستان تضاريس عجيبة وغريبة. حينها كنا في فصل الصيف، وكل الغاب��ات كانت خضراء وجميلة. وعلينا أن نعبر من قلب الجبال ونجتاز الصخور والتالل، فاحتاج المسير لسائق متمرس من أهل المنطق��ة يع��رف طرقاته��ا المتعرج��ة

الكثيرة المنعطفات واالنحناءات الخطيرة.

وصلنا إلى مدينة "ب��اوه" في منتص��ف اللي��ل، ك��ان الص��مت والس��كون يلف��ان أرجاء المدين��ة. فالن��اس إم��ا ني��ام، أو أطف��أوا األن��وار عم��دا، وقع��دوا حبيس��ي

بيوتهم.

"باوه" مدينة صغيرة تقع في قلب الجبال والمرتفعات؛ لكنها

عام 1 من شهريور شهر في أسست اإليرانية خلق مجاهدو في. 1965 1344منظمة كانوا أفراد ثالثة يد على م . العام في الحرية حركة آزادي نهضت جماعة أعضاء في 1975 1354السابق المركزية اللجنة أعلنت م،

. ذلك، بعد ومن الماركسية إلى اإلسالم من المنظمة، إيديولوجية في جذري تغيير عن بيان في المنظمة، . سمي الذي اإلسالمي الشق إسالمي وشق ماركسي شق شقين، في ونشاطها فعالياتها المنظمة تابعتالعبوات وتفجير المفخخات وزرع االغتيال عمليات بتنفيذ وخارجها إيران داخل في عمل المجاهدين، تنظيم

. التنظيم، هذا يوسع أن واستطاع رجوي، مسعود التنظيم هذا قاد والكتب الكتيبات بنشر انشغل كما الناسفة، . أهلية معارك افتعل الثورة انتصار وبعد الوطنية المجاهدين حركة مجاهدين ملي جنبش اسم عليه وأطلق

. إلى اإلرهابية نشاطاته في ا ومستمر قائما التنظيم هذا يزال وال وجريح قتيل بين المئات ضحيتها راح طاحنة.) ( . معاصر نكاه مطبعة تشي، شانه مدير محسن المؤلف أحزاب، فرهنك كتاب من مقتبس هذا يومنا

Page 120: books.almaaref.orgbooks.almaaref.org/static/documents/zoqaq.doc · Web viewكلّ هذه الذكريات والأصوات، کانت لا تزال تتردّد في زوايا حنجرة

120

من الناحية العسكرية واالستراتيجية تعتبر نقط��ة مهم��ة وحساس��ة. وبم��ا أنه��ا محاط��ة بسلس��لة من المرتفع��ات فيس��هل تحص��ينها والحف��اظ عليه��ا، ومن األفضل أن نقول هي مدينة دائري��ة الش��كل تحي��ط به��ا مرتفع��ات، من الجه��ة الغربية تقع على الحدود العراقية، وك��ان ه��ذا العام��ل األهم ال��ذي دف��ع أع�داء الثورة ليسارعوا إلى السيطرة عليها. وهذه الخص��ائص أيض��ا دفعتهم للتفك��ير بجعله��ا عاص��مة لهم; بن��اء لق��ول كب��ارهم وزعم��ائهم "عاص��مة كردس��تان

المستقلة"!

منازلهم مؤلفة من طبقة واحدة، ومصنوعة من اللبن المجفف وأعمدة وألواح خشبية. جلن��ا قليال في األزق��ة، وس��ألنا أح��د الم�ارة عن مح��ل إقام��ة ال��دكتور شمران. فأجابنا بلهجته الكردية العميق��ة: "في ال��دائرة الص��حية أو في مرك��ز

الشرطة".

وجدنا ال�دكتور في النهاي��ة في م��نزل أح��د أبن��اء البل��دة. ك��ان أه��ل كردس��تان يؤيدون الث��ورة، ويس��تقبلون عناص�ر الح��رس الث��وري بك��ل فخ��ر وس��رور في منازلهم. ويضعونها تحت تصرف قوات الحرس. فسميت هذه البيوت فيما بعد

ببيوت الحرس.

استقبلنا ال��دكتور ش��مران ببشاش��ته المعه��ودة وبح��رارة كب��يرة. وكعادت��ه ب��دا ودودا لطيفا قريبا من القلوب. ومع أنه كان يشغل منصبا رفيعا في الحكوم��ة، لم أر فيه شيئا من كبر أو غرور أو استعالء. ال يميز نفسه عنا، بل كان كأحدنا، وتواضعه هذا جعل��ه ينف��ذ إلى قل��بي وقل��وب ك��ل الش��باب، وجعلن��ا نص��بح منمريديه وأتباعه. عندما رآنا، عانقنا فردا فردا وقال: "عشتم...رعاكم الله...".

كان طيب المعشر حسن الخلق ومرحا؛ تماما كما كنا نحب.

Page 121: books.almaaref.orgbooks.almaaref.org/static/documents/zoqaq.doc · Web viewكلّ هذه الذكريات والأصوات، کانت لا تزال تتردّد في زوايا حنجرة

121

عندما جلسنا للنقاش، قال أحد الشباب: "حتى اآلن ال ي��زال الطري��ق إلى هن��ا��ق بع��د؛ لكنهم ق��الوا إنهم خالل أي��ام س��يغلقونه، ويطبق��ون س��الكا، ولم يغل

الحصار على المدينة".

قال آخر: "يقوم أعداء الثورة باإلغارة على قوافل المساعدات الغذائية، ال��تي "، وعلى قوافل العتاد واألسلحة، فيسرقون1ترسلها مؤسسة "جهاد سازندكي

كل شيء، ويقتلون شباب المؤسسة. وعندما هم محافظ المدينة بالخروج مع زوجته وأوالده من المدينة، أوقفوه وضربوه ض��ربا مبرح��ا، ح��تى ش��ارف على

الموت...".

فقال الدكتور شمران: "انظروا ماذا صنع بعض هؤالء األك��راد بالبل��د، والض��رر الذي لحق بسببهم بهذه المدينة. طبعا ال ذنب لهم؛ فهم فق��راء وبس��طاء وق��د غرر بهم. وانجرفوا مع التيار، والفقر والجه��ل وقل��ة الثقاف��ة هي أس��باب تل��ك

المشاكل".

في اليوم التالي، التجأ إلينا قرابة المئة من أبن��اء البل��دة بع��د أن تم تهج��يرهم س��اعة ح��تى ه��دأت األوض��اع قليال وع��اد24من منازلهم؛ لكن لم تكد تمضي

نصفهم إلى منازلهم.

ه���ذا ي���دل على أن الن���اس ت���ائهون، فهم من جه���ة خ���ائفون على أرواحهموأموالهم، ومن جهة أخرى يريدون الثبات والصمود مع الثورة.

في تلك الفترة، ذاع صيت محمد بروجردي وأصغر وصالي في كردستان، فقد قاتال أعداء الثورة بضراوة، وضيقا الخناق عليهم كثيرا. قبل مجيئنا بع��دة أي��ام، كان أصغر وصالي قد وصل إلى مدينة "ب��اوه" م��ع س��تين عنص��را من عناص��ر

الحرس الثوري، واستقروا في مركز الحرس الثوري وسط المدينة.

1 . البناء جهاد مؤسسة

Page 122: books.almaaref.orgbooks.almaaref.org/static/documents/zoqaq.doc · Web viewكلّ هذه الذكريات والأصوات، کانت لا تزال تتردّد في زوايا حنجرة

122

وخالل هذه األي��ام المع��دودة، س��معنا الكث��ير عن بط��والتهم وش��جاعتهم. ك��ان أصغر قائدا لكتيبة من الشباب، كانوا يربطون ح��ول أعن��اقهم منادي��ل حم��راء، وكلهم من خيرة الشباب: شهامتهم وشجاعتهم وقوة قل��وبهم ال توص��ف، وق��د وض��عوا أرواحهم على أكفهم ف��داء لإلم��ام الخمي��ني. وق��د عرف��وا بمجموع��ة

"المناديل الحمر".

كان شعارهم: فلتصبغ ه��ذه المنادي��ل ب��دمائهم، ولن يتوان��وا عن القت��ال ح��تىالشهادة.

وقد عرفت أنه بقي من مجموعة المناديل الحم��ر "أحم��د اس��ليمي"، وال أعلماآلن في أي غربة هو، حتى انقطعت كل أخباره عنا بهذا الشكل.

عنص��را. ك�ان عن��دنا "عي��ون"130مع وجود أصغر وقوات��ه، وص��ل ع�ددنا إلى ينقلون لنا التحركات، وهم الذين أخبرونا بأن أع��داء الث��ورة يحش��دون ق��واتهم تمهيدا لمحاصرة المدينة واإلطباق عليه�ا. في تل�ك اآلون�ة، الح اختالف بس�يط في الرأي بين أصغر والدكتور شمران، لكنهم��ا كان��ا متفقين في اله��دف وه��و اقتالع أع��داء الث��ورة من ج��ذورهم. ك��ان ال��دكتور ش��مران يمي��ل إلى الص��لح والمص��الحة وحلحل��ة األم��ور بالطريق��ة الس��لمية، وي��رغب بالعم��ل الثق��افي��ل من والتعليمي مع العناصر المعارضة أكثر من العمل العسكري، أراد أن يقل عدد الضحايا والقتلى؛ فيما أصغر وصالي لم يؤيد المص��الحة. ك��ان رجال قلي��ل

ا. الصبر، وأراد أن يكسر شوكة أعداء الثورة من خالل هزيمتهم عسكري

في إحدى الجلسات قال الدكتور ش��مران: "أن��ا أري��د أن أع��رف ش��يئا: أع��داء الثورة الذين يتحدثون عن االستقالل والحكم الذاتي صباح مساء، هل يعرف�ون

معنى هذه الكلمة؟ كنت أود لو أن أحد زعمائهم، أو أحد

Page 123: books.almaaref.orgbooks.almaaref.org/static/documents/zoqaq.doc · Web viewكلّ هذه الذكريات والأصوات، کانت لا تزال تتردّد في زوايا حنجرة

123

أفراد نواتهم المركزية، يكون حاضرا هنا ح��تى أس��أله عن تعري��ف كلم��ة حكمذاتي".

��ا، وأس��را في اليوم نفسه نصب "رضا عس�كري" و"مه�دي مق�دم نج�اد" كميناثنين منهم، وجاءا بهما مكبلين إلى الدكتور.

سألهما الدكتور شمران: "لماذا تقاتلوننا؟ نحن ال نريد قت�الكم وال ح�رب بينن��ا،لم نأت إلى هنا لنحتل أو نتملك شيئا".

أجابه المقاتل الكردي: "نحن نريد االستقالل والحكم الذاتي".

"وما تريد به؟" سأله الدكتور. - أريد أن أتمكن من رش أشجاري بمبيد الحشرات وأحصنها من اآلفات. نحن

نريد أن تزدهر الزراعة في مزارعنا.

لوى الدكتور رأسه أسفا، وقال: "كنت أظن أنهم سيقولون مثل هذه األش��ياء.

وهم باألساس ال يعلمون أن الح��رب م��ع الث��ورة ستض��ر بهم بالدرج��ة األولى.إنهم يظلمون أنفسهم ويظلمون عيالهم وأبناءهم".

عندما وصلتنا أنباء من المخبرين بأن المدينة ستحاص��ر في ه��ذه األي��ام، س��اد جو من الترقب والحذر. بأمر من الدكتور مألن��ا م��ا ل��دينا من أكي��اس بالرم��ل، وصنعنا منها سواتر ترابية عند م��داخل أحي��اء المدين��ة. وانتقين��ا بعض المن��ازل واتخذناها مقرات عسكرية؛ طبعا لم ندخلها عنوة، بل بالتوافق والتراض��ي م��ع أصحابها، وتم التنسيق معهم أنه إذا سقط المق��ر وألق��وا القبض على ص��احب

المنزل، عليه أن يدعي أننا أخذنا منزله عنوة.

قدنا أنا والحاج قاسم مجموعتين تتألف كل واحدة من خمس��ة عش��ر عنص��را،وانتشرنا على طرفي شارع "نوسود"، واستقررنا خلف السواتر

Page 124: books.almaaref.orgbooks.almaaref.org/static/documents/zoqaq.doc · Web viewكلّ هذه الذكريات والأصوات، کانت لا تزال تتردّد في زوايا حنجرة

124

الترابية. هنالك تجلت مظاهر التعاون والتضحية واإليثار بين ك��ل الش��باب بمن فيهم عناصر الحرس الثوري من الكرد. كان قاسم طاهري وحسين محم��ودي في عداد مجموعتي، وهما من طهران. فقاسم طاهري من قدامى المناضلين والشجعان في الثورة. وكان قبل الث��ورة من عناص��ر إح��دى وح��دات الح��رس الخاص بالشاه، وتدعى "كاردجاويدان"، لكن هداه الله ووجد طري��ق الص��واب والتح��ق ب��الثورة، وانقلبت عاقب��ة أم��ره خ��يرا. إض��افة إلى الش��باب المحليين تألفت قواتنا في "باوه" من شباب كثر من طهران وهمدان وأص��فهان، لك��ني لم أعد أذكر أسماء الجميع. ومن خيرة الشباب األكراد: غفور وعم��اد، الل��ذان كانا يتسابقان إلى الموت، وقد ب��ذال الكث��ير في خض��م تل��ك المع��ارك. ط��ابت

ذكراهم جميعا.

في تلك الليلة، الزم "هدايت كار" الدكتور ش��مران، ولم ي��ر من��ه غ��ير اله��دوء والطمأنين��ة والس��كينة، كم��ا تعلم من��ه بعض الفن��ون العس��كرية والتكتيك��ات الحربي��ة. على س��بيل المث��ال، ك��ان ال��دكتور يق��ول: "ال تطلق��وا الن��ار م��ا لم

تطمئنوا، تشبثوا جيدا باألرض، ثم أطلقوا النار".

كانت أخالقه وسلوكه سلوك عارف. بالنسبة لنا كان درسا، أكثر وقته صامت، وإن تكلم جملة كان كالمه هاديا وموجها. في تلك األي��ام الص��عبة لم أره يوم��ا

يغضب من أحد، أو يرفع صوته في وجه أحد.

��ا، معتم��را ا مرقط ا وبنط��اال عس�كري في تلك الليلة كان الدكتور يرت��دي قميص�� القبعة الروسية، حامال س��الحه الكالش��ينكوف ال��ذي الزم كتف��ه دائم��ا، ويظه��ر بمظهر الصلب الق��وي، وق��د ش��د على وس��طه حزام��ا مأله بالقناب��ل اليدوي��ة. تجمعنا حول��ه ومنعن��اه من ال��ذهاب، قلن��ا ل��ه: "ي��ا دكت��ور، إن أص��ابتك ش��ظية

صغيرة، قضي أمرك". لكنه لم يصغ إلينا.

Page 125: books.almaaref.orgbooks.almaaref.org/static/documents/zoqaq.doc · Web viewكلّ هذه الذكريات والأصوات، کانت لا تزال تتردّد في زوايا حنجرة

125

وقفت مذهوال؛ كيف يستطيع أن يحافظ على سكينته ورباطة جأشه وسط كل هذا الخوف والترقب الذي نعيشه. كان الموت بانتظارنا، والبس��مة تعل��و وج��ه

الدكتور من حين آلخر.

أنا الذي كنت أدعي الحذاقة والش��جاعة، غ��دوت قلق��ا مض��طرب الف��ؤاد، ولم أكن أعلم ما الذي سيجري علينا، فأعداء الثورة يفوقوننا ع��دة وعت��ادا. وح��تى ذلك الوقت لما يصلنا أي مدد من المدن األخرى أو من الجيش. وك��أن ال أح��د في ه��ذه ال��دنيا يعلم بوجودن��ا، أو يع��رف أنن��ا نقات��ل أع��داء الث��ورة، ونحن محاصرون في هذا المك��ان. ص��حيح أنن��ا جئن��ا إلى هن��ا بملء إرادتن��ا، لكن من المف��ترض أن تص��ل بعض ق��وات ال��دعم ح��تى نتمكن من التغلب على أع��داء الثورة. كذلك سكان مدينة باوه المساكين عانوا كثيرا، وقاس��وا الخ��وف ال��ذي أصابنا. لزموا منازلهم وأغلقوا األبواب والنواف��ذ بإحك��ام، ولم نع��د نس��مع لهم

صوتا!

ارتديت في تلك الليلة قميصا وبنط��اال ت��رابي الل��ون، ثم ربطت الح��زام ح��ول قميص��ي بش��كل محكم، وعلقت علي��ه ثالث أو أرب��ع قناب��ل يدوي��ة، كم��ا جئت بأربعة مخازن للكالشينكوف، وبواسطة ش��ريط الص��ق ألص��قت ك��ل مخ��زنينا على عقب، ح��تى ال أبقى من دون ذخ��يرة في خض��م ببعض��هما البعض رأس��

المعركة واالشتباكات، ولم أكن أضع خوذة على رأسي.

عند غروب أحد األيام، أطبق أعداء الثورة الحصار على المدين�ة كله�ا من دون أن يطلقوا رصاصة واحدة، حيث استقروا في النواحي والمرتفعات المحيط��ة، وبعدة آالف من عناصرهم طوقوا المدينة بالكام��ل. وم��ع حل�ول وقت العش�ي سمعنا أصوات إطالق نار متفرقة تأتي من ناحية مركز الشرطة، وكانت إيذانا ببدء المعارك، وأن االشتباكات ب��دأت من هن��اك. يق��ع مرك��ز الش��رطة مقاب��ل

شارع نوسود، لذلك كانت األصوات قريبة منا. ما إن نهضنا

Page 126: books.almaaref.orgbooks.almaaref.org/static/documents/zoqaq.doc · Web viewكلّ هذه الذكريات والأصوات، کانت لا تزال تتردّد في زوايا حنجرة

126

��ة علين��ا. ك�ان وحملنا أسلحتنا حتى انهمر وابل رص�اص من المرتفع�ات المطلمشهدا مرعبا كما يحصل في أفالم الهنود الحمر.

رددنا على النار بالنار، لكننا لم نستطع تحديد أم��اكنهم في المرتفع��ات بدق��ة، غاية ما كنا نراه جبال وصخور، يصدر من بينها بريق شرر بنادقهم وهي تطل��ق

النار، فنحاول أن نصيبه.

نطقت بالشهادتين وسلمت أم��ري إلى الل��ه. س��قطت حولن��ا بعض ق��ذائف اآل��ر الص��وت من ناحي��ة ربي جي والهاون. سمعنا بعدها أح��دهم ين��ادي ع��بر مكب مركز الشرطة: "الي��وم س��يعلم من هم الخون��ة، أيه��ا الن��اس، أيه��ا المق��اتلون المحليون، اتركوا الحرس الث��وري ولن يص��يبكم مك��روه. أع��داؤنا هم ش��مران

وأصغر وصالي وعناصر الحرس، نحن نريد رؤوس هؤالء فقط.

بعد هذه التهدي��دات، ق��ل إطالق الن��ار من قبلهم، ف��الظالم لم يس��مح بالتح��ام المقاتلين، وهدأت األوضاع قليال. تفقدت مجموعتي، ولم يكن بينن��ا أي ج��ريح، لكن مع سماع هذه التهديدات التي كن��ا على يقين أنه��ا ليس��ت مج��رد مزح��ة، اقشعرت أبداننا. وهم أرادوا ب��ذلك أن يزرع��وا الخ��وف في نفوس��نا ويجبرون��ا

على االستسالم.

بقي صوت الرصاص المتفرق يسمع من ع��دة مح��اور في ك��ل أنح��اء المدين��ةحتى السحر.

ت��ركت الش��باب في المت��اريس، وذهبت أبحث عن الح��اج قاس��م، أردت أن أطمئن لحاله، فوجدته خلف أحد المنحدرات غارقا في الس��جود. وقفت أنظ��ر إليه متحيرا لعظمة روحه؛ فوس��ط ه��ذه المعمع��ة، وفيم��ا نص��ارع بين الم��وت والحياة، كان هو يصلي صالة الليل بخشوع. وبينما كنت واقفا أنظر إلى الحاج

وهو يصلي وأنتظر فراغه من الصالة، عاد مكبر الصوت

Page 127: books.almaaref.orgbooks.almaaref.org/static/documents/zoqaq.doc · Web viewكلّ هذه الذكريات والأصوات، کانت لا تزال تتردّد في زوايا حنجرة

127

من جديد يبث التهديدات: "نحن نريد رأس شمران فقط، سلمونا رأس شمران وينتهي ك��ل ش��يء. ك��ل

من يتعاون مع شمران سوف يعدم غدا وسط هذه الساحة شنقا...".

كان صوته يبعث الخوف في القلوب، وبال وعي رحت أردد اآلي��ة الكريم��ة: "أال بذكر الله تطمئن القلوب". وطلبت من الله أن يقويني ويثبت قلبي، وإن ك��ان أجلي محتوما على يد هؤالء ال���"كومل��ه" األن��ذال، فليجع��ل الل��ه م��وتي بع��زة، وعلى أرض المعركة وأنا مرفوع الرأس. وي��ا له��ا من ليل��ة ك��انت؛ ليل��ة ب��ألف

ليلة، وكأن الصباح لم يعد يريد أن يحل علينا.

وجب علي أن أواجه الهلع وأقتل الخ��وف في قل��بي ح��تى أتمكن من الص��مود والثبات. وصرت في ك�ل لحظ�ة أنتظ�ر هج��ومهم علين��ا بالس��كاكين، وقطعهم لرأسي، أو أن يطلقوا علي الرصاص وينتهي أم��ري بلمح البص��ر، األم��ر ال��ذي فعلوه مرارا مع رفاقنا. هذا ما كنت أتص��وره عن أع��داء الث��ورة، ولم أكن ق��د رأيت منهم غير ذلك. ك��انوا يقتل��ون بك��ل وحش��ية وليس في قل��وبهم ذرة من

الرحمة والمروءة.

بينما كان الحاج قاس�م يص�لي ص�الة اللي�ل، ح�ل الفج�ر وس��معنا ص�وت أذان الصبح من بيتين أو ثالثة. بعد التهديدات المتكررة ال��تي أطلقه��ا أع��داء الث��ورة لم يعد أحد يجرؤ على الخ��روج من منزل��ه، فض��ال عن االق��تراب من��ا، وتق��ديم

الماء والطعام لنا.

عندما أنهى قاسم صالته، مسح بيده على وجهه وقال لي: "لم تنس ذكر الله، أليس كذلك يا سيد؟ هن��ا في ه��ذه الظ��روف ال ينف��ع الم��رء س��وى ذك��ره لل��ه وصالته، فإذا دخ��ل الخ��وف واالض��طراب قلب��ك ق��ل "ي��ا حي ي��ا قي��وم" اثن��تي

عشرة مرة، فتهدأ وتدخل السكينة قلبك".

Page 128: books.almaaref.orgbooks.almaaref.org/static/documents/zoqaq.doc · Web viewكلّ هذه الذكريات والأصوات، کانت لا تزال تتردّد في زوايا حنجرة

128

��رت في نفس��ي: لم��اذا يكتفي قاس��م به��ذه حينها وأنا في ريعان الش��باب، فك األذكار ويطمئن قلبه بها؟ فيما أنا أبحث عن السالح والرصاص والعتاد ألتمكن من الوقوف في وجه األعداء، حينها لم أكن مقتنعا تماما بأن اإليمان والعقيدة

أقوى من السالح.

مع إشراقة الشمس توجهت والحاج قاسم إلى مركز الش��رطة، وعلى مقرب��ة منه، رأينا جثث العديد من شباب الحرس الثوري والكرد المحليين ملق�اة على

األرض، ولم يستطع أحد االقتراب منها وسحبها.

كان شمران داخل مركز الشرطة، وقد أصيبت يده برصاصة ولفه��ا بض��مادات وأهملها، وأكمل عمله كأن شيئا لم يكن، وبمج��رد أن رآن��ا ق��ال لن��ا: "اص��عدوا على ذل��ك المرتف��ع، وافتعل��وا اش��تباكا معهم، وأش��غلوهم قليال ح��تى تتمكن الطائرة المروحية من الهبوط، إنها على وشك الوصول، وهي تحمل لنا العت��اد

والذخيرة والطعام والماء".

فعلنا كما أمرنا الدكتور، وصعدنا على مرتفع كالت��ل مط��ل على المدين��ة، لكن مهما أطلقنا النار على أعداء الث��ورة لم نل��ق ردا منهم، وبق��وا متمرك��زين في��ا، واللي��ل بح��د أماكنهم كأنهم ينتظرون حلول الليل حتى يتق��دموا وينتقم��وا من

ذاته مرعب، ويمكنهم خالله القيام بالهجومات براحة وحرية أكبر.

عند الساعة الحادية عشرة صباحا وصلت الطائرة المروحية، ونزل منها اللواء فالحي قائد القوات البري��ة م��ع بعض عناص��ر الجيش، وأفرغ��وا منه��ا ص��ناديق تحوي م��واد غذائي��ة وذخ��يرة. تق��دم إليهم أح��د ش��باب الح��رس وس��لم الل��واء مكتوبا من طرف الدكتور شمران، فتح اللواء الورقة وق��رأ م��ا ب��داخلها وركب

المروحية وذهب.

حوالي الساعة الثالثة بعد الظهر جاءت مروحيتان. وبعد أن حلقتا

Page 129: books.almaaref.orgbooks.almaaref.org/static/documents/zoqaq.doc · Web viewكلّ هذه الذكريات والأصوات، کانت لا تزال تتردّد في زوايا حنجرة

129

حول المدينة حطتا خلف المشفى، هذه الم��رة ج��اءت بق��وات دعم، ف��أفرغت كل منهما حمولتها وأقلعت، وأثناء ذلك رأيت النار تنبعث من إحداهما، رأيناه��ا من بعي��د وهي تش��تعل، والطي��ار يق��ذف بنفس��ه خارجه��ا، لكن لم أع��رفا، حيث س��معته مصيره؟! حينها راح الدكتور يوجه أصغر وصالي وجماعته أيض�� يقول له: "أنتم أيضا من األفضل أن تصعدوا المرتفعات المطلة على المدين��ة، وتس���تقروا هن���اك وتخ���ترقوهم من الخاص���رة". س���قط يوم���ذاك في تل���ك

االشتباكات من مجموعة أصغر وصالي بعض الشباب بين شهيد وجريح.

ا من بينما كان الدكتور يتباحث مع أصغر وصالي جاء أح��دهم وأخبرن��ا أن بعض�� أعداء الثورة اق��تربوا كث��يرا من بواب��ة مرك��ز الش��رطة، وهم يحمل��ون منادي��ل بيضاء ويلوحون بها وكأنهم يريدون االستسالم، وتوقفوا هناك بانتظار الرد منا. فتوج��ه ش��مران إلى "آيت ش��عباني" مس��ؤول البلدي��ة ال��ذي ك��ان بح��ق رجال شجاعا، والئقا بتحمل المسؤولية، وسطر البطوالت في تلك االش��تباكات ق��ائال له: "ال تنخدعوا، هذا فخ، فال هؤالء الجماعة أه��ل لالستس��الم، وال ه��ذا ال��وقت

وقت استسالم".

وقبل أن يتحرك شعباني ويتخذ الق��رار، ك��انت قوات��ه ق��د ذهبت باتج��اه أع��داءا منهم أنهم س��يوفقون ألس��ر العدي��د منهم، لكن م��ع اق��ترابهم من الث��ورة ظن أعداء الثورة سقطت المناديل البيض أرضا وارتفعت البنادق وبدأ إطالق النار، وعلى الفور استشهد عدد من خيرة شباب مركز الشرطة. لكن بالتع��اون بين آيت شعباني والمالزم يوسفي، وبمشقة كبيرة استطاعوا أن يعيدوا الس��يطرة

على أطراف مبنى البلدية ويستعيدوا النقاط التي خسروها.

في تلك األيام، انقطعت المياه والكهرباء وخطوط الهاتف، ولم يكن لدينا

Page 130: books.almaaref.orgbooks.almaaref.org/static/documents/zoqaq.doc · Web viewكلّ هذه الذكريات والأصوات، کانت لا تزال تتردّد في زوايا حنجرة

130

أي وسيلة لالستعالم عن أحوال وأوضاع باقي أرجاء المدينة، كنا نتلقى األخبارا من شخص آلخر. واألوامر عن طريق المخبرين أو بالتناقل شفهي

شيئا فشيئا شارفت مؤننا الغذائية والمياه على النفاد، فاضطررنا إلى تقس��يم الماء واالكتفاء عند العطش بترطيب شفاهنا بخرقة مبللة، وكنا نقض��ي أيامن��ا

وليالينا في قلق وتوتر. وكان عون الباري عز وجل أملنا الوحيد.

أظنها كانت الليلة الثالثة من الحصار حين خرجت مع اثنين أو ثالثة من ش��باب مجموعتي من متاريس�نا، وذهبن��ا إلى بيت الح��رس لن�تزود بال�ذخيرة الالزم�ة، وهناك وجدت الدكتور شمران، أحمد اسليمي، رضا مقدم، حاج قاسم وأص��غر وصالي، في جلسة مناقشة وتشاور. هذا يقول علينا أن نكمل المعرك��ة، وذاك يقول إنه يفضل الصلح والتفاوض معهم. في منتصف الجلسة جاء خبر مف��اده أن أعداء الثورة هاجموا مشفى المدينة. أس��رعنا جميع��ا بص��حبة ال��دكتور إلى��ه م��دمر بفع��ل هناك، ورأينا المش��فى لم يب��ق في��ه ب��اب وال حائ��ط س��ليم؛ كل

"، وك��ان ه��ذا المش��فى الوحي��د في مدين��ة "ب��اوه"، وأش��بهB7ق��ذائف ال�" بالمستوصف من��ه بالمش��فى، حيث لم يكن في��ه س��وى بض��عة أس��رة وط��اقم

صغير من الممرضين يرافقهم طبيب واحد.

المشهد يدمي القلوب حقيقة، ك��انوا ق��د أخرج��وا المرض��ى من أس��رتهم ومن مبنى المشفى إلى باحته، وقاموا بتقطيعهم ونحر رؤوسهم. داخل المبنى رأينا العديد من الجرحى المضرجين بالدماء وأنينهم وعويلهم يمأل المكان. ك��ان من بينهم امرأة شابة بدت كأنها ممرضة ملقاة على األرض فاق��دة لل��وعي، لعله��ا أصيبت برصاصة في خاصرتها، وكانت تنزف بشدة. وأح��د الجن��ود على األرض��ا مدمى يئن ويطلب المساعدة بلهجته األصفهانية. كان مش��هدا مروع��ا ومرعب ك��أن القيام��ة ق��امت، والن��اس والم��دنيون الع��وام المس��اكين ال��ذين ج��اؤوا

واحتشدوا ليروا ما جرى في المشفى، كل منهم وقف مبهوتا

Page 131: books.almaaref.orgbooks.almaaref.org/static/documents/zoqaq.doc · Web viewكلّ هذه الذكريات والأصوات، کانت لا تزال تتردّد في زوايا حنجرة

131

صامتا لهول المنظر. ضمد الشباب جراح الم��رأة والجن��دي األص��فهاني وبقي��ة الجرحى، وحملوهم إلى باح��ة المش��فى وم��ددوهم على األرض. ج��اء ال��دكتور شمران والحزن واألسى بادي��ان علي��ه، وق��ف عن��د الج��رحى وق��ال: "يجب أن نخرج هؤالء الجرحى من المدينة بأي طريقة، وادفن��وا الجثث بس��رعة ح��تى ال

يرى الشباب األجساد بال رؤوس فيؤثر ذلك على نفوسهم وعزائمهم".

لكننا لم نتمكن من تنفيذ أوامر الدكتور شمران في ذلك الحين، فالوض��ع ك��انسيئا جدا واستمرت االشتباكات، ولم تتح لنا الفرصة لتنفيذ المهمة.

بعد الظهر، جاءت مروحية الجيش وحطت في المدينة، لكنها فارغة تماما من أي قوات مساندة! ال أعلم لماذا أتت! كان بإمكانه��ا أن تحم��ل م��ا ال يق��ل عن

أربعين عنصرا من قوات الدعم.

نزل الطيار الطويل القامة منه�ا، وق�ام بمس�اعدة الن��اس في حم�ل الج��رحى والمصابين وتمديدهم في الطائرة، بينما قامت اثنتان من النساء الكرد بحم��ل السيدة المصابة إلى المروحي��ة. ولش��دة م��ا أص��اب الن��اس من خ��وف وي��أس ركض العدي��د منهم نح��و الط��ائرة عن��دما همت ب��اإلقالع وتمس��كوا بأطرافه��ا ليلوذوا بالفرار، وبعضهم اآلخر راح يترجى ال��دكتور ق��ائال: "اس��مح لن��ا بص��عود المروحية، وإال سوف تقضي علينا جماع��ات الكومل��ة ه��ذه الليل��ة"، بينم��ا راح بعضهم يكيلون السباب للدكتور، ويشتمونه وهم يبكون ويصرخون، المس��اكين لم يكون��وا في وض��ع نفس��ي وعص��بي س��وي، فق��ام عناص��ر الح��رس الث��وري بتفريقهم وإبعادهم عن المروحية ح��تى تتمكن من اإلقالع، ونحن المدهوش��ون��ا. م��ا إن ارتفعت الط��ائرة عن األرض ح��تى ب��دأ إطالق مم��ا ن��راه وقفن��ا جانب الرصاص عليها، وأصيبت في ع��دة مواض��ع وثقبت وأص��يب زجاجه��ا، لكنه��ا لم تسقط. تموضعت ثم انطلقت مجددا، وم��ا إن ارتفعت ع��دة أمت��ار عن األرض

حتى علقت إحدى شفرات مروحتها بصخرة

Page 132: books.almaaref.orgbooks.almaaref.org/static/documents/zoqaq.doc · Web viewكلّ هذه الذكريات والأصوات، کانت لا تزال تتردّد في زوايا حنجرة

132

ف��انحرفت وفق��دت توازنه��ا، وك��أن الطي��ار ق��د أص��يب برصاص��ة فلم يس��تطع التحكم بها وبسرعة. مالت الطائرة باتجاه الجب��ل وانكس��رت إح��دى مراوحه��ا ووقعت على أحد شباب الحرس األكراد وقطعت رأسه بلمح البصر. وبعد عدة دقائق حطت على تلة، ومن جديد حاولت اإلقالع، وهكذا بينم��ا ك��انت تتع��رض إلطالق نار كثيف اس��تدارت إلى اليمين وارتطمت في س��فح الجب��ل على بع��د

مئة متر من المشفى ثم سقطت على األرض محدثة صوتا وضجة كبيرة.

وعلى الف��ور ركض��نا باتجاهه��ا وم��ا إن وص��لنا وج��دنا الطي��ار ومس��اعده وك��ل الجرحى ق��د استش��هدوا داخله��ا. ك��انت جث��ة الفت��اة معلق��ة من وس��طها على شباك الطائرة. يداها تتأرجحان في الهواء، وشعرها المرخى الطوي��ل األش��قر يطير يمينا ويس��ارا م��ع الري��اح. س��حبنا األجس��اد من المروحي��ة وحملناه��ا إلى مقربة مئتي متر من الدائرة الصحية، وبمساعدة أه��الي مدين��ة "ب��اوه" حفرن��ا لهم قب��ورا ودفن��اهم فيه��ا من دون غس��ل أو كفن. وق��ام أح��د عناص��ر قي��ادة الشرطة بحفر أسمائهم ومشخص��اتهم على القب�ور ح�تى ال يص�بحوا مجه�ولي

الهوية.

كانت المص��يبة تل��و المص��يبة تق��ع على رؤوس أه��الي "ب��اوه" المس��اكين. في المساء بينما كنا عائدين مع الشباب إلى مواقعنا ومتاريسنا في شارع نوس��ود وج��دنا بض��عة أجس��اد ألش��خاص باللب��اس الك��ردي، ولم أع��رف إن ك��انوا من عناصرنا أو من أعداء الثورة، لكن من الواضح أنهم ض��غطوا كث��يرا ليس��يطروا على المدينة بشكل كامل. أيا يكن ففي تلك األثن��اء واألوض��اع الص��عبة وج��دنا

" والس��الح الموج��ود بج��انبهم غنيم��ة جي��دة. قب��ل أن نص��ل إلىB7قذيف��ة ال�"ا وق��ال: "ارجع��وا، الح��اج أص��غر مواقعنا جاء أح��د الش��باب الك��رد إلين��ا راكض��

يريدكم، وهو ينتظركم في بيت الحرس".

Page 133: books.almaaref.orgbooks.almaaref.org/static/documents/zoqaq.doc · Web viewكلّ هذه الذكريات والأصوات، کانت لا تزال تتردّد في زوايا حنجرة

133

عدنا أدراجنا إلى هناك لمقابلة الحاج أصغر، حيث قال لن��ا: "س��يهاجموننا عن��د شروق الشمس، وهذا الهجوم سيكون األقوى، فعلينا أن نأخذ زم��ام المب��ادرة ونستفيد من عنصر المفاجأة ونهاجمهم قب��ل أن يهاجمون��ا، ونأخ��ذ منهم بعض المواقع، تقدموا وسيطروا على المرتفعات، تقدموا وخ��ذوا م��وطئ ق��دم لكم

وأي خطوة تقدم ستكون مكسبا لنا".

صلينا الصبح ثم تح��ركت جمي�ع المجموع�ات من أنح�اء ع�دة في المدين��ة إلى خارجها وهي تطلق الن��ار، وبينم��ا ك��انت ت��تردد أص��وات االش��تباكات وعب��ارات "قف"، أصيب أحد ش��بابنا وس��قط على األرض، س��حبناه بص��عوبة لنعي��ده إلى المتاريس، لكنه فارق الحياة في منتصف الطريق ونال شرف الشهادة. كانتا، وجعلن��اهم خطة الحاج أصغر جيدة ومفيدة حيث إننا لقنا أعداء الث��ورة درس�� يظنون أن أع��دادنا كب��يرة، ولس��نا مجموع��ة أف��راد، وبه��ذا الهج��وم أوجعن��اهم

وسلبناهم األمن والطمأنينة.

لكن في اليوم الت��الي، س��اء وض��عنا كث��يرا وواجهن��ا مش��كلة النقص الح��اد في الذخيرة، وبقينا نطلق الرصاص بشكل متفرق وعند الحاجة فقط، ونال الجوع

والعطش منا، وضغط كثيرا على قوتنا.

��ا، عند الظهيرة ذهبت إلى الحاج قاسم، ورأيته جالسا عند الحائط منكسرا تعبيردد األذكار ويناجي ربه.

��رني وأذهل��ني، ح��تى النس��اء من أع��داء نظر إلي وقال: "رأيت اليوم ش��يئا حيالثورة رأيتهن يحملن السالح، ويطلقن النار! انظر كيف يعاملوننا".

- نعم، شاهدت بعضهن يرتدين اللباس المحلي!- بالله عليك هل هؤالء إيرانيات؟

- إنه ألمر سيئ أن يشرب اإلنسان من دم ابن بلده.

Page 134: books.almaaref.orgbooks.almaaref.org/static/documents/zoqaq.doc · Web viewكلّ هذه الذكريات والأصوات، کانت لا تزال تتردّد في زوايا حنجرة

134

كان كالنا متعبا ومعف��را ب��التراب، وأملن��ا الوحي��د لط��ف الب��اري تع��الى. وبقي��ة��ا. بقيت عن��د الح��اج قاس��م الشباب كذلك، لم يكن وضعهم وحالهم أحس��ن من حتى الليل لقد س��ددنا ض��ربة قاس��ية ألع��داء الث��ورة من خالل أس��لوب ح��رب العصابات، وكنا نفكر ونتساءل على الدوام: لماذا ال يرسل الجيش قوات دعم

ومساندة لينقذنا، وكأن بلدنا هذا ليس فيه جيش؟!

كنا نتأرجح بين اليأس والخوف من جهة، واألمل بالله من جهة أخرى.

فال عديدنا وعتادنا كان كافيا للبق��اء والص��مود والمقاوم��ة، وال مبادئن��ا وحميتن��ا تس��مح لن��ا بالتق��اعس والمغ��ادرة. وهك��ذا، إلى أن ح��ل ص��باح الي��وم الس��ابع والعشرين، ومن لطف الباري ومنه علينا سمعنا صوت الطائرات تخرق ج��دار الصوت، فاندفعنا نحو النوافذ وإذا ب��أربع ط��ائرات حربي��ة من ط��راز "ف��انتوم" تحلق في س��ماء مدين��ة "ب��اوه" وتس��تدير في الج��و، ترتف��ع في الس��ماء ت��ارة

وتنخفض أخرى وتخرق جدار الصوت مجددا.

وفي الوقت ذاته ضجت حارات "باوه" وأحياؤها وشوارعها بأصوات التكبير.

وانتشر خبر بين الناس مفاده أن اإلمام أنذر وأرسل بالغا: إذا لم تح��ل قض��يةا إلى هناك. باوه خالل أربع وعشرين ساعة، فإنه سيأتي شخصي

اغرورقت عيناي بالدموع من شدة الفرح، وقلت في ذهني: أخيرا والحمد لل��ها في فكر أحدهم بهؤالء المظلومين والمنكوبين. ومن شدة فرحي ن�زلت أرض�

مكاني وسجدت لله شكرا.

مالت إح��دى الط��ائرات للم��رة الثالث��ة وأطلقت ص��اروخا في قلب الجب��ل، لمتمض نصف ساعة حتى الذوا جميعا بالفرار واختفوا في الوديان والمنحدرات.

قال الحاج أصغر: "أنذروا الناس بأن ال يخرج أحد منهم من بيته في

Page 135: books.almaaref.orgbooks.almaaref.org/static/documents/zoqaq.doc · Web viewكلّ هذه الذكريات والأصوات، کانت لا تزال تتردّد في زوايا حنجرة

135

هذه الفترة؛ فالطائرات ستعود بعد نصف ساعة وتقصف مرة أخرى".

طبعا لم يكن لهذا الكالم أس��اس من الص��حة، إنم��ا هي خدع��ة أطلقه��ا الح��اجأصغر إلخافة الخصم، ودب الرعب في قلوب أعداء الثورة.

في حدود السادسة عصرا تجددت االشتباكات ق��رب المش��فى، وأص��يب ع��دد من ش��بابنا، عن��دها عرفن��ا أن أع��داءنا م��ا زال��وا مص��رين على القت��ال، ولن

يستسلموا بهذه السهولة.

منا الق��وات الجدي��دة ال��تي وحيث كنا ع��المين بخفاي��ا وتفاص��يل المدين��ة، قس�� وصلتنا، وعرفناهم إلى النقاط الحساسة والمهم��ة واالس��تراتيجية في المدين��ة

والمناطق اآلمنة فيها.

عند الغروب طهرت طريق "سنندج" وفتحت بالكامل، فدخلتها قوات المش��اة التابعة للحرس الثوري والجيش من مدخلها األساس، وبدأت عمليات التطه��ير

من بيت إلى بيت.

في آخ��ر اللي��ل، ق��ام ال��دكتور ش��مران بجم��ع من تبقى من الق��وات الخاص��ة والمحلي��ة وخطب ق��ائال: "إذا بقين��ا ننتظ��ر الجيش، ف��إن فل��ول أع��داء الث��ورة��ا، اآلن "ب��اوه" ق��د ح��ررت، لكن من دون أدنى ش��ك س��يذهبون س��يفرون من

باتجاه مدينة نوسود".

عند سحر اليوم الثامن والعشرين، أي اليوم الرابع من االشتباكات، حملن��ا م��ا��ة أقلتن��ا إلى مدين��ة "نوس��ود". تبقى من أسلحة وذخيرة وعت��اد وركبن��ا مروحي كانت الطريق إليها طويل��ة، وكث��يرة المنعطف��ات، ومليئ��ة بالكم��ائن، فلم يكن

بإمكاننا التقدم بالسيارات.

��ا هادئ��ة، توزعن��ا في األزق��ة، عندما وصلنا إلى "نوسود"، ك��انت المدين��ة تقريبوبدأنا بتفتيش المنازل وتطهيرها واحدا تلو اآلخر.

Page 136: books.almaaref.orgbooks.almaaref.org/static/documents/zoqaq.doc · Web viewكلّ هذه الذكريات والأصوات، کانت لا تزال تتردّد في زوايا حنجرة

136

فرح الناس لرؤيتنا، وأصبحوا بين م��ردد )الل��ه أك��بر(، ومص��فق ابتهاج��ا، وب��اكفرحا.

استقبلنا الناس في ذلك الصباح الباكر بحفاوة، فكل سكان المدينة كانوا معن��اومؤيدين لنا، وهذا نصف النصر.

ب��الطبع، تعرض��نا إلطالق ن��ار من داخ��ل بعض البيوت��ات، ورميت علين��ا بعض القنابل. البعض قاتل بض��راوة وشراس��ة، ولم يستس��لم ح��تى نف��دت ذخيرت��ه، والبعض اآلخر ظل يقات��ل ويقات��ل ح��تى قت��ل؛ هك��ذا ك��ان ح��ال أع��داء الث��ورة

وطريقتهم في القتال.

وبعد أن وضعت الحرب أوزارها في منتصف النهار، جاء من كل عش��يرة ع��دةأشخاص ليتعرفوا إلى جثث أبناء عشيرتهم ليأخذوها معهم.

في اليوم الثاني لوجودنا في "نوس��ود"، افترقن��ا عن ال��دكتور ش��مران، وذهب الحاج قاسم وبعض الشباب بسيارة مدنية إلى مدينة "كرمنشاه"، حيث عزمنا على االلتحاق بالقافلة العس�كرية ال�تي سيرس��لها الجيش إلى م�دينتي "بان�ه" و"سردشت"، وهذا ما حصل. ق�ارب ع�ددنا العش�رين نف�را، فانطلقن�ا بش�كل مستقل إلى "سردشت". قبل ذهابنا تم تحذيرنا ب��أن المدين��ة ش��به محاص��رة،

ذلك أن لها طريقا ومدخال واحدا، أشرف عليه أعداء الثورة.

كنا في أواخر الصيف والطقس مائل إلى البرودة. وص��لنا منتص��ف اللي��ل إلى مدخل مدينة "سردشت"، وهدفنا الوص��ول إلى ثكن��ة أبي ذر العس��كرية، ألنن��ا سمعنا أن ال�دكتور ش��مران وبقي��ة الرف�اق يقيم��ون هن��اك. لكن الثكن��ة ك�انت محاصرة بشكل كام��ل، والوص��ول إليه��ا بالس��يارات ب��دا أم��را مس��تحيال، وق��د توجب علينا الذهاب؛ إما بالطائرات المروحية وإما س��يرا على األق��دام، ل��ذلك

أوقفنا سياراتنا وأخفيناها على بعد كيلومترين تقريبا من الثكنة

Page 137: books.almaaref.orgbooks.almaaref.org/static/documents/zoqaq.doc · Web viewكلّ هذه الذكريات والأصوات، کانت لا تزال تتردّد في زوايا حنجرة

137

وسرنا بهدوء تام، وبأسلحة ملقمة ومعدة لإلطالق.

مترا من الثكن��ة،150ومع علمنا بأن أعداء الثورة قد نصبوا الكمائن على بعد تقدمنا متكلين على الله، وتابعنا المسير إلى أن وصلنا إلى خلف مبنى الن��ادي الرياضي القريب من الثكنة وتحصنا هناك، وبعد ساعة وصلت طائرة مروحي��ة

حطت خلف المبنى ونقلتنا إلى الثكنة.

وصلنا عند الساعة الواح��دة بع��د منتص��ف اللي��ل، فاس��تقبلنا ال��دكتور ش��مرانبلباسه العسكري المرقط من دون سالح، رأيناه كعادته مثل الطود الراسخ.

دخلن��ا مع��ا إلى المب��نى، فرأين��ا ع��ددا من الش��باب، وق��د خلع��وا قمص��انهم العس��كرية، جالس��ين لالس��تراحة. أراد ش��مران كس��ر الحص��ار بأس��رع وقت

ممكن، وما انفك يبحث عن طريق لذلك.

وبسبب عالقة ال��دكتور ش��مران بالح��اج قاس��م الحميم��ة، ك��ان يتح��دث مع��ه، ويستمع لوجهة نظره وأفكاره، وحيث كنت األصغر بينهما كنت أسمع حوارهما

وأوامرهما وأنفذ ما يطلبانه.

بينما انشغل شمران بالحديث وتب��ادل اآلراء ح��ول م��ا ينبغي أن نفعل��ه وم��ا الينبغي، هز المبنى صوت انفجارات مهولة.

ا واض��عين أيادين��ا ف��وق رؤوس��نا والص��قت وجوهن��ا على الف��ور انبطحن��ا أرض�� " وانهمرت زخات الرصاص ك��المطر علىB7األرض، وتوالت علينا قذائف ال�"

ن. تحطم زج��اج النواف��ذ، وتن��اثر على ��ا نتحص�� أبواب المبنى وجدرانه، حيث كناألرض.

زحف الدكتور شمران نحو س��الحه، التقط��ه وت��ابع زحف��ا نح��و م��دخل المب��نىونحن تبعناه زحفا، فلو نهض أحد منا لطار رأسه من فوره، وقد

Page 138: books.almaaref.orgbooks.almaaref.org/static/documents/zoqaq.doc · Web viewكلّ هذه الذكريات والأصوات، کانت لا تزال تتردّد في زوايا حنجرة

138

تبعنا بقية الجنود واحتمى ك��ل منهم في زاوي��ة، في اللحظ��ات األولى، أص��يبا، ومن غ��زارة الن��يران لم نج��د فرص��ة اثنان أو ثالثة بالرصاص وطرح��وا أرض��

لتلقيم السالح.

قال الدكتور: "لن يتوقفوا ولن يدعونا، علين�ا أن نخ��رج من ه�ذا المب�نى مهم�ا كلف األم��ر، وأن نح��ول المعرك��ة إلى الخ��ارج، وإال اس��تمروا في إطالق الن��ار حتى الصباح، وربما فجروا المبنى ودمروه فوق رؤوسنا، علين��ا أن نأخ�ذ زم��ام

المبادرة".

انحنى هو أوال وخرج يعدو من ب��اب المب��نى نح��و الم��دخل الرئيس��ي، فركض��نا خلفه أنا والحاج قاسم واثن��ان آخ��ران، والرص��اص ينهم��ر من فوقن��ا ومن بين

أقدامنا.

ولتجنب اإلصابة، اضطررنا للركض بشكل ملتو وبكل ما أوتينا من سرعة.

نجونا بأعجوبة من الموت أو اإلصابة. تقدمنا بحذر ونحن نراقب وندير الس��الح إلى األم��ام ت��ارة وإلى الخل��ف ت��ارة أخ��رى، ح��تى وص��لنا إلى س��ور األس��الك

الشائكة للثكنة.

أردنا الخروج من الباب بسرعة، وإذا بنا نرى عدة سيارات جيب تابع��ة للجيش تتق��دم بس��رعة نحون��ا وأض��واؤها مطف��أة، إال واح��دة منه��ا أض��اءت مص��ابيحهااألمامية، لكن قبل أن يصل الجيب األمامي إلى باب الثكنة س��قطت قذيف��ة "

B7بالقرب منه، فارتبك السائق وراح الجيب يدور حول نفسه وانحرف عدة " أمتار عن الطريق.

انبعث الغبار والتراب من المكان، ورمى ك��ل واح��د من رك��اب الجيب بنفس��ه في جانب. سرنا نحوهم بحذر ونحن نراقب المكان من أمامنا وخلفن��ا. أص��يب

اثنان أو ثالثة من الجنود بجراح. كان اللواء فالحي من

Page 139: books.almaaref.orgbooks.almaaref.org/static/documents/zoqaq.doc · Web viewكلّ هذه الذكريات والأصوات، کانت لا تزال تتردّد في زوايا حنجرة

139

بين ركاب الجيب أيضا، وقد أصيب بعصف االنفجار فكان مشوشا وراح ي��ترنحيمينا وشماال.

بقينا نتب��ادل إطالق الن��ار ح��تى الفج��ر، حينه��ا انس��حب أع��داء الث��ورة وه��دأت األوضاع وال أعلم لماذا، ب��ل العلم عن��د الل��ه، ولع�ل الس�بب في ذل�ك ه�و أن�ه عندما خرجنا من الثكنة وأخذنا منهم المستديرة ظنوا أن عددنا كبير، فانكفأوا

منسحبين. في تلك المعمعة حيث لم تكن أعيننا تبصر أمامها، وكنا ننقل الجرحى ونحم��ل المصابين لندخلهم إلى الثكنة، وصل الس��يد ص��ياد ش��يرازي ال��ذي ك��ان حينه��ا ض��ابطا في الجيش، برفق��ة المالزم عاب��دي وع��دد من عناص��ره بالط��ائرة

المروحية التي حطت في باحة الثكنة.

بعد دقائق وصلتنا أنب��اء من المخ��بر المحلي مفاده��ا أن أع��داء الث��ورة اتخ��ذواا ومخزنا لألسلحة وال��ذخيرة في قري��ة "ش��يندرا" ال��تي تبع��د قراب��ة ثالث��ة مقر

وعشرين كيلومترا عنا.

مع إشراق الشمس جمعن��ا ال��دكتور ش��مران وق��ال: "علين��ا أن نتفق��د مخ��زن السالح هذا، لربما حصلنا على غنيمة كبيرة ودسمة، وفي الوقت نفسه نك��ون قد وجهنا ضربة قاصمة لظهر أعداء الثورة". لذلك صعدنا الط��ائرة المروحي��ة، أنا و"صفا رس��تكاري" و"ص�ياد ش��يرازي" والمالزم "عاب�دي"، وقص��دنا "قري��ة ش��يندرا". حطت الط��ائرة على تل��ة قريب��ة من القري��ة في منطق��ة خالي��ة من البيوت، وربما كنا نبعد كيلومترين أو ثالثة عن القرية المنشودة، فنزل المالزم عابدي، والطيار، وصياد شيرازي، وعنص��ر من الجيش من الط��ائرة، وس��بقونا حتى يجدوا المخبر الذي كان من أبناء المنطقة، ويع��رف الطري��ق إلى القري��ة

وموقع مستودع الذخيرة فيها. كان المخبر على ما يبدو بانتظارهم في

Page 140: books.almaaref.orgbooks.almaaref.org/static/documents/zoqaq.doc · Web viewكلّ هذه الذكريات والأصوات، کانت لا تزال تتردّد في زوايا حنجرة

140

المكان المحدد. أما أنا فقد لقمت سالحي وتبعتهم مع أحد أفراد الجيش بحذروترقب لحماية ظهرهم.

بعد أن قطعنا مسافة قليلة انضم إلينا زوجان كرديان عجوزان.

سأل صياد شيرازي العجوز "هل أنت متأك��د من أن مخ��زن ال��ذخيرة هن��ا؟ إن صدقتنا القول سوف نكرمك ونرد لك الجميل". لم يكد صياد ينهي كالمه حتى انهال على رؤوسنا وابل من الرصاص والقذائف، ولم نعرف مصدرها حيث كناا كان األمر، فقد اتضح أنهم كانوا يراقبون��ا في منخفض وال نرى المرتفعات. أي ويتتبعوننا منذ أن اقتربنا من المخزن، وما إن رأوا العجوز يهم ب��النطق لفض��ح

أمرهم أطلقوا النار علينا.

رفع السيد صياد مسدس��ه وأطل��ق رصاص��ات منف��ردة باتج��اه المرتف��ع وق��ال "ليس لدينا ذخيرة بالمقدار الكافي، حاولوا أن تختبئوا بين التعرجات والصخور��ا( إلى أن يص��لنا الم��دد". فاختبأن��ا ا، ب��ل تباع��ا )دراك وال تطلقوا الرصاص رش�� بدورنا خلف بالطات صخرية، حجبت عنا الرؤية، ولربما وق��ع ك��ل م��ا أطلقن��اه

من رصاص على الصخور.

أصيب اثنان من الجنود ال��ذين ك��انوا معن��ا برش��ق ن��اري، ووقع��ا بج��انب ك��وخ العجوزين، فيما ركض المالزم عابدي بس��رعة نح��و الط��ائرة المروحي��ة ليخ��بر

عن وضعنا وحالنا عبر الالسلكي، ويستقدم لنا الدعم.

بينما هو عائد نحون��ا أص��يب برصاص��ة في ي��ده فت��ابع مس��يره وأكم��ل طريق��هراكضا وهو ممسك جرحه بيده األخرى، وبقينا عالقين في المنخفض نفسه.

بعد عدة دقائق سمعنا صوت طائرة مروحية يق��ترب من��ا، نظرن��ا وإذا بط��ائرة تتقدم وتتبعها اثنتان على مسافة قريبة، حطتا على الهضبة نفسها التي حطت

طائرتنا عليها منذ ساعة.

Page 141: books.almaaref.orgbooks.almaaref.org/static/documents/zoqaq.doc · Web viewكلّ هذه الذكريات والأصوات، کانت لا تزال تتردّد في زوايا حنجرة

141

كانت تفصلنا عنهم مسافة خمسمئة متر. نزل الدكتور شمران والح��اج قاس��م ورحيم صفوي من الطائرة ثم ج��الوا قليال في المنطق��ة وتح��دثوا إلى بعض��هم بعضا، ظننا أنهم قد أتوا لمساعدتنا، لكنهم صعدوا المروحية من جديد وع��ادوا

أدراجهم.

بقينا مدهوشين متحيرين من فعلهم، خرجنا من ال��وادي تحت واب��ل الرص��اص ونحن نحمل الجنديين المصابين، أص��عدناهما إلى المروحي��ة، وأرس��لناهما إلى الخطوط الخلفية. ومن ثم عدنا إلى مخزن الذخيرة وعاد معنا المالزم عاب��دي على الرغم من إص�ابته، والمروحيت�ان الثانيت�ان أقلعت�ا في ال�وقت نفس�ه م�ع

مروحيتنا، وتركونا هناك من دون إعارتنا أي اهتمام.

كان الموقف في غاية السوء، وكأنهم لم يأتوا لمساعدتنا!

كان السيد صياد مطأطئ الرأس منكسرا، ولم يبد أي رد فعل على ما ج��رى، ولم يفعل شيئا حيال ذلك، وأنا ما زلت حتى اآلن ال أعلم السبب ال��ذي دفعهم

لتركنا هناك على هذا النحو.

عند الغروب مضى العجوزان في سبيلهما من دون أن يتفوه��ا بكلم��ة واح��دة. لم يعلم إال الله معاناتهما وما تحماله من تعب ومشقة وخوف. أما نحن فع��دنا أدراجنا مع دليل كردي من أبناء المنطقة، كان اسمه عماد. سرنا على األقدام باتجاه "سردشت"، وبما أن صياد شيرازي كان متدربا متمرسا أكثر منا، تقدم في المسير ومشى الدليل خلفه، ثم أنا، وتبعني المالزم عاب��دي وهك��ذا س��رنا

في خط مستقيم.

كان ال��دليل يش��رح ويوض��ح لص��ياد باللغ��ة الكردي��ة الممزوج��ة ببض��ع كلم��ات فارسية عن وجهة نظره في كيفية إخراج األس��لحة وال��ذخيرة، والط��رق ال��تي

علينا أن نسلكها أثناء العودة، فقال صياد: "حتى اآلن لم نر

Page 142: books.almaaref.orgbooks.almaaref.org/static/documents/zoqaq.doc · Web viewكلّ هذه الذكريات والأصوات، کانت لا تزال تتردّد في زوايا حنجرة

142

األسلحة وال الذخيرة".

م��رت خمس س��اعات ونحن نمش��ي بش��كل متواص��ل، وعبرن��ا ك��ل العوائ��ق الطبيعي��ة من س��واقي مي��اه وص��خور كب��يرة وص��غيرة، ومرتفع��ات وهض��اب ومنخفضات ووهاد، إلى أن رأينا من بعي��د وميض أض��واء المص��ابيح في مدين��ة

"سردشت". تقع مدينة "سردشت" على مرتفع أشبه بالهضبة، وكنا نحن نس��ير على س��فح الهضبة. وصلنا إلى جسر "كلته" القريب من "سردشت"، ويوجد عن��ده نقط��ة تفتيش. أوقفونا وسألونا عن كلم�ة الس�ر لكنن�ا لم نكن نعرفه�ا، ك�ان بإمك�ان��ر المخ��برون العسكري أن يوقفنا ويعتقلنا بتهمة التجسس. ففي تلك األيام كث والجواس��يس وعناص��ر الط��ابور الخ��امس بحيث إن الم��رء لم يكن يث��ق ح��تى

بنفسه.

لكن "صياد" كان ذكيا وحاذقا سريع البديهة، قد نبهنا قبل أن نص��ل إلى نقط��ه التف��تيش وق��ال: "دعون��ا ال نن��ادي بعض��نا بأس��مائنا الحقيقي��ة، من الممكن أن��ا يكون أحد الجنود على نقطة التفتيش مخبرا ألعداء الثورة فينصبون لن��ا كمين

على الطريق".

توقفنا على بعد كيلومترين تقريبا من نقطة التف��تيش، وذهب ص��ياد أوال وتكلممع مسؤول الشرطة، وبعد دقائق تمكنا من عبور الحاجز.

عند الساعة الحادية عشرة ليال وصلنا إلى ثكنة أبي ذر العسكرية، لكن للحظة تملكنا الشك فتوقفنا عن متابعة المسير والدخول إلى الثكن��ة. لم نكن نع��رف ما يجري داخل الثكنة، ومن يوج��د فيه��ا؛ أص��دقاؤنا أم أع��داء الث��ورة. ولوهل��ة سيطرت الهواجس على عقولنا، ورحنا نقول لعل أعداء الثورة اقتحموا الثكنة

في غيابنا وقتلوا من فيها وسيطروا عليها.

Page 143: books.almaaref.orgbooks.almaaref.org/static/documents/zoqaq.doc · Web viewكلّ هذه الذكريات والأصوات، کانت لا تزال تتردّد في زوايا حنجرة

143

توقفن��ا وراء األس��الك الش��ائكة، وأرس��لنا المخ��بر من أه��ل البل��د ليتق��دم قليال ويقص أحد األسالك بالمقرض ويفتح لنا الطريق. وبعد ساعة أو س��اعتين ع��اد المخ��بر وأدخلن��ا إلى الثكن��ة. وهن��اك وقعن��ا تحت حص��ار أع��داء الث��ورة م��دة

أسبوعين تقريبا.

كنا مراقبين بشكل دائم بحيث إننا إذا رمين��ا ف��ردة ح��ذاء إلى الخ��ارج أطلق��وا عليها ألف رصاصه قب��ل أن تص��ل إلى األرض، ت��وجب علين��ا أن نح��ارب بع��دة رشاشات كالشنكوف وعدة قنابل يدوي��ة، أل��ف نف��ر م��دججين بمختل��ف أن��واع األسلحة، وأن نقاوم ونصمد أمامهم، وصرنا يوما بعد يوم نفق��د أملن��ا بالحري��ة

والخروج من الحصار.

في الليل لم نستطع إغم�اض أعينن��ا وجافان��ا الن��وم، فص��رنا نج��ول في أرج�اء الثكنة العسكرية، ننظ��ر ون��راقب الخ��ارج، ونق��ف في مناوب��ات الح��رس. أم��اا عن طري��ق الالس��لكي. أص��بحت قلوبن��ا ارتباطنا بخارج الثكن��ة فبقي مس��تمر

فارغة تماما من األمل، وكاد اليأس أن يتملكنا.

هناك وفي تلك الظروف الصعبة، عرفنا قيم��ة ال��دكتور ش��مران وق��دره، فق��د كان لنا كاألخ األكبر وكالمعلم والمرشد. في تلك المنطق��ة الغريب��ة المترامي��ة األطراف، وجدناه مصدر الدفء في قلوبنا. وب�الرغم من االح�ترام ال�ذي ظ�ل قائما بيننا، كان الدكتور بمناجاته وكالمه وصمته وهدوئه نموذج العارف الكامل

بالنسبة لنا.

لم تكن صعوبات الحرب مع أعداء الث��ورة مزح��ة. فالجب��ال القاس��ية الب��اردة، وقلة الطعام والغذاء، والتعب وقلة النوم كانت لت��ذيب اإلنس��ان ش��يئا فش��يئا. وفي كل لحظة كنا نصارع الموت ال��ذي يح��وم حولن��ا وال يفارقن��ا طيف��ه. ك��ان

الدكتور عارفا، اعتاد على هذه الرياضة وألفها، وحين كان

Page 144: books.almaaref.orgbooks.almaaref.org/static/documents/zoqaq.doc · Web viewكلّ هذه الذكريات والأصوات، کانت لا تزال تتردّد في زوايا حنجرة

144

الجميع يلتصق باألرض وال يستطيع الحراك، يقوم هو ويتقدم أمامنا، ما ي��دفعناعلى القيام والتحرك.

هكذا كانت روحية الدكتور! فكردستان القاسية والصعبة لم تكن تتطلب غيره.

في األسبوع الثاني لحصارنا، جاء أحد الش��باب بخ��بر مف��اده أن أع��داء الث��ورة ينوون إقامة احتفال الموت في مدينة "بان��ة"، وه��ذا معن��اه أنهم أس��روا ع�ددا من اإلخوة المجاهدين في الحرس الثوري، وينوون االجتم��اع كقطي��ع ال��ذئاب، ليذيقوا المجاه��دين م��رارة الم��وت على وق��ع ال��رقص وال��دبك والتهلي��ل. لكن بلطف المولى عز وجل كان قد مضى عدة أيام على تح��رك القافل��ة المؤلف��ة من عناصر الجيش والحرس الثوري بقيادة ص�ياد ورحيم ص�فوي، وق��د وع�دوا أنهم سيحررون "بان�ة" عب�ورا من "سردش��ت". وه��ذا م�ا حص��ل، فق��د ج�اؤوا��وا واجتثوا المنافقين وأع��داء الث��ورة واقتلع��وهم من مدين��ة "سردش��ت"، وفك

الحصار عن الثكنة وأنقذونا.

ا أن نس��ير م��ع ه��ذه القافل��ة إلى مدين��ة قال الدكتور شمران "علينا نحن أيض��"بانة".

ر للمغ��ادرة وت��رك ثكن��ة أبي ذر واالنطالق في ركب المق��اتلين، بينما كنا نحض�� . ك��ان طي��ارا م��اهرا يق��ود الط��ائرات1التقيت للم��رة األولى ب��أكبر ش��يرودي

المروحية، وقد أوكل إليه مهمة نق��ل الجن��ود وإيص��ال األس��لحة وال��ذخيرة فيتلك القافلة.

عام 1 ولد شيرودي أكبر - 1955علي في - الطيارين قائد كان مازندران لمحافظة التابعة شيرود قرية في مذر أبي ثكنة إلى جاء المفروضة الحرب بداية ومع كردستان، في العسكري وعمله نشاطه وبدأ الجوية القوات

وبعد الثورة، أعداء بيد ذر أبي وثكنة ذهاب ل سر سقوط دون حال كبيرة وتضحية وبشجاعة ݒالعسكريةعمليات في مشاركته أثناء الشهادة شرف نال الجوية القوات فيها تدخلت التي العمليات جميع في مشاركته

عام من نيسان شهر في دراز، م.1981بازي

Page 145: books.almaaref.orgbooks.almaaref.org/static/documents/zoqaq.doc · Web viewكلّ هذه الذكريات والأصوات، کانت لا تزال تتردّد في زوايا حنجرة

145

كان ألكبر بنية رياضية قوية. طويل القامة، عريض المنكبين. أعلم أنه ال شيء يربط بين المظهر الخارجي لألفراد وتدينهم، لكنه كان كالنجم المتأللئ جمي��ل��ا في آن. عن��دما التقين��ا تح��دثنا عن أوض��اع كردس��تان وأم��ور المظه��ر ومؤمن الحرب، وشيئا فشيئا وصلنا إلى الشعر وديوان الشاعر حافظ. فق��رأت أبي��ات�ة، بع�دها س��ألني األخ أك�بر عن خ�اتمي ال�ذي أض�عه بي��دي من أشعاره الغزلي ومسبحتي، فأجبته عن لسان الشيخ حق شناس، الذي كان أستاذا في األخالق وقلت له إن أول مكان شهد وأقر بوالية اإلم�ام علي علي��ه الس�الم ك�ان جب�ل

العقيق الواقع في اليمن، ولذلك فالعقيق مبارك، ويفتح اآلفاق لحامله.

لفتت انتباهي السبحة التي يحملها األخ أك��بر في ي��ده فس��ألته: " أي ن��وع منالمسابح هذه؟".

- إنها من نوع الشاه مقصود.

ندلس وليس��ت ناولني السبحة، تفحصتها جيدا ثم قلت له: "هذه من ن��وع الس�� األصلية منها بل من الدرجة الثانية، عرفتها من نظرة واحدة، إن معرف��ة ه��ذه األمور تتطلب اهتماما وشغفا وأنا فيما مضى كنت مهتما في هذا المجال لعدة أعوام، إن سبحة الشاه مقصود األصلية يجب أن تك��ون حباته��ا ش��فافة تمام��ا من دون أي شوائب أو خطوط وإذا نقعتها ليال في الماء تزداد ش��فافيتها أك��ثر فأكثر، وأيضا فإن سبحة الشاه مقصود والسندلس ليستا صديقتين مع الدهن،

فالدهن يخربهما ويقلل من بريقهما". - "بحثت كثيرا عن األص��لية منه��ا وال أزال أبحث إلى اآلن. س��معت أن س��بحة

الشاه مقصود هي األغلى ثمنا بعد السندلس، أليس كذلك؟".

أجبت��ه: "بإمكان��ك أن تع��رف س��بحة الش��اه مقص��ود األص��لية من لونه��ا، فهيخضراء كلون الحصرم أو السدر الفاتح. وأصل هذه الحجارة يعود

Page 146: books.almaaref.orgbooks.almaaref.org/static/documents/zoqaq.doc · Web viewكلّ هذه الذكريات والأصوات، کانت لا تزال تتردّد في زوايا حنجرة

146

��دة كث��يرة في األس��واق، حيث إلى الهند وباكستان. والسبحات المزيفة والمقلينحتون الزجاج األخضر ويصنعون منه كرات كالزمرد.

- "هذه األمور بحاجة إلى حنكة وخبرة واسعة!". - "لدي صديق في طهران خبير في تمييز أنواع الس��بحات األص��لية والمزيف�ة، سأقصده وأجلب ل��ك واح��دة أص��لية، وأينم��ا جمعن��ا الق��در والتقين��ا من جدي��د

سأقدمها لك".

بعد ذلك أريته س��بحتي ال��تي ك��انت من ن��وع الش��اه مقص��ود األص��لية الرائع��ةوأعطيته إياها، وتبادلنا السبحات مؤقتا.

سر األخ أكبر كثيرا وقال: "إذا استشهدت يا سيد سوف أشفع لك يوم القيامةألنك أعطيتني هذه السبحة".

تي بعد ذلك رأيته عدة مرات في أماكن مختلفة وس��بحة الش��اه مقص��ود خاص��في يده.

��ا المجموع��ة تابعنا مسيرنا مع القافلة التي ضمت ألف عنصر من الجيش، وكناألخيرة فيها.

صعد العناصر الشاحنات العسكرية، ورافقت ك��ل خمس ش��احنات ناقل��ة جن��د مصفحة عليها رشاش من العيار الثقيل، وتم التوافق على أن تكون المس��افة بين المجموعة واألخرى خمس��مئة م��تر، وأن نتوق��ف عن��د ك��ل منعط��ف ح�تى

نتأكد من عدم وجود كمين ألعداء الثورة، ومن ثم نكمل الطريق ونتابع.

أثن��اء المس��ير أطل��ق علين��ا الرص��اص م��رات ع��دة من المرتفع��ات والغاب��اتواألحراج، لكننا لم نرد على مصادر النيران بناء على األوامر، فقط قناصو

Page 147: books.almaaref.orgbooks.almaaref.org/static/documents/zoqaq.doc · Web viewكلّ هذه الذكريات والأصوات، کانت لا تزال تتردّد في زوايا حنجرة

147

الجيش تولوا الرد.

بقينا يومين أو ثالثة على الطريق، ووصلنا مع غروب اليوم الث��الث إلى مض�يق "خان" الذي كان يحوي عدة منعطفات خطرة وصعبة العبور، وهن��اك ص��درت األوامر بالتوقف. وأول ما فعلناه هو فرز عدد من الحراس ليحرس��وا المك��ان، ويراقبوا المحيط، وكنا نب��دل عناص��ر الحراس��ة ك��ل أرب��ع س��اعات. كم��ا أديت

والحاج قاسم نوبات حراسة بالتناوب.

وهناك قام الجيش بعملية إنزال جوي، حيث أنزل مجموعة من ق��وات مش��اته على المرتفعات المطلة علينا، وبعد أن قاموا بجولة وتفق��دوا المنطق��ة جي��دا،ا؛ فل��و أن أع��داء ا وعقالني تابعنا مسيرنا. لقد كان هذا العمل العس��كري منطقي الثورة كمنوا لنا في المرتفع�ات النه�الوا علين�ا بالرص�اص والق�ذائف وأبادون�ا، ولما أكملنا تقدمنا. بنحو ما أظهر الجيش حنكة ودراية عسكرية وق�ام بخط��وة

احترازية ذكية.

تقدم نصف القافلة وأصبح خلف المض��يق وك��انت طبيع�ة المض��يق الجغرافي��ة بنحو أحدثت مسافة فصلت بينن��ا وبينهم، وتس��ببت في أن ال نع��رف ش��يئا عن

الفريق األمامي.

صار التواصل بيننا بالمناداة. تق��دم ال��دكتور ش��مران برفق��ة الس��يد ص��ياد إلى األمام، وقال لنا: "س��نبقى الليل��ة هن��ا في المض��يق، وعن��د ب��زوغ الفج��ر نت��ابع

المسير".

في تلك الظروف الصعبة، حيث تجاوزت الساعة الواحدة بعد منتص��ف اللي��ل، وبينما كنا نقاوم الن��وم والجف�ون مثقل��ة باإلره��اق والنع�اس، فج��أة، اس��تهدفنا

" من وس��ط الجب��ال واألش��جار س��قطت بجانبن��ا، وتبعته��ا زخ��اتB7بقذيف��ة "الرصاص من العيار الثقيل والمتوسط!

Page 148: books.almaaref.orgbooks.almaaref.org/static/documents/zoqaq.doc · Web viewكلّ هذه الذكريات والأصوات، کانت لا تزال تتردّد في زوايا حنجرة

148

بقينا على هذا الوضع نتلقى الرصاص والقذائف حتى الصباح، هم ضربوا ونحن ضربنا. حتى أجبرنا على الخ��روج عن الج��ادة والول��وج بين الش��جر والص��خور. خض��نا التحام��ا مباش��را في وس��ط الظالم الحال��ك بحيث إن عين��ك ال تبص��ر إصبعك أمامها، ولم يقصر الشباب في القتال أبدا، وأظه��روا ش��جاعة ال نظ��ير لها، خاصة السيد علي أكبر مصطفوي، وهو من أبناء مدينة أصفهان الذي كان بحق ورقة رابحة في يدنا في المعارك واالشتباكات، وقد قاوم في تلك الليل��ة مقاوم��ة األبط��ال! ك��ان ش��جاعا مق��داما! يحم��ل ق��اذف اله��اون، يض��عه على األرض، ويثبته بركبته ويطلق القذائف بمفرده من دون توقف، والحال أنن��ا لم نكن نعرف عدد الذين يحاصروننا، أو في أي مكان كمنوا لنا، وكم من الس��الح والعتاد لديهم، ألقينا بكل م��ا نمل��ك من قناب��ل يدوي��ة عليهم، وأطلقن��ا ك��ل م��ا عندنا من رص��اص، لم نكن نعلم أنن��ا في وس��ط الكمين وأنن��ا محاص��رون من

جميع الجهات.

لم نكن نعلم ش��يئا عن ح��ال بقي��ة القافل��ة، إنم��ا من خالل أص��وات إطالق الرصاص البعيدة التي تناهت إلى مسامعنا، أدركنا أن عناصر الجيش يخوضون مواجهات أيضا، وأن الكفة ترجح ألعداء الثورة، وزمام المعركة بي��دهم تمام��ا،

كان ذلك واضحا من رصاصهم ونيرانهم.

عن��د الفج��ر، ض��يقوا الحص��ار علين��ا أك��ثر، وازداد الوض��ع ص��عوبة، وفي تل��كالمعمعة، قال أحد الشباب: "لقد غادر الفريق المتقدم، لقد تركونا لوحدنا".

ما إن قال ذلك، حتى رحنا نعيد تقويم الوضع من جديد، مدركين مدى ص��عوبة موقفن��ا. اآلن وق��ع ش��رخ بينن��ا وبين العناص��ر والش��باب ال��ذين اس��تقروا على المرتفع، ولم نعد تحت تغطيتهم، ولم يعد بإمكانهم مساعدتنا في ش��يء، ه��ذا

إن لم يكونوا قد تركونا أيضا. شكلت وسبعة أو ثمانية من الشباب

Page 149: books.almaaref.orgbooks.almaaref.org/static/documents/zoqaq.doc · Web viewكلّ هذه الذكريات والأصوات، کانت لا تزال تتردّد في زوايا حنجرة

149

مجموعة، وشكل قاسم مجموعة من البقية. كانت أجساد الشهداء ملقاة على األرض بين األش��جار، ولم يكن باس��تطاعتنا الوص��ول إلى الج��رحى فض��ال عن مساعدتهم وإسعافهم. وتحت وابل الرص��اص المنهم��ر علين��ا ك��المطر لم یکن بمقدورنا أن نصنع شيئا، ولم تكن باليد حيلة، فاضطررنا مكرهين لالستس��الم؛ رفعنا أيدينا فوق رؤوسنا وسلمنا أنفسنا. هجموا علينا بالعشرات، وكل عشرة منهم أحاطوا بأح�دنا وكبل�وا أيادين�ا بالحب�ال. وس��ط ه�ذه الزحم�ة والفوض�ى، تمكن رضا مقدم بحنكة وذكاء من الهرب من بين أعداء الث��ورة، واختفى علىا ب��الهروب، الفور بين األش��جار. عن��دما رأين��ا رض��ا ق��د ذهب، فكرن��ا نحن أيض�� وأردنا أن نجرب حظن��ا في اله��روب والخالص من األس��ر. لكن، م��ا إن هممن��ا بالحراك والقيام حتى انهالوا علينا ض��ربا باألي��دي واألرج��ل وبأعق��اب بن��ادقهم

وأجلسونا على األرض.

رحبوا بنا قليال بأعقاب البنادق، ثم سيرونا أمامهم وأسلحتهم مصوبة نحونا.

بقينا نس��ير على أق��دامنا في الودي��ان وعلى الط��رق الترابي��ة ح��تى الظه��يرة. ف��ردا،14وص��لنا إلى منطق��ة عجيب��ة وغ��ير معروف��ة، وهن��اك عزلون��ا نحن ال�

وأخذونا إلى غرفة وأحكموا تصفيدنا فيه��ا، ك��ان المك��ان أش��به بالزريب��ة، فه��و ف��ارغ تمام��ا، ح��تى األرض لم يكن عليه��ا ش��يء، فال كهرب��اء أو مص��ابيح على الجدران، إال أنها تحوي شباكين صغيرين، مغلقين بألواح خشبية، ي��دخل منهم��ا خيط رفيع من النور. استغرقنا عدة دقائق حتى اعت��ادت أعينن��ا على الظلم��ة، جلسنا نحدق ببعضنا البعض، وإذا بأحدهم ي��دخل علين��ا، وه��و م��دجج بالس��الح،

ا لقضاء الحاجة وقارورة ماء للشرب ورحل. أحضر لنا سطال معدني

منذ أن وقعنا في أيديهم، قلما تكلموا معنا، وإنما فقط تحدثوا مع

Page 150: books.almaaref.orgbooks.almaaref.org/static/documents/zoqaq.doc · Web viewكلّ هذه الذكريات والأصوات، کانت لا تزال تتردّد في زوايا حنجرة

150

بعضهم البعض بعدة جمل باللغة الكردية، أما خطابهم معنا فكان بلغة الضربوبأعقاب البنادق.

بعد دقائق أتانا شخص آخر، وفك القيود من أيدينا.

كنت المتكلم بين الشباب وأكثرهم تجربة نوعا ما، فرحت أواسيهم وأصبرهم، وقلت لهم: "ال تحزنوا يا أصدقائي، إن الله معنا، وهو الق��ادر على ك��ل ش��يء. لن يصيبنا إال ما كتب الله لنا". ثم طلبت منهم أن يخلعوا قمص��انهم الداخلي��ة. فخلعناها جميعا، وعقدنا أطرافها ببعضها البعض، وص��نعنا منه��ا س��تارة عجيب��ة وغريب��ة، لكنه��ا تفي ب��الغرض، وعلقناه��ا لنص��نع س��اترا لمرحاض��نا في منزلن��ا

الجديد.

بعد أن خلعت قميصي الداخلي، أبقيت البدل��ة الترابي��ة الل��ون على ب��دني. في الليل كان البرد قارسا، يفت العظم. لذا، صرت كلما جلس��ت القرفص��اء على األرض الباردة والصلبة جاف النوم عيني. لم يكن هذا حالي أنا فقط، بل ح��ال

كل الشباب، سلب النوم منا.

طبعا وفروا لنا في األس�ر رفاهي�ة أخ�رى: مثال في ك�ل ي�وم يقوم�ون م�رة أو م��رتين بتكبي��ل أي��دينا، ويأخ��ذون ك��ل معتق��ل من��ا على انف��راد إلى مك��ان م��ا ويبدأون بطرح األسئلة واالس��تجواب والتحقي�ق؛ فك��انوا يس�ألوننا مثال إلى أين كنتم ذاهبون؟ كم كان ع��ددكم؟ م��ا ك��ان ه��دفكم؟ وم��ا إن كن��ا نجيبهم بم��ا ال يعجبهم أو نح��اول الته��رب من اإلجاب��ة، ح��تى يباش��روا بالمعت��اد من الض��رب

واللكم، ويرغمونا تحت تهديد السالح على الكالم.

أحيانا كانت تأتينا لالس��تجواب نس��اء بلب��اس م��دني أو ب��الزي العس��كري، وهن يحملن السالح، أجسامهن ضخمة وقوية، وبدا أنهن قادرات على التغلب علين��ا

وإنهاكنا من الضرب. بعضهن يتزنرن بشرشور من الرصاص

Page 151: books.almaaref.orgbooks.almaaref.org/static/documents/zoqaq.doc · Web viewكلّ هذه الذكريات والأصوات، کانت لا تزال تتردّد في زوايا حنجرة

151

حول أجسادهن.

في كل يوم نعطى وجبة طعام واحدة: قطعة من الخبز الي��ابس بمق��دار ك��فاليد، أما ماء الشرب فكان علينا االكتفاء طوال النهار بسطل ماء واحد.

تعب الشباب من المعاناة وضاقوا ذرعا باألسر، وراح الجميع يبحث عن مهرب وينشد الخالص. لكني كنت أصبرهم وأشعرهم باألم��ل وأق��ول لهم: "علين��ا أن

نصبر وننتظر. سوف يحرروننا ويتركوننا من تلقاء أنفسهم".

في اليوم الثالث من األسر، قلت للمرأة ال��تي جلس��ت تس��ألني وتس��تجوبني:ا مم�ا نري�د، "إذا أردت معلوم�ات جي�دة ومفي�دة، فعلي��ك أن ت�وفري لن�ا بعض��

وتستجيبي لمطالبنا".

أجابتني المرأة بعبوس وباللهجة الفارسية والكردية المخلوطة: "ماذا تريد؟".- نريد مكانا مناسبا لنؤدي فرض صالتنا.

أشارت برأسها إلى أحد العناصر ال��واقفين إلى جانبه��ا؛ لكي ي��ذهب وينف��ذ م��ا طلبته، ف��افترش لن��ا بس��اطا ق��ديما مهترئا على األرض خ��ارج الزريب��ة. بع��دها قسمونا إلى سبع مجموعات مؤلفة من شخص��ين، فخرجن��ا اث��نين اث��نين مع��ا، فكوا القيود عن أي��دينا، وس��محوا لن��ا ب��أن نص��لي. ومن ثم رمون��ا في الزريب��ة

مجددا.

بع��د الص��الة، طلبت��ني تل��ك الم��رأة م��رة أخ��رى للتحقي��ق، وب��دأت اس��تجوابهابالقول: "اآلن وقد نفذنا مطلبك، قل لي ما عندك من معلومات".

وبن��اء على أني كنت ال��ذكي الفطن، قلت له��ا: "لق��د جه��ز الح��رس الث��وريخمسين ألفا من قواته، وبدأ الزحف نحو كردستان...".

Page 152: books.almaaref.orgbooks.almaaref.org/static/documents/zoqaq.doc · Web viewكلّ هذه الذكريات والأصوات، کانت لا تزال تتردّد في زوايا حنجرة

152

عن��دما أع��ادوني إلى الزريب��ة قلت للش��باب: "يجب أن يك��ون كالمن��ا واح��دا ومتطابقا. مثال إذا سألوا أيا منكم ما عملك؟ ولماذا جئت إلى هنا؟ قول��وا نحن معلمون أرسلنا إلى هنا من قبل مؤسسة "جهاد سازندكي" لنق��وم بالت��دريس

والتثقيف...".

صباح يوم من األيام جاؤوا إلينا، وقالوا: "صدر حكم اإلع��دام بحقكم؛ اس��تعدواوجهزوا أنفسكم، سيتم إعدامكم رميا بالرصاص".

فقلت للشباب: "يا إخوان، ها وقد حكم علينا بالقتل، وس��وف نلقى الش��هادة،فلنقم بعمل حتى ال نظهر ضعفا أمام هؤالء، وتكون عزيمتنا عالية وقوية".

استمع الشباب لكالمي وتقبلوه، وانشغلنا بعدها بذكر الله ومناجاته.

بعد حوالي نصف ساعة، جاءنا اثنان من الكرد مدججين بالسالح، عصبا أعينن��ا��ا إلى جنب في ص��ف جميعا، وكبال أي��دينا، وس��حبانا إلى الخ��ارج. أجلس��انا جنب واحد، ووقف خلفنا عدد من مقاتليهم، لقموا أسلحتهم على مسامعنا، ووضعوا

فوهات أسلحتهم خلف رؤوسنا.

تشهدنا الش��هادتين، وبقين��ا ننتظ��ر أن يطلق��وا الن��ار. رأين��ا الم��وت ب��أم أعينن��ا وشعرنا به محتما علينا. في تل��ك اللحظ��ات الص��عبة والمص��يرية، عم��دت إلى االس�ترخاء، وت��وقفت عن التفك��ير، وك�ررت ذك�ر الش�هادتين ع�دة م��رات. ثم سمعت صوتا بدا لي كأن أحدهم قام بالتحدث ع��بر جه��از الالس��لكي. وم��ع أن��ه لم يس��تطع أن أحد اإلخوة معنا كان يعرف اللغة الكردية قليال ويفهمه��ا؛ لكن يفهم شيئا مما كان يقال عبر جهاز الالس��لكي؛ لعلهم ك��انوا يتح��دثون ب��الرموز

وباللغة المشفرة.مضت دقائق من االنتظار والترقب والقلق، ثم قالوا لنا: "لقد حالفكم

Page 153: books.almaaref.orgbooks.almaaref.org/static/documents/zoqaq.doc · Web viewكلّ هذه الذكريات والأصوات، کانت لا تزال تتردّد في زوايا حنجرة

153

ا في ه��ذه ال��دنيا. من حس��ن الحظ. سنمهلكم وسندعكم تعيشون يوما إض��افي حظكم وقع في أسر الحرس الثوري ع��دد من أص��دقائنا؛ إذا ق��ام مس��ؤولوكم بتحريرهم، نبادلكم بهم ونحرركم". ومجددا س��جنونا في الزريب��ة، وذهب��وا ولمن يعودوا إلينا حتى غروب اليوم التالي. بقينا طوال الليل قلقين خائفين، نس��ك أنفسنا بالذكر والدعاء. كنا في وضع ال نحسد عليه. لق��د أبق��وا علين��ا في تل��ك الزريبة والخوف يسيطران علينا. عانينا ما عانيناه وواجهن��ا المآس��ي، وتحملن��ا

ما ال يحتمل.

في غ��روب الي��وم الت��الي جاؤون��ا م��رة أخ��رى، وعص��بوا أعينن��ا وكبل��وا أي��دينا،��وا أي��دينا وأبق��وا على واقتادونا إلى الخارج. بعد أن مشينا حوالي الس��اعة، فكبة، وق��الوا اجلس��وا. وطبع��ا كم��ا في الس��ابق، ك��ان أك��ثر كالمهم أعينن��ا معص�� بأعقاب بنادقهم. أجلسونا ووقفوا من خلفنا كم��ا حص��ل عن��دما أرادوا إع��دامنا في المرة األولى، لكنهم قالوا: "إننا نراقبكم، ليضع كل واح��د منكم ي��ده على

كتف صاحبه، وبعد عشر دقائق تستطيعون أن تفكوا العصبة عن أعينكم".

ونحن بدورنا انتظرنا جالسين عشر دقائق أو ربع س��اعة، بع��دها فتحن��ا أعينن��ا، تلفتنا حولنا، فوجدنا أنفسنا وحدنا في مكان أش��به ب��الوادي، وال أث��ر ألح��د من

أولئك األكراد، أو أي شيء من معالم األسر.

توجهت أنظارنا إلى ذلك األخ الذي كان من أصول كردية ويعرف المناطق في كردستان، فقال لن��ا: نحن في مض��يق ك��اران، وإلى الش��مال من��ه تق��ع مدين��ة

سقز، ويستغرق الذهاب إلى هناك ثالث ساعات".

كان الوقت منتصف الليل، تبعنا ذلك األخ، ومشينا ح��تى وص��لنا إلى س��قز م��عحلول الفجر، ومباشرة أسرعنا إلى الثكنة العسكرية في سقز،

Page 154: books.almaaref.orgbooks.almaaref.org/static/documents/zoqaq.doc · Web viewكلّ هذه الذكريات والأصوات، کانت لا تزال تتردّد في زوايا حنجرة

154

ووجدنا أصدقاءنا هناك. استحممنا وصلينا صالة الصبح، وجلسنا نلتقط أنفاس��نا ونستريح من عناء ما القين�اه. ص��ار اإلخ�وة بع�دها يس�ألوننا عن األس��ر، ونحن نجيبهم عن كل شيء. وهناك عرفن��ا أن الش�باب في الح��رس الث�وري تمكن��وا��ة الخاص��ة وح��زب الكومل��ة، من أسر سبعة عناصر بارزين في القوات الفدائي وبذلك تم عقد صفقة تبادل بين هؤالء الس��بعة وبينن��ا نحن األربع��ة عش��ر. من حسن حظنا أنه من بين التي��ارات الكردي��ة المقاتل��ة، ق��د وقعن��ا بي��د "الق��وات الفدائية الخاصة". ولو كن��ا وقعن��ا في قبض��ة الكومل��ة لم��ا أبق��وا علين��ا أحي��اء،

ولكانوا أعدمونا على الفور رميا بالرصاص من دون عقد أي صفقة.

حينها كانت الجماعة ه��ذه أقلي��ة بين األك�راد، وك��ان ع�ددهم قليال، وفيم��ا بع��د��ا ويكتف��وا بالقي��ام باألعم��ال الثقافي��ة ونش��ر ق��رروا أن يض��عوا الس��الح جانب أفكارهم. وسلكوا طريقا مختلفا وبعيدا عن ح��زب الكومل��ة. في الي��وم نفس��ها أس��يرا من الذي تحررنا فيه، أقدم عناصر "الكوملة" على إعدام عشرين شاب

الحرس الثوري.

بعد الظهيرة، اتص��لت ع��بر اله��اتف بطه��ران، ووج��دت الح��اج قاس��م وتكلمت معه. قال لي: "كنا نظن أنهم قتلوكم. لقد بحثنا عنكم كثيرا ولم نجد لكم أثرا. تقريبا أنجزت المهمة وانتهى عملنا، "بان��ه" طه��رت تمام��ا وانتهى أمره��ا. أم��ا

أنت فسارع بالعودة إلى طهران، عائلتك قلقة جدا".

ع��زمت على الع��ودة، لك��ني اض��طررت للبق��اء تل��ك الليل��ة في "س��قز"؛ ألن الطرقات لم تكن آمنة، قيل لنا إنه من الثامنة صباحا حتى الثالثة بع��د الظه��ر، تقوم الشرطة والجيش بالحراسة المشددة على طول الطري��ق لتأمين��ه، ع��بر نقاط تفتيش وحواجز تبعد الواحدة عن اآلخرى مسافة ثالث��ة كيلوم��ترات؛ أم��ا

من الساعة الرابعة بعد الظهر فما بعد، لم يكن باإلمكان

Page 155: books.almaaref.orgbooks.almaaref.org/static/documents/zoqaq.doc · Web viewكلّ هذه الذكريات والأصوات، کانت لا تزال تتردّد في زوايا حنجرة

155

التنقل بالسيارة على ذلك الطريق. ك��انوا يكمن��ون للس��يارات عن��د مرتفع��ات الطريق، حيث ال تقوى الس��يارات على اإلس��راع، فتق��ع في الكمين ال محال��ة، وكانوا يهددونك بإطالق الن��ار على أط��راف الس��يارة ويجبرون��ك على الترج��ل

منها. وإن هممت بالهروب أو فكرت بأن تتحاذق عليهم، يردوك قتيال.

روى لنا أحد الشباب في معسكر سقز أنه في أحد األيام عندما كانت السيارة التابعة للجيش ذاهبة لتجمع العناصر، وهي تعيد الشباب من مناوب�ات الح�رس على نقاط التفتيش والحواجز، قام أعداء الثورة باعتراضها عند الساعة الثالثة��ة، اس��تحوذوا عليه��ا بعد الظهر، بعد أن استطلعوا المكان وراقب��وا حرك��ة اآللي وجلس مكان السائق ومعاونه اثنان من عناصرهم، وقد بدلوا لباس��هم. وهك�ذا بدأوا بجمع الشباب الذين كانوا في مناوبة الحراسة واحدا تل��و اآلخ��ر، وط��ووا الطريق من حاجز إلى آخر، وبع��د أن جمع��وا الش��باب، أع��دموهم. في اللي��ل، أدرك الشباب أن كل الذين كانوا في مناوبة الح��رس لم يرجع�وا. وب��دأ البحثي، إلى أن وج��دوا جثثهم بع��د أي��ام مرمي��ة هن��ا وهن��اك على قارع��ة والتقص��

الطريق وفي المنخفضات.

لهذا بتنا ليلتنا في المعسكر إلى أن ح��ل الص��باح، وع��دنا إلى طه��ران بحافل��ةصغيرة.

Page 156: books.almaaref.orgbooks.almaaref.org/static/documents/zoqaq.doc · Web viewكلّ هذه الذكريات والأصوات، کانت لا تزال تتردّد في زوايا حنجرة

156

Page 157: books.almaaref.orgbooks.almaaref.org/static/documents/zoqaq.doc · Web viewكلّ هذه الذكريات والأصوات، کانت لا تزال تتردّد في زوايا حنجرة

157

..وأي درر

قال البلبل لنسيم السحر، أرأيت ما فعل بنا فراق الوردة؟

بعد كل ما عانيته من متاعب أردت أن أرتاح قليال، فقطعت عهدا على نفس��ي بأن ألتفت إلى حياتي وأكون رب المنزل وأقضي وقتا أك��ثر م��ع ع��ائلتي، فق��د مرت أشهر ولم تر عيناي طعم النوم والراحة، وقد مر زمان طويل على آخ��ر مرة تناولت فيها طعاما شهيا أو استمتعت بمناجاة وصالة في س��كينة وه��دوء. وكلما هويت للس�جود في ص�التي كنت أتوق�ع رصاص�ة أو قذيف�ة تح��ول بي�ني

وبين أن أرفع رأسي منه مجددا.

حقا لقد اشتقت لمنزلي، واشتقت للطعام ال��ذي تع��ده زوج��تي فاطم��ة، فق��د وماهرة في الطهي. حقيقة; ال طعام يضاهي طعام المنزل.1كانت ذواقة

في تلك األيام بينما كنا جالسين نتناول الغداء ق��الت لي: "أري��د أن أنض��م إلىدورة لتعليم التزيين النسائي".

- ولم التزيين النسائي؟- أريد أن أتكفل بتزيين العرائس اللواتي يعانين من ضائقة مالية، ومن

1 . طيب نفس ذات

Page 158: books.almaaref.orgbooks.almaaref.org/static/documents/zoqaq.doc · Web viewكلّ هذه الذكريات والأصوات، کانت لا تزال تتردّد في زوايا حنجرة

158

غير الميسورات وهن كثيرات. - ال مانع لدي، برأيي على المرأة أن تتعلم ك��ل الفن��ون والح��رف والمه��ارات; ولو كانت مهنة النجارة، كي تتمتع باالكتفاء الذاتي، طبعا يجب أال تكون س��لعة

ووسيلة بيد أحد، بل تصان ويحافظ على مكانتها في المجتمع.

قلت لها هذا الكالم ووافقت على طلبها ألنني كنت أعرفها جيدا، وأع��رف أنه��ا سيدة عظيمة صاحبة وعي ورزينة؛ وإال فليس في قاموسي أن تخط��و الم��رأة

خارج منزلها؛ وتذهب حتى إلى البقال.

بعد أيام سجلت فاطمة اسمها في أحد المعاهد، وخالل ف��ترة وج��يزة حص��لت على الشهادة وبدأت بالعمل. كان لديها العزيمة واإلرادة، فما إن تص��مم على عم��ل ح��تى تنج��زه بش��كل كام��ل ومتقن. لم تع��رف الهزيم��ة والفش��ل، ولم تعهدهما في حياتها، وحتى في مج��ال الت��دين واألم��ور المعنوي��ة ك��انت أفض��ل مني وسبقتني بأشواط. واظبت على الصيام أكثر أيامها، مالئة أوقات فراغه��ا بقراءة القرآن. ورتبت بالتعاون مع إمام المس��جد نش��اطات للنس��اء، ورحالت ترفيهية وتثقيفية، وقد ذاع ص��يتها باألعم��ال الخيري��ة، وغ��دت مح��ل ثق��ة أه��لالحي، فالجميع يأتمنها على أمواله وصدقاته ومساهماته في األعمال الخيرية.

فاطمة من عائلة غني��ة عاش��ت أج��واء ال��ترف وجربته�ا، وال ش��يء من مف��اتن الدنيا أغراها، كانت تقول دائم��ا: "رأيت وخ��برت ك��ل ش��يء في ع��الم ال��ترف وال��ثراء، ولم أج��د غ��ير التص��نع والمظ��اهر الجوف��اء، تمام��ا كالمع��دن الص��دئ

المطلي بالذهب".

أي سر قادني إلى اللقاء بها، ونحن من عالمين مختلفين عجيبين، فنكون مع��اوتصبح معلمة أخالق وعرفان لي.

Page 159: books.almaaref.orgbooks.almaaref.org/static/documents/zoqaq.doc · Web viewكلّ هذه الذكريات والأصوات، کانت لا تزال تتردّد في زوايا حنجرة

159

ا في1980ظهيرة يوم الث��اني والعش��رين من ش��هر أيل��ول ع��ام ، كنت جالس�� مبنى رئاسة الوزراء، حين أعلن عبر الراديو أن الجيش العراقي اجتاز ح��دودناا. واحتل م��دنا حدودي��ة، وقص��ف مط��ار "مه��ر آب��اد" ال��دولي في طه��ران أيض�� بالمختصر المفيد، لقد بدأت الحرب. لم أصدق ما سمعت بادئ األم��ر، وبقيت مذهوال من هول الخبر، فلم تمض على عودتي إلى الم��نزل والحي��اة الطبيعي��ة سوى بضعة شهور، ومع سماعنا لهذا النبأ ب��دا الت��وتر ظ��اهرا على وج��وه ك��ل

الموظفين في رئاسة الوزراء، وعم القلق واالضطراب الجميع.

في اليوم التالي ناداني الحاج قاسم وسألني: "هل سمعت األخبار؟".- نعم.

- نحن ذاهب��ون إلى مدين��ة األه��واز، إن أردت المجيء معن��ا فجه��ز نفس��كبسرعة.

- وماذا عن الدكتور شمران؟ هل سيذهب إلى األهواز أيضا؟ - لقد ذهب الدكتور مع ناصر فرج الل��ه والعقي��د رس��تمي والس��يد حس��ني إلى

هناك منذ الصباح الباكر.- أنا معكم.. علي فقط أن أجري اتصاال بالمنزل ألخبرهم بذهابي.

- دع��ك من االتص��االت وال��بيت ي��ا س��يد، فلن��ذهب في الح��ال وفي الطري��قتهاتفهم.

لم أستطع أن أضيف كلمة، أدركت أنه بقوله هذا يهدف إلى التقليل من تعلقنا بالدنيا واألهل والعيال. هكذا كان الحاج قاسم دائما، بجملة واحدة يغير مس��ار

حياة الفرد ويقلبه رأسا على عقب.قرابة الظهيرة، انطلقنا أنا والحاج قاسم وعشرون شخصا تقريبا من

Page 160: books.almaaref.orgbooks.almaaref.org/static/documents/zoqaq.doc · Web viewكلّ هذه الذكريات والأصوات، کانت لا تزال تتردّد في زوايا حنجرة

160

اإلخوة في مبنى رئاسة الوزراء إلى مدينة األهواز في ثالث س��يارات من دونأي متاع.

خالل مسيرنا توقفنا في إحدى المدن التي لم أعد أذكر اسمها ألجري اتص��اال، وفي ذلك الحين حيث لم يكن لدينا ه��اتف في الم��نزل، اتص��لت بم��نزل جارن��ا المالص��ق لبيتن��ا "رض��ا طال". أج��ابت وال��دة "رض��ا"، وطلبت منه��ا أن ت��ذهب وتنادي والدتي. بعد دق��ائق ع��اودت االتص��ال فق��الت لي "أم رض��ا": "لم أج��د والدتك، لقد رأيتها عند باب الم��نزل من��ذ دق��ائق لكنه��ا اختفت فج��أة وال أعلم

إلى أين ذهبت، عاود االتصال بعد ساعة إن استطعت".

اضطررنا إلى إكمال مسيرنا ووصلنا بعد الظهر إلى مدينة "خرم آباد".

وبعد بحث وجدت هاتفا واتصلت مج��ددا بم��نزل "رض��ا"، ردت علي أمي ه��ذه الم��رة، وبع��د الس��الم واالطمئن��ان عن حاله��ا وقلت له��ا: "إن األم��ر يتعل��ق بالمعتدين العراقيين الذين ق��اموا ب��الهجوم علين��ا، وأن��ا ذاهب إلى األه��واز في

مهمة، لذا أردت أن أخبركم حتى ال تقلقوا علي".- ومن معك؟

- الحاج قاسم وبعض اإلخوة من رئاسة الوزراء.- ال بد من القيام بواجبك، اذهب، حماك الله.

ودعتها ووضعت سماعة اله��اتف وانطلقت، لم يكن عن��دي متس��ع من ال��وقت ألتحدث إلى فاطمة وماما ب��ري، فالش��باب جلس��وا في الس��يارات بانتظ��اري،

ويجب أن نمضي بسرعة. ركبت السيارة وأسرعنا نحو الهدف.

وص��لنا إلى األه��واز ظه��يرة الي��وم الت��الي. ك��انت الش��مس في كب��د الس��ماء،أشعتها تؤذي العين، والجو حار جدا، فحرارة الجنوب ال تطاق وخاصة

Page 161: books.almaaref.orgbooks.almaaref.org/static/documents/zoqaq.doc · Web viewكلّ هذه الذكريات والأصوات، کانت لا تزال تتردّد في زوايا حنجرة

161

عند وقت الزوال. بينما كنا نس��ير، خلت الطري��ق باتج��اه المدين��ة إال من بعض الس��يارات، لكن الجه��ة األخ��رى ك��انت تعج بالس��يارات والش��احنات وعرب��ات النقل التي ملئت باألثاث والوسائل والحقائب، وحتى أقفاص الدجاج والديك��ة،

حيث كانوا يخلون المدينة.

والذين لم يتمكنوا من تأمين سيارة أو وسيلة نقل ك��انوا يغ��ادرون س��يرا على األقدام، فرأينا النساء واألطفال والكبار والمسنين يحملون م��ا اس��تطاعوا من األغراض ويرحل��ون، لكن إلى أين؟ ال أح��د يعلم، ربم��ا إلى مدين��ة أخ��رى، إلى

مكان آمن.

داخل األهواز، كانت المحالت مغلقة ما خال بعض الدكاكين لبيع الشاي، وب��دت المدينة مهجورة خالية، وق��د دم��ر بعض منازله��ا، ولم يب��ق منه��ا س��وى كوم��ة

تراب.

اجتزن��ا ع��دة أزق��ة وأحي��اء س��كنية ووص��لنا إلى فس��حة تش��به م��رأب تص��ليح السيارات، وتوقفنا هناك؛ قال الحاج قاسم: "هنا مركز تجمع وملتقى الق��وات

العسكرية القادمة من طهران".

بتنا تلك الليلة في ذلك المرآب من ش��دة التعب وعن��اء الس��فر. وفي الص��باح الب��اكر قص��دنا مب��نى المحافظ��ة وس��ط مدين��ة األه��واز ال��ذي يق��ع خل��ف نه��ر

"كارون"، وقد تحول إلى مقر قوات الدكتور شمران.

عند مدخل المحافظة، رأيت ناصر فرج الله، وهو من أبناء حينا، قد أصبح بريد الدكتور شمران ويده اليم��نى. ه��و ش��اب طوي��ل القام��ة، ق��وي البني��ة، حس��ن الوج��ه والمظه��ر، وعط��وف ج��دا، وق��د لقب��ه ال��دكتور ش��مران "بالمفت��اح

، ألنه ما من عمل بحاجة إلى مهارة وحرفية إال وكان1الفرنسي"

1 . االستعماالت متعددة الكماشة تشبه أداة

Page 162: books.almaaref.orgbooks.almaaref.org/static/documents/zoqaq.doc · Web viewكلّ هذه الذكريات والأصوات، کانت لا تزال تتردّد في زوايا حنجرة

162

"ناصر" يتصدى له.

تبادلنا السالم ورحت أبحث عن المعارف واألص��دقاء وأبن��اء الحي في الباح��ة،��ا للق��اء ال��دكتور ا تقريب إلى أن نادان��ا ناص��ر ودخلت م��ع خمس��ة عش��ر شخص��

شمران.

وسط الغرفة، رأيت الحاج قاسم جالسا قرب الدكتور وقد بسط الخارطة. ما إن رآن��ا ال��دكتور ح��تى ق��ام من ف��وره وس��لم علين��ا بح��رارة، ومن دون أي مقدمات قال: "إن القوات العراقية تتقدم بك��ل وقاح��ة من جه��ة "خرمش��هر" نحو "األهواز"، وقوة الدرك لم تستطع أن تواجههم أو تصدهم، الشيء الوحيد الذي نستطيع القيام به اليوم هو أن نحاربهم بطريقة حرب العصابات، فنوج��ه

لهم الضربات لنوقف تقدمهم".

سأله أحدهم: "أين هم العراقيون اآلن؟ وكم يبعدون عنا؟".

أج�اب ال�دكتور: "هم على مس�افة كيلوم�ترين أو ثالث�ة من مدين��ة "حميدي��ة"، ومجهزون بمختلف أنواع السالح والعتاد، ونحن في مرمى نيرانهم، لذلك قب��ل كل شيء علينا أن نموه الس��يارات ونغطيه��ا بش��كل كام��ل ب��الطين والوح��ل، حتى ال تكون في مرآهم. وال تقوم��وا ب�أي خط�وة من دون التنس��يق م��ع قائ��د المجموعة، وال تتقدموا نحو خطوط األعداء قب��ل القي��ام بعملي��ات االس��تطالع،��ل من حتى لو تقدمتم مترا واحدا، فليكن ذلك بعد االس��تطالع الكام��ل كي نقل

خسائرنا".

سألته: " إذا ما هو دور الجيش؟". المدرع��ة"، وهم اآلن يح��اولون أن يص��دوا92- تح��دثت م��ع قائ��د ال���"فرق��ة

العراقيين ويوقفوهم، لكن الجيش العراقي أكثر ق�وة وتس�ليحا، كم�ا إن ق�رارجيشنا بيد بني صدر وعلينا أن ننتظر لنرى ماذا يقرر. حاليا هو يرى أن

Page 163: books.almaaref.orgbooks.almaaref.org/static/documents/zoqaq.doc · Web viewكلّ هذه الذكريات والأصوات، کانت لا تزال تتردّد في زوايا حنجرة

163

ندع العدو يتقدم وبعدها نطبق عليه كفكي الكماشة ونقطع أوصاله. - م��ا الفائ��دة من محاص��رته بع��د أن قص��ف ودم��ر وقت��ل؟ وه��ل من الس��هل

إخراجه؟

استمر الحديث والنقاش ساعة من الزمن. بع��دها خرجن��ا من غرف��ة ال��دكتور، وكما طلب منا أحضر اإلخوة عدة أكياس من التراب أفرغوها في الباحة، وأن��ا أيضا ش��مرت عن س��اعدي وب��دأت العم��ل معهم. س��كبنا الم��اء على ال��تراب،��ا جميع��ا على طلي الس��يارات ��ا ووحال رقيق��ا، وتعاون وخلطناه ح��تى ص��ار طين

وتمويهها بالوحل بشكل كامل.

حوالي الساعة العاش��رة ص��باحا نادان��ا ناص�ر هاتف��ا: "يق��ول ال�دكتور ش��مراناستعدوا جميعا، سنذهب إلى حميديه لالستطالع".

الطريق الوحيدة التي تصل األهواز بحميديه تستغرق ساعة واحدة وتتجه نح��و سوس��نكرد وه��ويزه. هن��اك ش��اهدنا من��ازل التبن والطين البس��يطة التابع��ة للقرويين الفقراء، وقد س��ويت ب��األرض، ورأين��ا الم��زارع وأش��جار النخي��ل ق��د��ا للملج��أ احترقت وتفحمت، ورأينا أكثر الناس يغادرون سيرا على األقدام طلب

والمأمن.

تركنا السيارات بالقرب من حميديه في مكان بعي��د عن م��رمى ن��يران الع��دو، م على األقدام، ثم صعدنا تلة قليلة االرتف��اع نش��رف منه��ا100وسرنا مسافة

على منطقة حميديه.

أخرج الدكتور منظارا واس��تطلع المك��ان، ثم ناول��ه لك��ل ف��رد من��ا ح��تى ن��رى خطوط ومواقع الع�دو. عن��دما وص��ل ال�دور إلي وض�عت المنظ�ار على عي��ني

وحدقت النظر في المنطقة برمتها..

ال أراكم الله سوءا، رأيت على بعد ستة أو سبعة كيلومترات جحافل

Page 164: books.almaaref.orgbooks.almaaref.org/static/documents/zoqaq.doc · Web viewكلّ هذه الذكريات والأصوات، کانت لا تزال تتردّد في زوايا حنجرة

164

ة كاأللع���اب الجيش الع���راقي ودبابات���ه ومدرعات���ه، وق���د اص���طفت متراص���البالستيكية، وكأننا نقف نتفرج على مناورة عسكرية!

عم الصمت لدقائق، وقد أصابنا الذهول من هول المنظر، فقد ك��انت فوه��ات مدافع الدبابات مصوبة نحونا. لم ندر ما علينا فعله بكل هذه الدبابات وما ه��و التكليف! الكلمة الفصل كانت للدكتور، فنحن لم نعهد من قبل معارك كه��ذه:

حيث إن أيدينا فارغة وأمامنا كل هذه الدبابات!

من تع��ابير وجهي أدرك ال��دكتور م��ا يج��ري في داخلي من اض��طراب، أخ��ذ المنظ��ار من ي��دي وق��ال: "حس��نا، انظ��روا من أين إلى أين ص��فوا دباب��اتهم،ا أمامنا، هم ال يخشون شيئا وسوف يتابعون تقدمهم من مشكلين جدارا فوالذي دون أي خوف، وقد قال صدام سوف نكون في األهواز في غضون ثالثة أي��ام، وبناء على ذلك، متوقع أن يصلوا األهواز يوم غد، إض��افة إلى ذل��ك ف��إن بعض العرب الذين يسكنون المناطق الحدودي��ة ت��ربطهم ب��العراقيين رواب��ط قراب��ة ومص��اهرات، وذل��ك بحكم الج��وار واللغ��ة المش��تركة، فق��د تزوج��وا بن��اتهم أو

زوجوهم بناتهم، ولهذا ال يمكن التعويل عليهم.

علين��ا أن ن��أتي بالجراف��ات ونس��تحدث س��واتر ترابي��ة متين��ة لص��د تق��دم ه��ذه ال��دبابات. أم��ا الحكوم��ة فق��د أعلنت التعبئ��ة العام��ة، وطلبت من ك��ل ال��ذين يستطيعون حمل السالح أن يلتحقوا بالجبهة، وعلى سبيل المثال كل من أنهى

قد تم استدعاؤه".1977خدمته العسكرية عام

م��ا إن ق��ال ذل��ك ح��تى أص��غت الس��مع، فأن��ا كنت ق��د ه��ربت من الخدم��ة��ني التحقت بمنطق��ة القت��ال فال داعي للقل��ق بش��أن العس��كرية، لكن بم��ا أن

خدمتي العسكرية.

عدنا إلى مبنى المحافظة بعد حوالي الساعتين من استطالع المنطقة.

Page 165: books.almaaref.orgbooks.almaaref.org/static/documents/zoqaq.doc · Web viewكلّ هذه الذكريات والأصوات، کانت لا تزال تتردّد في زوايا حنجرة

165

إن رؤية كل هذه الدبابات وهذا الكم الهائ��ل من ال��دمار والخ��راب ال��ذي ح��لبالناس أشعرتني باألسى والغم، وأحزن قلوب الجميع.

كانت بعض حافالت النقل متوقفة عن��د بواب��ة مب��نى المحافظ��ة، فق��د وص��لت القوات المتطوعة للقتال، ووقف أحد أبناء "الكميته" في "ش��ابور" أم��ام ب��اب الباص يرشد الشباب. كان طويل القامة، يضع قبعة خضراء، ويلف شاال أخضر

اللون على خصره داللة على أنه سيد.

تقدم الدكتور "شمران" من السيد وربت على ظهره قائال: "عافاكم الله، خ��ذ اإلخوة إلى آبادان ناحية الهويزة، حيث تقات��ل جماع��ة "ف��دائيو اإلس��الم"، فهم

بحاجة إلى قوات دعم أكثر منا".

في اللحظ��ة نفس��ها وص��ل ع��دد من ش��باب الح��رس من معس��كر حميدي��ة، وانضموا إلينا، وهم من أهالي منطقة األهواز والمدن المحيطة بالهويزة، فقال لهم الدكتور: "اذهبوا وأحض�روا لن�ا جراف�ات ح�تى ل�و بحثتم عنه�ا بين الحج�ر

والمدر، فمن دونها لن نستطيع القيام بشيء".

فقال أحد اإلخوة بلهجته األهوازية: "نحن بالكاد نجد س��يارة عادي��ة، فم��ا بال��كبالجرافات".

قال له ال��دكتور: "أج��ريت اتص��اال بمعاوني��ة الث��ورة وقلت لهم: ك��ل من عن��ده سيارة فليأتنا بها؛ سيارة عادية أو بيك آب أو سيارة ستيشن؛ مهما كان نوعه��ا

ستفيدنا هنا".

في اليوم التالي، أرسل الحاج قاسم ع��ددا من الق��ادة إلى "ك��رج"، ليحض��روا المتطوعين إلى الجبهة. وم�ع حل��ول غ�روب الي�وم الت��الي وص�ل ح�والي مئ�ة

شخص، فسر الدكتور كثيرا لرؤيتهم.

جمعنا الحاج قاسم في باحة مبنى المحافظة، وقال: "توزعوا على

Page 166: books.almaaref.orgbooks.almaaref.org/static/documents/zoqaq.doc · Web viewكلّ هذه الذكريات والأصوات، کانت لا تزال تتردّد في زوايا حنجرة

166

مجموعات، وانتخبوا قائدا لكل مجموعة".

عنص��را، وحينه��ا لم يكن33فتوزعنا على ثالث مجموعات، تض��م ك��ل واح��دة اختيار القائد مرتبطا بمدى علمه أو رتبت��ه ودرجت��ه، ب��ل بم��دى حذاقت��ه وقوت��ه

وقدراته.

ومن ثم بسط الدكتور شمران الخارطة مشيرا إلى الح��دود م��ع التوض��يحات؛ كانت مناطق "دب حردان، شمريه، دهالويه، طراح، كرخه ك��ور" األق��رب إلى الحدود مع العراق، وكان الجيش العراقي ي��دكها ويقص��فها بالم��دافع وق��ذائف الهاون ألف مرة يوميا. وبما أن خط العدو يقع خل��ف معس�كر "حميدي�ة"، ل��ذا لم يكن بمقدورنا استعادة المعسكر ولو بنسبة واحد بالمئة، لكن بالمقابل في المحاور والجبهات األخرى، وخاصة في منطقة "كرخ��ه ك��ور"، ك��انت الفرص��ة

أكبر للقيام بالمناورة والتسلل الليلي إلى مواقعهم.

ومن اليوم الثالث والرابع، ذهبت مع الح��اج قاس��م إلى مح��ور "ذو الفق��اري"، وهناك قسمنا المحاور والمناطق، وضعنا الحدود، وق��دت الفري��ق األص��غر إلى محور "فرسيه"، وكان معي "محم��د نجفي" و"حس��ين محم��ودي" ال��ذي لقب��ه اإلخوة هناك ب�"حسين السمين" لكثرة م��ا ك��ان ض��خما وس��مينا. ويق��ع مح��ور فرسيه على بعد كيلومترين من قرية "دب حردان"، وهو من جه��ة يط��ل على جادة أهواز - خرمشهر ومن جهة أخرى على "ك��وت عب��د الل��ه". هن��اك عملن��ا

على حفر المتاريس والمخابئ، وعلى رصد تحركات العدو.

كنا دائما في مرمى نيران العدو ال�ذي ظ��ل يقص�ف المنطق�ة ليال نه�ارا ونحننرى تحركاته بوضوح.

في األي��ام األولى للح��رب، ح��اول ص��دام جاه��دا احتالل األه��واز، ووض��ع ثقل��هللسيطرة على طريق "األهواز-سوسنكرد" و"األهواز - آبادان"، وتمكن في

Page 167: books.almaaref.orgbooks.almaaref.org/static/documents/zoqaq.doc · Web viewكلّ هذه الذكريات والأصوات، کانت لا تزال تتردّد في زوايا حنجرة

167

نهاية األمر من الحصول على أج�زاء منه�ا. لكن الجيش الع�راقي ك�ان ض�عيفا�ة، ولم يس�تطع التق��دم فيه�ا، وك��انت الغلب�ة للفرق��ة 16في المن��اطق الرملي

المدرعة من قزوين.

وشهد محور "كرخ��ه ك��ور" ال��ذي ك��ان بي��د "الس��يد محم��د مق��دم ب��ور" أش��د المعارك وأعنفها مقارن��ة ببقي��ة المن��اطق والمح��اور. أم��ا مح��ور "سوس��نكرد- ودهالويه" فك�ان تحت قي�ادة الرائ�د "اي�رج رس��تمي"، وه��و من أك��بر وأش��جع

رجاالت الحرب، ومحل ثقة الدكتور شمران.

من حيث العتاد والسالح، كان لدينا هاون في كل محور، إضافة إلى رشاش��ين ثقيلين كان الجيش قد أعطانا إياها، واستطعنا بفض��ل الجراف��ات ال��تي ق��امت بأمر من الدكتور "شمران" برفع سواتر ترابية منيعة ومحكم��ة ابت��داء من حي

(" إلى "فياض��ية" "وك��وت الس��يد ص��الح"7"ذو الفق��اري" ومحط��ة "آب��ادان ) وصوال إلى خلف "دب حردان وكرخ��ه ك��ور"، وحميدي��ه، وال��تي تش��رف عليه��ا تالل "الله أكبر". وبهذا استطعنا أن نصد هجوم الجيش العراقي باتجاه األهواز

ونعيق حركته وتقدمه إلى حد ما.

كنت ألتقي الدكتور "شمران" بشكل يومي تقريبا، حين ي��أتي لتفق��د المح��اور ومواقع المقاتلين، أو حينما أذهب أنا إلى مبنى المحافظة. وكان يقض��ي أك��ثر أوقاته في محور "كرخه كور" والق��رى المج��اورة ل��ه، ال��تي تتع��رض للقص��ف

العراقي العنيف.

في أح��د األي��ام ذهبت إلى المحافظ��ة، وعن��دما رآني ال��دكتور ق��ال لي: "أهالبالسيد، ما األخبار؟".

- نريد أن نضرب الدبابات، هل من سبيل لذلك.- مشكلتنا األساسية هي هذه الدبابات، فطبيعة المحاور والمسافات

Page 168: books.almaaref.orgbooks.almaaref.org/static/documents/zoqaq.doc · Web viewكلّ هذه الذكريات والأصوات، کانت لا تزال تتردّد في زوايا حنجرة

168

المتباعدة تحول دون تمكننا من اصطيادها بسهولة، وفي كل يوم يزداد عددهاأكثر وأكثر. اليوم خطرت ببالي فكرة للتخلص منها.

- ما هي؟moto- لو كان عندنا دراجات ناري��ة للقف��ز ) crossم��ع س��ائقين مح��ترفين )

وحاذقين، نستطيع بهذه الطريقة االقتراب واصطياد الدبابات.

خطرت بب��الي فك��رة، وألول م��رة أردت أن أتخطى الح��اج قاس��م وأق��ول م��اا أفك��ار بش��أن عندي، لذلك التفت إلى ال��دكتور وقلت ل��ه: "س��يدي ل��دي أيض��

الدبابات سأطرحها عليكم في الوقت المناسب".

ودعت الدكتور، وخرجت من غرفته وبقيت أنتظر حتى ينفض اإلخوة من حوله ألقول له ما عندي على انف��راد. وقفت عن��د ال��درج أنتظ��ر وإذا بالح��اج قاس��م

يناديني ويقول: "أنا أيضا أوافقك الرأي يا عزيزي السيد".

تعجبت من قوله وسألته: "توافق على ماذا؟".- على هذا الكالم الذي كنت تنوي أن تقوله للدكتور.

- إذا كنت موافقا فأخبره بنفسك.- ال، تعال لنخبره معا.

بعد دقائق دخلنا مجددا إلى غرفة الدكتور، وق��ال الح��اج قاس��م ل��ه: "بالنس��بة لسائقي الدراجات النارية الذين تحدثت عنهم فإن الس��يد يع��رف أين يج��دهم،

لكن جميعهم من األراذل وحملة السكاكين".

نظر الدكتور إلي وقال: "صحيح يا سيد؟ هل ما قاله قاسم صحيح؟".- نعم سيدي، أعرف أين أجدهم!

Page 169: books.almaaref.orgbooks.almaaref.org/static/documents/zoqaq.doc · Web viewكلّ هذه الذكريات والأصوات، کانت لا تزال تتردّد في زوايا حنجرة

169

- أجل، أنا أريد سائقين ماهرين يغوص��ون في س��احة القت��ال بال خ��وف، اذهب اليوم إلى طهران وأحضرهم لي. ه��ذا األم��ر أهم من أي ش��يء آخ��ر، ل��نر م��ا

تصنع يا سيد، وفقك الله.

في اليوم نفس��ه، ذهبت بس��يارة يقوده��ا "محم��د نجفي" إلى طه��ران، عن��دما وصلت إلى حينا ذهبت مباشرة لرؤية "جلي��ل نق��اد"، وه��و ص��ديقي ومن أبن��اء حينا، ورغم صغر سنه وضآلة بنيته، إال أنه كان من فتوات الحي، وكان الجمي��ع

يناديه "جليل قصير الساقين".

��ا مع أن أخ��اه التح��ق بمنظم��ة "مجاه��دي خل��ق" إال أن جلي��ل ك��ان رجال مؤمن وحس��ن الس��يرة والس��معة، واألهم من ك��ل ش��يء أن��ه ك��ان عاش��قا متيم��ا��ه يتقن إص��الحها بالدراجات النارية، ويعرف ك��ل ش��يء عنه��ا وفيه��ا، وح��تى إن بمهارة، فكان يشتري الدراجات القديمة ويعمل على إصالحها وبيعها، فبلمح��ة بصر يفك قطع الدراجات الناري��ة، يص��لحها ويعي��د تجميعه��ا من جدي��د، وك��انت

بالنسبة له كل حياته.

وكان يملك دراجة نارية جبلية كبيرة، وبقدر م��ا كنت متعلق��ا بطي��وري وأحبه��ا،كان جليل يحب دراجته ومتعلقا بها.

يومها، بعد أن قابلته وسلمت عليه وسألته عن الحال واألحوال، عرضت علي��ه موض��وع اص��طياد ال��دبابات، وأقنعت��ه بالق��دوم إلى الجبه��ة والمش��اركة في��ة الحرب. بعدها ركبت خلف��ه على الدراج��ة وذهبن��ا إلى أص��دقائه فت��وات محل مولوي، وطلبت من كل واحد ألتقي به الحضور إلى مبنى رئاس��ة ال��وزراء في تمام الساعة الثامنة صباحا، وأخيرا بعد ك��ل ه��ذه الج��والت ذهبت إلى م��نزلي

أللتقي أهل بيتي وعيالي.

في اليوم التالي، ذهبت باكرا إلى مبنى رئاسة الوزراء، وقد أتى خمسون

Page 170: books.almaaref.orgbooks.almaaref.org/static/documents/zoqaq.doc · Web viewكلّ هذه الذكريات والأصوات، کانت لا تزال تتردّد في زوايا حنجرة

170

شخصا من أصحاب الدراجات. ولما رآهم مسؤول التجنيد في رئاس��ة ال��وزراء وتأمل أشكالهم وهيئاتهم، تبسم مس��تهزئا وق��ال: "ه��ذه األش��كال ال تفي��د في الحرب، من هؤالء الذين جمعتهم وأتيت بهم إلي؟ الح��رب تري��د رج��اال أش��داء

وأقوياء، أم تظن أن أرض المعركة مكان لتسلية ولعب الشباب الصغار؟".

غضبت كثيرا وأردت أن أخنقه بيدي ه��اتين، لكني تم��الكت نفس��ي، ففي وقت عصيب كأوقات الحرب ينبغي تجنب الجدال. اتصلت بمرك��ز محافظ��ة األه��واز وتحدثت إلى الحاج قاسم وشرحت ل�ه الموض��وع. وبع�د س��اعة تمام��ا، اتص��ل الحاج قاسم وحل مشكلتنا في رئاسة ال��وزراء، ثم ذهبن��ا إلى محط��ة القط��ار

حيث سمحوا لنا بشحن الدراجات في مقصورة الركاب إلى األهواز.

وصلنا في اليوم التالي إلى األهواز، وأخذنا الدراجات النارية بشاحنات التويوتا الص��غيرة إلى مرك��ز المحافظ��ة. م��ا إن رأى ال��دكتور ش��مران الش��باب ح��تى استقبلهم، ورحب بهم بحفاوة وسلم عليهم فردا ف��ردا وع��انقهم على طريق��ة الفتوات. هذا االستقبال وهذه المعاملة جعاله يدخل إلى قل��وبهم من��ذ البداي��ة،

فأحبوه وأطاعوه حتى النهاية.

التفت الدكتور إلي وقال: "حقا إنك جئتنا بأوراق رابحة، أحسنت يا سيد، باركالله بك".

ثم جلس مع اإلخوة سائقي الدراجات وشرح لهم الخطة وقال: "سوف يصعد " "، فتذهبون إلى قلب العدو،B7مع كل واحد منكم أحد اإلخوة من رماة ال�""

وتقتربون من دباباتهم ق��در المس��تطاع، ثم وفي المك��ان المناس��ب تطرح��ون دراجاتكم أرضا بانتظار أن يرمي األخ المرافق دبابة العدو، ثم يقف�ز ثاني�ة إلى

الدراجة، وتنسحبان للخلف بسرعة البرق. هذا

Page 171: books.almaaref.orgbooks.almaaref.org/static/documents/zoqaq.doc · Web viewكلّ هذه الذكريات والأصوات، کانت لا تزال تتردّد في زوايا حنجرة

171

العمل يتطلب دقة وسرعة عالية".

بعد هذه الجلسة التوجيهية استودعت الشباب عند الحاج قاسم، ألنه كان علي ال��ذهاب إلى مح��ور "فرس��يه"، وبينم��ا أن��ا خ��ارج من المب��نى ن��اداني ال��دكتور "ش��مران" وق��ال لي: "س��لمت ي��داك عزي��زي الس��يد، إذا وفقن��ا الل��ه وأعانن��ا سيتحسن وضع دفاعنا كث��يرا، ففي ح��رب العص��ابات نعق��د أملن��ا على الن��اس

والشباب". - اطمئن ي��ا س��يدي س��وف يحص��ل ذل��ك، ال تنظ��ر إلى أش��كالهم ومظه��رهم الخارجي، ك�ل واح�د من ه��ؤالء الش�باب يع�ادل عش�رة جن��ود عراق�يين، إنهم

شجعان وقلوبهم طاهرة، وهذا ما تبحث عنه. - أعلم م��ا تري��د قول��ه؛ إن ه��ؤالء الش��باب كال��درر ال��تي وقعت في مس��تنقعل موحل، كلهم ذوو معدن طيب، وهم بحاجة فق�ط إلى الترب�ة الخص��بة لتتأص�

جذورهم. - أجل يا سيدي كما تفضلتم، إن هؤالء الشباب، وأخجل من قول ذلك، نصفهم ترعرع في مناطق تعج بالمش��اكل، ل��ذا هم أش��قياء، واش��تهروا في من��اطقهم

بأنهم من القبضايات والفتوات، لكنهم لم يرفضوا لي طلبا.- نحن نريد رجاال أشداء في الحرب فقط ال غير.

بعد ذلك ودعت الدكتور شمران وعدت إلى محور "فرسيه".

من بين الشباب المتطوعين الذين التحقوا بالحرب ك��ان هن��اك قراب��ة الثالثين شابا لبنانيا، وكلهم رفاق درب وجهاد الدكتور "شمران"، وق��د ق��اتلوا مع��ه في لبن��ان. جميعهم من ذوي األجس��ام الرياض��ية، ومن المتمرس��ين في الح��رب، وكان لهم تأثير جيد ومفيد، فمن جهة شاركوا في الح��رب وق��اتلوا الع��راقيين،

ومن جهة أخرى اشتغلوا بتعليم وتدريب القوات المحلية على

Page 172: books.almaaref.orgbooks.almaaref.org/static/documents/zoqaq.doc · Web viewكلّ هذه الذكريات والأصوات، کانت لا تزال تتردّد في زوايا حنجرة

172

��اB7التكتيكات العس��كرية واص��طياد ال��دبابات بق��ذائف " ". ك��انوا يرت��دون ثياب عسكرية مرقطة ك�زي ال�دكتور ش��مران، وبعض��هم وض�ع كوفي��ة على كتفي�ه، وحينها لم تكن الكوفية منتشرة ورائجة بين المق��اتلين بع��د، وتف��رد اللبن��انيون

وعناصر الحرس الثوري المحليون العرب بارتدائها.

لعله كان اليوم الثالث من الحرب، حين سمعت أنب��اء عن استش��هاد ثالث��ة من اإلخوة اللبنانيين بعد أن تمكنوا من ض��رب وت��دمير دب��ابتين أو ثالث، من بينهم "علي عباس" الذي كان ماهرا في اصطياد الدبابات، وكان من أكثر المق��ربين إلى الدكتور شمران، ويجيد اللغة الفارسية بطالقة، كنا تصادقنا معه بس��رعة،

وصرنا من أعز األصحاب.

صحيح أننا كنا نملك نخبا في الحرب ال يستهان به��ا، لكن تق��رر أن يق��وم عليعباس بتدريب الدراجين على اصطياد الدبابات بدراجاتهم.

مر على الحرب أسبوع، وكانت المحاور مزدحمة، ولم يتم تنظيمها بشكل جيد بعد، وك��انت الق��وات الواف��دة تس��تقبل في المرك��ز م��دة ي��ومين كي تس��تريح وتستعيد أنفاسها، وتتعرف إلى المنطقة. حينذاك أخليت المدارس في األهواز

وجهزت الستقبال القوات الشعبية والمتطوعين.

��ا كخ��ط خلفي والحقا قيل لنا إنه يجب على كل مس��ؤول مح��ور أن يعين مكان لقوات��ه، أي يجب على مس��ؤول المح��ور أن ينق��ل قوات��ه من المتط��وعين إلى الخط الخلفي الخاص به، وبدوري، جهزت مدرسة "مهرآيين" وصرت آخذ ك��ل المتط��وعين واإلخ��وة من حيي ومع��ارفي إلى هن��اك، وإن وج��د م��ا يكفي من الزي العسكري والس��الح جه��زتهم ب��ه وأرس��لتهم. فكنت ك��ل ي��وم بع��د ص��الةا منهم إلى الخط��وط األمامي��ة، وبالمقاب��ل أرج�ع معي إلى الصبح أحض��ر بعض��

الخط الخلفي الجرحى. حينها لم يكن لدينا ما يكفي من

Page 173: books.almaaref.orgbooks.almaaref.org/static/documents/zoqaq.doc · Web viewكلّ هذه الذكريات والأصوات، کانت لا تزال تتردّد في زوايا حنجرة

173

ا ��ا م�ا ك��انوا يعطونن�ا س�رواال فضفاض�� البدالت العس��كري والس�الح، ول�ذا غالب كاكي اللون عوضا عن ال��زي العس��كري، وبعض العناص��ر1)السروال الكردي(

كانوا يتوجهون إلى أرض المعركة بسالح من دون بزة عس��كرية. أم��ا أس��لحتنا��ا م��اM1 - وG3فكانت من طراز - وكالشينكوف وقنابل يدوية. وأنا أيضا غالب

ا ي��دوي الص��نع، ولم ا كاكي اللون، وأنتع��ل ح��ذاء كتاني كنت أرتدي سرواال كرديأكن ألضع الخوذة على رأسي أبدا.

صباح أحد األيام ناداني الحاج قاسم وق��ال لي: "ه��ذه الورق��ة هي رس��الة من المدرعة، وأحضر لن��ا من92الدكتور شمران، اذهب بسرعة إلى مقر الفرقة

" ".B7هناك عدة قواذف وقذائف "

وتوجهنا إلى مق��ر2ركبت مع أحد اإلخوة في شاحنة صغيرة من نوع "سيمرغ" المدرعة للجيش، وبقينا حتى الس��اعة الثاني��ة عش�رة ظه�را خل��ف92الفرقة

باب غرفة مس��ؤول التس��ليح، تنقلت من غرف��ة إلى غرف��ة ومن مس��ؤول إلى "B7مسؤول، أطلب من ه��ذا وأش��رح ل��ذاك، وك��ل من ك��ان يس��معنا نطلب "

كان يضحك علينا ويسخر منا ويذهب.

بع��د أذان الظه��ر ق��دموا على الغ��داء حس��اء البطاط��ا ب��اللحم، وأعطون��ا أن��ا والجندي الذي كان برفقتي حصتين من الطعام، ف�ذهبنا وجلس�نا تحت ش��جرة وتناولناه. في النهاية جاءنا جندي يحمل بيده كيسا من القنب فيه عدة قواذف

"B7.لكن من دون قذائف، ووضعه أمامنا "

قلت له: "وأين القذائف؟ هذه القواذف ال تنفع في شيء من دون قذائفها!".

1 . األكراد يرتديه الذي الواسع البنطال2 .) ( آب البيك أنواع من العتاد لنقل الخلف من مفتوحة سيارة

Page 174: books.almaaref.orgbooks.almaaref.org/static/documents/zoqaq.doc · Web viewكلّ هذه الذكريات والأصوات، کانت لا تزال تتردّد في زوايا حنجرة

174

أجابني بلهجته األهوازية: "وما شأنك؟". - ال يا أخي، لن آخذها! إلى أين آخذها؟ وما أصنع بها؟ وهل أبدو لك مجنونا أم

ناقص العقل؟

تجادلن��ا في األم��ر مط��وال، إلى أن تن��ازلت أخ��يرا! وبعص��بية وغض��ب حملتالكيس، وضعته في الشاحنة الصغيرة وقفلت عائدا.

وصلنا إلى مبنى المحافظة مع الغروب، وهناك قصصت على الحاج قاس��م م��ا جرى معنا، فضحك وقال: "حسنا ال بأس، أحضرت لنا القواذف ويجب أن نأخذ

قذائفها من العراقيين".

حينذاك كان السيد الخامنئي ممثل اإلمام الخميني، وكان يحضر إلى الخطوط األمامية أحيانا لتفقد أحوال المقاتلين واالطمئنان إليهم ورف��ع معنوي��اتهم. في إحدى اللي��الي س��معت أن الس��يد ذهب إلى مح��ور "رقابي��ه"، وحيث كنت في منتهى الشوق لرؤية س��ماحته قص��دت "رقابي��ه"، وهن��اك رأيت الس��يد ب��الزي العسكري الكاكي اللون، يتنقل من متراس إلى آخر، ويتفق��د اإلخ��وة ويطمئن إليهم. كان السيد نحيال، طويل القامة ذا وج��ه بش��وش، وك��ان يم��ازح اإلخ��وة،

فيضحكون ويدخل السرور قلوبهم.

بعد ذل��ك جلس الس��يد م��ع ال��دكتور "ش��مران" و"ناص��ر ف��رج الل��ه" و"الح��اج قاسم" في أحد المتاريس، يتجاذبون أطراف األحاديث، وقد انضممت إليهم إذ

دعوني لذلك.

��ا حفظه��ا كان سماحة السيد من المهتمين بالش��عر واألدب، وق��د أس��معنا أبياتا كنت من محبي حاف��ظ وأش��عاره، لكني لم أكن من "غ��زل حاف��ظ". أن��ا أيض����ا من�ه حافظا، لها وكنت دائما أحمل في جيبي كتيبا صغيرا من ديوانه أقرأ أبيات

كلما ضاقت بي الدنيا.

Page 175: books.almaaref.orgbooks.almaaref.org/static/documents/zoqaq.doc · Web viewكلّ هذه الذكريات والأصوات، کانت لا تزال تتردّد في زوايا حنجرة

175

��ة، وبقين��ا نتس��امر في تلك الليلة قرأنا عدة أبي��ات من أش��عار حاف��ظ العرفاني حتى وقت متأخر من الليل، وقضينا أمتع األوقات قرب السيد الخ��امنئي. ه��ذه االجتماعات وحضور سماحة السيد بين صفوف المقاتلين ترف��ع من معنوياتن��ا،

وحقا كانت نعمة كبيرة لإلخوة.

صلينا صالة الصبح بإمامة السيد الخ��امنئي، ونمت ثالث س��اعات بع��د الص��الة، وعند الظهيرة تناولت الغداء على عجالة في مب��نى المحافظ��ة. كنت مس��ؤول أحد المحاور، ويقع على عاتقي ألف عمل ألنجزه، لكني لم أكن راغبا باالبتع��اد

عن السيد، ووددت البقاء قربه.

كان الغداء دجاجا مقليا مع األرز. قدموا لكل عنص��رين دجاج��ة مقلي��ة دس��مة،وكانت شهيتي كبيرة لهذا النوع من األطعمة.

كان الدكتور شمران ينبهنا ويقول دائما: "أعلم أنكم شباب وأجسامكم بحاج��ة للتغذية، لكن ال تكثروا من الطعام، إن االكتفاء بالقليل منه ه��و أول درس في تربي��ة النفس والجه��اد األك��بر. عن��دما يحين وقت الغ��داء أو العش��اء ال تلهث��وا��ا عن الطع��ام. وإذا لم يص��لكم الطع��ام يوم��ا ولم تتن��اولوا ش��يئا وتركضوا بحث اعت��بروه ته��ذيبا للنفس وبن��اء لل��روح، ال تكون��وا من ال��ذين يش��ار إليهم على السفرة بالبنان من كثرة الشراهة، بل اشتهروا بعف��ة النفس وتفض��يل األم��ور

المعنوية على المادية".

ك��انت نص��ائح رائع��ة، لكن ه��ل تطبيقه��ا ممكن بالنس��بة لن��ا؟ لم يكن عرفانن��اا لم تكن لتص��مد م��ع ليصمد أمام الجوع، كن��ا في ح��رب، وه��ذه األجس��اد أيض�� الج��وع. فعلى س��بيل المث��ال، ت��وجب علين��ا فج��أة أن نس��ير مس��افة ثالث��ة كيلومترات على األقدام. كنا نحتاج إلى المزيد من اللياقة البدنية كي نس��تطيع

التصدي واالستمرار.

Page 176: books.almaaref.orgbooks.almaaref.org/static/documents/zoqaq.doc · Web viewكلّ هذه الذكريات والأصوات، کانت لا تزال تتردّد في زوايا حنجرة

176

ظن الكث��يرون أن الح��رب إن ط��ال أم�دها فلن تزي��د عن الش�هرين أو الثالث��ة ، لكن م��ع1أشهر، لهذا في بادئ األمر، أقيمت المطاعم والمقاهي "الصلواتية"

مرور الوقت تعقدت األمور أك��ثر، وازدادت الح��رب ض��راوة، وتواف��دت أع��داد��ل أكبر من القوات إلى الجبهة. فتم التوافق م��ع اتح��اد المط��اعم على أن توك

أشهر بالتناوب.3مهمة الطهي لكل مطعم مدة

عادة ما كانوا يقدمون لنا على الغداء وجبة ساخنة مع األرز، أم��ا العش��اء فه��و وجبات خفيفة، وبالنسبة للشاي فكنا نع��ده على الحطب، إلى أن وص��لتنا بع��د مدة طويلة حافظات الح��رارة الكب�يرة ال�تي تكفي لمئ��ة ش�خص، إض�افة إلى الق��دور الكب��يرة. في ب��ادئ األم��ر كن��ا نس��تعمل الخيم الص��غيرة والمت��اريس المنخفضة السقف التي تسع لشخصين أو ثالثة، لكن مع قدوم أعداد أكبر من المتط��وعين، اس��تبدلنا به��ا ش��يئا فش��يئا الخيم الكب��يرة والمت��اريس والدش��م

الجماعية. وكذلك صار عندنا حالق جوال وحمام صحراوي )ميداني( أيضا.

في أحد األي��ام، حف��ر الش�باب في األرض قراب�ة الخمس�ة أمت�ار ووص��لوا إلى الماء العذب. لذا كان يقال: "إن تراب األهواز يساوي ذهبا"، ثم ق��ام الش��باب بإحاط��ة الحف��رة بأكي��اس ال��تراب، وجهزوه��ا بحب��ل وس��طل، وص��نعوا حمام��اا، وهكذا صارت أك��ثر األم��ور واألعم��ال تنج��ز بهم��ة اإلخ��وة وابتك��اراتهم ميداني��ا في بعض األحي��ان نقص��د حمام��ات المدين��ة، وفي م��ا بع��د وإب��داعاتهم. وكن تط��ورت األم��ور أك��ثر، وأحض��روا لن��ا مقص��ورات متنقل��ة فيه��ا ص��نابير م��اء لالستحمام كي ال يتجشم المقاتلون عن��اء قط��ع مس��افة كيلوم��ترات من أج��ل

االستحمام.

تناقل الجميع أخبار الدمار والخراب الذي أحدثه العراقيون في القرى

1 . وآله محمد على الصلوات مقابل الشاي أو الطعام تقدم التي أي

Page 177: books.almaaref.orgbooks.almaaref.org/static/documents/zoqaq.doc · Web viewكلّ هذه الذكريات والأصوات، کانت لا تزال تتردّد في زوايا حنجرة

177

والمدن التي احتلوها، وخاصة الج��رائم البش�عة ال�تي ارتكبوه�ا في "اله�ويزه" والتي صارت حديث الناس وأثارت الحنق والغضب. فقد عانى أهالي اله��ويزه وسوس��نكرد والق��رى المحيط��ة الكث��ير من الظلم والج��ور في األي��ام األولى للحرب؛ فمن جهة قصف المدنيين وقتلهم، ومن جهة أخرى أوه��ام ب��ني ص��در وخططه الواهية في اإلطباق على العدو داخل حدودنا؛ ه��ذا م��ا أتعبن��ا. فبينم��ا كانت حرمة المدن تنتهك وتق��ع المج��ازر الجماعي��ة، هن��اك من جلس مكت��وف

اليدين يتفرج على انتهاك البعثيين ألرضنا خالل الشهرين األولين من الحرب.

رويدا رويدا تشكلت عمليات االستطالع، فحين بات العراقيون يخل��دون للن��وم وتخف وطأة نيرانهم، أمسى األخوة يتس��للون إلى عم��ق م��واقعهم ويجمع��ون

المعلومات عنهم.

في إحدى الليالي ذهبت مع الحاج قاسم وثالثة من اإلخوة إلى محور "رقابيه" لكي نستطلع مواقع العدو. كانوا قد وضعوا دباب��ة ق��رب متاريس��هم، ب��دت لن��ا خالية للوهلة األولى، اقترب منها أحد اإلخوة لتأمين طريقنا، فعبرنا من أمامها بهدوء. في ذلك الزمن، لم نكن نعرف م��اذا تع��ني اإلص��ابة المباش��رة بقذيف��ة الدبابة ورشاشها. توغلنا في قلب الظالم حوالي نصف ساعة، وم��ا إن اق��ترب

بزوغ الفجر حتى قال الحاج قاسم: "هيا لنعود قبل أن يرونا".

". ك��انتB7في طريق العودة وجدنا رشاش��ي كالش��نكوف، وخمس ق��ذائف " فرحتنا عارمة بهذه الغنائم فتأبطناها وتابعنا مس��يرنا باتج��اه س��واترنا، لم نك��د نتقدم مترين أو ثالثة، ح��تى كش��فنا الجن��دي الع��راقي ال��رابض داخ��ل الدباب��ة، وفتح علينا نار رشاشها، كما ظهر عدد آخر من الجنود العراقيين، وبلمح البصر

انقلبت األوضاع رأسا على عقب. كنا نركض بأقصى سرعتنا

Page 178: books.almaaref.orgbooks.almaaref.org/static/documents/zoqaq.doc · Web viewكلّ هذه الذكريات والأصوات، کانت لا تزال تتردّد في زوايا حنجرة

178

بشكل متعرج حاملين الغنائم نحو مواقعنا، وكان الرصاص يم��ر من بين أي��دينا وأقدامنا، وقد علقنا وسط مهلكة كبيرة. ناهي��ك عن احتم��ال إص��ابتنا برص��اص إخوانن��ا ال��ذين اس��تيقظوا وب��دأوا ب��الرد على مص��ادر ن��يران الع��راقيين. ت��ابع العراقيون إطالق النار العنيف نحونا، وبعضهم كان يعدو هنا وهناك، ال يدري ما

يفعل، ويولول باللغة العربية.

ما أن ابتعدنا قليال عن مواقعهم، حتى أصيب أحد اإلخوة برصاص��ة في قدم��ه، وعلى الف��ور أمس��كناه أن��ا والح��اج قاس��م من إبطي��ه بي��د وبالي��د األخ��رى كن��ا

"، وهكذا ساعدناه وسحبناه إلى مواقعنا.B7ممسكين بقذائف "

في الطريق، وقف أحد اإلخوة وفتح النار على األعداء ليؤمن انسحابا آمنا لن��ا. وبلطف الله مضت تلك الليلة على خ�ير، وع�دنا جميع�ا أحي�اء ولم نق��ع بأي��دي

العراقيين.

كان ضوء الصباح ق��د انبلج عن��دما وص��لنا إلى س��اترنا ال��ترابي، فارتمين��ا على األرض من شدة التعب، وهنا قال الحاج قاسم وهو يلتقط أنفاسه: "ي�ا ل�ه من استطالع! خذوا هذه القذائف، فاآلن يحلو استعمالها أكثر. اضربوا بها دباباتهم، لكن ليس بالجمل��ة، اص��بروا ح��تى يق��ترب اله��دف منكم وأص��يبوا دباب��ة بك��ل

قذيفة.

كان الدكتور شمران والحاج قاسم يبثان فينا روح الشجاعة والبسالة ويقوالن: "كل واحد منكم يملك قوة تعادل جيشا ك�امال". طبع��ا هم�ا أرادا ش��د عزائمن��ا لنصمد في مواجهة العدو، وإال فإن صاحب العقل السليم يعرف ويدرك تمام��ا أن الجيش العراقي يفوقن��ا من جمي��ع الن��واحي، ونحن ال نمل��ك أم��امهم ش��يئا

سوى إرادتنا الصلبة وإيماننا الراسخ.

بعد تلك الغزوة، صرنا كل ليلتين أو ثالث نتسلل باتجاه العدو، إما

Page 179: books.almaaref.orgbooks.almaaref.org/static/documents/zoqaq.doc · Web viewكلّ هذه الذكريات والأصوات، کانت لا تزال تتردّد في زوايا حنجرة

179

لالستطالع أو لنصب كمين له وتكبيده الخسائر بالعتاد واألرواح.

أدركنا جيدا أن سيفنا ال يقطع إال في الليل، فعندما ينام العراقيون نستطيع أن نغير عليهم ونهاجمهم ونلحق بهم األذى. وكان الدكتور "شمران" يشجعنا على

ذلك ويقول لنا: "ال تدعوهم يذوقون طعم الراحة والنوم".

��ا نري��د أن نثبت ج��دارتنا لتص��بح س��يرتنا على في ان��دفاع مرحل��ة الش��باب، كن ألسن الجميع، ويق��ول الجمي��ع مثال إن اإلخ��وة في مح��ور "ط��راح" هم أفض��ل��ا صائدي الدبابات. وفي الليل حيث نفذنا عدة عمليات تسلل واس��تطالع; تمكنمن تدمير دبابتين للعدو، حتى إننا وفقنا في إحدى الليالي ألسر جندي عراقي.

��ا وش��ماال المسكين كان غريبا عن المنطق��ة، فض��ل طريق��ه وراح ي��ذهب يمين حتى وقع بين أيدي اإلخوة، ولم يكن أحد من اإلخوة يعرف اللغة العربية، فق��د ك��انوا جميعهم من أه��الي طه��ران أو أص��فهان، وال يعرف��ون من العربي��ة غ��ير

كلمة: "من ربك؟" عبارة تعلموها من اللبنانيين.

سلم األسير إلى اإلخوة اللبنانيين ليقوم��وا باس��تجوابه ومعرف��ة م��ا في جعبت��ه من معلوم��ات. في الي��وم الت��الي انتش��ر خ��بر مف��اده أن اإلخ��وة في مح��ور��ه مج��رد "طراح" أسروا رائدا عراقيا. لكن فيما بعد، ع��رفت الحقيق��ة وهي أن

جندي عادي بال حول وال قوة!

أص��بح الوض��ع في مدين��ة1980في أوائ��ل ش��هر تش��رين الث��اني من الع��ام "سوسنكرد" سيئا جدا، هذه المدينة ك��ان ق��د احتله��ا الجيش الع��راقي م��رتين وفي الم��رتين تم تحريره��ا على أي��دي اإلخ��وة المجاه��دين، في الم��رة األولى

تمكن المجاهد "غيور أصلي" وبمساعدة صائدي الدبابات من تحريرها.

Page 180: books.almaaref.orgbooks.almaaref.org/static/documents/zoqaq.doc · Web viewكلّ هذه الذكريات والأصوات، کانت لا تزال تتردّد في زوايا حنجرة

180

في الشهر نفسه، حشد الجيش العراقي قوات��ه الحتالل سوس��نكرد، من ثالث��ة��ا محاور، وكان الدكتور ش��مران يعت��بر احتالل مدين��ة سوس��نكرد خط��را حقيقي ومحدقا على مدينة األهواز، لذلك أرسل مجموع��ة من اإلخ��وة الم��دربين على

حرب العصابات للدفاع عن سوسنكرد، وكنت أنا من بينهم.

وهناك عرفت جيدا ما معنى الهج��وم. حيث اس��تخدم الجيش الع��راقي أع��دادا وقذائف الهاون والمدفعية لدك المدينة وقصفها، حتىT-52كبيرة من دبابات

إنهم لم يرحموا المن��ازل الم��دمرة، ب��ل ك��انوا يقص��فونها لتحويله��ا إلى رك��ام. هناك رأيت ماذا يحل بالفرد عندما تصيبه قذيف��ة الدباب��ة، وكي��ف يتن��اثر أج��زاء وأشالء، كما شهدت مواجهة ال��دبابات ب��اللحم الحي، وأص��بحت أس��تاذا م��اهرا

" وقص��ف ال��دبابات. ولك��ثرة م��ا أطلقت منB7في اس��تعمال ق��واذف ال��� " " صار الدم يسيل من أذني، وجف على عنقي وياقتي، كما أصبتB7قذائف "

بدوار شديد. لكن الدبابات كانت كالسيل تأتي من كل حدب وص�وب وال نهاي�ةألعدادها.

أينما استطعنا بنينا المتاريس وقد تحولت المدينة بأكملها إلى دشم ومت��اريسلنا، ورددنا على النار بالنار. لكن أين نيراننا من نيران العراق؟

في اليوم التالي من المع�ارك، ش��دد الجيش الع�راقي الحص�ار ح�ول المدين��ة وضيق الخناق علينا. كان الجو في تلك األيام ب��اردا وم��اطرا، واألرض موحل��ة؛ ما صعب القتال أكثر فأكثر. أخذ ال��دكتور "ش��مران" جه��از الالس��لكي، وطلب من الخطوط الخلفية للجبهة مزيدا من األس��لحة والعت��اد، فق��الوا ل��ه: "العت��اد

موجود لكن في ظل هذا الحصار ال نستطيع أن نرسله لكم".

، أسرع واطلبه1ناداني الدكتور وقال: "هذه المهمة من اختصاص عباس

1 . مهدي مال عباس

Page 181: books.almaaref.orgbooks.almaaref.org/static/documents/zoqaq.doc · Web viewكلّ هذه الذكريات والأصوات، کانت لا تزال تتردّد في زوايا حنجرة

181

عبر جهاز الالسلكي وقل له أن يحضر العتاد واألسلحة لنا".- عباس زاغي؟

- نعم نعم، فقط عباس يستطيع أن يحضر العتاد والسالح.- يا سيدي، العدو يحاصرنا، وها هي دباباته تتقدم من خلفنا أيضا!

- ناد عباس، أسرع يا سيد ليس لدينا متسع من الوقت.

طلبت عباس عبر جهاز الالس�لكي فتح��دث ال�دكتور إلي�ه وأعط�اه التعليم�ات. كان عباس من أهالي حينا، شاب ذو عينين خضراوين واسعتين، شديد الج��رأة

ومغامر جنوني بال حدود.

بعد حوالي الساعة الحت لن��ا ش��احنة تويوت��ا ص��غيرة مغ��برة مترب��ة، مس��رعة نحونا من بين النار والدخان، مطلقة العن��ان لبوقه��ا. ك��ان عب��اس، وق��د جاءن��ا بالسالح والماء والغذاء. أسرع اإلخوة نحوه وأفرغوا السالح والذخائر بمح��اذاة جدار بيت مهدم كي ال تطالها نيران العدو. وبع��د ذل��ك أعطين��ا لك��ل مجموع��ة

" وشرش��ورا من الرص��اص. ك��ان بين العت��اد ع��ددB7خمسا وعشرين قذيفة " ملم، قسمناها أيضا بين المجموعات، ثم ق��ال60من قذائف الهاون من عيار

الدكتور: "قاتلوا يا إخوتي قدر استطاعتكم، المهم أن تصدوهم".

وبناء على هذا الكالم، لم يكن هناك من خطة عسكرية منظمة، ب��ل ب��ات ك��ل واحد يقاتل كما تملي عليه الظروف والمواقف. وحتى ال��دكتور ش��مران ك��ان تارة يرمي باآلر بي جي، وتارة يحمل الكالش��نكوف. همت��ه وس��لوكه ه��ذا بعث��ا��ا في أرض الحماس��ة في نف��وس الش��باب وقوي��ا ع��زيمتهم، وكلم��ا رأين��اه ثابت

المعركة كالطود، ارتفعت معنوياتنا للقتال.

Page 182: books.almaaref.orgbooks.almaaref.org/static/documents/zoqaq.doc · Web viewكلّ هذه الذكريات والأصوات، کانت لا تزال تتردّد في زوايا حنجرة

182

مع حلول فجر اليوم الثالث من المعركة، كانت بندقية العدو قد أصبحت ق��اب قوسين منا، ولم تهدأ نيرانه لحظة واحدة! وسقط عدد كبير من الشهداء، من

المقاتلين والناس العاديين الذين لم يغادروا المدينة وبقوا للدفاع عنها.

وعند الصباح ق��ام الجيش الع��راقي بانس��حاب تك��تيكي، ال أعلم لم��اذا، وأنش��أ كيلوم��ترات من المدين��ة س��واتر ترابي��ة على ش��كل ح��دوة3على مس��افة

الحصان، األمر الذي استغربناه، وكان يتناقض مع ك��ل م��ا ق��ام ب��ه من قص��فوتدمير للمدينة.

قمنا نحن أيضا بتحص��ين مواقعن��ا وانتظرن��ا األوام��ر. وم��ع توق��ف إطالق الن��ار وعودة الهدوء، جاءتنا شاحنتان ص��غيرتان محملت��ان بالم��اء والغ��ذاء وال��ذخائر،ا رغبت بني��ل قس��ط من الراح��ة أك��ثر من رغب��تي بالمؤون��ة لكني شخص��ي

والذخيرة، فقد مضت عدة أيام وليال لم أذق فيها طعم النوم.

��ارة، وتمكنن��ا من كس��ر أعتقد أنه في اليوم الثالث، وبع��د ص��مود ومقاوم��ة جب طوق الحصار، اضطررنا للخ��روج من المدين��ة مخلفين وراءن��ا ع��ددا من جثث الشهداء. ك��ان مس��ؤول المح��ور "رحيم كيل��ويي" فترك��ه ال��دكتور لل��دفاع عن المدينة، وذهب برفقة ناصر فرج الله والرائد ايرج رستمي والحاج قاس��م إلى محور "طراح"، ورافقتهم أيضا. وفي طريقنا إلى هناك رأينا "بيك آب" عب��اس زاغي متوقفة وسط الطريق بالقرب من ركام أح��د المن��ازل، والن��ار تلتهمه��ا، فقد أصيبت بقذيفة مباش��رة وش��بت الن��يران فيه��ا. ك��ان جس��د عب��اس داخ��ل السيارة، وقد تناثر القسم العلوي من جسمه وتالش��ى. أع��دمنا الوس��يلة، ولم نملك حيلة سوى أن نقف متفرجين، وال وقت وال إمكانية لس��حب جثمان��ه إلى

الخلف. كان وسام الشهادة يليق بعباس، فمن الله به عليه.

Page 183: books.almaaref.orgbooks.almaaref.org/static/documents/zoqaq.doc · Web viewكلّ هذه الذكريات والأصوات، کانت لا تزال تتردّد في زوايا حنجرة

183

��ة الحمص، لم تؤلم��ني، خالل انسحابنا من المدينة أصيبت ذراعي بشظية كحببل تسببت بحرقة خفيفة وما إن شددت عليها منديال حتى هدأ ألمها.

بعد ساعات، ذهبت إلى المركز الصحي، نظف��وا الج��رح وخ��اطوه بقطب��تين أوظية، ثم ض��مدوه، وبقيت الش��ظية في مكانه��ا ثالث من دون أن يخرج��وا الش��

إلى اليوم.

عن��دما ع��دت إلى مدين��ة "سوس��نكرد" ك��انت ق��وات ال��دعم التابع��ة للح��رسالثوري، وبمساعدة الجيش اإليراني، قد منعت سقوط المدينة.

لكن الصباح التالي شهد قيام دبابات العدو بقصف قرية "دهالوي��ة" ومحيطه��ا، وقد احتمل الدكتور شمران حدوث هجوم من قبل العدو، وله��ذا جه��ز س��ائقي

" واصطياد الدبابات. ذلك اليوم ك��ان تحتB7الدراجات النارية لنقل رماة ال�" إمرتي اثنا عشر دراجا، ومع حلول الساعة التاس��عة ص��باحا ب��دأ الع��دو قص��فه المكث��ف. تال ذل��ك هج��وم بس��يل اآللي��ات وق��وات المش��اة ال��ذين س��اروا بين الدبابات وخلفها باتجاه المدينة. تموضع الدراجون خلف الخنادق ال��تي حفره��ا العراقيون سابقا خارج المدينة، وكنت ق��د وزعتهم على ط��ول الخن��ادق وعلى مسافات محددة، ثم طلبت من رماة الرشاشات تأمين غطاء ن��اري لهم. وم��ا إن بدأت الرشاشات ب��إطالق الن��ار، ح��تى انطل��ق ال��دراجون تحت واب��ل الن��ار والرص��اص نح��و قلب األع��داء. وهن��اك أن��اخوا ركب دراج��اتهم وب��دأوا ب��إطالق

" واص��طياد ال��دبابات العراقي��ة ال��تي اش��تعلت فيه��ا الن��يرانB7ق��ذائف ال" وتصاعد دخانها إلى عنان السماء. عندها بدأ اإلخ��وة بالص��الة على محم��د وآل

محمد والتصفيق فرحا.في طريق العودة، أصيب أحد الدراجين إصابة مباشرة بقذيفة دبابة

Page 184: books.almaaref.orgbooks.almaaref.org/static/documents/zoqaq.doc · Web viewكلّ هذه الذكريات والأصوات، کانت لا تزال تتردّد في زوايا حنجرة

184

فتالشى جسده. لقد أباد ال��دراجون ح��والي رب��ع ال��دبابات، وك��انوا على دراي��ة��ون عالية بدراجاتهم، فعدلوا في محركاتها كي يخف ص��وتها فال يش��عر العراقي

بقدومها.

في تلك العمليات، أصابت شظية "جليل نقاد"، أمهر الدراجين وأمه��ر ص��ائديالدبابات.

حوالي الظهيرة، انس��حبت ال��دبابات العراقي��ة، وأثن��اء ذل��ك ق��امت الجراف��ات بتدعيم سواترنا الترابية، خاصة الضلع الشرقي والغربي لسوسنكرد، الواقعين تحت مرمى ومرأى األعداء. وقمت مع عدد من العناصر بتجهيز المتاريس في قري��ة "دهالوي��ه" ال��تي تعت��بر درع��ا لمدين��ة "سوس��نكرد". وألن بي��وت القري��ة الطينية ضعيفة تنهار بسهولة مع كل قذيفة، أقمنا سواتر ترابية هاللية الش��كل )حدوة حصان( على مداخل المدينة والمحاور التي يخشى التسلل من خاللها، كما جعلنا في أنحاء تلك السواتر دش��ما مدعم��ة ب��األلواح الخش��بية. وت��وزعت

150الس��واتر على مح��وري اليمين واليس��ار والمقدم��ة. ه��ذا وت��وزع ح��والي عنصرا على تلك السواتر.

ومن نتائج اصطياد الدبابات المثمرة، أن أصبحنا نمتل��ك رش��اش دوش��كا ألول مرة. في السابق، كنا قد رأينا رصاصاتها فقط، التي تعادل رصاص��تي رش��اش عادي من حيث الحجم، وبتنا نعلم أنه��ا ت��ؤدي إلى تقطي��ع أوص��ال من تص��يبه، وإذا ما أصابت ناحية البطن فإنها تحدث فيه ثقبا وفجوة بمقدار ك��ف الي��د من

الناحية األخرى وتقطع األمعاء.

��ه في اليوم الثاني من الدفاع عن المدينة، أصيبت قدم الدكتور برصاص��ة، لكن أبى الذهاب للخلف، بل ضمد جرحه وبقي يدير العملي��ات بص��البة أك��بر. ح��تى

إنه لم يهتم لجرحه ولم أره يئن أو يتأوه. كان صلبا ال يتزعزع.

Page 185: books.almaaref.orgbooks.almaaref.org/static/documents/zoqaq.doc · Web viewكلّ هذه الذكريات والأصوات، کانت لا تزال تتردّد في زوايا حنجرة

185

��ه أب��دا لم يغض��ب أو ربما شتمنا نحن العراقيين إذا ما أصيب أح��د رفاقن��ا، لكنيتراجع.

في تلك األيام، سمعت من أحد الرفاق أن الحاج قاس��م ق��د أص��يب برصاص��ة دوشكا إص��ابة بالغ��ة ناحي��ة الكت��ف، عن��دما ك��ان يعطي التعليم��ات في مح��ور

"كرخه كور".

��ني كنت في مح��ور لم أكن قد سمعت أخبارا عن الح��اج من��ذ ي��ومين، ذل��ك أن دهالويه، وانزعجت كثيرا عندما سمعت الخبر ولم أعد أستطيع البق��اء. انقبض قل��بي ل�ه، فأن��ا ال أطي��ق أن أراه يت��ألم أو يتع�ذب. أوكلت العم��ل إلى الرف�اق وركبت الدراجة الناري��ة نح��و مب��نى المحافظ��ة. هن��اك رأيت ال��دكتور ش��مران

وزوجته يجريان مقابلة تلفزيونية. وكان ضماد قدم الدكتور قد تلوث بالدماء.

جلست ألتقط أنفاسي، وعندما انتهت المقابلة، ذهبت إلى الدكتور الذي نهض عندما رآني وربت على كتفي قائال: "ليكن الله معك يا سيد، عافاك الل��ه، لق��د

سمعت بما جرى لقاسم وقد نقل إلى الخطوط الخلفية". - أريد أن أذهب ألراه، لكن قلبي ال يط��اوعني أن أت��رك الرف��اق وح��دهم، وأن��ا

حائر بين الذهاب وعدمه.��ك لن تس��تطيع أن - عد إلى الخط، هذا أفضل من تي��ه الرف��اق هن��اك، كم��ا إن

تفعل شيئا لقاسم.

وهذا ما فعلته، عدت إلى الخط، ولم يتكرر الهجوم العراقي في اليوم الت��الي.ا وبقيت عرض�ة لقص�ف متقط�ع. لكن ال أث�ر ألي مع�ارك، هدأت الجبه�ة نس�بي

وكأن العراقيين قد استنفدوا قواهم.

في اليوم نفسه أرسل الدكتور في طلبي، لكنني لم أذهب قبل الساعة

Page 186: books.almaaref.orgbooks.almaaref.org/static/documents/zoqaq.doc · Web viewكلّ هذه الذكريات والأصوات، کانت لا تزال تتردّد في زوايا حنجرة

186

ليال. ذهبت إليه في مب�نى المحافظ��ة، ك�ان يجلس وح�ده، فس��لمت علي�ه12وجلست قربه.

��ه لم يكن سألني عن وضع المح��اور والرف��اق، فأخبرت��ه أن األم��ور هادئ��ة. لكن ممن يكتفون برأي شخص واحد، بل كان يسأل الجميع، فبرأي��ه، لك��ل ش��خص وجهة نظره الخاصة. قال الدكتور: "لقد قمت بعم��ل عظيم بإحض��ارك له��ؤالء ال��دراجين، كم أتمنى ل��و أتمكن من تش��كيل كتيب��ة من ن��زالء الس��جون من )المشكلجيين( حملة السكاكين الشرسيين ال��ذين ال يعرف��ون مع��نى الخ��وف،

فالمقاتلون المعتادون النوم على ريش النعام ال ينفعون لهذا المكان".- نعم يا سيد، فهؤالء ال يهابون الموت، وهذا وحده يكفي للجبهة.

شخصا50- هم مختلفون عن المعلمين واألساتذة، ولم يكن باستطاعتنا جمع من المكتبات ألجل صيد الدبابات. أنا نفسي من أبناء سوق الحدادين وأع��رف روحيتهم وأحوالهم كثيرا، على سبيل المثال ذلك الف��تى "عب��اس زاغي"، ك��ان

��ه ك��ان10يوازي من الع��راقيين، ه��و لم يكن من أه��ل الكتب والدراس��ة، لكن مقاتال جيدا. في آخر مرة ذهبت فيها لزيارة والدي، رأيته في أول الزقاق يغط��ك كنت بالنوم بعد أن تناول جرعة من المخدرات، فقلت له: "يا فالن! أذكر أن رجال في يوم من األيام". فقال: "وما زلت، فالس��كين م��ا زالت معي"، فقلت

له: "ربما تحملها ألجل حالقة ذقنك!". فنظر إلي ثم طأطأ رأسه.

بعد عودتي من زيارة والدي، رأيته في أول الزقاق واقفا، فناداني وقال: أري��دأن أذهب إلى الجبهة!

في الي��وم الت��الي أتى إلى مب��نى رئاس��ة ال��وزراء، وعن��دما س��ألته عن أحوال��ه مرات في اليوم وال يستطيع التوقف عن3أخبرني أنه يتعاطى األفيون

Page 187: books.almaaref.orgbooks.almaaref.org/static/documents/zoqaq.doc · Web viewكلّ هذه الذكريات والأصوات، کانت لا تزال تتردّد في زوايا حنجرة

187

ذل��ك. فقلت ل��ه: "أعطه��ا لي، ألنهم س��يعتقلونك إذا وج��دوها مع��ك!". فق��ال عباس خجال: "لكني أخجل من ذل��ك". قلت ل�ه: "أعطه�ا لي، ال تخج��ل وارف��عا، وفي أح��د الكلفة بينن��ا". في النهاي��ة أدى ه��ذا األم��ر ألن ي��ترك األفي��ون نهائي

األيام رميت بالمخدر في نهر كارون أمام ناظريه.

بعد ذلك، أخرج الدكتور ورقة من جيبه، أعطاني إياها وقال: "اذهب في إجازة ساعة وأوصل هذه الرسالة إلى الحاج قاسم".24إلى طهران لمدة

فرحت كثيرا ودعته ومضيت. أردت الذهاب بالقطار لكنني التقيت أمام مدخل��ا إلى مبنى المحافظة بعبد الله زاده وهو من أبناء "ميدان ش��وش"، ك��ان ذاهب

طهران بشاحنة تويوتا )بيك آب(.

ركبت إلى جانبه، ووصلنا في الساعة الخامسة صباحا إلى طهران. ن��زلت في ميدان شوش وتقرر أن يقلني معه عندما يريد العودة إلى األهواز، ل��ذا أخ��ذت

رقم هاتف منزله، ثم ودعته وذهبت إلى المنزل.

ا ملوثا بالغبار، حتى إن رأسي ووجهي في ذلك اليوم، كنت أرتدي سرواال كردي كانا معفرين بالتراب، وقد استطالت لحيتي ونحل جسمي، وكان شعري حينها

ا ومجعدا. كث

عن��دما رأت��ني أمي بهتت، نظ��رت إلي لحظ��ات وق��الت: "أه��ذا أنت ي��ا أب��االفضل؟".

ساعات، حتى إنني لم أستحم. تناولت طعام4لم أمكث في المنزل أكثر من الفط��ور على عج��ل وح��دثت أمي وفاطم��ة والخال��ة ب��ري ببعض األم��ور، لكن ليست باألمور السيئة كثيرا، إذ يكفي الحرب وما تخلف من أحزان وهموم في

القلوب.

عند الساعة العاشرة صباحا، ذهبت إلى مسجد "توفيق"، وأقنعت

Page 188: books.almaaref.orgbooks.almaaref.org/static/documents/zoqaq.doc · Web viewكلّ هذه الذكريات والأصوات، کانت لا تزال تتردّد في زوايا حنجرة

188

"حس��ين محم��ودي" بمرافق��تي إلى الجبه��ة. ص��ليت الظه��ر في المس��جد، ثمذهبت لعيادة الحاج قاسم.

كان الحاج في مستشفى "معيري" مقاب��ل مستش��فى الح��روق، م��ا إن رأيت��هحتى انفجرت باكيا.

دنوت منه وقبلت قدمه، فبكى الحاج قاسم أيضا. كان في حال يرثى لها وق��د نحل جسمه كثيرا، كانت يده قد لفت بجبيرة وعلقت فيها األوزان، وقد أصيب إصابة بالغة في كتفه وجانبه. هن��اك أدركت مع��نى اإلص��ابة برصاص��ة دوش��كا،

فقد نهشت جانبه بالكامل، وكأنما أصيب بقذيفة دبابة.

ال��دكتور ش��مران. نظ��ر إليه��ا ثم ن��اولني إياه�ا1سلمت عليه وأعطيت��ه رس��الةمجددا وقال: "جعلت فداك اقرأها لي فأنا لست بحال جيدة".

كتب الدكتور بضعة سطور بخط جميل، حملت معاني دلت على س��مو روح��ه، ودلت على مدى قلقه على قواته، ومدى عالقته بالحاج قاسم. بكينا مع�ا أثن��اء ق��راءة الرس��الة. بقيت ح��تى العص��ر عن��د الح��اج قاس��م، ثم قفلت عائ��دا إلى

المنزل. وفي اليوم التالي، ذهبت لعيادته ثاني��ة. ك��ان طع��ام الغ��داء الكب��اب المش��وي، ناولته لقمة فقال: "أنت س��يد وي��دك مبارك��ة، وإن تن��اولت من��ك اللقم��ة فمن

المؤكد سأشفى بسرعة".

أجاب الحاج قاسم على رسالة الدكتور ببضع كلمات كتبتها له، ثم ودعت��ه بع��دالظهر، واتصلت بعبد الله زاده وتواعدنا في ميدان شوش.

عند الساعة الخامسة صباحا، ركبت شاحنة التويوتا إلى جانب عبدالله،

1 . الكتاب آخر المنشورة الوثائق في الرسالة عن صورة ضمت

Page 189: books.almaaref.orgbooks.almaaref.org/static/documents/zoqaq.doc · Web viewكلّ هذه الذكريات والأصوات، کانت لا تزال تتردّد في زوايا حنجرة

189

وكان صندوقها مليئا بالمتطوعين للحرب.

وصلنا إلى مدينة األهواز، وكانت باحة مبنى المحافظة تعج بالمق��اتلين الج��دد.

اصطحبني "ناصر فرج الله" إلى الدكتور الذي ك��ان يجلس هن��اك م��ع زوجت��ه.��د سلمت عليه فقال بحزن وأسى: "وعليكم الس��الم عزي��زي الس��يد، من الجي

أنك أتيت، هيا اجلس وأسمعني بضع أبيات من حافظ".

جلست وفتحت الديوان الجيبي فقرأت هذا البيت:قال البلبل لنسيم السحر أرأيت ما فعل بنا فراق الوردة

��ر عم��ا في فقال الدكتور: "كفى ال تكمل، أن��ا أع��رف ب��اقي األبي��ات، وهي تعبقلبي".

ا. بع��د دق��ائق خجلت أن أسأله عما يزعجه، وكانت زوجته تجلس واجم��ة أيض��من الصمت سألني الدكتور: "كيف حال الحاج قاسم؟".

أطبقت الديوان وأعدت��ه إلى جي��بي، ثم ن��اولت ال��دكتور رس��الة الح��اج قاس��م وقلت له: "إنه يرسل سالمه لك، وهو بخير والحمد لله..". لم يتحدث ال��دكتور

عن العمليات، وكان شارد الذهن.

، قام الجيش والحرس1981بعد حوالي الشهر، أي في كانون الثاني من عام الثوري إلى جانب الق��وات غ��ير النظامي��ة بعملي��ات كب��يرة، وب��رأيي هي أش��به بعمليات االستنزاف، لكنها كانت مؤثرة وواسعة، وقد شارك فيه��ا طالب النهج الخميني بقيادة "حسين علم الهدى". وكان من أهداف تلك العملي��ات، تحري��ر ثكنة عب��د الحمي��د، وإذا م��ا كتب له��ا النج��اح فس��وف تت��ابع لتحري��ر خرمش��هر والحدود. حينها كانت تلك المرة األولى التي أذهب فيها م�ع فري�ق للقت�ال في

منطقة الهويزة وثكنة عبد الحميد.

Page 190: books.almaaref.orgbooks.almaaref.org/static/documents/zoqaq.doc · Web viewكلّ هذه الذكريات والأصوات، کانت لا تزال تتردّد في زوايا حنجرة

190

في تلك األيام، ذهبت لالس�تحمام في األه�واز واتص��لت ب�المنزل للس�ؤال عناألحوال فأخبرتني أمي أن الله قد رزقني بطفل الليلة الماضية.

- مبارك، وماذا أسميتموه؟- سعيد.

وألننا اقتربنا من موعد العمليات لم أستطع الذهاب إلى بي��تي. بداي��ة، س��ارت العمليات بنجاح، وقد أنزلنا خسائر كب��يرة في ص��فوف األع��داء، وأس��رنا ع�ددا كب��يرا من جن��وده، لكن وبم��ا أن الق��وات لم تكن منس��جمة وتفتق��د اإلدارة والتدبير، أجبرنا وقبل تحقي��ق أه��دافنا على ال��تراجع واالنس��حاب إلى مواقعن��ا الس��ابقة. عن��د االنس��حاب أص��ابت رصاص��ة أو ش��ظية عض��لة فخ��ذي األيمن، وألن��ني لم أع�د ق��ادرا على ال��ركض، قف��زت إلى ناقل��ة جن��د ك��ان اإلخ�وة ق�د��ة، لكن بس��بب م��رور الناقل��ة غنموها وعملوا على نقلها إلى الخط��وط الخلفي فوق الحفر س��قطت منه��ا إلى األرض، وش��عرت ب��أن إص��بع ي��دي ق��د انكس��ر لشدة ما تألمت. نهضت بسرعة وعاودت القف��ز إلى الناقل��ة وتش��بثت بإح��دى الزواي��ا إلى أن وص��لت إلى المرك��ز الص��حي حيث ض��مدوا ج��رحي بش��كل سطحي ومؤقت، ومن ثم نقلت إلى مط��ار األه��واز ومن هن��اك بالط��ائرة إلى

طهران.

أيام، وقد لف إصبعي بجبيرة، وأجريت عمليت��ان7بقيت في المستشفى مدة جراحيت��ان لق��دمي، لكنهم لم يس��تطيعوا س��حب الرصاص��ة أو الش��ظية منه��ا، وقال األطباء إنها استقرت قرب العظم وعلينا شق العضلة عميق��ا كي نتمكن

أش��هر من االس��تراحة المطلق��ة. ف��إذا6من الوصول إليها وانتزاعها، ما يعني كانت ال تزعجك كث�يرا دعه�ا في مكانه�ا. قبلت األم�ر وع�دت بع�د أس�بوع من

العملية الجراحية الثانية إلى المنزل.

Page 191: books.almaaref.orgbooks.almaaref.org/static/documents/zoqaq.doc · Web viewكلّ هذه الذكريات والأصوات، کانت لا تزال تتردّد في زوايا حنجرة

191

كنت في بيتي ليال عندما أخبرني اإلخ��وة في رئاس��ة ال��وزراء أن "ناص��ر ف��رج الله" قد استشهد وأن الدكتور قادم إلى طهران للمشاركة في تش��ييعه. ك��ان

الدكتور يحب ناصر كثيرا، وعلمت أن استشهاده سيسبب له صدمة كبيرة.

في الغد، وبقدمي نص��ف المش��لولة، ذهبت إلى مب��نى رئاس��ة ال��وزراء أللتقيالدكتور وأطلع على أخبار اإلخوة هناك.

كان الدكتور حزينا وقلق��ا كث��يرا، والغم والهم ينض��حان من مالمح��ه. في ذل��كاليوم، رافقت الدكتور لعيادة الحاج قاسم.

ومن وداعة الدكتور، أنه عن��دما رأى الح��اج قاس��م ض��مه إلي��ه وقبل��ه، إذ ك��ان مولعا به أيضا ويحبه كثيرا. ورغم كونه شخصية ب��ارزة وص��احب منص��ب رفي��ع

في الدولة، إال أنه كان يأنس بالجميع ويصادقهم.

اجتمع الكادر الطبي حول الدكتور يسألونه عن أحواله. وعن��د الغ��روب، تركت��هعند الحاج قاسم وعدت إلى الحي.

في اليوم التالي، أقمنا مراسم ت��أبين للش��هيد ناص��ر في مس��جد أبي الفض��ل، حيث حضر المهندس بازركان، وعدد كبير من الوزراء. وقد ألقى الدكتور كلمة في المراسم. كما جاءت زوجة الدكتور، وكانت ص��ديقة لفاطم��ة. وهي س��يدة

عظيمة تشارك في أعمال الخير ورفيقة الدكتور أينما ذهب.

، ص��رت جليس الم��نزل، أطمئن عن أح��وال1981في ربي��ع )ن��وروز( الع��ام ا، وأنتظر إشارة منه للعودة إلى الجبهة. ظل الحاج يعطيني الحاج قاسم هاتفي جرعات األمل، وكنت كالتائه من دون��ه، أتف��رد به��ذا الش��عور وح��دي، ب��ل ك��ل��ا ��ون ل��ه المش��اعر نفس��ها. وعرف��وه رجال حنون المقاتلين في الجبهة كانوا يكن��ع ب��ه من مكان��ة وعظم��ة، إال أن��ه لم يكن يتخ��ذ لنفس��ه ورؤوفا. ورغم ما يتمت

حاشية أو يميز أحدا على اآلخر، بل كان يعامل الجميع

Page 192: books.almaaref.orgbooks.almaaref.org/static/documents/zoqaq.doc · Web viewكلّ هذه الذكريات والأصوات، کانت لا تزال تتردّد في زوايا حنجرة

192

معاملة واحدة. امتلك سلطة وص��الحيات، إال أن��ه لم يهن أح��دا أب��دا، وال س��أل مثال: يا هذا! لم تضع سلسلة ذهبية؟ أو لم تحمل سكينا في جيب��ك؟ ولم تض��ع

الشال اليزدي؟

ك��ان الح��اج قاس��م يق��ول: "إن ت��راب الجبه��ة مق��دس، ول��ه حرمات��ه، وأك��ثر األشخاص شقاوة تنقلب أحواله رأسا على عقب عن��دما ي��أتي إلى هن��ا. هن��ا ال يوجد أحد غيرك وغير الله، وال وس��اطة بين��ك وبين��ه، وه��ذا اللب��اس العس��كري يضع لك إطارا يحفظك من أن تميد بك أه��واؤك أو تحرف��ك.." لم يكن يت��دخل في أمور أحد، جل ما كان يقوله: "راقبوا راقبوا". وأينما ثقفته تره لهجا ب��ذكر

الله، ليس الذكر الظاهري وإنما الباطني العرفاني.

وإذا انفرد بي في الدشمة، يبادرني بالقول: "بالمقدار نفسه الذي تحافظ في��ه على نظافة ثيابك، عليك أن تحافظ أيضا على نق��اوة عيني��ك وقلب��ك ولس��انك، وأن تحذر في اختيار رفاقك. الجسم وال��روح متالزم��ان، إذا م��ا فس��د أح��دهما

فسد اآلخر..".

كان ملهم الصبر لإلخوة، يستمع إلى شكواهم وهمومهم.

في شهر أيار، عدت إلى الجبهة، إلى مح��ور ط��راح، ألن��ني كنت أع��رف أغلب مقاتليه. أصبحت قدمي في وضع أفضل، لكنني بقيت أعرج في مش��يتي بعض

الشيء، ولم يكن باستطاعتي الضغط عليها كثيرا.

يوما، أخبرني أح�د الرف�اق ع�بر الالس��لكي أن الح��اج قاس�م ج�اء إلى20بعد مبنى المحافظة في األهواز.

سررت كثيرا، ركبت الدراجة النارية وأسرعت إليه. لم يكن الح��اج ق��د تع��افى بشكل كامل، وما تزال يده مضمدة ومربوطة إلى عنقه. ساعدته في الركوب

على الدراجة وانطلقنا نحو محور "طراح". بعد ذلك صرت

Page 193: books.almaaref.orgbooks.almaaref.org/static/documents/zoqaq.doc · Web viewكلّ هذه الذكريات والأصوات، کانت لا تزال تتردّد في زوايا حنجرة

193

أرافقه أينما ذهب ألكون عونا له وحتى ال تعترضه المشاكل.

إحدى المصائب التي كان يعاني منها الحاج هي استعمال المرح��اض المي��داني في الجبهة، حيث ال ماء فيه. وكان علينا أن نحمل وعاء الم��اء ونس��ير مس��افة

فرسخين أو ثالثة حتى نمأله بالماء ونعود لقضاء الحاجة.

وم��ع وج��ود ه��ذه المش��قات والص��عوبات اق��ترحت على الح��اج قاس��م: "منن �ة إلى أن تتحس�� األفضل أن تبقى في مبنى المحافظة وتتولى األم��ور القيادي

حال يدك".

لكن الحاج لم يقبل رغم إصراري وقال: "ال أقدر ي��ا س��يد، علي أن أك��ون فيالخطوط األمامية إلى جانب اإلخوة".

ذات يوم جاء إلي وقد ساءت حاله كثيرا، قال: "ي�ا س�يد م�اذا أفع�ل؟ لم أع�دأحتمل!".

قلت له: "تعال يا حاج، أنا سوف آخذك إلى مبنى المحافظة".

كانت قذائف الهاون تتساقط علينا بين الفينة واألخرى! الجيش العراقي ي��دك كل شبر من أرض الجبهة، ما اضطرنا كل يوم ألن نعيد بن��اء س��واترنا الترابي��ة

وإصالح متاريسنا.

ركبنا الدراجة واصطحبته إلى مبنى المحافظة، وهناك فتش��ت في ك��ل مك��ان حتى عثرت على خرطوم ماء ووصلته بصنبور المرح��اض ليس��هل على الح��اج

قاسم استخدامه، ثم أعدته إلى الخط األمامي.

ا، وق��د خفت وت��يرة القص��ف الع��راقي، في شهر أيار، كانت األمور هادئة نسبيا ونتب��ادل األح��اديث. في أح��د لذا وجدنا فرصة كافية لنتحلق حول بعضنا بعض��

األيام، علمنا أن السيد أحمد الخميني اتصل بالدكتور

Page 194: books.almaaref.orgbooks.almaaref.org/static/documents/zoqaq.doc · Web viewكلّ هذه الذكريات والأصوات، کانت لا تزال تتردّد في زوايا حنجرة

194

شمران وقال له إن اإلم��ام ق��د اش��تاق ل��ك ويري��د أن ي��راك. ف��ركب ال��دكتور مروحية وذهب لرؤي��ة اإلم��ام، وعن��دما ع��اد إلين��ا اجتمعن��ا حول��ه وس��ألناه عن أحوال اإلمام وأخباره. فقال لنا الدكتور: "عن��دما وص��لت إلى هن��اك وحض��رت في خدمة اإلمام، جلس يتأمل في وجهي عدة ث��وان ثم ق��ال: مص��طفى، أنت فن��ان، والفن��ان يجب أن يك��ون ذا ل��ون واح��د، انظ��ر إلى أغلى وأثمن أن��واع السجاد المتعددة األلوان تكون تحت األقدام، لكن انظر إلى السماء كيف تعلو كل ش��يء، لم��اذا؟ ألنه��ا ذات ل��ون واح��د؛ إن الل��ون الواح��د واألمان��ة أس��اس

العشق".

كان الدكتور شمران بالنسبة لنا حكاية عشق وعرفان، فهو محل ثق��ة اإلم��ام، ويحظى بمكانة كبيرة عنده. فهو الرجل الحديدي الذي واجه الجيش الع��راقي بيدين فارغتين، وكنا نحن مأخوذين بعرفانه وإرادته القوية والثابتة. كان الرجل

الذي لم يستطع أحد الوقوف بوجهه.

في تلك األيام بحث الدكتور عن طريقة يوقف فيها تق��دم الع��راقيين، فأحض��ر ما يقارب العشرين جرافة، وأمر بحفر خن��دق كب��ير غ��رب مدين��ة األه��واز إلى جانب جادة األهواز -سوسنكرد، ثم باالستفادة من مياه نهر كارون صنع بحيرة صناعية لمنع تقدم الجيش العراقي، فمن جهة امت��دت قن��اة المي��اه والس��واتر الترابي��ة إلى مش��ارف كرخ��ه ك��ور، ومن الجه��ة الثاني��ة وص��لت إلى مش��ارف فرسيه ورقابيه وشمريه، وعندما أطلقت مياه النهر ع��بر تل��ك األقني��ة غم��رت السهل الممتد بين سوسنكرد والهويزه. كما جرت قناة مياه أخرى إلى األم��ام من "كوت سيد نعيم" فحالت دون تقدم العراقيين الذين اض��طروا لالنس��حاب إلى ما وراء نهر نيسان، وجرت مياه نهر كرخه ع��بر قن��اة إلى جاللي��ه وك��وت؛

الخطة التي استخدمها العراقيون في عمليات رمضان.

Page 195: books.almaaref.orgbooks.almaaref.org/static/documents/zoqaq.doc · Web viewكلّ هذه الذكريات والأصوات، کانت لا تزال تتردّد في زوايا حنجرة

195

بعد أن فشل العراقيون في التقدم ناحية سوسنكرد، انس��حبوا إلى تالل "الل��ه أكبر"، وكان الدكتور يعرف أن الجيش العراقي ضعيف في المناطق الرملي��ة، لذا وضع خطة لتحرير هذه الهضاب ح��تى يبع��د الع��دو عن سوس��نكرد بش��كل

نهائي. حزيران، بدأت االشتباكات على تالل "الله أك��بر" تحت اس��م عملي��ات11في

المدرع��ة92اإلمام علي، وشاركت فيها إلى جانبنا قوات الجيش من الفرق��ة في األه��واز وق��وات من الح��رس الث��وري. وك��انت تل��ك أول عملي��ة رس��مية تخوضها قيادة الحرب غير الكالسيكية، فح��تى ذل��ك الحين اقتص��ر عملن��ا على الدفاع، وصد هجوم الجيش العراقي أو تس��ديد ض��ربات ل��ه، لكن ه��ذه الم��رة كان الجيش العراقي مستقرا على الهضاب ومسيطرا عليها، وعلين��ا مهاجمت��ه

وتثبيت موطئ قدم لنا.

وفي تلك العملية كنت مسؤول أحد المحاور.

قب��ل ب��دء العملي��ات، أرس��لت ثالث مجموع��ات من اإلخ��وة الس��تطالع مواق��ع العدو، ورافقتهم في إحدى هذه الجوالت، حيث رأيت حقل األلغام ألول م��رة. ك��انت مس��احة من األرض مليئ��ة ب��أنواع مختلف��ة من األلغ��ام، فعم��ل اإلخ��وة المختصون على استكشافها بحربة البندقية ومن ثم تفكيكها وفتح معبر لقواتنا

خطوة بخطوة، وعبروا الحقل بسالم.1الذين ساروا خلف عناصر التخريب*

سارت وتيرة هذه العمليات بسرعة وكان التنسيق والتخطيط جي��دا، وقب��ل أن تح��ل الس��اعة الثاني��ة عش��رة كن��ا مس��يطرين على تالل "الل��ه أك��بر" كاف��ة،

وانسحب العدو مسافة ستة كيلومترات مخلفا وراءه قرابة األربعين جثة،

1 . والمتفجرات االلغام وتركيب فك مهمتهم

Page 196: books.almaaref.orgbooks.almaaref.org/static/documents/zoqaq.doc · Web viewكلّ هذه الذكريات والأصوات، کانت لا تزال تتردّد في زوايا حنجرة

196

حينها أمر الدكتور بحفر قبور جماعية لدفن جثث العراق��يين أعلى التالل ال��تيسيطرنا عليها بعملية ناجحة وسريعة لم تستغرق سوى يوم واحد.

عنصرا للدفاع عن التالل، وكنت مس�ؤوال عن أح�د المح��اور150ثبت الدكتور فيها.

اعتاد ال�دكتور حين يوك�ل مهم�ة إلى أح�د أو يحمل��ه مس�ؤولية، أن ي�ترك ك�ل األعمال على عاتق��ه، ولم يكن ليملي علي��ه م��ا يفع��ل وم��ا ال يفع��ل، ب��ل ك��ان يكتفي بالمراقبة والتوجي�ه. هن�اك وقعت جمي��ع األعم�ال على ع�اتقي، القت��ال وتأمين المؤونة وغيرها. وهناك وجدت نفسي، حاولت أن أعمل فك��ري وأب��رز قدراتي. وكانت العناصر تدرك أنني أشكل ثقال، فكانوا يحترمونني وينفذون ما

أقول.

دائما ما كان الدكتور يقول: "اتباع األوامر ش��يء، واالس��تقالل الفك��ري ش��يءآخر".

في تلك األوضاع استشهد علي عباس، ذلك المجاهد اللبناني الذي علم اإلخوة " واص��طياد دباب��ات الع��دو. نقل��وا جثمان��ه إلىB7الدراجين على استخدام ال�"

طهران، فسافر الدكتور شمران إلى هناك ليشارك في تشييعه.

في غياب الدكتور حصل اش��تباك ع��نيف في دهالوي��ة استش��هد خالل��ه ص��ديقه الشجاع ايرج رستمي. وعندما وصله الخبر عاد بالطائرة مسرعا إلى األه��واز. كنت حينها في محور طراح حيث جاء الدكتور وسائقه "حدادي" والسيد مهدي��اهم. شمران مع شخصين أو ثالثة مباش��رة إلى هن��اك، واألس��ى ب��اد على محي كان مسؤول محور طراح السيد مهدي مقدم بور. عقدت جلسة وعين مق��دم بور خلفا للشهيد رستمي في محور دهالويه. كم��ا عين ال��دكتور الح��اج قاس��م

مسؤوال لمحور طراح، وحيث كان الحاج قاسم يعاني

Page 197: books.almaaref.orgbooks.almaaref.org/static/documents/zoqaq.doc · Web viewكلّ هذه الذكريات والأصوات، کانت لا تزال تتردّد في زوايا حنجرة

197

من إصابته في يده، أصبحت عمليا مسؤول المحور، لكني قلت للدكتور: "أريدأن أكون معك".

بعد الظهر، وفي حر شهر حزيران، ركبنا جميعا في الس��يارة وانطلقن��ا باتج��اه دهالوي��ة. عن��د الغ��روب وص��لنا إلى مش��ارف سوس��نكرد، وهن��اك توقفن��ا قليال لالستراحة. نزلنا من السيارة وش��ربنا القلي��ل من م��اء قواريرن��ا. ب��دا ال��دكتور حزينا ج�دا لفق�د الرائ�د رس��تمي، ك�ان مس�تغرقا ب�التفكير ولم ينط�ق بكلم�ة واحدة. وبينما كنت أنظر إليه، رأيته يسير نح��و ش��احنة متفحم��ة متوقف��ة على بعد مئة متر كأنما أصيبت بقذيفة مباشرة ولم يبق منها غير كومة حدي��د، ك��ان غطاء المحرك محطما بالكامل، وقد ظهرت قطع المحرك كلها. عن��دما وص��ل الدكتور إليها، انحنى على محركها، ما أثار فين��ا الفض��ول ورحن��ا نتس��اءل عم��ا

يفعله.

ذهبت إليه ورأيته مشمرا عن س��اعديه ويح��رك مخ��زن م��برد المح��رك، فج��أة سمعت زقزقة عصفور. طلب الدكتور مني أن أحضر مفتاح المواسير، فأخذه وراح يط��رق على المخ��زن وص��وت العص��فور لم ينقط��ع لحظ��ة واح��دة. بع��دا فح��اول دقائق رأيت عصفورا ص��غيرا في ي��د الرج��ل. ك��ان المس��كين عطش�� الشرب من مخزن مبرد المحرك، لكن جناحه علق بين سبائكه وحبس داخل��ه

وعندما أنقذه الدكتور أخرجه مبلال وخائفا ينبض قلبه بشدة.

رفع الدكتور الطير نحو السماء وقال بقلب منقبض: "أنا أحررك فاذهب، إلهيأقسم عليك بحرية هذا الطير أن تحرر روحي فقد تعبت".

تلك الحال العرفانية عند الغروب الكئيب أربكت كياننا جميعا، وشعرت بقل��بي يعتصر ألما، كنت حينها شابا في مقتبل العمر، فلم أع ما يعانيه ال��دكتور، وه��و

الذي جاء إلى هنا بإرادته ومن دون إصرار أو إجبار

Page 198: books.almaaref.orgbooks.almaaref.org/static/documents/zoqaq.doc · Web viewكلّ هذه الذكريات والأصوات، کانت لا تزال تتردّد في زوايا حنجرة

198

من أحد، فما الذي أتعبه يا ترى؟ لعله تعب من هذه األسفار العسكرية وحمل السالح والعيش في المتاريس باللباس العسكري من دون ن��وم أو راح��ة. من لبنان والحرب مع اإلسرائيليين، إلى كردستان والحرب مع أعداء الث��ورة، ومن

ثم الحرب العراقية-اإليرانية.

��ه ض��اق باألوض��اع كان الدكتور بالنسبة لنا رم��ز المقاوم��ة واالس��تقامة، بي��د أن�ا إلى ه��ذا الح��د، وك�ان يعت��برني موض��ع أس��راره، ��ا تعب ذرعا. لم أره يوما كئيب يتحدث إلي ويبثني شجونه، وأنا بدوري كلما مللت أو كللت كنت أستمد القوة منه، لكنه في ذلك اليوم أمسى منكفئا على نفسه. في العادة عند دخوله في حال معنوية، كان يلجأ إلى التخطيط أو يقرأ الشعر، وأحيانا يناجي ربه بش��كل جميل. في ذلك الغروب وفي ذلك السهل المقفر، وقف الدكتور قبال��ة ش��عاع الشمس القاني وق��ال: "إلهي أن��ا عب��دك المس��ن التعب مكس��ور القلب وق��د

ضاقت بي هذه الدنيا وال أمل لي بها، ما أطلبه هو الخلوة بك فقط..".

بقينا نتأمل مناجاته حيارى، وبعد حوالي الساعة ركبنا السيارة وانطلقنا، وصلنا م��ع حل��ول الظالم إلى دهالوي��ه. وهن��اك بكى ال��دكتور على "رس��تمي" كث��يرا، وقال: "لقد بذلت الكثير في هذه الحرب يا رستمي". ثم ع��انق مه��دي مق��دم بور وبكيا معا. وبعدها، سلم على الجمي��ع ورثى الش��هيد بم��ا يلي��ق، ثم تحلقن��ا حول بعضنا البعض، وفتح أحدهم معلبات الكرز الحامض وتناولناه��ا جميع��ا. ثم

التفت إلي وقال لي: "هل ديوان الشعر معك يا سيد؟".

أخرجت كتيب الشعر من جيبي وفتحته، فكان هذا البيت:لن أشكو الغرباء أبدا

Page 199: books.almaaref.orgbooks.almaaref.org/static/documents/zoqaq.doc · Web viewكلّ هذه الذكريات والأصوات، کانت لا تزال تتردّد في زوايا حنجرة

199

1فكل ما ألم بي من األقارب

تلك الليلة عرف الدكتور الحاضرين إلى األخ مهدي مق��دم ب��ور وقدم��ه خليف��ة للرائد رس��تمي، وألن��ه لم يكن على معرف��ة بمح��ور دهالوي��ة ق��رر ال��دكتور أن

يطلعه على األمور ويوجهه في الليلة نفسها.

في منتص��ف اللي��ل، نهض ال��دكتور وق��ال: "يجب أن أذهب بس��رعة، ف��اإلخوة ينتظرونني، عزيزي قاسم سامحني على كل شيء، إذا لم نر بعضنا بعضا بع��د

اليوم فسيكون ذلك يوم القيامة".

ثم التفت إلي وق��ال: "عزي��زي ي��ا س��يد، أس��ألك ال��دعاء، ربم��ا لن نلتقي بع��داليوم".

قلت له: "ما هذا الكالم يا دكتور؟ فليحفظك الله ويرعاك".

ذهب الدكتور من أجل تعريف السيد مه��دي مق��دم ب��ور إلى األخ��وة وتس��ليمهالمهام، أما أنا والحاج قاسم فركبنا السيارة وعدنا إلى طراح.

في الطري��ق ق��ال لي الح��اج قاس��م: "أأق��ول ل��ك ش��يئا ي��ا س��يد؟ ال أري��د أنأتشاءم، لكن الدكتور راحل ولن يعود هذه المرة".

مع سماع هذا الكالم انقبض قلبي وقلت له: "أتظن ذلك؟".

قال: "أعرفه جيدا، وهو يوحي أنه مفارقنا".

وصلنا في الصباح إلى ط��راح، ورحن��ا إلى العص��ر نج��ول في الخ��ط ونتفق��ده، لكن القلق صار ينهشني وال يقر لي قرار، ك��ان من المق��رر أن أذهب أن��ا إلى محور كرخه كور، وأن يبقى الحاج قاسم في طراح، لكننا بقينا معا ولم نذهب

إلى مكان.

كرد 1 آنآشنا كرد جه هر من با كه ننالم هركز بيكانكان از من

Page 200: books.almaaref.orgbooks.almaaref.org/static/documents/zoqaq.doc · Web viewكلّ هذه الذكريات والأصوات، کانت لا تزال تتردّد في زوايا حنجرة

200

حزي��ران، تم اإلعالن ع��بر الالس��لكي أن21في عص��ر الي��وم الت��الي، أي في الدكتور عرج إلى المأل األعلى. يبدو أنه بينم��ا ك��ان يوج��ه اإلخ��وة في أط��راف

إلى جانب��ه؛ من الق��ذائف ال��تي ال1دهالوية، سقطت ثالث قذائف هاون غ��ادرة تحدث صوتا وال صفيرا، والتي تسقط بجانب الف��رد وتنفج��ر فج��أة، فاستش��هد

الدكتور شمران على الفور والسيد مهدي مقدم بور وحدادي.

ا في ش��احنة صعقنا لسماع هذا الخبر واضطربنا، ركبنا قرابة العشرين شخص�� التويوتا وأس��رعنا إلى دهالوي�ة، ك�ان الح��زن والغم والبك��اء ح�ال الجمي��ع، في الطريق التقينا باإلخوة ينقلون جثمان الدكتور إلى دهالوية، فتحلقنا مضطربين

مغمومين حول جثمانه لنودع معلمنا في العشق.

في صباح اليوم التالي، نقلوا جثمانه الطاهر إلى طهران، فذهب الحاج قاس��م إلى هناك أيضا، فيما عدت أنا إلى محور طراح، إذ لم يكن باإلمك��ان أن ن��ترك

المحاور جميعنا.

بعد شهادة الدكتور شمران أصاب اإلخوة ح��ال من الي��أس واإلحب��اط وش��عور بالوح��دة. ال أعلم لم��اذا، لربم��ا من طبيع��ة اإلنس��ان أن يك��ون في ك��ل زم��ان

ومكان بحاجة لمتكأ يعتمد عليه.

لقد أحببناه جميعنا، قائدا في الميدان، وفي الوقت نفس��ه قائ��دا لقلوبن��ا. ومن دونه تكبلت أي�دينا فلم نق�در على ش��يء، كالطف�ل ال�ذي فق�د أب�اه. في تل�ك المدة عدت إلى طهران مرة واحدة فقط حيث جمعت قراب��ة العش��رين ش��ابا

من أبناء محلتنا وأخذتهم إلى محور طراح حتى ال يبقى الخط خاليا.

على 1 فتنبطح بقدومها وتتنبأ تعرف أن تستطيع وصفير خاص صوت الهاون قذائف سقوط يسبق ما عادةتعلم وال بجانبك، انفجرت تجدها فجائي وبشكل صوت، أي تصدر ال ستين عيار من الهاون قذيفة لكن األرض،عيار من الهاون قذيفة نسمي كنا ولهذا استشهدت، أو وجرحت بشظاياها أصبت قد تكون أن بعد إال بقدومها

.) الراوي ) الغادرة بالقذيفة ستين

Page 201: books.almaaref.orgbooks.almaaref.org/static/documents/zoqaq.doc · Web viewكلّ هذه الذكريات والأصوات، کانت لا تزال تتردّد في زوايا حنجرة

201

مضت األيام ومكثنا في وضعية دفاعية فحس�ب، إلى أن ن��اداني الح�اج قاس��م قبيل تاسوعاء من شهر مح��رم وق��ال لي: "خط��رت بب��الي فك��رة، ص��حيح أن

شمران قائدنا وقدوتنا؛ لكن نحن أيضا يجب أن نثبت جدارتنا".- يعني ماذا علينا أن نفعل؟

- بإمكاننا أن نقوم شيئا فش��يئا بعملي��ات اس��تطالع لخ��ط الع��راقيين، مثال خ��ذفريقا واذهب الليلة نحو طراح واستكشفوا مواقع العدو.

- حسنا، سنذهب.

في محور طراح كان الدكتور قد بنى جسرا وسدا على نهر كرخ��ه ك��ور وس��د النهر به. من حافة الجسر إلى جهة الشرق أنشئ محورنا، حيث رفعنا س��واتر��ة، وأقمن��ا تحص��ينات محكم��ة، ومن جه��ة الغ��رب نص��ب العراقي��ون ترابي متاريس��هم، وبن��وا ب��رج مراقب��ة يش��رف على المنطق��ة، ومن الجس��ر باتج��اه

الجنوب كان خط الدفاع والتحصينات التابعة للجيش اإليراني.

اخ��ترت من بين اإلخ��وة ش��بابا م��دربين من أمث��ال: جعف��ر محم��دي وحس��ين محم��ودي وجعف��ر اب��راهيمي ومحم��د ف��رجي وعلي واعظي واك��بر خوش��ابي ومنصور كريمي ومهدي طاهري وعلى برادران وعباس رض��ابور، وذهبت على

مدى ثالث ليال مع فريق من اإلخوة باتجاه الجسر لالستطالع.

رحنا نعبر وسط األعشاب التي نمت في قعر النهر وأض��حت بط��ول اإلنس��ان، ونمر بين الدبابات والمتاريس لالس��تطالع. ك��انوا ق��د وض��عوا دب��ابتين، واح��دة مصوبة على مواقع جيشنا واألخرى على خطنا. وخلف الجسر، بن��وا متراس��ين غالبا ما بقيا فارغين، وك��أنهم ك��انوا مرت��احي الب��ال لجه��ة أنن��ا لن نق��ترب من

الطرف اآلخر للجسر.

كنا دائما نذهب قبل الغروب بقليل ونعود آخر الليل إلى دشمنا

Page 202: books.almaaref.orgbooks.almaaref.org/static/documents/zoqaq.doc · Web viewكلّ هذه الذكريات والأصوات، کانت لا تزال تتردّد في زوايا حنجرة

202

للمشاركة في حلقات اللطم. كان الحاج قاسم يقرأ اللطميات بصوت جمي��ل. وفي تلك الفترة لم تكن مجالس اللطم رائجة في الجبهة بع��د. تص��دى الح��اج قاسم لتالوة اللطميات لكنه لم يقبل أن يتق��دم إلمامتن��ا في الص��الة متحجج��ا

بإصابة يده.

تمتع الحاج قاسم ب��روح س��امية، وبينم��ا أقب��ل الش��باب الي��افعين واإلخ��وة في مقتبل العمر، يتعانقون اللتقاط ص��ور تذكاري��ة، ك��ان الح��اج قاس��م يه��رب من أمام الكاميرا. حلق في عالم آخر ولم يعبأ بهذه األمور. وك��ان دائم��ا يتق��دمني في جميع المجاالت وعلي أن أهرول وأركض حتى أدرك الحكم��ة والقص��د من

أعماله.

في إح��دى الج��والت االس��تطالعية ليل��ة التاس��ع من مح��رم، ذهبت م��ع فري��ق االستطالع نفسه؛ أي عباس رضابور ومهدي طاهري، وغفور دالور ال��ذي ك��ان من أبناء كرج، واثنين آخرين من أبناء محلة الحاج قاسم. بلغ مجموعن��ا س��بعة أشخاص، انطلقنا مع الغروب باتجاه الجسر وخطوط العدو، وه��ذه الم��رة كن��ا ع��ازمين على التق��دم إلى م��ا بع��د ال��دبابات، وإن تس��نت لن��ا الفرص��ة نق��وم

بتدميرها.

تلك الليلة غاب القمر، وخيم الظالم الحالك والسكون المطب��ق على المك��ان. كنا مطمئنين أننا سنصل إلى الجهة األخ��رى من النه��ر بس��الم، لكن من س��وء حظن��ا لم نك��د نقط��ع نص��ف المس��افة ح��تى س��معنا أص��وات ض��حك وقهقه��ة العراقيين، وبدا أنهم ثملون. تساءلت في نفسي ما الخبر؟ م��ا ال��ذي يح��دث؟ من أين جاء ه��ؤالء في الس��اعة الثالث��ة بع��د منتص��ف اللي��ل، ومن أين ظه�روا

فجأة في طريقنا؟

أبقيت األخوة في أماكنهم بين الهشيم، وتقدمت أنا من متراس

Page 203: books.almaaref.orgbooks.almaaref.org/static/documents/zoqaq.doc · Web viewكلّ هذه الذكريات والأصوات، کانت لا تزال تتردّد في زوايا حنجرة

203

العراقيين، حيث استمرت أصوات ضحكهم وكانت أعدادهم كبيرة؛ بدا وك��أنهميحتفلون.

ما بين ذهابي وإيابي، حل السحر، فت��أخر وقت القي��ام بالمهم��ة. ص��لينا ص��الة الصبح وسط النهر، وتوجب اتخاذ قرار قبل انبالج الض��وء. قلت لإلخ��وة: "إنن��ا اآلن ضمن مجال الرؤية وس��يطلع ض��وء الص��بح عم��ا قلي��ل، وإذا م��ا رمين��اهم سينكشف أمرنا ونكون لقم��ة س��ائغة، كم��ا إنن��ا سنتس��بب باش��تعال الخ��ط بال

طائل، فاألفضل لنا أن نعود إلى مواقعنا.

ما إن أنهيت كالمي حتى انهال علينا وابل من الرصاص، ولم تمض ثوان ح��تى تبعته قذائف الهاون، فلم تسنح لنا الفرصة حتى اللتقاط س��الحنا. زحفت على األرض وقلت لإلخوة: "إنهم يمتلكون عنصر المباغتة، ولن نستطيع شيئا، علينا

االنسحاب فورا!".

��ة. حملت��ه زحفت بسرعة، والتقطت رشاشي الكالشينكوف ذا القبضة الحديدي وعدت زحفا إلى الوراء باتجاه مواقعنا، وبسبب الزحف السريع على الحج��ارة والكتل الترابية جرح مرفقاي ويداي وصارت تؤلمني كثيرا. لكن لم يكن بالي��د

حيلة، فلو نهضت لطار رأسي من مكانه بدل يدي.

" "مهدي طاهري" وقال: "ياB7بعد أن زحفنا مسافة ناداني مساعد رامي ال�"سيد، أصيب عباس وسقط هناك..".

وأشار بيده إلى الخلف. انزعجت منه وقلت له: "اآلن تخبرني؟".

طلبت من اإلخوة أن يكملوا طريقهم فلم يتبق سوى القليل ح��تى يص��لوا إلى مواقعنا، وعدت مع غفور باتجاه العراقيين، لكن هذه المرة لم أع��د زحف��ا ب��ل سرت منحني الظه��ر باتج��اه المك��ان ال��ذي مكثن��ا في��ه وص��لينا ص��الة الص��بح،

وعندما وصلنا رأيت "عباس" ملقى على األرض غارقا بدمائه، وقد قطعت

Page 204: books.almaaref.orgbooks.almaaref.org/static/documents/zoqaq.doc · Web viewكلّ هذه الذكريات والأصوات، کانت لا تزال تتردّد في زوايا حنجرة

204

يده من المرفق وبقيت متصلة بالجلد فق��ط. كم��ا أص��يب في بطن��ه وخ��رجت أمعاؤه. لشدة الصدمة لم نعلم أن "عباس" أصيب فخلفن��اه وراءن��ا. أس��رعت إليه ووضعت يدي تحت رأسه، رفعته قليال وناديته: "عباس، عب��اس، م��ا ال��ذي

حصل؟".لم يجب عباس بشيء، ولم يحرك ساكنا. بدا وكأنه قد استشهد.

ربطت ساعده إلى ذراعه بكوفية أو شال يزدي، لم أع��د أذك��ر، كي ال تنفص��ل عنه وتضيع ثم خلعت وغفور قميص��ينا وفتحن��ا أخمص بن��دقيتينا وأدخلن��ا فوه��ة البندقيتين في كمي القميصين وص��نعنا منهم��ا حمال��ة ج��رحى، وض��عنا عب��اس��ا في التاس��ع من على الحمالة ورحنا نتوسل باإلمام الحسين عليه السالمإذ كن المحرم. سرنا وأنا أردد اسم اإلمام الحسين علي��ه الس��الم، ناديت��ه أل��ف أل��ف م��رة. قطعن��ا مس��افة ثالث��ة كيلوم��ترات ونحن نحم��ل عب��اس إم��ا س��يرا على األقدام وظهورنا محني��ة أو س��يرا على ركبتين��ا. أم��ا العراقي��ون، فم��ا إن ك�انوا

يرون األعشاب تتمايل، حتى يرموا المكان بعشر قذائف هاون.

عندما اقتربنا من مواقعنا، وضعنا الحمال��ة على األرض ق��رب س��اترنا ال��ترابي وارتمينا على األرض من فرط التعب. بعد دقائق ناديت حسين محمودي الذي أرسل في طلب س��يارة اإلس��عاف، لكن بع��د نص��ف س��اعة أخبرن��ا أن س��يارة اإلس�عاف معطل�ة وله�ذا أرس�لوا لن�ا س�يارة ستيش�ن، وض�عنا عب�اس داخله�ا وركبت معه أنا وأحد اإلخوة من أهالي كرج ويدعى أمير ص��فري. ك��ان عب��اس من أبناء محلتنا، ولطالما لعبنا معا في الصغر. وكنت أعرف عالقته بأمه أيضا،

فلم يطاوعني قلبي على إرساله وحيدا.

ما إن انطلقنا ح�تى ب�دأ المط�ر ب�الهطول. وعن��د أول تق�اطع، ك�انت الطري�قرملية فتحولت مع هطول المطر إلى موحلة وعلقت إطارات

Page 205: books.almaaref.orgbooks.almaaref.org/static/documents/zoqaq.doc · Web viewكلّ هذه الذكريات والأصوات، کانت لا تزال تتردّد في زوايا حنجرة

205

السيارة فيها. لم يعد بإمكاننا التحرك، ت��رجلت من الس��يارة ألنظ��ر إلى وض��ع اإلطارات وإذا بي أفاجأ بأننا وا مصيبتاه! ع��القون وس��ط حق��ل ألغ��ام واألرض على جانبي السيارة مليئة بها، وقد ظه��رت رؤوس��ها من بين الوح��ل والطين. ح��رت ه��ل أتق��دم أم أتراج��ع. لكن عظم��ة الل��ه ورحمت��ه تجلت��ا هن��اك، قلت

للسائق: "يا أخي انحرف قليال وتابع السير بهدوء".

أخرجت سبحتي من جيبي وقرأت س��ورة "إن��ا أنزلن��اه" م��ع الص��لوات، فق��ال السائق: "رحم الله والدتك دعن��ا ال نكم��ل الطري��ق ونع��ود، أخش��ى أن تنفج��ر

إحداها فينا!".

تابعنا المسير ووصلنا بسالمة إلى المرك��ز الص��حي الواق��ع في الخ��ط الخلفي لكوت، وهناك ضمدوا جراح عباس، وأرسلوه بسيارة إس��عاف إلى مستش��فى

شريعتي في األهواز.

ما إن وصلنا إلى المستشفى حتى أدخل مباشرة إلى غرفة العمليات، أم��ا أن��ا فذهبت مباشرة إلى الحمام العمومي. كانت مالبسي ملطخة بالدماء، فأخذت مسحوق الغسيل وغسلتها ثم وضعتها على م��دفأة الحم��ام لتج��ف، لكن بقيت

آثار الدماء عليها.

عدت بعد الظهيرة إلى المستشفى، وعندما وصلت إلى باب غرف��ة العملي��ات كان عباس ال يزال هناك، مددت يدي إلى جيبي ألخرج السبحة وأس��بح وأدع��و له بالشفاء فإذا بها فارغة، وهناك تذكرت أني نسيت سبحة الشاه مقصود في الحمام. لم يكن لدي متس��ع من ال��وقت للع��ودة إلى هن��اك ألنهم في اللحظ��ة ذاتها أخرج��وا عب��اس من غرف��ة العملي��ات. م��روا ب��ه من ج��انبي ف��رأيت ي��ده اليمنى مقطوعة، تبعتهم وقلت للممرضة: "ألم يكن باإلمكان أال تقطعوا ي��ده،

ألم يكن هناك عالج غير القطع؟".

Page 206: books.almaaref.orgbooks.almaaref.org/static/documents/zoqaq.doc · Web viewكلّ هذه الذكريات والأصوات، کانت لا تزال تتردّد في زوايا حنجرة

206

قالت لي: "كانت متصلة بواسطة الجلد فقط، ما كان بإمكاننا فعل شيء".

��ا. كان بطنه مضمدا، ولم يكن بحال جي��دة، لكني ش��كرت الل��ه على بقائ��ه حي عندما استفاق واستعاد وعيه تنفست الصعداء وارتاح قلبي، فاتصلت بطه��رانق لنقل��ه بالط��ائرة إلى طه��ران. وأخبرت حسين طاهري بإصابة عب��اس، فنس�� بقيت تلك الليلة عند عباس وفي صباح اليوم التالي أرسلته إلى مطار األه��واز

وعدت إلى محور طراح.

في محور ط��راح اقتص��ر عملي على ال��دفاع، وحف��ظ المح��ور وتثبيت��ه مقاب��ل هجمات العدو وقصفه. فمع رحيل ال��دكتور ش��مران أص��بحت تحركاتن��ا قليل��ة، وبتنا شبه مشلولين، وشيئا فشيئا شارف ملف أركان الحرب غ��ير الكالس��يكية على اإلقفال، فلم يكن ثمة من يقود القوات وينظم العمل. فقط الحاج قاسم وأمثاله كانوا يحثون اإلخوة المجاهدين على القت��ال ويش��دون ع��زائمهم. ك��ان الحاج قاسم يرسلنا كل ليلة في مجموعات مؤلف��ة من عنص��رين أو ثالث��ة إلى

قلب خطوط العدو لالستطالع واالستكشاف.

في تلك األيام، وصلنا نبأ استشهاد بطل الجبال "أصغر وص��الي"، مقت��داي في الشجاعة والمروءة، كان رحيله متوقعا، ويليق به أن ينال شرف الش��هادة في

العاشر من محرم الحرام.

"، حيث كنت حينه��اB7في إح��دى الم��رات أخ��ذت معي لالس��تطالع ق��اذف " مبتدئا وجاهال، وغير مدرك أنه ينبغي للمقاتل في االستطالع أن يحم��ل س��الحا فرديا خفيفا ال أسلحة ثقيلة، كي ال يعيقه عندما يكون في قلب خطوط العدو. تلك الليلة س��رنا نح��و خط��وط العراق��يين، لكن وعلى مس��افة كيلوم��تر منه��ا،لت حركتن��ا. ب��دوري أطلقت صبوا نيرانهم علينا واستقبلونا بقصف مكثف فش��

" لكنني في نهاية األمرB7نحوهم عدة قذائف "

Page 207: books.almaaref.orgbooks.almaaref.org/static/documents/zoqaq.doc · Web viewكلّ هذه الذكريات والأصوات، کانت لا تزال تتردّد في زوايا حنجرة

207

اضطررت لالنسحاب بسرعة.

" نح��و الس��ماء ب��دل أنB7أحد اإلخوة اسمه غالم، لشدة هلعه أطلق قذيفة "��ا في تل��ك الظ��روف الص��عبة واللحظ��ات يصوبها نح��و العراق��يين. م��ا ك��ان من العصيبة إال أن انفجرنا بالضحك ورحنا نس�أله أين يري�د أن يض��رب، ومن يري�د أن يصيب بهذه القذيفة، وقال ل��ه اإلخ��وة: "غالم، لق��د حص��ل م��اس كهرب��ائي )كونتاك( على القمر فانطف��أ ن��وره بفع��ل ق��ذيفتك". ومن��ذ ذل��ك الحين، ص��ار

الجميع ينادونه ب�"غالم كونتاك".

بع��د تحري��ر دهالوي��ة ال��تي ك��انت بمنزل��ة البقع��ة التذكاري��ة لل��دكتور ش��مران والشهيد مق��دم ب��ور، دعي جمي��ع مس��ؤولي المح��اور الجتم��اع، أعلن في��ه أن��ه سوف يتم تنفيذ عمليات عسكرية تحت قيادة الحرس الث��وري، واله��دف منه��ا تحرير "بستان" و"تشزابه"، ولربما أمكننا دحر العراقيين إلى ما وراء الح��دود. آخرون قالوا إنه محبة بال��دكتور ش��مران يجب أن ننف��ذ ض��ربة موجع��ة للع��دو انطالقا من دهالوية. أراد الجميع معرفة ما الذي سيحل بأركان ق��وات الح��رب غير الكالسيكية. في تلك الفترة أعلن اإلمام التعبئة العامة، والح��رس الث��وري كان مؤسسة حديثة التأسيس، فبدأ يجذب العناص��ر لالنتس��اب إلي��ه، وأص��بحناا كأي موظف. لكنني لم أكن معتادا على هذا، ولم ينس��جم نتقاضى راتبا شهريا دائما وال أستطيع أن أتقيد بأي مجموع��ة. لكني األمر مع طباعي فأنا كنت حرا بالدكتور شمران الذي لم أنسه يوما، وتخليدا لذكراه، ذهبت إلى دهالوي��ة. حب لم تكن المعارك هناك جدية كثيرا، وقد التفت لألمر، فقال بعضهم إنها مقدمة

لعمليات طريق القدس الكبرى.

في خضم تلك األحداث، رجعت مع الحاج قاس��م إلى طه��ران، ولم أع��د أذك��ر أيلول إلى مبنى رئاسة30سبب عودتنا. على كل حال، ذهبنا صباح

Page 208: books.almaaref.orgbooks.almaaref.org/static/documents/zoqaq.doc · Web viewكلّ هذه الذكريات والأصوات، کانت لا تزال تتردّد في زوايا حنجرة

208

الوزراء، وقبل الظهر غادرناه وعدنا مرة أخرى إليه لتناول الغداء. وبينم��ا نحن في قاعة الطعام، دوى انفجار هائل ضخم شبيه بذلك الذي أحدث��ه المن��افقون هنا سابقا، وهز صوته المباني المحيطة. خرجنا من المبنى بسرعة ووقفنا في الشارع نشاهد احتراقه وخروج ألسنة النار من الشبابيك، اجتمع الناس وعمتا يح��ترق، الفوض�ى، رفعت رأس��ي ألش�اهد ألس�نة اللهب، وإذا بي أرى شخص�� وبغت��ة رمى بنفس��ه من األعلى، فوق��ع جس��ده على األرض أمامن��ا والن��اس�ه الس�يد كاله�دوز. ه�ذا وق�د اح�ترق ينظرون إليه خائفين، فيما بع�د عرفن��ا أن السيد رجائي والسيد باهنر وهما حيين. كانت النار ش��ديدة وكب��يرة إلى درج��ة أن رجال اإلطفاء لم يستطيعوا فعل ش�يء ولم يتمكن�وا من إطفائه�ا. بع�د أن هدأت ألسنة النار دخلنا المبنى وما إن رآني الح��اج "تش��ه ب��ور" ح��تى ن��اداني مباشرة وقال: "سيد، قف هن�ا واح�رس ه�ذا الب�اب واح�ذر أال ي�دخل أح�د، إذ يوجد مقدار من الذهب داخل الغرفة. عما قلي��ل س��يدخل الن��اس إلى المب��نى

وتعم الفوضى".

لقد كانت حادثة مريرة وأليمة بالنس��بة إلين��ا جميع��ا، خاص��ة استش��هاد الس��يد رجائي، فسبب فقدانه كارثة وخسارة كب��يرة للبل��د، ولن��ا نحن ال��ذين عايش��ناه وعملنا بالقرب منه. لقد احترق جسده الطاهر بالكام��ل إلى درج��ة أن زوجت��ه

تعرفت إلى الجثة من خالل األسنان فقط.

فيم��ا بع��د، تم التع��رف إلى الخلي��ة اإلرهابي��ة وإلى الج��اني، وت��بين أن أولئ��ك األشخاص أنفسهم الذين ادعوا الدين والتدين، وتقدموا إلمامة صالة الجماعة، وك��انوا مح��ل ثق��ة الجمي��ع، هم في الحقيق��ة أع��داء للث��ورة وإره��ابيون أمث��ال "كشميري" الخائن الذي كان يؤمنا في الصالة. ومع أنني عرفت الكثيرين في رئاسة الوزراء، لكنني لم أتعرف إليه. كان يمتلك مف��اتيح الغ��رف، ويح��دد من

يستطيع الدخول إلى المبنى ومن يجب أن

Page 209: books.almaaref.orgbooks.almaaref.org/static/documents/zoqaq.doc · Web viewكلّ هذه الذكريات والأصوات، کانت لا تزال تتردّد في زوايا حنجرة

209

يفتش قبل الدخول إليه. وعندما أصبح على ثقة تامة بعدم افتضاح أمره، وضع��ة ونس��فها. في تل��ك قنبلة تحت طاولة االجتماعات في غرفة رئاسة الجمهوري اآلون��ة، ك��ان أي ش��خص يس��تطيع لعب أي دور يري��ده، ويتقمص أي شخص��ية يريدها، والجمي��ع يص��دقه. فيم��ا بع��د س��معت أن��ه تمت تص��فية كش��ميري في الدولة التي هرب إليها على يد رفاقه، هذا دأب عصابات اإلرهاب واالغتي��االت. على أي حال، كان الشهيد رجائي معلما لنا في رئاسة الوزراء، وش��كل فق��ده م��رارة أخ��رى في حي��اتي. لق��د تعب كث��يرا من أج��ل البالد، وق��دم الكث��ير من

الخدمات، وما تزال آثار أعماله باقية إلى اليوم.

بع��د ك��ل ه��ذه الح��وادث األليم��ة ع��دت إلى الجبه��ة، وإلى ح��رب العص��ابات، والحرب غير الكالسيكية من جديد. أما الح��اج قاس��م فع��اد إلى ك��رج ألس��باب

عدة، وقل حضوره معنا في الجبهات.

كان لدى الح��اج قاس��م حينه��ا طف��ل وطفل��ة، وفي ذهن��ه أفك��ار ع��دة لخدم��ةا مثلي لم يس��تطع أن يتقي��د وينحص��ر داخ��ل إط��ار الح��رس الح��رب. ه��و أيض��

الثوري وأراد أن يظل حرا في العمل والتحرك.

في تلك األثناء عملت مع مجموع��ة من أبن��اء الحي وبعض الق��وات المتطوع��ة في المن��اطق ذات الترب��ة الرملي��ة ش��مال س��هل آزادك��ان، وتولين��ا ج��زءا من عملي��ات طري��ق الق��دس، حيث أص��بحنا أك��ثر دراي��ة في عملي��ات االس��تطالع،والتخريب وفتح المعابر للقوات، وهكذا تشكلت فرق التخريب بشكل تلقائي.

��ة، تم إحض��ار مئ��ة حم��ار من مدين��ة هم��دان، أذكر أنه في إحدى المه��ام الليلي فأطلقوا األتان أوال )أنثى الحمار( في حقل األلغ�ام كي يالحقه�ا ب��اقي الحم��ير الذكور، وبذلك يفتح معبر لإلخوة وسط الحقل. لكن ما إن سارت األنثى ح��تى

وطئت قدمها لغما وانفجر فورا، فتراجع بقية الحميرط

Page 210: books.almaaref.orgbooks.almaaref.org/static/documents/zoqaq.doc · Web viewكلّ هذه الذكريات والأصوات، کانت لا تزال تتردّد في زوايا حنجرة

210

وفزعوا مما رأوا، ومهما دفعناها وحثثناها وضربناها بالحبال وبسالس��ل الحدي��د لم تتقدم خطوة واحدة، هنالك تذكرت "مش��ت علي غتش��ي" من أبن��اء حين��ا، وحكيت قص��ته للش��باب: "ك��ان ل��دى مش��ت علي بغ��ل يحم��ل علي��ه الرم��ال والجص والحصى من خارج المدينة وي��أتي به��ا إلى حين��ا ليبيعه��ا، ك��ان عج��وزا بسيطا طيب القلب حسن المعشر، ويعمل ليأكل من كد يده. ذات ي��وم رأيت��ه غاضبا جدا وواقفا إلى جانب جدول الماء يص��يح على بغل��ه ويش��تمه ويض��ربه، تقدمت منه وقلت: "اهدأ يا مش��ت علي، توق��ف قليال ال تض��ربه، م��ا األم��ر؟". فقال غاضبا: "ابن الكلب هذا علقت قدمه بين قضبان المع��بر الحدي��دي ف��وق

الجدول منذ عدة أيام، لذا يرفض اليوم أن يعبره".

ضحك اإلخوة وقال أحدهم: "نحن أسوأ من هذه الحمير، حتى إن علقت قدمنامئة مرة في الحوادث فإننا لن نقلع عن فعلنا".

وقال آخر: "في النهاية، هل عبر بغل مشت علي الجدول أم ال؟".

فقلت له: "طبعا فعل ذلك تحت وطأة الركل والضرب والصياح".

لكن، تلك الليلة لم تستجب الحمير لنا، وعن��دما فش��لت الخط��ة، قررن��ا اتب��اع خطة جدي��دة، وهي ن��وم اإلخ��وة النح��اف الجس��م على األلغ��ام ليعبره��ا ب��اقي اإلخوة من فوق أجسادهم. في تل��ك الف��ترة من الح��رب لم تكن ق��د تش��كلت بعد فرق متمرسة ومتخصص��ة ب��نزع وتفكي��ك األلغ��ام، ل��ذا ك��ان بعض اإلخ��وة

يضحون بأنفسهم بالنوم على األلغام كي ال تتأخر العمليات ويفتضح أمرها.

تلك الليلة، بينما كان المسؤول يختار العناصر المناسبين له�ذه المهم�ة، تق��دم أحد أبناء محلتنا واسمه "أمير مظاهري"، وكان يبلغ من العم��ر خمس��ة عش��ر

ربيعا، نحو المسؤول، وظل يرجوه، وفي نهاية األمر بكى وقال:

Page 211: books.almaaref.orgbooks.almaaref.org/static/documents/zoqaq.doc · Web viewكلّ هذه الذكريات والأصوات، کانت لا تزال تتردّد في زوايا حنجرة

211

"لماذا لم تخترني من بين اإلخوة الذين سينامون في حق��ل األلغ��ام؟ أري��د أنأكون معهم".

كانت حكاية نوم اإلخوة الخفيفي الوزن على األلغام طويلة تلك الليلة. ص��حيح أنني لم أبق هناك بسبب ما أوك��ل إلي من مه��ام، لكني في الي��وم الت��الي من العمليات سمعت أنه في المحور الذي نام فيه أم��ير، زاد مجم��وع وزن��ه ووزن من مر فوقه عن الحد المسموح، فانفجر بهما اللغم. وسمعت أن كعب قدمه

تطاير جراء ذلك، فذهبت لزيارته في المستشفى.

��ا إلى جنب في من بين اإلخ��وة واألص��دقاء اآلخ��رين ال��ذين ق��اتلت معهم جنب الحرب غير الكالسيكية ونالوا شرف الشهادة: "أبو الفضل ميفه تش��ي"، وه��و من أبناء "زقاق نقاشها"، وكان من أوائل شهداء الحرب المفروضة. لذا عرف

الزقاق فيما بعد باسم زقاق الشهيد "أبو الفضل ميفه تشي"، طابت ذكراه.

كما قلت، لم أشارك في المرحلة الثانية من عمليات طريق الق��دس، وع��دت إلى طهران.1981أواسط شهر كانون األول من عام

Page 212: books.almaaref.orgbooks.almaaref.org/static/documents/zoqaq.doc · Web viewكلّ هذه الذكريات والأصوات، کانت لا تزال تتردّد في زوايا حنجرة

212

Page 213: books.almaaref.orgbooks.almaaref.org/static/documents/zoqaq.doc · Web viewكلّ هذه الذكريات والأصوات، کانت لا تزال تتردّد في زوايا حنجرة

213

قنابل الظالم

إن أتيت من أجل الله، فال تكن أسير المعارف

أمضيت يومين في البيت فاسترحت قليال، وقض��يت بعض ال�وقت م�ع العائل�ة.وفي حديث مع فاطمة أخبرتني أنها تطوعت للعمل في دار لأليتام.

ذهبت إلى الدار في شارع زيبا لتفق��دها؛ فوج��دت آي��ة الل��ه ج��واد علم اله��دى المشرف عليها، وهو من العلماء األعالم والكبار في طهران، ويتم تمويل ه��ذا المجم��ع الخ��يري من قب��ل بعض التج��ار وأص��حاب المح��ال التجاري��ة وهيئ��ة "اتفاقيون". كانت فاطمة ت��ذهب ك��ل ي��وم خميس لتوزي��ع المعون��ات والم��ؤن على عوائل وبي��وت األيت��ام المكف��ولين من قب��ل المجم��ع. ق��ررت فاطم��ة أن تس��تفيد من وقته��ا بش��كل جي��د، وتمأله باألعم��ال الص��الحة وال��بر واإلحس��ان،��ق كث��يرون في زمانن��ا بال��دنيا وترك�وا اآلخ��رة، إال أن وتزرع آلخرتها، وفيما تعل

الدنيا هي التي تعلقت بفاطمة لكنها تركتها طلبا لآلخرة.

في كل أسبوع كان الحاج حسن جابري ي��ذبح ع��ددا من الخ��راف، فتأخ��ذ ك��لعائلة أدرجت في جداول الدار نصيبها منها.

Page 214: books.almaaref.orgbooks.almaaref.org/static/documents/zoqaq.doc · Web viewكلّ هذه الذكريات والأصوات، کانت لا تزال تتردّد في زوايا حنجرة

214

ما دمت قادرا في عالم الحياة ساعد المحتاجين1 ولو بنفس أو بخطوة أو بقلم أو بمال

حقا، إنه لعالم جدير بالمشاهدة ومحفوف بالمخاطر، وال يوفق كل شخص فيه لخدمة خلق الله. كان الع��ارف الكب��ير الش��يخ "ح��ق ش��ناس" يق��ول: "أفض��ل

وأثبت طريق للوصول إلى المحبوب، طريق خدمة خلق الله".

مضت اآلن سنوات عدي��دة على تل��ك األي��ام، وم��ا زال الن��اس إلى يومن��ا ه��ذا��رين يذكرون الحاج حس��ين ج��ابري والس��يدة فاطم��ة وبقي��ة المحس��نين والخي

عندما تقدم اللحوم والمؤن والنذور، ويدعون لهم.

أتعرف ما يبقى من اإلنسان بعد موته2 لطفه ومحبته وما عدا ذلك ال يعدل شيئا

على كل حال، صرت حين أزور الصالحين أغتنم الفرصة وأدعو دائم��ا، وأطلبمن الله عز وجل أن يكون قتالي ورماياتي كلها لمرضاته.

لم تط��ل إق��امتي كث��يرا في الم��نزل، فلم أك��د أذوق طعم الراح��ة والحي��اة الطبيعية بجانب األسرة حتى ناداني الحاج غالم العط��ار، ص��احب ال��دكان عن��د مدخل الزقاق، حيث كان الرابط بيني وبين أص�دقائي، وخاص�ة الح��اج قاس�م،

وقال لي: "اتصل الحاج قاسم، وطلب التحدث إليك".

ذهبت وتكلمت مع��ه ع��بر اله��اتف، فق��ال لي: "س��يد، أتس��تطيع أن تجه��زمجموعة؟".

قلمي 1 يا قدمي يا درمي يا دمي يه كن محتاجان خدمت جهان به تواني تا الشعرهيج 2 همه وباقي است ومحبت است لطف مرك بس ماند جه آدمي ز كه داني

Page 215: books.almaaref.orgbooks.almaaref.org/static/documents/zoqaq.doc · Web viewكلّ هذه الذكريات والأصوات، کانت لا تزال تتردّد في زوايا حنجرة

215

- ألي محور؟ - ارتفعت حدة االش��تباكات في الغ��رب، ونف��ذ اإلخ��وة هن��اك عملي��ات "مطل��ع

الفجر" اآلن، وهم بحاجة إلى مزيد من القوات لتثبيت النقاط.- حسنا، سأرى ما أستطيع فعله.

في المساء تحدثت في مسجد التوفيق إلى الناس، وأخبرتهم ب��أن اإلخ��وة في الجبهة بحاج��ة إلى مزي��د من الق��وات، ف��أعلن نص��ف اإلخ�وة ال��ذين س��بق أن شاركوا معن��ا وق�اتلوا تحت راي�ة هيئ��ة الح��رب غ��ير المنظم�ة عن جه�وزيتهم، إضافة إلى الحاج عب��اس زين العاب��دين. وك��ان رجال يق��ارب عم��ره الخمس��ين عاما، ضخم البنية، سمينا، يزي��د وزن��ه على المئ��ة والثالثين كيلوغرام��ا، لطيف��ا وحسن المعشر، عم��ل بمهن��ة الح��دادة وتص��نيع األب��واب والش��بابيك والغ��رف الحديدية لسيارات النقل، وكان دكان��ه معروف��ا في الس��وق، وك��ان من أثري��اء

طهران ذات يوم، لكن مال عليه الزمن وذهبت ثروته أدراج الرياح.

عرف الحاج عباس ببساطته وطيبة قلبه، وأراد أن ي�أتي إلى الجبه�ة ويش��ارك في الجهاد لصفاء روحه ونقائها، كان يجيد الطهي، لكن بما أنه��ا ك��انت الم��رة

األولى التي يلتحق فيها بالجبهة فلم يكن يجيد التصرف.

��ا في اليوم التالي، كان األول من ش��هر دي، تجمعن��ا لن��ذهب إلى الجبه��ة، وكنا من حي الح��اج قاس��م، ا من أبن��اء حين��ا، وعش��رين شخص�� عش��رين شخص��

فاستأجرت باصا وصعدنا جميعا فيه وانطلقنا.

في الطريق قرأنا بعض األشعار في مديح ورث��اء الم��ولى أبي عب��د الل��ه علي��ه السالم، ولطمن��ا الص��دور، م��ع حل��ول المغ��رب وص��لنا إلى الخط��وط الخلفي��ة

ل�"كيالن غرب" حيث استقرت قوات الحرس الثوري.

استقبلونا ووزعونا على ثالث خيم، وقالوا لنا: "اقضوا الليلة هنا حتى

Page 216: books.almaaref.orgbooks.almaaref.org/static/documents/zoqaq.doc · Web viewكلّ هذه الذكريات والأصوات، کانت لا تزال تتردّد في زوايا حنجرة

216

يتبين مصيركم، وتتعين مهامكم غدا".

في منتصف الليل، وبينما أنا نائم سمعت أحدهم يناديني: "سيد، يا سيد".

استيقظت على الفور، ونظرت إلى مصدر الصوت، وإذا به الح��اج عب��اس زينالدين، ابن حينا.

كان ممسكا ببطنه وهو يتلوى من األلم، وبدا عليه عدم االرتي��اح. س��ألته: "م��االذي حصل يا حاج عباس؟".

- قم يا سيد، تعال أسرع كرمى لله.

قمت وحملت الفانوس وتبعته إلى خارج الخيمة حيث كان الجو باردا ومظلم��اوالجميع نائمين. سألت مجددا: "ما الذي حصل؟".

- ذهبت إلى المرح��اض وأخ��ذت معي إبري��ق الم��اء، وأردت أن أطه��ر؛ لكن الأعلم ما الذي كان في اإلبريق بدل الماء: نفط أو بنزين.. لقد احترقت.

- ماذا سأصنع اآلن يا ح��اج عب��اس؟ على من س��نطرح مش��كلتك في منتص��ف الليل؟ افرض أننا وجدنا أحدا يأخذنا إلى الدائرة الصحية وذهبن��ا م��اذا س��نقول

لهم هناك؟

��ا، مألت إبريق م��اء وأعطيت��ه إي��اه وقلت: "اذهب واغس��ل نفس��ك بالم��اء حاليستتحسن قليال وغدا في الصباح نذهب إلى الدائرة الصحية".

بالنسبة للمتقدمين في السن امتألت الجبهة بهذه المتاعب؛ كان عليهم تحم��ل الحر والبرد والحرم��ان من الن��وم وأل��ف مش��كلة أخ��رى، لكن الكث��يرين منهم تحملوا مثل هذه الظروف الصعبة أفض��ل من الش��باب، ولم يكن يص��در منهم

أي شكوى، بل أصبح بعضهم بالنسبة للشباب واإلخوة كاألب

Page 217: books.almaaref.orgbooks.almaaref.org/static/documents/zoqaq.doc · Web viewكلّ هذه الذكريات والأصوات، کانت لا تزال تتردّد في زوايا حنجرة

217

الحنون.

في صباح اليوم التالي، تحسنت حال الحاج عباس، ولم يحتج نقله إلى الدائرة الصحية، وأخذته معي إلى مركز الح��دادة الت��ابع للجيش، فع��رفتهم إلي��ه وإلى خبرته المهنية ليساعدهم في األعمال الفنية في الخطوط الخلفية، وعدت أن��ا

إلى الخيم.

في ذلك الصباح نفسه، ركبنا ع�ددا من س��يارات التويوت�ا وتوجهن�ا إلى مقص��د غير معلوم. كان الجو م��اطرا، واألرض موحل��ة، والس��يارات تس��ير ببطء. بع��د ساعة، توقفت السيارات ونزلنا بالقرب من أخدود، وك��ان معن��ا دلي��ل وبض��عة أفراد يعرفون المنطقة جيدا، تقدمونا وتبعناهم في طابور. ثم أمرنا ب��التوقف، وقيل لنا: هنا الخط الخلفي ل�"بانسيران"، ومهمتكم هي الدفاع والحفاظ على

هذا المكان، لذا يجب أن تصعدوا هذه المرتفعات وتستقروا في األعلى.

ا واألكثر تجربة من الباقين، أصبحت تلقائيا المس��ؤول وهناك، لكوني األكبر سن عن هؤالء األربعين نف��را، وخل��ف ال��دليل أكملن��ا الطري��ق، وص��عدنا متس��لقين

الجبل الذي لم يكن عاليا جدا.

أخبرنا الدليل عن أهمية هذا الخط وجبال�ه ق��ائال: "قب��ل ع�دة لي��ال نف�ذت من مرتفعات "شياكوه" هذه عمليات "مطلع الفج��ر"، واآلن حيث انتهت المرحل��ة األولى فيها، عليكم الحف��اظ على م��ا أنج��ز، وتث��بيت ه��ذا الموق��ع. ومرتفع��ات بانس��يران عب��ارة عن ثالث��ة جب��ال متالص��قة، أنتم اآلن ت��دافعون عن الجب��ل األوسط واألصغر، واالشتباكات ال تزال مستمرة على المحور األيسر وال دخ��ل

1150 وجب��ل 1100لكم بها. ولقد أسر الشباب في ه��ذه المرتفع��ات وجب��ل الكثير من العراقيين، ونفذت هذه العملية على يد اإلخوة في الحرس

Page 218: books.almaaref.orgbooks.almaaref.org/static/documents/zoqaq.doc · Web viewكلّ هذه الذكريات والأصوات، کانت لا تزال تتردّد في زوايا حنجرة

218

الث��وري، وك��انت ص��عبة ج��دا. لكن الجيش الع��راقي المط��ل على المرتفع��ات والمشرف على المكان، اس��تفاد من اإلن��زال الج��وي في المواجه��ات، وتمكن

في نهاية األمر من استعادة بعض المرتفعات.

كانت عملية كبيرة تحدث عنها الجميع، وراحوا يتناقلون أخبارها، وكان إبراهيم هادي مسؤول المعلومات فيها، وذاع صيته بعد العملية بطال ض��رغاما ال يه��اب الموت، وأصيب خالل االشتباكات برصاص العدو. لقد أذهلتنا قصته، وبط��والت من معه من اإلخوة المجاهدين. كذلك تناقل الجمي��ع خ��بر استش��هاد المجاه��د الكبير العامل والمؤثر الشيخ محمود غفاري ال��ذي استش��هد وه��و ي��ؤدي نوب��ة

الحراسة على برج المراقبة، رحمه الله، كانت روحه عظيمة.

في الطريق أخبرنا الدليل أكثر عن العملي��ات وق��ال: "في مرتفع��ات ش��ياكوه هذه، صعد األخوة في الليلة األولى من العمليات عند الساعة الحادي��ة عش��رة ليال من الودي��ان باتج��اه الجب��ال، فلم يعترض��هم أي ع��راقي، ولم تح��دث أي اشتباكات، فالعراقيون إما أنهم كانوا في الطريق إلى المك��ان، وإم��ا أن أم��را م��ا أع��اقهم وعرق��ل تح��ركهم، الل��ه أعلم. وبع��د أن ص��عدوا الجب��ال واتخ��ذوا مواقعهم بدأت االشتباكات في اليوم الت��الي، وتط��ورت إلى مواجه��ات فردي��ة ورمي للقنابل اليدوية، إلى أن حان وقت الظهر وتراج��ع العراقي��ون قليال، هن��ا قام إبراهيم ه��ادي برف��ع األذان حيث اعت��اد دائم��ا على أن ي��ؤذن عن��دما يحين

،1وقت الصالة، وبينما كان يؤذن رماه قناص عراقي برصاصة أصابت حنجرته*فسقط إبراهيم على األرض".

اعترض عناصر الجيش الذين اشتركوا مع الحرس الثوري في ه��ذه العملي��اتبأن إبراهيم قد كشفنا، وهل من عاقل يقف ليرفع األذان

1 . رقبته عضالت أصابت الرصاصة أن الحقا تبين

Page 219: books.almaaref.orgbooks.almaaref.org/static/documents/zoqaq.doc · Web viewكلّ هذه الذكريات والأصوات، کانت لا تزال تتردّد في زوايا حنجرة

219

وسط المعركة؟

لكنهم بع��د عش��رين دقيق��ة س��معوا من الج��انب اآلخ��ر أص��واتا ت��ردد: "دخي��لالخميني، دخيل الخميني".

تقدم العشرات من العراقيين نحو اإلخوة وسلموا أنفسهم بأيديهم، تحدث أحداإلخوة إليهم، وكان يجيد اللغة العربية، سألهم: "لماذا تسلمون أنفسكم؟".

أجابه أحدهم: "كنا نظن أننا نقاتل المجوس وأنكم عب��دة الن��ار، لكن اآلن بع��د أن سمعنا صوت األذان منكم عند وقت الصالة، عرفنا أنكم مسلمون مثلنا وال

.1نود قتالكم بعد اآلن لهذا سلمنا أنفسنا"

لكن البعثيين المعاندين الذين أصروا على القت��ال عن��دما اس��تعادوا الس��يطرة على قمة الجبل ق��اموا بك��ل إج��رام ب��رمي جرحان��ا وح��تى جثث الش��هداء من أعلى الجبل إلى الوادي، وإلى أن وص��لت جثثهم الط��اهرة إلى األرض، ك��انت

قد تالشت وتناثرت، ولم يعد باإلمكان جمعها لتوارى في الثرى.

وهناك أظهر "مرتضى زهره وند" شجاعة وبطول��ة ال مثي��ل له��ا، فق��د ك��ان ذا قوة وبأس ويدين كبيرتين وقويتين، وقاتل تحت راية اللواء الرابع من الح��رس الثوري، وشكل ورقة رابحة على أرض المعرك�ة. اعت��اد ه�ذا الرج�ل أن يس�ير حافي القدمين، بل لم يكن يسير إنما يركض ركضا. كان في كل ليلة يستيقظ عند الس�اعة الثاني��ة يص��لي ص�الة اللي�ل وي�ذهب لوح�ده ح�افي الق�دمين إلى

الجبال والوديان، يحمل الجثث على ظهره ويسير مسافة

حياة 1 من عدة مواقف إلى باإلضافة األذان، قصة في إبراهيم على سالم كتاب في الحادثة هذه ذكرت. هادي إبراهيم الشهيد

Page 220: books.almaaref.orgbooks.almaaref.org/static/documents/zoqaq.doc · Web viewكلّ هذه الذكريات والأصوات، کانت لا تزال تتردّد في زوايا حنجرة

220

متر على قدميه ليوصل أجساد الش��هداء س��المة إلى الس��فح، وعن��دما1700 يحين الصبح تكون أجساد الشهداء مصفوفة إلى جانب بعضها بعضا؛ ك��ان ه��ذا

عمله في كل ليلة.

ا وحكاي��ات عن ه��ؤالء األبط��ال إلى أن وص��لنا إلى خط��وط بقينا نسمع قصص�� دفاعنا، وكانت منطقة جدي��دة علين��ا لم�ا نع�رف تفاص�يلها بع�د، بينم��ا يش�رف الجيش العراقي على المرتفع، ويستطيع استهدافنا بقذائف ال��دبابات واله��اون

بكل سهولة.

عندما وصلنا إلى المتاريس والدشم المعدة مس��بقا حاولن��ا أن نت��وزع ونحتمي فيه���ا من دون أن نلفت انتب���اه العراق���يين لق���دومنا. في يومن���ا الت���الي في بانسيران سقطت قذيفة هاون بالقرب من س��اترنا ال��ترابي، فأص��بت بش��ظية صغيرة في ذراعي. مهم��ا فعلت لم يتوق��ف ال��نزف، ربطته��ا بخرق��ة بإحك��ام، عليه��ا لكن من دون فائ��دة، وبقي الج��رح ي��نزف، م��ا اض��طرني إلى مغ��ادرة الموقع وال�ذهاب إلى ال�دائرة الص��حية في الخ�ط الخلفي لبانس�يران. وهن�اك أخبرني مسؤول المركز أن الشظية أص��ابت الش��ريان ويحت��اج إلى التقطيب، فأرسلوني من هناك بسيارة إسعاف إلى مدينة ايوان حيث خ��اطوا لي الج��رح بلمح البصر، وضمدوه وأجروا لي القلي��ل من الفحوص��ات. ولم��ا لم يج��دوا أي

مشاكل صحية عدت من المستشفى في اليوم نفسه.

من مدين��ة "اي��وان" ذهبت إلى الخ��ط الخلفي ل���"كيالن غ��رب" ح��تى أتفق��د صاحبنا الحاج عباس وأطمئن إليه في مرك��ز الح��دادة، وأقض��ي الليل��ة عن��ده. بحثت عنه في مركز التجهيزات والمعدات، وسألت عنه قائال: "أنا من طهران وقبل أمس وصلنا إلى هذا المحور، لدي صديق حداد أتى إلى هنا ليس��اعد في

قسم الحدادة".

Page 221: books.almaaref.orgbooks.almaaref.org/static/documents/zoqaq.doc · Web viewكلّ هذه الذكريات والأصوات، کانت لا تزال تتردّد في زوايا حنجرة

221

- ذهب في إجازة.- قبل أمس أتى، بهذه السرعة ذهب؟ هل أنت متأكد؟

ذهبت إلى المدينة بحثا عن هاتف، واتصلت بمنزل الحاج عب��اس، فأج��اب ابن��ه��ة1وقال لي: "والدي في المنزل، كنا نستعد إلعداد ال�"آش بش��ت ب��ا" على ني

عودته، وإذا به يدخل علينا". هذه كانت قصة الح��اج عب��اس ال��ذي لم يب��ق فيالجبهة سوى يوم واحد، لكنه كان يقصد فعل الخير.

ع�دت إلى اإلخ�وة في مت��اريس ال��دفاع، وج�رت األم�ور كعادته�ا في المواق�ع الدفاعية، وأول عمل قمنا به ك��ان نص��ب دش��مة للحراس��ة في موق��ع متق��دم على المرتفع ورسم خط ب��الكلس األبيض على األرض ح��تى ال نض��ل الطري��ق عندما يحل الض�باب، إذ ك�ان يحجب الرؤي�ة بحيث ال نس�تطيع أن ن�رى أمامن�ا

مسافة قدم واحدة.

كانت الخنادق والمتاريس التي تحصنا فيها قد بنيت على يد اإلخ�وة من مدين��ة "أرومي��ه"، وق��د حف��رت في قلب الجب��ل، وك��انت دش��ما ص��غيرة ال تزي��د عن النص��ف م��تر، قليل��ة االرتف��اع، ال يمكنن��ا التح��رك فيه��ا. طلبت من اإلخ��وة أن

يعمقوا حفرها حتى ال يضطروا إلى االنحناء وهم يسيرون داخلها.

��ا ��ه يجب أن نص��نع بيت وألننا كنا متدينين ولدينا شيمنا وأخالقن��ا، قلت لإلخ��وة إن للخالء الئقا، كي ال تنزل المياه إلى المنحدرات بين الص��خور واألش��جار. ل��ذلك حفرنا حفرة بعمق مترين وطول وعرض مترين، وغطيناها بالصفيح والقم��اش المشمع، ثم ثبتنا في طرفها أنبوبا معكوفا، وعلى بعد أمتار منها حفرنا حف��رة

ثانية صغيرة، ووصلناها باألنبوب، وأعددناها بشكل مناسب

والفقراء، 1 والجيران األقارب على ويوزعونه مسافرهم مغادرة من أيام ثالثة بعد األهل يعده الحساء من نوعالمترجم-.

Page 222: books.almaaref.orgbooks.almaaref.org/static/documents/zoqaq.doc · Web viewكلّ هذه الذكريات والأصوات، کانت لا تزال تتردّد في زوايا حنجرة

222

للجل��وس فوقه��ا، ثم نص��بنا حوله��ا أربع��ة أن��ابيب ذات س��دادات، وغطيناه��ابالقماش والقنب لتصبح بيت خالء من الطراز األول.

في س��فح بانس��يران نب��ع م��اء، وك��ان اإلخ��وة ي��نزلون إلي��ه بالتن��اوب، ليمألوا الغالون��ات بالم��اء، ثم يحملونه��ا إلى األعلى بمش��قة كب��يرة. رأيت من غ��ير الصحيح أن يبقى الوضع على ما هو عليه، وأن تستنفد طاقات اإلخوة بأعم��ال كهذه، فهؤالء لم يأتوا لحمل الم��اء من أس��فل الجب��ل إلى األعلى. ل��ذا، ذهبت في أحد األيام إلى مركز التجهيزات التابع للجيش، وبعد عن��اد وإص��رار أخ��ذت من عندهم صهريج م��اء، وض��عناه في م��ؤخرة ش��احنة، ونقلن��اه ذات ليل��ة إلى أعلى المرتفع بهدوء تام، ومصابيح الشاحنة مطفأة، حيث كان العراقي��ون ق��د وضعوا دبابة على محور بانسيران األوسط تستهدف كل من يم��ر من المح��ور بقذيفة مباش��رة، لكني والحم��د لل�ه، تمكنت من إيص��ال الص��هريج س�الما إلى

األعلى.

وضعناه في مكان آمن داخل أخدود بعيدا عن مرمى نيران العدو حيث حفرن��ا األرض وغطين��اه بأكي��اس من الرم��ل، وبع��دما انتهين��ا ح��ذرت الش��باب من اإلس��راف، ومن ه��در الم��اء ووض��عت وع��اء مليئا ب��الطين إلى ج��انب ص��نبور

الصهريج حتى يفركوا األوعية والظروف بالطين قبل أن يغسلوها بالماء.

بع�د ع�دة أي�ام ق�ذف الم�ولى في قل�بي ش��يئا، ورحت أفك�ر أن�ه ينقص�نا هن��اا حسينية ومن الجيد أن نبني واحدة. ذهبت مع حسين محمودي، ووج��دنا أرض�� مناسبة له��ذا الغ��رض، وب��دأنا الحف��ر، وحيث وص��لنا إلى ص��خرة ص��لبة ص��عبة الكس��ر فجرناه��ا بقنبل��ة يدوي��ة إلى أن حص��لنا في نهاي��ة األم��ر على أرضا من الرم��ل منبس��طة بمس��احة أربع��ة في خمس��ة عش��ر م��ترا ومألن��ا أكياس�� والتراب وصففناها فوق بعض��ها البعض لنص��نع س��ورا لألرض، لكن كلم��ا أردن��ا

رفع الصف الثاني انقلبت األكياس وعدنا إلى الصف األول من

Page 223: books.almaaref.orgbooks.almaaref.org/static/documents/zoqaq.doc · Web viewكلّ هذه الذكريات والأصوات، کانت لا تزال تتردّد في زوايا حنجرة

223

��ائين األت��راك الم��اهرين، فرص��ف جديد، إلى أن جاء أحد اإلخوة، وكان من البنا. وبقي األكياس بطريقة متداخلة واحدا تلو اآلخر، فتماسكت م��ع بعض��ها بعض���ا بحاج�ة إلى الخش�ب، ف�ذهبنا إلى مرك�ز ق�ريب علينا وضع السقف، لذلك كن لقوات الجيش حيث كانوا قد استقروا إلى اليسار منا، وقلنا لهم: "نريد ألواحا من الخش��ب ه��ل عن��دكم منه��ا؟"، فق��ال أح��دهم: "ال، ول��و ك��ان عن��دنا لم��ا

أعطيناكم".

في الليلة نفس��ها ذهبت بمف��ردي إلى مق��رهم، ومن دون أخ��ذ اإلذن من أح��د أخ��ذت م��ا نحتاج��ه من أعم��دة الخش��ب والحدي��د، ووض��عناها على الج��دران وغطيناها بصفائح حديدية، وبذلك تم بن��اء الحس��ينية، وص��رنا نجتم��ع فيه��ا ك��ل ص��باح وظه��ر ومس��اء، نقيم ص��الة الجماع��ة، ونح��يي مراس��م دع��اء التوس��ل والمج��الس الحس��ينية واللطم بش��كل منظم وم��رتب. وك��ان أم��ير مظ��اهري

مسؤول الحسينية يرتبها ويبقيها نظيفة على الدوام.

وكان "حجت شمسيان" و"علي برادران" مسؤولي التجهيزات والمؤن، وك��ان عن��دهما بغالن، ي��ذهبان في ك��ل أس��بوع م��رة إلى مس��ؤول التجه��يزات في الفرقة، ويأتياننا بالطع��ام والش��راب وال��ذخائر. ك��ان الطع��ام ال��رائج في تل��ك األيام سمك التونة والسردين المعلب، وقلما أكلنا طعاما مطهوا وساخنا. وكنا

ا م�ع الجبن ولبن�ة الض��رف ، وكله�ا في الغ�الب مس�اعدات1نتناول خ�بزا يابس�مقدمة من األهالي والعشائر في "مالير" وكانت لذيذة جدا.

كان لك�ل ثماني�ة أش��خاص مس�ؤول يس�تلم الطع�ام والحص�ص المح�ددة لهمويجهز السفرة ويجمعها، وفي المقابل يعفى من الحراسة.

في أحد األيام، عاد حجت شمسيان من مقر التجهيزات والمؤن عابسا

1 . الماعز جلد من معد كيس في واألرياف القرى في تصنع لبنة

Page 224: books.almaaref.orgbooks.almaaref.org/static/documents/zoqaq.doc · Web viewكلّ هذه الذكريات والأصوات، کانت لا تزال تتردّد في زوايا حنجرة

224

منزعجا، سألته: "ما الذي حصل؟".- لقد سقط لنا جريح.

- آه، متى؟- بينما كنا عائدين، رمونا بقذيفة هاون فأصيب بغلي بشظيتين في بطنه.

- وأين هو اآلن؟

أشار إلى هضبة وقال: "وقع هناك خلف تلك القم��ة ودم��ه ي��نزف، لم أس��تطعمساعدته".

فقلت له: "اذهب وأرحه، الحيوان المسكين، ال تدعه ينزف ويتعذب هكذا".- ال أستطيع، فقلبي ال يقوى على هذه األمور.

خالل تلك المهمة الدفاعية، وحيث كان الحراس يمضون فرادى من غير ناصر وال معين ليؤدوا نوباتهم، قام العراقيون باختطاف أحد اإلخوة خالل ذهاب��ه في نوبة حراسة إلى وادي "بلنك". وكانت ه�ذه األم�ور ش�ائعة في الح��رب، فك��ل طرف يختطف العناصر المتقدم��ة للحراس��ة من الط��رف اآلخ��ر لكي يحقق��وا معهم ويأخ���ذوا منهم معلوم���ات عس���كرية. لم أع���د أذك���ر اس���م ذل���ك األخ المختطف، لكني أذكر أننا بقينا نجهل مص��يره وم��ا ح��ل ب��ه وال أعلم اآلن ه��ل

استشهد أو ظل أسيرا.

وأذكر أخا حينها يدعى أمير، أسميناه: "أمير النمر"؛ كان نحيال، ض��عيف البني��ة، محبوبا يدخل القلوب، وغير مرتب بعض الشيء! في بعض الليالي رمى العدو

ا ليحدد نقطة وجودنا والزاوية التي نحونا رصاصا فسفوري

Page 225: books.almaaref.orgbooks.almaaref.org/static/documents/zoqaq.doc · Web viewكلّ هذه الذكريات والأصوات، کانت لا تزال تتردّد في زوايا حنجرة

225

سيرمي عنها، ومع كل رصاصة فسفورية أطلقها العراقيون، ك��ان أم��ير ينبطح��ه رص��اص ال يص��در عن��ه س��وى أرضا حتى ال تصيبه الشظايا، ومهما قلنا ل��ه إن الضوء والدخان، وال يشكل خطورة علينا، لم يكن يصغي إلينا. ذات م��رة ظ��ل ينبطح ويرتمي هنا وهناك حتى كسر أخمص بندقيته. أخذت سالحه إلى مرك��ز

التسليح وسلمته إليهم ليصلحوه.

وفي اليوم األخير لوجودنا هناك في المحور، وعند التسليم واالستالم وتس��وية األوضاع قبل المغادرة قال لي مسؤول التسليح: "يا سيد، أحد عناصرك كس��ر

أخمص سالحه، ما كان سبب ذلك وهل تتحمل المسؤولية؟".

بدوري لم أشأ أن أفض��ح أم��ر أم��ير فقلت ل��ه: "في إح��دى اللي��الي بينم��ا كن��ا ذاه��بين في مهم��ة اس��تطالع، وق��ع ه��ذا الش��اب على األرض وانكس��ر أخمص

بندقيته، فليس الذنب ذنبه".

قال مسؤول التسليح: "ما اسم هذا الشاب؟".- أمير النمر.

- وهل نستطيع أن نرى أمير النمر هذا؟

عندما أتى أمير، قال مسؤول التسليحات: "ي�ا حبي��بي، ه��ذا ليس قط��ة ح�تى!وتسمونه نمرا؟!".

وأخيرا قبلوا استالم السالح احتراما لشيبتي، وقضي األمر.

وقبل ترك موقع الدفاع ذهبت ذات ي��وم إلى الخ��ط الخلفي ل���"كيالن غ��رب"، وهن��اك التقيت بص��ديقي "أب��رام ه��ادي" ال��ذي ك��ان ق��د تع��افى وخ��رج من المستشفى لتوه، وقال لي: "لقد عزمنا على الذهاب إلى دوكوهه، تعال معن��ا

أنت وشبابك".

Page 226: books.almaaref.orgbooks.almaaref.org/static/documents/zoqaq.doc · Web viewكلّ هذه الذكريات والأصوات، کانت لا تزال تتردّد في زوايا حنجرة

226

أعجبني األمر، وق��ررت ال��ذهاب معهم إلى هن��اك، ولكي ال أت��أخر عنهم ع��دت على الفور إلى المح��ور، وش��رحت األم��ر لإلخ��وة هن��اك فس��وينا أوض��اعنا في الليلة نفسها، وسلمنا مراكزنا وعدنا بباص صغير إلى طهران. ك��ان ذل��ك على

وعلى مقربة من عيد النوروز.1982مشارف ربيع العام

في طهران تأخرت عن الركب إذ بقيت هناك ليلة واح��دة، وفي الي��وم الت��الي ذهبت منفردا بالقطار، ولم يكن ل�دي ت�ذكرة، ف�دخلت وس�ط جم�وع الرك�اب وانطلقنا إلى دوكوهه، ولم يسبق لي أن ذهبت إليها، فكانت تلك المرة األولى التي أسمع باسم هذه المدينة، لكني علمت أن القطار يذهب إلى "أنديمشك"

حيث المحطة األخيرة، وأن علي أن أنزل منه قبل أنديمشك بمحطتين.

من بعي��د، الحت لي األبني��ة في دوكوه��ه، ك��انت تش��به األبني��ة الس��كنية في المناطق الصناعية أو األبنية التابعة لإلسكان العسكري؛ كلها إلى جانب بعضها البعض بالشكل والحجم والترتيب نفسه. ن��زلت من القط��ار، وبع��د أن س��رت قليال وصلت إلى المعسكر. في تلك األثن��اء ك��انت ق��د الحت في األف��ق مالمح تشكيل ل�واء "محم�د رس��ول الل�ه" بقي�ادة الح�اج أحم�د متوس��ليان وانطلقت بوادره. فقد تألق الحاج أحمد في كردس��تان، وذاع ص��يته، فك��ان القائ��د ال��ذي جاء الكثيرون من أمثالي عش��قا ل��ه لينض��موا إلى ه��ذا الل��واء، وليكون��وا تحت

إمرته. ولذلك كان المكان في دوكوهه مزدحما يعج بحشود المجاهدين.

قمت بجولة في األنحاء، والتقيت ب�"مرتضى زهره ون��د"، وك��ان من أبن��اء حي"وحيديه". سلمنا على بعضنا البعض، وسألته: "بأي كتيبة ستلتحق؟".

- تعال لنذهب ونلتحق بالكتيبة الرابعة بقيادة "أصغر رنجبران"،

Page 227: books.almaaref.orgbooks.almaaref.org/static/documents/zoqaq.doc · Web viewكلّ هذه الذكريات والأصوات، کانت لا تزال تتردّد في زوايا حنجرة

227

فأكثر قواتها من أبناء طهران، وأكثر أصدقائنا هناك.ا، لكني - بصراحة أنا متردد وال أعلم ما هو األصلح، أنا هنا بصفتي عنص��را ح��ر

سآتي من أجلك. فلنذهب غدا إلى الحاج أصغر ونعرفه بأنفسنا.

في اليوم التالي عندما حان وقت الذهاب إلى الكتيبة تراجع مرتضى فجأة عنأقواله باألمس وقال: "لن آتي".

- إإ..، ولماذا لن تأتي؟ أنا ذاهب ألنضم إلى الكتيبة الرابعة من أجلك أنت. - لكني أتيت إلى هن��ا من أج��ل الل��ه )ع��ز وج��ل(، ال أري��د أن أك��ون أس��يرا للمع��ارف واألص��دقاء، س��أذهب في الح��ال وأنض��م إلى أي كتيب��ة وأذهب إلى

الجبهة وأقاتل من دون أن يعرفني أحد.

انقبضت أحوالي لسماع ه�ذا الكالم، وت�راجعت عن االلتح�اق بالكتيب�ة الرابع�ة ونسيت أمرها مع أني كنت حقا أحب أن أكون مع اإلخوة فيها، وم��ع أص��حابي وأصدقائي، لكني قررت أن أقاتل حيث ال يعرف��ني أح��د مث��ل مرتض��ى، وكنت حينها قد س��معت الكث��ير )من الم��دح والثن��اء( عن "محس��ن وزوايي" فق��ادني

القدر إلى أن أقاتل تحت لواء "كتيبة حبيب".

كان قائد كتيبة حبيب محسن وزوايي من خيرة الرجال واألبطال في الح��رب، وفي هذه الكتيبة التحقت بالسرية الثانية بقيادة "عباس ورامي��ني"، وأص��بحت المعاون الثاني لقائد السرية، وكان قائد السرية األولى مجي��د رمض��ان، وقائ��د

1200السرية الثالث��ة عم��ران بس��تي، وب��المجموع ك��انت الكتيب��ة مؤلف��ة من مقاتل.

انطلقت عملي��ات "الفتح الم��بين" بن��داء1982في أواخر شهر آذار من العام "يا زهراء"، والتي من المقرر لكتيبة حبيب أن تشارك في المرحلة

Page 228: books.almaaref.orgbooks.almaaref.org/static/documents/zoqaq.doc · Web viewكلّ هذه الذكريات والأصوات، کانت لا تزال تتردّد في زوايا حنجرة

228

الثانية من العمليات.

وللمش��اركة في المرحل��ة الثاني��ة، س��ارعت بال��ذهاب إلى مق��ر الفرق��ة، وفي الوقت المقرر تحركت قوات كتيبة ح��بيب في ط��ابور، وبع��د أن قطعن��ا قراب��ة السبعة عشر كيلوم��ترا داخ��ل "س��هل عب��اس" في قلب الظالم لم نص��ل إلى مكان محدد، ولم نبلغ نقطة االنتشار المتفق عليها، ما أثار الشكوك في قلوبنا عن صحة الطريق الذي نسلكه. كنت أسير إلى جانب ط��ابور الس��رية الثاني��ة، فيما كان عباس وراميني يتقدم الطابور، حينها لم تكن عالقتي قد توطدت مع أحد، بل اقتصرت على معرفة طاقم الكتيبة. كنا نسير والمسافة بين الس��رية والسرية التي خلفها عدة أمتار، واإلخوة يمشون بعض��هم خل��ف بعض. لم يكن يحق ألحد أن يخرج من الطابور ويخل بنظم��ه، وبقين��ا نس��ير في س��هل مظلم في سكوت وهدوء من دون أي سواتر ترابية أو مكان لالحتماء، وحدها القنابل

المضيئة أنارت السماء.

��ا من أنه��ا ج��اوزت الثاني��ة عش��رة بع��د لم نكن نملك س��اعة، لكني كنت متيقن��ا ق��د وص��لنا إلى ض�فة نه�ر موس��مي منتصف الليل، حين أمرنا ب��التوقف. وكن مليء بالماء، رفعنا أس��لحتنا ف��وق رؤوس��نا ودخلن��ا في النه��ر لنع��بره، غمرتن��ا المياه المتدفقة بشدة إلى أوساطنا. خرجن��ا من��ه وق��د تبللن��ا من رؤوس��نا إلى أخمص أقدامنا، وتابعنا المسير مئة متر ليصدر األمر بالتوقف من جديد، وق��ال

لنا عباس وراميني: "هنا هضبة تانكه".

جلس اإلخ��وة في أم��اكنهم ليس��تريحوا ويلتقط��وا أنفاس��هم، فتق��دمت ب��دوري وسرت نحو مقدم��ة الط��ابور. هن��اك رأيت محس��ن ممس��كا بجه��از الالس��لكي يتحدث، أظنه كان يتكلم مع الحاج أحم�د وك�ان يق�ول: "لق�د أض��عنا الطري��ق،

والدليل ال يعرف شيئا وال يستطيع أن يحدد موقعنا".

وكان الحاج أحمد يقول له: "لقد وصل اإلخوة إلى الموقع المحدد

Page 229: books.almaaref.orgbooks.almaaref.org/static/documents/zoqaq.doc · Web viewكلّ هذه الذكريات والأصوات، کانت لا تزال تتردّد في زوايا حنجرة

229

وانتظروكم ولوحوا لكم أنتم، لماذا لم تلتفتوا لهم!؟".

فقال الحاج محسن: "لقد ضللنا الطريق، ونحن اآلن تائهون".

وهناك علمنا أننا تائهون وبدأ الجميع يتهامسون، وشخصت األنظار نح��و الح��اج محسن. لم يكن أحد يعرف كيف يحل العقدة ويخرجنا من ه��ذه الورط��ة. هن��ا قام محسن فجأة وابتعد عن الطابور، وس��ار في قلب الس��هل وس��ط الظالم،

لكن ظل خياله يرى في الظالم حيث وقف مكبرا وشرع بالصالة.

خرج اإلخوة من الصف وراحوا يتساءلون: "إن حان وقت صالة الفجر أخبرون��احتى نلتحق به ونصلي جماعة".

ال أعلم ما حل بمحسن تلك الليلة، وما الذي جرى عليه، الله وحده يعلم، ظل يصلي ويتهجد، وبعد رب��ع س��اعة أو عش��رين دقيق��ة ق��ام وع��اد إلين��ا، وبص��البة ورزانة وثقة عالية بالنفس تقدم منا وقال: "أيها اإلخوة قوموا واصطفوا لنتابع

المسير".

قال له الدليل: "إلى أين؟ إن تقدمنا أك��ثر ض��للنا وأض��عنا الطري��ق أك��ثر، ه��ذاالسهل ليس له بداية وال نهاية، وما إن يطلع الفجر حتى يحاصرنا العراقيون".

لم يعره محسن اهتماما وقال: "هيا يا إخوتي تحركوا".

كان يتصرف ويتكلم بثقة عالية وكأنه يعرف تلك المنطقة منذ خمس��ين س��نة،��ا ثم ق��ال وطوعا ألمره اصطففنا وتابعنا المسير. تق��دمنا خمس��مئة م��تر تقريب محسن: "حان موعد صالة الصبح، لكننا ال نستطيع أن نتوق��ف للص��الة فص��لوا

فيما أنتم تسيرون".

تيمم اإلخوة على عجالة وأدوا صالة الصبح بحركة شفاههم وهم

Page 230: books.almaaref.orgbooks.almaaref.org/static/documents/zoqaq.doc · Web viewكلّ هذه الذكريات والأصوات، کانت لا تزال تتردّد في زوايا حنجرة

230

يس��يرون في الط��ابور. لكن البعض لم يمتثل��وا لألوام��ر وخرج��وا من الط��ابوروتوقفوا ليؤدوا الصالة فاختل نظم الطابور قليال.

فيما بعد عرفت أننا كنا تائهين بالقرب من الطريق المعبدة الواص��لة بين عين خوش وانديمشك. لم تمض نصف ساعة حتى صرنا نس��مع أص��وات المدفعي��ة من بعيد، وعرفنا حينها أن الكتائب عن يميننا وشمالنا ق��د اش�تبكت م��ع الع�دو العراقي، هنا قال أحد اإلخوة: "لقد ع��رفت المك��ان، انظ��روا إلى تل��ك التالل،

إنها تالل علي كره زد".

عدت إلى ج�انب ط��ابور اإلخ�وة في الس��رية الثاني��ة وتق�دمنا قليال، ثم أرس��ل الحاج محسن سريتين إلى يمين التالل ويسارها حتى تقوما بمس��اندة الوس��ط في حال حصل اشتباك، بعدها دخلنا أخدودا وتق�دمنا إلى ج�انب س��فح هض��بيا، وص��عدنا التالل وس��ط الظالم وتوزعنا في الوسط والطرفين مشكلين قوس�� الذي كان يشقه ضياء الصباح ويرسم لنا معالمها. بعد دق��ائق، وبع��دما ص��عدنا قليال وأشرفنا على الوادي، بدا لنا من هناك ما أدهشنا وحيرنا، فقد رأينا قرابة الثمانين مدفعا مصفوفة جنبا إلى جنب في قعر الوادي. وك��ان العراقي��ون ق��د حفروا في أسفل الجبل حفرا صغيرة وثبتوا المدافع داخلها، هنا قال محس��ن: "لق��د ك��انت ق��ذائف ه��ذه الم��دافع من نص��يب أه��الي دزف��ول، ت��دك من��ازلهم وتدمرها، حاصروها وطوقوها بهدوء". وعلى الفور تف��رق اإلخ��وة وخرج��وا من الط��ابور وانتش��روا على التل��ة وس��فح الهض��بة. وبع��د أن حاص��رنا م��رابض المدفعية، أطلق "علي موحد" رصاص��ة في اله��واء، ت��ردد ص��داها في األج��واء وكسر هدوء الفجر. وتبعتها أصوات العراقيين وجلبتهم، وهم يخرج��ون من بين المدافع ومن خلف المتاريس التي تحصنوا فيها رافعين أيديهم فوق رؤوس��هم

ويصيحون: "دخيل خميني، دخيل خميني".

Page 231: books.almaaref.orgbooks.almaaref.org/static/documents/zoqaq.doc · Web viewكلّ هذه الذكريات والأصوات، کانت لا تزال تتردّد في زوايا حنجرة

231

وفقنا الله تلك الليلة ونجحت العملي��ات نجاح��ا ب��اهرا. ولم��ا حص��لنا على ه��ذه الغن��ائم الكث��يرة والمهم��ة وأس��رنا جن��ود الع��دو س��ادت فرح��ة عارم��ة وعلت

أصوات الجميع بالتهليل والتكبير.

لقد شاءت العناية اإللهية أن تنتهي العمليات لمصلحة مجاهدي اإلس��الم، فق��د ك��انت لعب��ة بغ��الب واح��د، وطرفاه��ا: قلب محس��ن األبيض والط��اهر، وإيم��ان اإلخوة وصبرهم وعقيدتهم الراسخة من جهة، و)جحافل( العدو البعثي وأربع��ة

وتسعون مدفعا، من جهة أخرى.

ا قد حصل في تلك الليلة، وإال كي��ف تمكنت كتيب��ة كنا على يقين بأن أمرا غيبي كاملة من أن تسير كل هذه المسافة حتى تص��ل إلى ف��وق رؤوس العراق��يين

من دون أن يلتفتوا لها، أو يشعر بها أحد؟

ذلك اليوم، بقينا حتى الظهر ننزل األسرى مجموعات مجموعات إلى األسفل، ومن بينهم كان يوجد عميد عراقي. مألنا قربات األسرى ماء ح��تى ال يش��عروا بالعطش أثناء المس��ير، ومن ثم نقلن��اهم إلى الخط��وط الخلفي��ة. م��ع ش��روق الشمس، جاء علي رض�ا ناهي��دي ومحس��ن ن��ورايي ويوس��ف ك�ابلي على متن��ا لكي يتعلم��وا من��ه كيفي��ة س��يارة تويوت��ا، وق��د أحض��روا معهم أس��يرا عراقي استعمال المدافع والتعامل معها. تل��ك ك��انت الم��رة األولى ال��تي يمتل��ك فيه��ا الح��رس الث��وري م��دفعا، فح��تى ذل��ك الحين ك��انت معظم ه��ذه األس��لحة بي��د

الجيش فقط.

وق��د نقلت الم��دافع إلى خل��ف مرتفع��ات "رقابي��ة" لتس��تخدم في ص��د تق��دم الجيش العراقي، وكان اإلخوة يقولون: "اآلن أصبح بإمكانن��ا أن نح��دد الزاوي��ة

والهدف ونقصف تالل وسفوح رقابية ونسحق العدو فيها.

استمرت تلك العملي��ات ح��تى أواخ��ر ش��هر آذار، وق��د أص��يب خالله��ا محس��نوزوايي ببعض الجراح.

Page 232: books.almaaref.orgbooks.almaaref.org/static/documents/zoqaq.doc · Web viewكلّ هذه الذكريات والأصوات، کانت لا تزال تتردّد في زوايا حنجرة

232

وهن��اك رأيت "مرتض��ى زه��ره ون��د" للم��رة األخ��يرة، حيث ك��ان ق��د أص��يب برصاصة في بطنه. ال أعلم كيف تمكن من المشي وهو على تلك الحال، ك��ان يمشي واضعا إحدى يديه على بطنه ويمسك باليد األخرى حقيبة. س��ألته: "م��ا

هذه الحقيبة؟". - وجدتها في متاريس العراقيين، وهي مليئة باألموال. أن��ا اآلن ذاهب ألس��لمها

للفرقة.

بع�د ع�دة أي�ام س�معت أن�ه استش�هد في اش�تباك آخ�ر م�ع الع�دو خالل تل�كالعمليات نفسها.

من بعد حادثة غنيمة المدافع تلك، أص��بحت الح��رب وكأنه��ا من ط��رف واح��د.��ون يتحرك��ون كم��ا في الس��ابق، وك��أنهم تلق��وا ص��فعة قوي��ة فلم يع��د العراقي

أفقدتهم زمام المبادرة.

على أي ح��ال، في أوائ��ل ش��هر نيس��ان ع��دت إلى طه��ران، وانش��غلت هن��اك بمراسم تشييع الشهداء وعيادة من جرح من األصدقاء، فكنت أذهب ك��ل ي��وم مع مجموعة لزيارتهم. في تلك األيام كانت المدينة تنعم بصبغة إلهية، والن��اس فيه��ا ودودون ورحم��اء فيم��ا بينهم، وراجت الفض��ائل كص��لة ال��رحم واإلنف��اق

واإليثار وقضاء حاجات الناس.

من المواظبين على الصالة في جامع الحي كان السيد "خير الل��ه" واثن��ان من أقاربه الذين عملوا معا ببيع الخضار طلبا للرزق الحالل، وكانوا يملكون سيارة نقل جعلوها مركبا للعشق، فكانوا يأخ��ذوننا به��ا لزي��ارة قب��ور الش��هداء أو إلى

المستشفى لعيادة الجرحى والمصابين.

كذلك زوجتي فاطمة، كانت تنظم البرامج وتأخذ النساء م��رة ك��ل أس��بوع إلىالمستشفيات لعيادة الجرحى. وبالتعاون مع اإلخوة: السيد

Page 233: books.almaaref.orgbooks.almaaref.org/static/documents/zoqaq.doc · Web viewكلّ هذه الذكريات والأصوات، کانت لا تزال تتردّد في زوايا حنجرة

233

أمير بطايي والسيد مهدي منفرد والس��يد ع��رب زاده، وبفض��ل م��ا ب��ذلوه من جهود، كانت نساء الحي يذهبن مرتين كل أسبوع في رحلة ترفيهية في فص��ل

الربيع.

كل األصدقاء كانوا قلبا واحدا وذوي طبيعة واحدة، ومستعدين لخوض الحرب، وشباب تلك األيام كمسيح وجان فرس��ا وكاش��اني وك��اظمي ومظ��اهري وروح اللهي وفرجي وخوش آبي، ك��انوا جميع��ا يش��كلون فرق��ة إنش��ادية، فيم��ا بع��د

استشهد عدد منهم، وجرح البعض اآلخر.

Page 234: books.almaaref.orgbooks.almaaref.org/static/documents/zoqaq.doc · Web viewكلّ هذه الذكريات والأصوات، کانت لا تزال تتردّد في زوايا حنجرة

234

Page 235: books.almaaref.orgbooks.almaaref.org/static/documents/zoqaq.doc · Web viewكلّ هذه الذكريات والأصوات، کانت لا تزال تتردّد في زوايا حنجرة

235

.. وتحررت خرمشهرإلهي أقسم عليك بحرية هذا الطير أن تحرر روحي!

��ار من الع��ام م، التقيت ب���"خلي��ل حج��ازي"، ابن أخي1982في أوائل شهر أي��ام1"السيد فخ��ر ال��دين حج��ازي" ��ات ض��خمة في األي ، فق��ال: "س��تجري عملي

القادمة، وأنا ذاهب غدا إلى الجبهة".

في صباح اليوم التالي، اجتمعت مع "أم��ير ب��رادران"، و"مص��طفى كاش��اني"، و"محمد رضا بقايي"، و"علي واعظي" حول "خليل حجازي" لمرافقته، حجزنا مقصورة في القطار، ووصلنا إلى "أنديمشك" عند الغروب. ومن هناك توجهنا إلى "دوكوهه" بسيارة تويوتا. وبسبب قرابته من السيد "فخر الدين حج��ازي" ص��احب النف��وذ في ص��فوف اإلخ��وة اس��تطاع "خلي��ل حج��ازي"، أخ��ذ عن��وان��ة الواق��ع على الكتائب، وعرفنا أن الق��وات مس��تقرة في مب��نى الطاق��ة الذري

كيلومترا من األهواز.70مسافة

في الطريق، توقفنا في األهواز. قمنا بجولة في المدينة، ومن ثم بتنا

العام 1 في حجازي الدين فخر السيد . 1929)1308ولد األديب( يد على كثيرة علوما تعلم سبزوار مدينة في م . واعتقل إرشاد، حسينية في الثوريين الخطباء جملة من كان ونافلي نوراني الله عبد والشيخ السبزواري

. . في المجاهدين جانب إلى حضور له كان اإلسالمية المواضيع في الكتب من العديد ألف وسجن عدة مرات . العام ربيع في ربه جوار إلى انتقل اإلسالم قوات خاضتها التي العمليات (.2007)1386بعض

Page 236: books.almaaref.orgbooks.almaaref.org/static/documents/zoqaq.doc · Web viewكلّ هذه الذكريات والأصوات، کانت لا تزال تتردّد في زوايا حنجرة

236

ليلتنا في فندق "ميامي"، أحد الفن��ادق الك��برى في األه��واز، وق��د تح��ول بع��داندالع الحرب إلى مستشفى.

��ة، إن في الي��وم الت��الي، ق��ال الش��باب الموج��ودون في مب��نى الطاق��ة الذري��ات "بيت المق��دس" ق��د أج��ريت ليل��ة الثالثين من المرحل��ة األولى من عملي نيسان؛ وقد اقتحمت كتيبتا "حبيب" و"مالك" في الليل��ة األولى خط��وط دف��اع الع��دو، إذ عبرت��ا نه��ر "ك��ارون" ووص��لتا إلى ج��ادة األه��واز- خرمش��هر. فمن المفترض أن تتوجها لتحرير خرمش��هر، ودح��ر الع��دو إلى الح��دود. ك��ان زم��ام

األمور بيد الحاج أحمد، وأردنا أن نكون بمعيته.

طيلة اليوم، بقينا في مقر الطاقة الذرية. وقد جاءت أعداد كبيرة من الق��وات بحيث لم تعد توجد أماكن يستقرون فيها. لم أستطع االنتظار لمعرف��ة م��ا ه��و قرار اإلخوة وإلى أين سيذهبون. فت��وجهت عن��د الغ��روب بمف�ردي نح��و ج��ادة األهواز خرمشهر والخطوط األمامية. رحت أفتش عن كتيبة "ح�بيب"، أللتح�ق

ب� "محسن وزوايي".

خالل الطريق، التقيت بابن محلتنا "حسين طاهري" وقد صار بريد "محس��ن". أردفني خلفه على الدراجة النارية، وتقدمنا ح��تى وص��لنا إلى مقرب��ة من خ��ط دفاع كتيبة "حبيب". وهناك ركبت س��يارة إس��عاف محمل��ة بال�ذخائر ومتوجه�ة إلى الخطوط األمامية. وص��لت س��يارة اإلس��عاف إلى الس��اتر ال��ترابي لكتيب��ة

"حبيب"، ففرغت الذخائر ونقلت الجرحى إلى الخطوط الخلفية.

بدا الخط األمامي هادئا، إال من بعض القذائف المدفعية التي تسقط من وقت إلى آخر، وفي أوج العمليات كان ساكتا. التقيت هناك ب�"علي موحد" فسألني بعد التحية والسالم: "لقد هاجمن��ا خ��ط دف��اع األع��داء ليل��ة البارح��ة، أين كنت

أنت؟".

Page 237: books.almaaref.orgbooks.almaaref.org/static/documents/zoqaq.doc · Web viewكلّ هذه الذكريات والأصوات، کانت لا تزال تتردّد في زوايا حنجرة

237

نا. - في طهران، ذهبت وعدت مع شباب من حي- كانت مواجهة قصيرة.

- قصيرة! لم؟! أولم تكن الليلة األولى للعمليات واقتحام خطوط العدو؟��ة تري��د أن تفص��لنا عن بعض��نا البعض، ل��ذا فتحت - أظن أن الق��وات العراقيتاته، وعمالؤه في الطريق أمامنا. وال أظن أنها انسحبت. بالنهاية، للعراق تنص��

هذه الناحية. المسألة ليست عبثية، أن ينسحب ويسد الخط.- بالنهاية، ما هو الحل؟

- من المفترض أن تأتي في المساء كتيبت��ا "س��لمان" و"ميثم"، وأن تع�برا منأمامنا، وأن نكون نحن كقوات احتياط بالنسبة إليهما.

بقيت إلى منتصف الليل عند الساتر ال��ترابي لكتيب��ة "ح��بيب". فج��را، حص��لت مواجهة قصيرة، لكنها غ��ير عنيف��ة. وبقي البع��ثيون يمارس��ون ش��يطناتهم إلى

��ا ن��رمي عليهم بنيرانن��ا وبق��ذائف ال�" " من وقتB7غروب الي��وم الت��الي. فكنآلخر لنحافظ على الساتر.

عند الغروب، التقيت ببريد كتيبة "ميثم" وقوات "عباس شعف" يسيرون صفا. وعلى أساس معرفتي ب���معاون الكتيب��ة "ك��اظم رس��تگار" التحقت بط�ابورهم��ك إن كنت تع��رف وتقدمت معهم. فقد ك��ان من المعم��ول ب��ه في الجبه��ة، أن

ا فيها. شخصين في الكتيبة، تصبح محظي

س�رنا قليال. تح�دثت في الطري�ق إلى اإلخ�وة وتع�رفت إليهم. كنت أبحث عن رفيق ولم آنس كثيرا بأحدهم. س��ارع بعض ش��باب كتيب��ة "ميثم" من أص��حاب

النخوة والشهامة إلى مصاحبتي.

بدأ النهار يطول. فقد كنا في أواسط شهر أيار، وأصبحت الشمس تتأخر

Page 238: books.almaaref.orgbooks.almaaref.org/static/documents/zoqaq.doc · Web viewكلّ هذه الذكريات والأصوات، کانت لا تزال تتردّد في زوايا حنجرة

238

في الغروب. صلينا صالة المغرب ونحن في الطابور.

قرابة الساعة الثانية عش�رة، علت أص��وات ن��يران الرشاش��ات والق��ذائف من المحاور الواقعة على شمالنا ويميننا. الصوت ليس قريبا، إنما من الواض��ح أن كتيبتي "سلمان" و"مالك" تخوضان مواجه��ة شرس��ة. لم يكن من المق��رر أن تبدآ بالمواجهة قبل وصولنا، لكنهما فعلت��ا. ك��انت كتيب��ة "مال��ك" تتمرك��ز على يسارنا، وكتيبة "سلمان" على يميننا، من المفترض أن تنطلق الكت��ائب الثالث

معا بالمواجهة. لكن يبدو أن األمور تعقدت.

بعد مضي وقت على ب��دء المواجه��ات، علمن��ا ع��بر جه��از الالس��لكي أن كتيب��ة "سلمان" تواجه مشكلة. كنت على معرفة سابقة بقائد الكتيبة "حس��ين قج��ه إي"، فهو من شباب أصفهان؛ مصارع، ق��وي من أه��ل النخ��وة. لق��د جم��ع في

شخصيته القيادة الممتازة والشجاعة العالية.

في معمعة العمل ذاك، تناهى إلى سمعي بأن أكابر )زقاق نقاشها( قد ج��اؤواا للف�رق. في تل�ك الليل�ة أحسس�ت إلى "بستان" وق�د نص�بوا مطبخ�ا ص�لواتي بشوق إلى أبناء محلتن��ا، وحيث كنت عنص��ر احتي��اط فلم أحتج إلى أخ��ذ اإلذن للذهاب. وكنت كلما هام بي الشوق إليهم، ذهبت إلى هن��اك. في تل��ك الليل��ة، ذهبت برفقة عنصرين أو ثالثة من كتيبة ميثم، وتوجهنا إلى "الهويزة" وقاع��دة "حميد". سألنا أكثر من شخص عن عنوان المطبخ إلى أن وجدناه. ك��ان ذل��ك في منتص���ف اللي���ل، لكن أح���دا لم يكن نائم���ا في مطبخ الفرق���ة. الجمي���ع مستيقظون، ومنهمكون بالعمل. ویا له من محف��ل! فق��د س��قطت ليل��ة أمس قذيفة ب��القرب من بق��رة؛ فج��رى ذبحه��ا، وانش��غلوا بطبخ ال��رأس والمق��ادم، ووصلنا نحن في الوقت المناس��ب. وق�د اجتم�ع في ذل�ك المحف�ل ك�ل طه�اة��ام عاش�وراء خمس��ين ق�درا؛ "الس��يد المحلة الماهرين الذين كانوا يطبخون أي

عباس زين العابدين"، و"الحاج محمد

Page 239: books.almaaref.orgbooks.almaaref.org/static/documents/zoqaq.doc · Web viewكلّ هذه الذكريات والأصوات، کانت لا تزال تتردّد في زوايا حنجرة

239

نورتاج"، و"الحاج قيداني"، والحاج "غالم شاطريان"، و"حسين باقري". ..

بعد صالة الصبح، وقبل شروق الش��مس نض��ج ال��رأس والمق��ادم. وبينم��ا نحن جالسون إلى مائدة الطعام، قال اإلخوة إنه وجد في إحدى قرى األهواز ط��ائر يتكلم، وإنه يصيح بطريقة ما وكأنه يقول: "واوياله، لقد قتل الحسين". أخ��ذتنا الضحكة في بداية األمر، بعد ذلك خط��ر ببالن��ا أن ن��ذهب ون��رى ذل��ك الط��ائر.

فركبنا قرابة الساعة العاشرة صباحا، سيارة تويوتا وتوجهنا إلى األهواز.

استدللنا من الناس على مكان الطائر، فك��ان الجمي��ع -بحم��د الل��ه- يعرفون��ه.أشاروا لنا إلى حقل وقالوا: "إنه يطير هناك، اصبروا اآلن يظهر".

ذهبنا إلى الحقل، نظرنا حولنا لع��دة دق��ائق. فق��د ك��ان الس��هل مليئا ب��الطيور��ه يق��ول: ��دا؛ إن والحيوانات. أشاروا لنا إلى طائر وقالوا: هذا ه��و. اس��تمعوا جي

واوياله لقد قتل الحسين.

كان الطائر شبيها بالهدهد. وكان يشدو، ويذكر. حس��نا، فجمي��ع الطي��ور تس��بحالله.

��ا دققنا الس��مع، واس��تمعنا لع��دة دق��ائق إلى ش��دو الط��ائر، ال أدري، لربم��ا كن نسمع هذه العب��ارة في الوعين��ا: "واوياله، لق��د قت��ل الحس��ين"؛ لكن الحقيق��ة

الثابتة، أن لهذا الطائر، وكما بقية الطيور، شدوا وصوتا خاصين.

لقد أصبحت هذه القضية نكتة الموسم. بدوري، لم أوكد األمر ولم أنفه! ذل��ك أن الناس كانوا يحترمون ذاك الطير، ل��ذا لم أكن أج��رؤ على إنك��ار المس��ألة. على أي حال، إن حب الحسين عليه السالم هو الذي أوجد هذا اإلحساس لدى

الناس.

بعد الظهر، تركنا الطائر لحاله ورجعنا إلى مقر التكتيك.

Page 240: books.almaaref.orgbooks.almaaref.org/static/documents/zoqaq.doc · Web viewكلّ هذه الذكريات والأصوات، کانت لا تزال تتردّد في زوايا حنجرة

240

وهناك كانت قصة اشتباكات كتيبة "سلمان" و"حسين قجه إي" ما زالت تدور على األلسن. رأيت الحاج أحمد يتكلم على جهاز الالسلكي، وقد ب��دا االس��تياء واضحا على وجهه. كان يقول ألحدهم: "حسين وعناص��ره محاص��رون، ومهم��ا قلنا لهم أن ينسحبوا لم يسمعوا كالمنا..".. وما إن لمح��ني حتى ق��ال: "س��يد، ج��زاك الل��ه خ��يرا، خ��ذ ع��دة أش��خاص واذهب إلى حس��ين، وأج��بره على

االنسحاب".

فورا، ركبت خلف أحدهم على دراجة نارية واتجهنا نحو محور كتيبة "سلمان".

كانت كتيبة "سلمان" قد تموضعت في محور على هيئة حدوة الفرس ]نص��ف دائري[ وقد اجتمع عناصرها من شدة النيران إلى جانب الساتر، وك��ان طرف��ا المحور خاليين. في الجانب اآلخر، حيث خ��ط دف��اع الع��راقيين، اختلطت جثث القتلى العراقيين وجرحاهم مع أجساد شهدائنا. كان الجرحى يئنون، لكن أحدا لم يجرؤ على الذهاب إلى تلك الناحية. تعقدت األمور بنح��و كب��ير، وأفلتت من

أيدينا.

عندما طالت المواجهة أتلفت أعصاب الق��وات، وهن��اك رأيت "حس��ين" فق��طواقفا كالجبل. يشهد الله أنه لم يظهر أدنى أثر للخوف في وجهه.

في الليل، ضرب العراقيون حولنا نصف طوق. أدركت بوضوح أنن��ا نق��ع ش��يئا فشيئا في الحصار. كان من المفترض أن يرسلوا إلينا كتيبة دعم؛ لكن لم نجد

لها أثرا إلى منتصف الليل.

قرابة السحر، انطلقت الدبابات من ناحية طريق األهواز- خرمش��هر باتجاهن��ا، وكأنهم قد استعادوا قوتهم للتو. عن��د الفج��ر، أطلق��وا نحون��ا وابال من الن��يران

بحيث اهتزت األرض من تحت أقدامنا، وكأن زلزاال

Page 241: books.almaaref.orgbooks.almaaref.org/static/documents/zoqaq.doc · Web viewكلّ هذه الذكريات والأصوات، کانت لا تزال تتردّد في زوايا حنجرة

241

حصل. كان الساتر الترابي يتق��دم ويت��أخر. كم��ا إنهم حرث��وا المنطق��ة بن��يران��وا مح��ور كتيب��ة "مال��ك" ال�ذي ك�ان على ش��مالنا المدفعية. وسرعان م��ا احتل وس��يطروا علي��ه. ومن هن��اك كثف��وا إطالق الن��يران، فك��انت ن��يرانهم البعي��دة المدى كثيفة إلى حد جعلت جنودهم عاطلين من العم��ل. فق��ال اإلخ��وة: إنهم

يوفرون قوات المشاة خاصتهم من أجل إطالق رصاصة الرحمة علينا.

التقطت سالح أحد الجرحى، كان مخزنه ممتلئا. وتمترست في أعلى الساتر.

الجرحى المس��اكين، راح��وا يربط��ون ج��راحهم بك��ل م��ا ت��وافر ل��ديهم. وك��ان عددهم كبيرا إلى درجة لم يستطع المسعفون إس��عافهم جميع��ا. وحيث ك�انت الدماء تنزف من األبدان، بدأ العطش يح��ط رحال��ه عن��دهم. فك��انوا يلتقط��ون جعب الماء، يرتشفون منها رشفة وهم بحالة يرثى لها، وما يلبثون أن يفارقوا الحياة. هناك تبدى عالم آخر. كنت ترى كل شيء؛ األيادي واألرجل المقطع��ة، ورفيقا من غير رأس وال يدين. لكن شيئا آخر لم تكن لتراه؛ وه��و الخ��وف من الموت. فكل من حضر هن��اك علم أن ال رجع��ة في ه��ذا الطري��ق. وليس ثم��ة��ا واح��دا. ففي ه��ذه تفري��ق بين ه��ذه الكتيب��ة وتل��ك الكتيب��ة. ك��ان الجمي��ع قلب الناحية، جيش الحق، وفي تلك الناحية جيش الباطل، والقتال تحتم علينا. ك��لد ��ه أرش�� شخص التزم جانبا من العمل، وكان حسين هو الموجه. يشهد الله أن��ه وقتال��ه في جيدا، وصارع وك��افح ببطول��ة وش��جاعة. فك��ان س��كوته في محل

محله.

لقد قسم اإلخوة ووزع كل مجموعة منهم في ناحية من نواحي الساتر وق��ال: " وارموا بها الدبابات، فال فائدة من القناصة". بعد ذل��ك، س��لمB7"احملوا ال�"

ته، فقمت مباش��رة ومن دونB7سالحي إلى أحد اإلخوة وأعطاني ال�" " خاص�� ت��أخير، بوض��ع قذيف��ة في رأس القبض��ة وه��دفت ورميت. انطلقت القذيف��ة

واصطدمت مباشرة في الدبابة؛ لكن لم تؤثر فيها. فقد

Page 242: books.almaaref.orgbooks.almaaref.org/static/documents/zoqaq.doc · Web viewكلّ هذه الذكريات والأصوات، کانت لا تزال تتردّد في زوايا حنجرة

242

ارتدت كطابة مطاط��ة وس��قطت في مك��ان آخ��ر. رميت ع��دة ق��ذائف، ولكن��ه علي أن أص��وب أيضا بال فائدة. استغرق األم��ر نص��ف س��اعة حتى أدركت أن

62على الجنزير والفوهة؛ وإال لن يجدي ذلك نفعا. كانت دباب��ات من ن��وع تي 40" تؤثر فيها. "المالعين" قد جعلوا س��ماكة هيكله��ا B7، لم تكن ال�"72وتي

سم من الحديد القوي الذي ال يخترق.

في خضم المعرك�ة، ج��اء الح��اج "همت" والح��اج "علي ميركي��اني". والحكاي��ة كانت نفسها، وهي إقناع حس��ين باالنس��حاب واإلص��رار علي��ه واس��تنكار بقائ��ه هن��اك. أش��ار حس��ين إلى جثث اإلخ��وة وق��ال: "أنى لي أن أت��رك ش��بابي

وأذهب؟".

بعد ساعة، عاد الحاج "همت" و"ميركياني" إلى الخطوط الخلفية.

بعد أن اكتشفت طريقة رمي الدبابات، جمعت ثالثة أو أربعة عناص��ر، فش��كلنا فريق صيد الدبابات. كنا نرمي بشكل متفرق، وكان اإلخوة يرفع��ون أص��واتهم

بالتكبير.

قال حسين: "أطلقوا الرصاص الفوسفوري لتعم��ل م��دفعيتنا. فق��د نس��وا أنن��اهنا".

لكن نيران مدفعيتنا لم تكن ذات أهمية. فلم يكن م��داها يص��ل إلى الع��دو من كيلومترا.15على بعد

، وق��د نص��بت ف��وق106في خض��م المواجه��ة، جيء بقبض��ة م��دفع من عي��ار سيارة جيب، فراح الخبراء يستخدمونها.

��ا وخ��ائر الق��وى، مضت عدة ساعات، لكن ع��دد ال��دبابات لم يق��ل. كنت منهك"، بدأ الدم ينزف من أذني.B7مشوشا. فمن شدة ما رميت بقذائف ال�"

نفدت قذائفي، فاستندت إلى جانب الساتر وطلبت من أحدهم أن

Page 243: books.almaaref.orgbooks.almaaref.org/static/documents/zoqaq.doc · Web viewكلّ هذه الذكريات والأصوات، کانت لا تزال تتردّد في زوايا حنجرة

243

يذهب ويجلب لي القذائف. ذهب وعاد بعد دقائق ببعض القذائف وق��ال: "لق��دسيطر العراقيون على الجانب األيسر، والجميع ينسحب..".

أخذت القذائف منه وقلت: "اذهب أنت يا أخي، نحن باقون هنا".

حقيقة، تعسا لذلك الوقت الذي تسيطر فيه خشية الهزيمة أثناء المعركة على قلوب الق��وات. وإذا م��ا انس��حب عنص��ر إلى ال��وراء، ف��إن ك��ان ل��ديك ملي��ون

عنصر، ستحدثهم أنفسهم باالنسحاب.

ص��عدت إلى أعلى الس��اتر، وحقا ك��ان. فق��د تق��دمت ال��دبابات إلى الس��اتروسيطرت على الجانب األيسر تماما. ولم يبق هناك سوى عناصر متفرقة.

"، وبالي��د األخ��رى جه��از الالس��لكي.B7ك��ان حس��ين يحم��ل بإح��دى يدي��ه ال�" توجهت نحوه، وهو يتكلم عبر الجهاز: "لو كنت أس��تطيع االنس��حاب النس��حبت

وفككت الحصار. حسنا، أنا ذاهب إلى األمام".

سكت لبرهة ثم قال: "البحث ليس بحث الوالي��ة. ول��و أم��رت الوالي��ة ال أقب��ل بذلك. لقد أحللت قيد الجميع، ولينسحب من يريد االنسحاب". حين رآني قال: "سيد، أنت عنصر احتياط، ونحن اآلن لم نبل بالء حسنا، فال تربط نفس��ك بي. اجمع من استطعت من العناصر، وانسحب. وأنا لن أق��ول عن ال��ذي ينس��حب

إنه جبان...".

قلت: "ال تتكلم بكلمات كهذه أخي حسين. فأن��ا لس��ت رفيق��ا لنص��ف ال��درب. وقد وقعنا في م��أزق اآلن، لكن أه��ل الم��روءة يقول��ون إن أردت ال�ذهاب إلى جهنم فاذهب برجولة. وإني أسير إلى آخ��ر الطري��ق م��ع ك��ل من وعدت��ه ب��أن أكون معه. هذه هي طبيعتي. لكن، أخي حسين، ه��ذه لعب��ة خاس��رة، وليس��ت المسألة مسألة خوف. وأين هو الخوف؟ لو كانت هذه الجماعة ممن يخافون، لما أتت إلى هنا، ولكانوا بقوا في أحضان أمهاتهم. تك��اد الش��مس تطل��ع اآلن،

والنيران قد أنهكت اإلخوة، هيا بنا ننسحب!".

Page 244: books.almaaref.orgbooks.almaaref.org/static/documents/zoqaq.doc · Web viewكلّ هذه الذكريات والأصوات، کانت لا تزال تتردّد في زوايا حنجرة

244

أجاب: "أين أذهب يا عم؟ أال ترى كل هؤالء الجرحى؟ س��يأتي ه��ؤالء ال��ذين ال دين لهم ويطلقون عليهم رصاص��ة الرحم��ة. إن أن��ا انس��حبت س��أموت كم��دا؛

دعني أمت هنا. ال يمكنني ترك عناصري".

قلت: "من حقك أن ال تتوقف وأن تكون شجاعا؛ لكن اإلدارة بذاتها ش��كل منأشكال الشجاعة. وإنقاذك لعشرة أشخاص هو بنفسه غنيمة".

��ا نأخ��ذ جعب��ات م��اء بعض��نا قرابة الظهر، أص��بح هن��اك تق��نين في المي��اه. فكن البعض، ونرطب شفاهنا. فشمس خوزستان ال تعرف المزاح مع أح��د! تح��رق

وتجفف.

لم ينف��ع البحث والج��دل م��ع حس��ين. فك��ان يص��عد إلى أعلى الس��اتر، ي��رمي"، ويقفز من ثم وراء الساتر.B7قذيفة "

ال أدري إن كان فعله من أجل الل��ه، أم من قبي��ل العن��اد والغ��رور، لكن مهم��ا كان لم أستطع أن أتركه وحيدا. كنت أرى العناصر الصغار يلتمس��ون "نحلف��ك بأمك، خذنا من هنا" أو "ال تبقونا هنا" فينفطر قلبي. أما أولئ��ك ال��ذين لم تع��د بهم طاق��ة على الكالم، فك��انوا يلتمس��ون بعي��ونهم ويطلب��ون الع��ون؛ ك��انوا متناثرين كالورود على وجه السهل. إن كنت انسحبت وت��ركتهم لق��ال الجمي��عا هذا من أهل االدعاء. لقد هرب. كان الجميع يتطلعون إلي. فقد كنت أكبر سن

من الجميع. وكان الصغار يحسبون لي حسابا.

إلى أن حل الظهر، كان البعثيون قد حرثوا الساتر الترابي وفعلوا م��ا حال لهم. نفد كل ما في أيدينا؛ فال ذخائر وال أي شيء آخر. أص��بح الم��وت على مس��افة خطوات منا. كل ما كنا نملكه هو الصلوات على محمد وآل محمد، وذكر الل��ه

تعالى.

في تلك األثناء، توجهت إلى جهاز الالسلكي وتكلمت مع الحاج أحمد.

Page 245: books.almaaref.orgbooks.almaaref.org/static/documents/zoqaq.doc · Web viewكلّ هذه الذكريات والأصوات، کانت لا تزال تتردّد في زوايا حنجرة

245

قلت: "أنجدنا يا حاج".

أج��اب الح��اج باس��تياء: "لق��د أرس��لت إليكم ق��وات دعم لت��ؤمنكم من ج��انب وترمي على الدبابات. واعلم أن كل ما أصاب الدبابات عن يمينكم فه��و فع��لش��بابنا. لس��نا جالس��ين نتف��رج عليكم. ولق��د أرس��لنا ص��ندوقا من ق��ذائف ال�"

B7.""

كان الحاج يرغب بنزول القوات إلى األرض، لكن يديه كانتا مغلولتين في تل��ك الحال من الحصار؛ وحتى لو جيء بألف مقاتل لما أج�دى نفع�ا. فح��رب اللحم

والحديد لن تفضي إلى نتيجة.

طمأنني صوت الحاج، ألنه دوما يتابع أعماله ويفهم عناصره.

بعد الظه��ر، وتحت م��رمى الن��يران الكثيف��ة، ص��عد حس��ين إلى أعلى الس��اتر، وضع قذيف��ة في القبض��ة، ه��دف على ال��دبابات، لكن قب��ل أن ي��رمي، أص��يب بطلق��ة دباب��ة في ص��دره مباش��رة، فس��قط من أعلى الس��اتر معف��را بدم��ه واستشهد. كنت على مسافة أمتار منه، نهضت ورحت أجري نحوه؛ لكن فجأة أحسست بحريق في ساعدي، شمرت عن كمي، ألجد أن شظية أصابت ي��دي

والدم ينزف منها.

ا هن��اك ربطت الجرح جيدا بمنديل ك��ان بح��وزتي ليق��ف ال��نزيف. بقيت جالس�� قرابة الساعة، إلى أن فك اإلخوة أخيرا الطوق عنا ونف��ذوا في قلب الحص��ار،

بأي طريقة، ال أدري. فجاء في البدء المسعفون، ومن ثم الحاج أحمد.

��را. لم يكن بي ق��وة على النه��وض. ��ا مغب كنت جالسا إلى جانب الس��اتر منهكوقف الحاج أحمد فوق رأس حسين وراح يبكي.

حمل المسعفون الجرحى ونقلوهم، لكن أجساد الشهداء بقيت في

Page 246: books.almaaref.orgbooks.almaaref.org/static/documents/zoqaq.doc · Web viewكلّ هذه الذكريات والأصوات، کانت لا تزال تتردّد في زوايا حنجرة

246

الجانب اآلخر من الساتر.

حين أوشك الليل على الهبوط، سكتت نيران العراقيين. كان ه��ذا دأبهم؛ ففي��ر عن النهار كانوا يرمون الن��يران، وفي اللي��ل يه��دأون. وهن��ا ي��أتي دورن��ا لنعب أنفسنا ونس��تعرض قوتن��ا في اللي��ل. ج��اءت كتيبت��ا حم��زة وأب��و ذر ومرت��ا من

أمامنا.��ة وليس بي رم��ق. في مع الغروب، قمت أنا أيضا وعدت إلى الخطوط الخلفي��دا، ألنتق��ل بع��دها بس��يارة إلى مق��ر المستشفى الميداني، ضمدوا ج��رحي جي

الطاقة الذرية، وأصل إليه في منتصف الليل.

في صباح اليوم التالي، جيء بالحاج أحمد بواسطة سيارة إس��عاف. وك��ان ق��د أصيب هو أيضا بشظية في رجله. وقد ضمد جرحه بضماد أبيض الل��ون، ف��راح

يتوكأ على عصا أثناء مشيه.

تقدمت واحتضنته. بقيت إلى ما بعد الظهر مع الحاج. فقد كان يصادق الجميع ويخالطهم. في ذلك اليوم سألني عن حسين والحصار، فأخبرته بكل م��ا رأيت

وسمعت.

ق��ال الح��اج: "لق��د ك��ان حس��ين رجال. وق��د قات��ل بش��هامة؛ لكن ك��ان يمكن��ه االنسحاب. لكم أصررت عليه؟ أن يا عم! كتيب��ة ميثم المتواج��دة على يمينكم قد واجهت مشاكل وتعقدت األمور لديها، وقد أرسلت إليهم "محسن وزوايي"��ة تس��قط ب��القرب من��ه، لمتابعة أمورهم وتنظيم صفوفهم، فإذا بقذيفة مدفعي

ويرتفع شهيدا في المرحلة األولى".

فوجئت لسماعي خبر شهادة محسن. قلت: "إ... استشهد محسن؟".- نعم، لقد انتهى أمر "خرمشهر"، وقد اجتثثنا أصول العراقيين من هناك.

Page 247: books.almaaref.orgbooks.almaaref.org/static/documents/zoqaq.doc · Web viewكلّ هذه الذكريات والأصوات، کانت لا تزال تتردّد في زوايا حنجرة

247

ا، جلست وبكيت قليال على محسن وحسين. نعم، كان كل واحد منهم��ا أوح��ديوالئقا بالشهادة.

��ة. عند الغروب، ودعت الحاج أحم��د، وبت ليل��تي تل��ك في مق��ر الطاق��ة الذري حين أفقت، كان الحاج أحم��د ق��د رح��ل. رحت أكي��ل الل��وم لنفس��ي أن لم لم

أستيقظ في الصباح الباكر وأرى الحاج قبل أن يرحل!

��ة: "أين في ذلك اليوم، سألت جماع��ة ممن ع��ادوا للت��و من الخط��وط األماميكنتم؟ وماذا فعلتم؟".

فقالوا: "لقد كنا في المحور الشمالي. وفرقة اإلم��ام الحس��ين علي��ه الس��الم،اآلن بالقرب من خرمشهر".

��ات، "عب��اس ك��ريمي" ركبت سيارة وذهبت إلى األخوين في معلوم��ات العملي و"ميثم به��رامي"، وكان��ا مس��ؤولي المعلوم��ات فق��اال: "س��نهجم الي��وم على

الخط".

عصرا، وزعنا على أربع مجموعات، ضمت كل مجموعة أربعة عناص��ر، وذهبن��ا��ة. ع��برت و"إس��ماعيل خ��اني"، و"قاس��م الل��ه وردي" باتجاه الخطوط األماميا وسحبنا المناظير. كانت الدبابات قد اص��طفت و"مجتبى حسيني" ساترا ترابي إلى الجانب اآلخر من جسر خرمشهر. فراح "قاسم الله وردي"، وكان ص��غیر

السن، يسجل عدد الدبابات وأماكنها على ورقة.

كان من المقرر جر المعركة إلى شوارع خرمشهر وإنهاء أمرها.

في الليل، ذهبت إلى كتيبة "حم��زة" واس��تقررت في ط��ابور "رض��ا چ��راغي".وكانت هذه المرحلة الرابعة من عمليات "بيت المقدس".

بدأ "عباس كريمي" يعطي التعليمات للقوات ويوجهها، فقال: "ينبغي لكتيب��تي"حمزة" و"حبيب" أن تتقدما وتقوما بعملهما. وستأتي كتيبتان

Page 248: books.almaaref.orgbooks.almaaref.org/static/documents/zoqaq.doc · Web viewكلّ هذه الذكريات والأصوات، کانت لا تزال تتردّد في زوايا حنجرة

248

من المنطقة الفالنية..".

ذهبت أنا و"إسماعيل خاني" مع كتيبة "حمزة" إلى الخطوط األمامية، كعناصر��ا. س��رنا قراب��ة الس��اعة ��ات. كنت أع�رف المنطق��ة تقريب من معلومات العملي والنصف إلى أن توقفنا في مك��ان، وزع "رض��ا چ��راغی" الق�وات وق�ال: "إنن��ا

على مقربة من العدو، وهذه هي نقطة االنتشار".

ا وطلب المس��امحة ك��ل من اآلخ��ر. في عتمة الليل، قمنا بتودي��ع بعض��نا بعض�� وقرابة الساعة الثانية عشرة ليال، صدرت األوام��ر ب��الهجوم. بن��اء على ق��انون��ة م��ا إن تباش��ر ��ات، ك�ان علي الع�ودة إلى الخط�وط الخلفي معلوم��ات العملي

القوات عملها؛ لكني ألقيت نظرة إلى األرض فوجدت سالحا.

مضت بضع دقائق على ابتداء العمليات، فهجمت القوات وتقدمت إلى األمام. فلو كان سالح أح�دهم وق�ع، اللتقط�ه رفيق�ه. وكنت ب�دوري أحب كث��يرا ص�يد

الدبابات. وأردت أن أبلي بالء حسنا في هذا األمر.

في تلك الليلة، أصبنا دبابتين، وبقينا في المواجهة حتى طلوع الفجر.

صاح أحد اإلخوة: "ما شاء الله، ما شاء الله... لقد سقطت بوابة "خرمش��هر"في أيدينا".

بالتزامن معنا، ظلت فرقة اإلمام الحسين عليه الس��الم تخ��وض مواجه��ة على جسر "خرمشهر" وآتت المواجهة ثمارها. ذهبنا خلفهم لنستكمل عملهم. ن��زل لواء "النجف األشرف" ولواء "اإلمام الحسين" عليه السالم إلى الشوارع، م��ا أدى إلى إطالة أمد المواجهة، وانج�ر األم�ر إلى القت�ال وجه�ا لوج�ه ومن بيت��دا. وتطه��ير الم��دن إلى بيت. لم أكن أع��رف طرق��ات خرمش��هر وأزقته��ا جي يقتضي المعرفة بها. وصلت مجموعة من اإلخوة تابعة لفرق��ة "ولي العص��ر"،

على إلمام يسير باللغة العربية، وتابعت حرب الشوارع تلك.

Page 249: books.almaaref.orgbooks.almaaref.org/static/documents/zoqaq.doc · Web viewكلّ هذه الذكريات والأصوات، کانت لا تزال تتردّد في زوايا حنجرة

249

قرابة الظهر، رحنا نقفز في بيوت خرمشهر الخربة من فوق ه��ذا الج��دار إلى خلف ذاك الجدار، وبينما نحن ك��ذلك إذ بن��ا نس��مع أح��دهم ين��ادي: "خرمش��هر

تحررت... خرمشهر تحررت..".

��ل؛ لكن مجموع��ة أخ��رى يشهد الله أني تسمرت في مك��اني. ظننت أني أتخي راحت تصيح أيضا وت��ردد الق��ول نفس��ه. ال أس��تطيع أن أص��ف ح��الي في تل��ك اللحظة؛ انتابتني حال بين البكاء والضحك. في وقت كان الكثير من اإلخوة ما

زالوا إلى حينها يخوضون المواجهة، والقوات العراقية تقصف المدينة.

ما إن سمعت بخبر تحرير "خرمشهر" حتى ت��وجهت م��ع ع��دد من اإلخ��وة إلى المسجد الجامع فيها. كان الزحام كبيرا، فقد اجتم��ع المواطن��ون والمجاه��دون أمامه وراحوا يذرفون دموع الفرح. وقد آتى العمل أكله، فظهر الس��رور على

الجميع لهذا النصر.

جاء الحاج أحمد يتوكأ على عصا ويعرج في مشيته. تحلقنا حوله وعشنا حاال المثيل لها.

كانت أصوات القذائف تدوي من حين آلخر. فلم يكن العراقيون ليقبل��وا به��ذهالخسارة.

ا في قال الحاج أحمد: "أشكركم جميعا. سقى الله اإلخوة الذين قضوا عطش�� الص��حراء. فه��ؤالء هم من ح��رروا "خرمش��هر". "محس��ن وزوايي"، و"حس��ين قجه إي" قاتال بشجاعة. علينا أن نعرف قدر شجاعتهما؛ قدر صغار الس��ن منا. لم ي��أت أح��د اإلخوة الذين جاؤوا إلى الجبهة بهويات إخوتهم األكبر منهم سن

على ذكر هؤالء الذين قضوا غرباء".

�ه بتحري�ر لقد تح��ررت "خرمش�هر" وانتهى األم�ر هن��اك. ك�ان الجمي�ع يظن أن"خرمشهر" ستنتهي الحرب؛ لكن إيران كانت تبحث عن ورقة

Page 250: books.almaaref.orgbooks.almaaref.org/static/documents/zoqaq.doc · Web viewكلّ هذه الذكريات والأصوات، کانت لا تزال تتردّد في زوايا حنجرة

250

رابحة، حتى إذا ما طرحت قضية الصلح، تكون ممسكة بأوراق قوة في ي��دها، وتدخل من باب القوة. لقد حققت إي��ران نفس��ها، ورفعت اس��مها في الع��الم،

وقد تردد في العالم أن إيران أربكت العراق وهزمته.

��ني لن أع��ود بعد العمليات، عدت إلى طهران. ظننت أن األمور قد انتهت، وأنإلى الحرب ثانية.

��ه الع��دو ��ام، أعلنت ح��ال الط��وارئ في جن��وب لبن��ان ال��ذي احتل في تل��ك األي الصهيوني. وسرت أخبار بأن قوات الحرس الث��وري تن��وي ال��ذهاب إلى لبن��ان

على شكل فرقة بقيادة الحاج أحمد متوسليان، لقتال إسرائيل.

کان جميع اإلخوة الذين من المفترض أن يذهبوا إلى لبنان مع الحاج أحمد من��ام مش��غوال بانتق��اء رفاق��ه. لم أع��د أع��رف الحرس. وكان الحاج في تل��ك األي الق��رار. فطبيع��ة المغ��امرة في ذاتي جعلت��ني ال أع��رف االس��تقرار. أردت أن أذهب مع الفرقة إلى لبنان بأي وس��يلة ك��انت؛ ول��و من أج��ل الزي��ارة. ومهم��اا في طرقت األبواب، لم يوافق��وا على ذه��ابي، ألني لم أكن مس��تخدما رس��مي الحرس. طرقت لثالثة أيام في ال��وزارة ه��ذا الب��اب وذاك، وق��ابلت ه��ذا وذاك��ة إلى س��فارة إي��ران في حتى أخذت مأمورية لثالثة أش��هر من وزارة الخارجي

دمشق.

ك��انت ك��ل رغب��تي أن أك��ون إلى ج��انب الح��اج أحم��د وش��جعان الح��رب، وأن أش��ارك في المواجه��ة إذا م��ا حص��لت. وكنت أرى من الع��ار أن يك��ون الح��اج أحمد في لبنان يقاتل وأبقى أن��ا هن��ا في طه��ران أس��تريح. وق��د راف��ق الح��اج أحمد كل من أصغر أرسنجاني، وحسن بهمني، وعلي موحد، وحسين ط��اهري والكث��ير من أبط�ال الح��رب. في تل��ك الف��ترة، لم تكن ص��داقتي ق�د توط��دتة بأصغر أرسنجاني؛ بل كانت مقتصرة على التحية والسالم، وعلى محبة خاص��

لكن ضمن حدود.وصلت إلى سوريا بعد اإلخوة بيومين أو ثالثة. وهناك كانت حكاية

Page 251: books.almaaref.orgbooks.almaaref.org/static/documents/zoqaq.doc · Web viewكلّ هذه الذكريات والأصوات، کانت لا تزال تتردّد في زوايا حنجرة

251

الزيارة واللطم والعشق والحال المعنوية. ففي الليالي، كان أصغر أرس��نجاني ورضا غزلي يقرآن المرثيات بصوتيهما العذبين في مقام الس��يدة زينب عليه��ا

السالم فنشرع معهما باللطم.

لم تمض عدة أيام على وجودنا في س��وريا حتى أبلغن��ا فج��أة بوج��وب الع��ودة��ة، وإذا م��ا ض��عفنا إلى إيران؛ فالقضية األهم اآلن هي الحرب العراقية-اإليراني

في ذلك المحور، لتلقينا الضربة من العراقيين. كان هذا رأي اإلمام.

ذات ليلة، كنت في الس�فارة، وأوش�كنا على الع�ودة إلى طه�ران، لكن وردن�ا اتصال من مقر قوات الحرس يفيد ب��أن الح��اج أحم��د لم يع��د. ك��انوا مرت��احي��ه في البال حيث ظنوا بأن الحاج أحمد في السفارة، ونحن بدورنا كنا نظن بأن المقر. اجتمعنا فريقين من السفارة ومن المقر ورحنا نبحث عن الحاج أحمد. اصطدمنا في مكان ما بحائط مس��دود، وعلمن��ا ب��أن الح��اج أحم��د ق��د اختفى،

وبعبارة أخرى، اختطف.

عن��د المس��اء، عق��د اجتم��اع في الس��فارة؛ وأج��ريت االتص��االت، وعلى ح��دتعبيرهم، المتابعات السياسية. وفي اليوم التالي تبين بأنهم قد أخذوا رهائن.

من الذي اختطفهم؟ ولم؟ الله أعلم. لم يكن األمر واضحا. بعد عدة س��اعات، قي���ل إنهم لم يؤخ���ذوا ره���ائن، س���وف يتم التحقي���ق معهم ومن ثم يطل���ق

سراحهم.

انقضى بعد ظهر اليوم التالي، ويومان آخ��ران وثالث��ة، ولم ي��أت الح��اج أحم��د.جاءت األوامر من طهران بلزوم العودة إلى إيران بأسرع وقت ممكن.

��ة في في الثالث عش�ر من ش��هر تم��وز، أنهيت أش��غالي م��ع الس��فارة اإليرانيدمشق وعدت إلى طهران، بعين باكية وقلب دام. بعض اإلخوة كانوا

Page 252: books.almaaref.orgbooks.almaaref.org/static/documents/zoqaq.doc · Web viewكلّ هذه الذكريات والأصوات، کانت لا تزال تتردّد في زوايا حنجرة

252

مص��دومين وقلقين إلى درج��ة لم يكون��وا فيه��ا مس��تعدين للع��ودة من دون قائدهم؛ أرادوا البقاء لعلهم يس��تطيعون القي��ام بش��يء. لكن اختط��اف الح��اج أحمد أصبح أمرا معقدا ومشكال بحيث ال يمكن حله من قبل رجل أو اثنين. لم يستطع أي شخص القيام بأي عم��ل؛ أي لم يكن بمق��دور أح�د القي��ام بش��يء، ففي تلك البالد الواسعة التي تعيش حالة شبيهة بالنظام العس��كري، أين يجب

علينا أو أين نستطيع البحث؟

حين عدت إلى البيت، قالت لي فاطمة: "ليتك بقيت في س��وريا لن��ذهب نحنأيضا إلى هناك ونزور".

عندما أخبرتهم بقضية اختطاف الحاج أحمد، شرعت أمي بالبكاء. فلق��د س��بق لها ورأته وتعرفت إليه. وض��عت نفس��ها مك��ان والدت��ه. فالح��اج أحم��د لم يكن

باإلنسان الذي يمكن نسيانه واالنقطاع عنه بسهولة.

Page 253: books.almaaref.orgbooks.almaaref.org/static/documents/zoqaq.doc · Web viewكلّ هذه الذكريات والأصوات، کانت لا تزال تتردّد في زوايا حنجرة

253

شدوا أحزمتهم

وقع الكأس من يدي ولم ينكسر..

في الراب��ع عش��ر من ش��هر تم��وز، ركبت القط��ار وع��دت من جدي��د إلى مق��ر��ة وفي س��احة القت��ال من الطاقة الذرية. أردت أن أكون في الخطوط األمامي��ر جهة، وأن أستخبر عن الحاج أحمد من جهة أخرى. طوال الطريق، كنت أفك في��ه. تمثلت ص��ورته أم��ام عي��ني ولم تب��ارح خي��الي. ال أع��رف م��ا ه��و الس��ر

والحكمة فيما حصل للحاج أحمد؟!

لقد حصل كل شيء بسرعة. وكل الذين كانوا يتكلمون عن الصداقة واألصالة كانوا هادئين؛ وكأن شيئا لم يحصل. ففاتح خرمشهر وقائد الح��رب الكب��ير ق��د اختطف وجميعهم س��اكتون. ت��ذكرت أقوال��ه وأفعال��ه. حين ك��ان يس��ر عن��دما نسأله عن شيء، ونناقش��ه في أعمال��ه، ويق��ول: "ال تكون��وا م��ؤدبين، فتقبل��وا بك��ل م��ا أقول��ه، وتقول��وا س��معا وطاع��ة. اس��ألوا، ارفع��وا أص��واتكم وط��البوا

بحقوقكم".

لقد عرفت الحاج رجال بالفع��ل، ومالذا لإلخ��وة وس��اعيا وراء الح��ق والحقيق��ة. وحين كنا نتكلم معه عبر جهاز الالسلكي، كنت أشعر بالدفء وبالطمأنين��ة في

قلبي، وأنسى الصعاب.

Page 254: books.almaaref.orgbooks.almaaref.org/static/documents/zoqaq.doc · Web viewكلّ هذه الذكريات والأصوات، کانت لا تزال تتردّد في زوايا حنجرة

254

تميز بصوته الجه��وري والرج��ولي. وعن��دما ك��ان يجلس في المق��ر وراء جه��از الالسلكي ويتكلم، وكأن يدا قديرة هي التي توجه الق�وات وترش��دها. فال يبقى شيء ناقصا. وأينما كان موج��ودا، إن رأى من المص��لحة أن ي��نزل بنفس��ه بين النيران ويشرف على عمل القوات مباشرة، ويتصدى لألم��ر، ك��ان يب��ادر. ولم

يكن يجلس في المقر ويتحصن بمتاريس الباطون ويدع القوات وحيدة.

أدعو الله تعالى ببركة إمام الزمان عجل الله تعالى فرجه الشريف أن تع��رف أهمية الجه��ود ال��تي ب��ذلها من أج��ل الح��رب. جه��ود ومص��اعب لم يب��ق ل��يرى

ثمارها ونتائجها.

��ة. فقي��ل لي: إن المرحل��ة األولى وصلت منتصف الليل إلى مقر الطاقة الذري من عمليات رمضان قد تمت، وإن اإلخوة ق��د اقتحم��وا خط��وط دف��اع الع��دو. وقد قام باالستطالع لهذه العمليات فريق معلومات سعيد قاسمي. في الفترة��ك في لبن��ان، أص��بح الح��اج "محم��د التي كان فيه��ا فري��ق الح��اج أحم��د المحن إبراهيم همت" قائد لواء محمد رسول الله صلى الله علي��ه وآل��ه وس��لم. وق��د

جرت بعض التبديالت ووزعت الصالحيات على أشخاص آخرين.

وكان الحاج أحمد قد انتقى "منصور كوتشك محسني" ليحل مكان��ه؛ لكن ك��لشيء قد تغير بأسره وتبدل.

��ات رمض��ان. ك��ان الجيش يقات��ل بش��كل ش��ارك الجيش والح��رس في عمليكالسيكي وضمن نطاقات محددة، وكان للحرس أيضا برنامجه.

��ات رمض��ان، خط��رت بب��الي فك��رة، ال في تلك الفترة التي أنجزت فيه��ا عملي أدري إن كانت صحيحة أم خاطئة، وهي أن القت��ال كم��ا في الس��ابق، كعنص��ر حر، وكل مرة مع مجموعة، أكثر ص��فاء وأفض��ل. ف��أذهب م��ع كتيب��ة وأخ��وض��ات م��ع كتيب��ة أخ��رى. معها العمليات، ومن ثم أخوض في الليلة التالي��ة العملي

وهكذا ال أضطر للبقاء في الخطوط الخلفية منتظرا

Page 255: books.almaaref.orgbooks.almaaref.org/static/documents/zoqaq.doc · Web viewكلّ هذه الذكريات والأصوات، کانت لا تزال تتردّد في زوايا حنجرة

255

صدور األوامر. وكلما سنحت لي الفرصة أقحم نفسي في ط��ابور وأذهب إلىالخطوط األمامية. وبالمناسبة، هكذا أزداد خبرة.

في العاشرة صباحا من اليوم الت��الي، أخ��ذت دراج��ة أح��د اإلخ��وة وذهبت إلى "بنج ضلعي"* الخلفي، وكنت نوع��ا م��ا على معرف��ة ب��األرض والمنطق��ة1خط

هناك، حيث كلما التقيت بأحدهم تكلم عن السواتر الترابية المثلثية الشكل.

فقد كانت منطقة عمليات رمض��ان واس��عة وكب��يرة؛ وهي عب��ارة عن ص��حراء��ة"، ومن الجن��وب مترامي��ة األط��راف يح��دها من الش��مال "كوش��ك" و"طالئي "شلمجة" ونهر "أروند". الهدف من العمليات محاصرة البصرة، وكان الع��راق على علم بذلك، لذا، وضع كل إمكانياته وطاقاته للدفاع عن البصرة. لكنه ظن��ف ا فيه��ا. فكث أننا اس��ترجعنا "خرمش��هر" من أج��ل تض��ليله، وإنهاك��ه عس��كري وجوده وإمكانياته في "شلمجة"، وراح يبث ال��دعايات المض��للة ويق��ول: "لق��د��ه من انسحبت قواتنا من خرمشهر لنظهر للعالم أننا ال نريد أرض إيران"؛ لكن��ة الناحية األخرى خ��دعنا؛ وبالتع��اون م��ع اإلس��رائيليين، نص��ب الس��واتر الترابي

المثلثية الشكل، فكان ذلك عمال موفقا بالنسبة له.

في الص��حراء، التقيت بش��باب كتيب��ة ميثم. أوقفت الدراج��ة وذهبت إلى وراء ساترهم. لم أعرف الكثيرين منهم سوى قائدهم "مختار سليماني"، وعدد من

العناصر القدامى.

كان ش��باب ميثم ملتص�قين ب�األرض. فالق�ذائف ك�انت تس�قط بالمئ��ات ف�وق رؤوسهم، والس��اتر ك��ان يه��تز. وك��انت دباب��اتهم تقص��ف قص��فا مباش��را. وق��د سقطت بعض جثث العراقيين من الجه��ة األخ��رى للس��اتر. وعلى م��ا يب��دو أن

اإلخوة كانوا قد تقدموا ثم انسحبوا. وقال شباب "مختار

1 . االضالع خماسية سواتر او مواقع

Page 256: books.almaaref.orgbooks.almaaref.org/static/documents/zoqaq.doc · Web viewكلّ هذه الذكريات والأصوات، کانت لا تزال تتردّد في زوايا حنجرة

256

سليماني": لقد رمينا منذ البارحة إلى اآلن عشرين دبابة وعثنا فيها خرابا.

بقيت إلى الغ��روب، م��ع ش��باب مخت��ار، وق��اتلت إلى ج��انبهم قليال. لم يكن بحوزتي سالح وال رمانات، فاستخدمت أس��لحة اإلخ��وة. أوائ��ل الغ��روب ص��در األمر باالنس��حاب، فانس��حبت م��ع ش��باب الكتيب��ة. أثن��اء االنس��حاب، اخ��ترقت��ة الحمص س��اعدي األيمن. ف��نزفت قليال، ومن ثم توق��ف ش��ظية بمق��دار حب النزيف بعد ساعة، والتحم رأس الج��رح. وألن الش��ظية حامي��ة، فإنه��ا بنفس��ها تعمل على عدم التهاب الجرح. لكن مهما يكن فإنها تهد حيل اإلنسان، وتش��ل

.1قواه

��ة. وفي بعد ساعتين أو ثالث، حينما تحسنت حالي، عدت إلى الخطوط األمامي الطري��ق، التقيت بش��باب كتيب��ة ح��بيب س��ائرين في ط��ابور نح��و الخط��وط��ة. ف��التحقت بهم. توقفن��ا في مك��ان م��ا وراح��وا يعطونن��ا التوجيه��ات األمامي والمعلومات على عجل، فقالوا: عليكم أن تذهبوا من أسفل موقع زيد باتج��اه الغمر ]الفيضان[... واآلن أي غمر وب��أي وس��يلة، الل��ه أعلم. فالمنطق��ة ك�انت كلها مغمورة بالماء! ووحلها لم يكن كوح��ل طه��ران؛ ك��ان الص��قا كالص��مغ. ال أحد يعلم أين يذهب، ففي تلك الصحراء يتيه حتى عنص��ر المعلوم��ات الخب��ير؛

فكيف بعنصر قوات المشاة تطأ رجاله ألول مرة تلك األرض.

هناك، تقدم عدد من شباب المعلومات إلى األمام قليال، عادوا بعد رب��ع س��اعة وقالوا: إن الدبابات منتشرة، فلنصبر ريثما يطلع الصباح، ومن ثم نرميها. وم��ا لبثوا أن قالوا: ال، لنصبر حتى تساعدنا الكت��ائب الواقع��ة على يس��ارنا ويمينن��ا،

ومن ثم نرميها نحن.

ذهبت إلى أول الطابور، رأيت الحاج همت يتكلم عبر جهاز الالسلكي،

1 . . وسحبتها رأسها من فالتقطتها القيح مع الشظية رأس وظهر وتقيح، الجرح عاد بعد فيما

Page 257: books.almaaref.orgbooks.almaaref.org/static/documents/zoqaq.doc · Web viewكلّ هذه الذكريات والأصوات، کانت لا تزال تتردّد في زوايا حنجرة

257

كان جواب عنصر اإلشارة: "إن أطلقتم القنابل المضيئة، سيكشفوا مكانكم".

" المهرة وتق��دموا إلى األم��ام. ك��انتB7بعد ساعة، شكل فريق من رماة ال�" "، فانطلقن��ا. تق��دمتB7الساعة تقارب الثانية عشرة حين أطلق��وا ق��ذيفتي "

��ة، ��ة والعراقي خطوة بخطوة إلى األمام ورحت أرمي. التحمت الق��وات اإليرانيفلم أعد أستطيع تمييز جنودنا من غيرهم.

بقيت المواجه��ات إلى ق��رب الس��حر. اص��طفت ال��دبابات في أعلى الس��د " تجدي نفع��ا أوB7المواجه لنا. كنا على مقربة شديدة منهم بحيث لم تعد ال�"

تؤثر. لكن كنا نرمي )على خيرة الله وبالتوكل عليه( كل ما يصل إلى أيدينا.

هناك يعرف المرء قدر الحاج أحمد. فلو كان حاضرا، لعرف كيف يتدبر األمر.

قبيل ظهر اليوم التالي، انسحبت القوات العراقية وهي تمطر المنطقة بواب��ل نيرانها، إلى خل��ف الس�د، وأحكمت دفاعاته�ا هن�اك. انطلقت برفق�ة س�بعة أوا منهم، من المنح��در الواق��ع على يمين الس��د ثمانية أشخاص لم أكن أعرف أي إلى أعلى تحص��ينات ال���"پنج ض��لعی". ب��دأت درج��ة الح��رارة تش��تد، وب��دأت�ا نس�ير في مس�تنقعات؛ مس�تنقعات الشمس تلفح وجوهن�ا ش�يئا فش�يئا. وكن

نصف جافة. ما إن سرنا قليال، حتى صاح أحدهم فينا: "توقفوا، من أنتم؟".- من كتيبة حبيب.

��ة بعد لحظات، تقدم قائد كتيبة "حمزة" "نصرت غريب" فعرف��ني، وبع��د التحيوالسالم، سألنا: "أين كنتم؟".

- كنا باألمس في الخطوط األمامية مع شباب "إسماعيل محمدي".

Page 258: books.almaaref.orgbooks.almaaref.org/static/documents/zoqaq.doc · Web viewكلّ هذه الذكريات والأصوات، کانت لا تزال تتردّد في زوايا حنجرة

258

- كان من المفترض بهؤالء أن يأتوا لمساعدتنا، فلم لم يأتوا؟ - لقد أجبروا على االنسحاب من موقع واحد وسط المس��تنقعات إلى الخل��ف،

أعدموا القدرة. وكانت النيران غزيرة، فأقعدتهم أرضا.

رد باستياء: "وكيف ذاك؟ هذا ال يصح".

بعد ذلك اتجه نحو جهاز الالسلكي، وراح يتكلم م��ع الح��اج "همت" وق��ال: "إنكتيبة حبيب قد انسحبت ولم تستطع مساعدتنا، فما العمل؟".

جمعت اإلخوة وعدنا إلى الخطوط الخلفية، ولم أبق ألعرف باقي ما جرى مع "نصرت غريب" وكتيبة "ح��بيب". ذهبت م��رة أخ��رى في أوائ��ل ش��هر آب م��ع كتيبة "المقداد" إلى الخطوط األمامية لتنفيذ المرحلة الخامسة من العمليات. كان بهمن نجفي قائد الكتيبة، فقال: "أريد هذه المرة أن نستفيد من التجارب

السابقة، ولن نتقدم خطوة من دون استطالع".

كان إسماعيل خاني وقاسم الله وردي مسؤولي معلومات العمليات في كتيبة��ات، ركبت وبهمن نجفي وإس��ماعيل المقداد. وعن��د الغ��روب قب��ل ب��دء العملي��ا ��ات س��يارة تويوت خاني وقاسم الله وردي مضافا إلى ثالثة من عناص��ر العملي وتوجهنا إلى منطقة "كوت". أوقفنا الس��يارة في مك��ان ال يص��ل إلي��ه رص��اص

، أي إلى جن��وب قن��اة1العدو. وذهبنا سيرا على األقدام باتج��اه "ت��وك م��دادي"��ة ال��تي ��ة الحربي تنا الغذائي السمك. بعد صالتي المغرب والعش��اء، تناولن��ا حص�� كانت بحوزتن��ا؛ مخل��وط الكاك�او والفس�تق المس��حوق مع�ا فغ�دا كقطع�ة من الشوكوال القاس��ي. أكلناه��ا م��ع قطع��ة من الخ��بز بمق��دار ك��ف الي��د، ومن ثم

شربنا جرعة من الماء وانطلقنا مسرعين.

وسميت 1 السمك، قناة من الشرقي الجنوب إلى تقع منطقة وهي القلم، رأس أي مدادي نوك مدادي توك. القلم ورأس المنحرف بشبه لشباهتها بذلك

Page 259: books.almaaref.orgbooks.almaaref.org/static/documents/zoqaq.doc · Web viewكلّ هذه الذكريات والأصوات، کانت لا تزال تتردّد في زوايا حنجرة

259

كان بهمن خبيرا في معلومات العمليات واالس��تطالع. فعملت بك��ل م��ا يش��ير إلي بثق��ة واطمئن��ان. رحت أس��ير خل��ف بهمن، وك��ان ي��ذكرنا من وقت آلخ��ر بوج��وب وض��ع أق��دامنا مح��ل ق��دم الش��خص ال��ذي أمامن��ا وأن نتكلم بص��وت

خافت. لقد مشى مسؤوال المعلومات هذان في مقدمة الجميع.

تعودت أعيننا على العتمة. رأينا الس��اتر ال��ترابي "ذا الج��دارين" المهيب ال��ذي نصب أمام نهر أروند. ال أدري كم بلغ طوله. لربما أك�ثر من عش�رين أو ثالثين كيلومترا. لم يكن آخره يرى في العتمة. أما من الداخل فكان يوجد في��ه م��اء،

وأجزم أنهم وضعوا فيه أيضا األلغام واألسالك الشائكة وأنواع المفخخات.

جلسنا في مكان ما. سحب قاسم المنظ��ار وراح يعطين��ا التعليم��ات ويوجهن��ا. كان يتكلم بروية وهدوء ويقول: "هنا أول المعابر التي هاجمناها من قبل. هذه قناة السمك، وعلى طرفها ذاك "توك مدادي". لربما يصل ع��رض القن��اة إلى

كيلومتر. وقد نصبت حولها أنواع الرشاشات الثقيلة والكمائن والدشم..".

بعد ذلك، أرانا شريطا أبيض اللون ق��د م��د حتى ال نض��ل طري��ق الع��ودة. كم��ا ألقين��ا نظ�رة بالمن�اظير على دش�م حراس��ة الع�راقيين في جزي�رة "بوبي�ان"، وعلى دشم الدوش��كا التابع��ة لهم وال��تي الحت من بعي��د. ب��القرب من إح��دى القنوات المائية انتشل اإلخوة من تحت ال��تراب أنب��وبين من األلومي��نيوم يبل��غ طولهما مترين أو ثالثة، ووصالهما مع��ا بواس��طة بعض ال��براغي المدفون��ة في کیس تحت التراب، وصنعوا منهما سلما. وضعنا السلم ف��وق القن��اة وعبرناه��اا. ومن الجه��ة واحدا واحدا، وجلس��نا خل��ف س��اتر ت��رابي قلي��ل االرتف��اع نس��بي األخرى للساتر، ظهرت أرتال الدبابات وأول السواتر الترابية المثلثية الشكل. كان ارتفاع الساتر المثلثي الشكل ثالثة أمتار، فيما يصل ط��ول ك��ل ض��لع من��ا بم��وازاة ك��ل ض��لع من أضالعه إلى األلفي متر. وقد صفت الدبابات ثالثا ثالث

أضالعه، بحيث كانت فوهة كل واحدة منها موجهة إلى ناحية؛ أي إن

Page 260: books.almaaref.orgbooks.almaaref.org/static/documents/zoqaq.doc · Web viewكلّ هذه الذكريات والأصوات، کانت لا تزال تتردّد في زوايا حنجرة

260

كل دبابة كان بمق��دورها أن ت��رمي الق��ذائف أمامه��ا، وتش��كل الس��ند وال��دعم لغيرها. إلى األمام من الساتر المثلثي الشكل، توجد أيضا قن��اة ذات ج��دارين،��ثي الش�كل مس�افة ت�تراوح م�ا بين الخمس�ين ولربم��ا تبع�د عن الس��اتر المثل والمئة متر. لم نر في ذلك الوقت من الليل أي جن��دي ع��راقي. ك��ان المك��ان

مظلما، يسوده الصمت والسكون.

قرابة السحر، بدأنا نفكر بالعودة. تح��دث بهمن ع��بر الجه��از الالس��لكي ق��ائال:"إننا عائدون ونحن اآلن نروح عن أنفسنا".

بع��دها توج��ه إلين��ا وق��ال: "علي أن أرى الطري��ق. إلى اآلن لم يتم ت��وجيهي��ة وإعطائي المعلومات. وال أدري ما الذي يجب فعله مع ه��ذه الس��واتر المثلثي

الشكل.".

بعدها، ذهب مع أحد عناصر معلومات العمليات، فيم��ا جلس��ت وب��اقي اإلخ��وةخلف ذلك الساتر ورحنا نتجاذب أطراف الحديث.

�ة، ووص�لنا عن�د عند الغ�روب، ع�اد بهمن، وع�دنا جميع�ا إلى الخط�وط الخلفيمنتصف الليل.

قبل غروب اليوم التالي، توجهت مع كتيبة مقداد نحو قناة السمك. كانت ليل��ة العمليات، وقوات االقتحام موجودة في الخطوط الخلفية ومس��تعدة للهج��وم.��ة ل� وكان من المفترض بنا أن نحكم خط ال��دفاع في الج��ادة الش��رقية الغربي

"تنومه"، وقد آمن بهمن بأن "تنومه" هي مفتاح البصرة.

بدأنا تحركنا تلك الليلة من جنوب موقع زيد باتجاه "تنومه". وفي البدء، عبرن��افت عليه��ا ��ا نس��ميها حص��ونا، ووص��لنا إلى ج��ادة ص�� الدشم اإلسمنتية ال��تي كن الدبابات. ما إن رأيت الدبابات حتى توجهت إلى بهمن في أول الطابور وقلت

له: "البارحة حين االستطالع، لم تكن هذه الدبابات موجودة!".

Page 261: books.almaaref.orgbooks.almaaref.org/static/documents/zoqaq.doc · Web viewكلّ هذه الذكريات والأصوات، کانت لا تزال تتردّد في زوايا حنجرة

261

أجاب بهمن: "للعراق جواسيس هنا؛ وقد علم باألمر، ونقلها إلى هنا في ف��ترة اللي��ل. ويتض��ح من ه��ذه الموان��ع والعوائ��ق أن الع��راق علم بأنن��ا س��نقوم

بالعمليات".

بع��د مس��ير نح��و س��اعتين، أمرن��ا بهمن ب��التوقف، فتوقفن��ا. انتقى فريق��ا من "، وكنت أنا من بينهم، فتقدمنا برفقته إلى األمام قليال،B7مطلقي قذائف ال�"

ألقينا نظرة على المنطقة وعدنا إلى صفوف اإلخوة.

في تلك الليلة، كنت منهكا، مثقل الجفون. فمن��ذ ليل��تين ونص��ف الليل��ة لم ت��ر عيناي النوم، ذلك أننا جئنا إلى الخطوط األمامية بعد االستطالع مباش��رة. في تلك اللحظات التي ال تفصلنا عن بدء العمليات إال قليال، أمدتني حال المناج��اة بالقوة. جلست ناحية ورحت أتعبد. فحلت السكينة على قلبي جراء ذك��ر بعض

األسماء اإللهية.

��دة أم س��يئة، وهي أن الم��وت ينض��ج ال أعلم إن كانت خاصية الحرب ه��ذه جي اإلنسان بنحو أسرع. ففي الجبهة ي��درك الم��رء ه��ذا األم��ر، ويتخلى عن رؤي��ة��ام واللي��الي، ��ر؛ ويص��بح ص��ادقا ومس��تقيما. وفق��ط في تل��ك األي ال�ذات والتكب

وبحمد الله لم أدخل في التجارة والشيكات والسندات.

كان أكثر اإلخ��وة في ح��ال مناج��اة م��ع الل��ه وال��وداع األخ��ير لبعض��هم البعض.طلبت السماح من كل واحد منهم، وأنشدت هذين البيتين من الشعر:

الليل حالك وطريق الوادي األيمن إلى األمام من نار الطور، فأين موعد اللقاء أين

لكل من أتى إلى الدنيا دور مخرب أخبروني من هو الواعي في الخرابات

وافق الجميع على كالمي وسادت حال من العشق والهيام.

Page 262: books.almaaref.orgbooks.almaaref.org/static/documents/zoqaq.doc · Web viewكلّ هذه الذكريات والأصوات، کانت لا تزال تتردّد في زوايا حنجرة

262

قبلت وجه كل واحد منهم. فكرت بأنني قد ال أراهم في الغد؛ وأن أكون ودودامعهم، فلم يبق الكثير من الوقت حتى نهاية الخط.

راح اإلخ���وة یالحق���ون بعض���هم البعض ويق���ول أح���دهم لآلخ���ر: فالن، إناستشهدت، فاشفع لنا، وسامحنا.

لكن الش��يء ال��ذي ك��ان يش��عل ن��ارا في قل��بي وقلب الكث��يرين من ق��دامىالحرب حينها، كان غياب الحاج أحمد.

�ك من ق�دامى الح�رب، ه�ل تعلم م�تى س�يعود الح�اج سألني أحدهم: "بم�ا أنأحمد؟".

بالنهاية: أحببت أن أفاجئه بخبر سار، فقلت: "لدي أخبار بأن الحاج سيأتي".- من أخبرك بهذا؟

- وزير الخارجية قال إنه سيأتي في الرحلة التالية!

قراب��ة الس��اعة الواح��دة بع��د منتص��ف اللي��ل، انفص��لت وبهمن وأح��د عناص��ر المعلومات عن البقية وتق�دمنا إلى األم�ام قليال، ألقين�ا نظ�رة س�ريعة وع�دنا.��ل من حركنا الطابور وعبرنا الساتر الترابي. كما عبرنا حقل ألغام ك��ان ق��د ذلقبل. قال بهمن: "إن الدبابات اآلن على يميننا، وال شيء ينفعنا اآلن سوى ال�"

B7."..ال الرصاص وال القنابل ،"

لم يكد بهمن يتم كالم��ه حتى س��قطت قذيف��ة ب��القرب من الط��ابور، ف��انبطحالجميع أرضا، وهكذا ابتدأت المواجهة.

قال بهمن: "سيد، ارم أنت أوال؛ فيدك مباركة".

كنت على معرفة قليلة بصيد الدبابات، هدفت، ورميت، فأصبت

Page 263: books.almaaref.orgbooks.almaaref.org/static/documents/zoqaq.doc · Web viewكلّ هذه الذكريات والأصوات، کانت لا تزال تتردّد في زوايا حنجرة

263

بتسديد الله برج الدبابة وانفجرت.

صرخ اإلخوة "الله أكبر" وهجموا.

بينما كنا نخوض المواجهات، تخطين��ا ص��فوف الع��دو والتحمن��ا ب��ه. بع��د نص��ف ساعة، جمعت ع�ددا من اإلخ�وة وس�حبتهم بع�د جه�د جهي�د إلى خل�ف القن�اة��ثي الش��كل. قلت: األولى بين قن��اة "ذات الج��دارين" والس��اتر ال��ترابي المثل "عليكم أن تتوزعوا على الجوانب الثالث��ة. ف��إنهم يرم��ون علين��ا من األط��راف

الثالثة".

حينذاك، ساد الهلع القلوب، وبدأ الرمي علينا من ك��ل ناحي��ة، نفعتن��ا الس��واتر المثلثية الشكل. كانت الرمايات تنهمر علينا من كل صوب، بحيث كانت هن��اك

رصاصة موجهة على كل واحد منا. ويا لها من دوامة!

".B7وكأننا وقعنا في فخ. ذهبت إلى جانب بهمن، الذي كان يطلق قذائف ال�" لقد كان بهمن رجال شجاعا ال یعرف الخوف، فراح يعدو إلى هذه الناحية وإلى��ه ك��ان يستش��يرني في تلك، ويوجه القوات. ومع أنه ك��ان خب��يرا بعمل��ه، إال أن

األمور. كذلك العناصر أظهروا لي مودة، وكانوا يسمعون كالمي.

اس��تمررنا في المواجه��ة إلى وقت طوي��ل، وق��دمنا خس��ائر. ك��انت مواجه��ة��ه ال يج��ري تحش��يد ��ة. قراب��ة الفج��ر، الح��ظ بهمن بأن شرس��ة ومعرك��ة حقيقي

القوات. فقال: "سيد، احشد قدر ما تستطيع، وخذهم إلى خلف السد".

��ون ق��د ش��غلوا مض��خة وإلى أن صحت وأبلغت القوات وجمعتهم، كان العراقي المياه، وضخوا من قناة "ذات الجدارين" وأراقوا الم��اء في الس��هل. لم تمض بض��ع دق��ائق حتى طم��ر الم��اء الس��هل. ص��حت كث��يرا بحيث ك��ادت حنج��رتي��ني لم أس��تطع تتم��زق. أردت لإلخ��وة أن يكون��وا ملتف��تين وأن ال يفاج��أوا؛ لكن جمعهم. فق��د ارتمى الج��رحى على األرض من دون ع��ون أو م��دد. أرش��دتهم

مرات عدة ليتوجهوا إلى السد. ذهبت إلى السد وعدت إلى اإلخوة.

Page 264: books.almaaref.orgbooks.almaaref.org/static/documents/zoqaq.doc · Web viewكلّ هذه الذكريات والأصوات، کانت لا تزال تتردّد في زوايا حنجرة

264

اإلخ��وة المس��اكين، وض��عوا أرواحهم على أكفهم وتبع��وني ع��دوا. ومن خلفن��ا كانت قذيفة دبابة تودعنا ورمایات األسلحة الرشاش�ة. وص�لنا بع�د جه�د جهي��د إلى خلف السد. لكن السيل جرف بعض ضعيفي البني��ة، فيم��ا وص��ل من بقي

ا منهم إلى خلف السد. حي

عند الظهر، تطوع بعض العناصر للذهاب وإحضار الجرحى.

ركضوا باتجاههم، فأصيب ثالثة منهم وسقطوا أرضا، وأخذ اثن��ان منهم جريح��ا بيدي��ه ورجلي��ه وركض��وا إلى خل��ف الس��اتر. اتص��لنا ع��بر الجه��از الالس��لكي��ة. فق��الوا: ترس��لون العناص��ر الس��المين إلحض��ار الج��رحى، ب��الخطوط الخلفي

فتزداد خسائركم.

بعد ساعة، وصل بعض الجرحى إلى خلف السد عطاش��ى وق��د فق��دوا الكث��ير من الدماء. وقد كبدنا العراقيين خسائر فادحة، فغرقت مئات الجثث منهم في

وحولهم. لکننا أنهكنا نحن، وعشنا أوقاتا عصيبة.

بعد الظه��ر، اس��تلقيت وأن��ا منه��ك إلى كت��ف الس��د ال��ترابي. أحض��رت إح��دى سيارات التويوتا طعام الغداء. فمرت ببطء من أمام السد ورمت وجبة غذائية لكل واحد من اإلخوة الذين كانوا خل��ف الس��د. فك��ان اإلخ��وة يلتقطونه��ا وهي في الهواء. كان الطعام عبارة عن األرز باللحم الموضوع في علب بالس��تيكية. بعد ذلك راحت ترمي قناني المياه، فشرع اإلخوة يفرغونها في جعبهم. أما أنا فلم يكن بحوزتي جعبة ماء، لذا كنت كلما شعرت بالعطش شربت جرعة من جعبة رفيقي المجاور لي. أحد اإلخوة ويدعى إس��رافيل، وك��ان ص��غير الس��ن، قال لسائق التويوتا: أخي، إن كنت ذاهبا إلى الخطوط الخلفية، فحبذا لو تنقل

جثتي معك".

كانت اللقمة في أفواهنا، فأخذتنا الضحكة.

ذهبت التويوتا إلى آخر السد، ووزعت الطعام على اإلخوة. ما إن

Page 265: books.almaaref.orgbooks.almaaref.org/static/documents/zoqaq.doc · Web viewكلّ هذه الذكريات والأصوات، کانت لا تزال تتردّد في زوايا حنجرة

265

اس��تدارت تري��د الع��ودة، حتى س��قطت قذيف��ة ه��اون ب��القرب من إس��رافيل.��ني نهض��ت رميت علبة الطعام خاصتي، وارتميت بشكل مائل إلى األرض؛ لكن مسرعا، وتوجهت وسط الدخان والغبار نحو إسرافيل. ألجد أن شظية أص��ابت وري��ده وقض��ى في لحظت��ه. كم��ا ج��رح ع��دد من اإلخ��وة من حول��ه، وغرق��وا بدمائهم وتناثروا هنا وهن��اك. وض��عنا جثم��ان إس��رافيل والج��رحى في م��ؤخرة التويوتا وأرسلناهم إلى الخطوط الخلفية. عدت إلى ذلك المكان حيث اختل��ط��ا ��ل األرض. لم أس��تطع بل��ع طع��امي، وض��عته جانب دم إس��رافيل ب��التراب، وبل

وتمددت إلى جانب الساتر.

��ة ب��القرب عصرا، أطلق العراقيون نيرانا كثيفة مهولة. س��قطت قذيف��ة مدفعي من بهمن فتطاير ثالثة عناص��ر في اله��واء. وج��اءت س��يارة اإلس��عاف ونقلتهم

إلى الخلف.

بقينا طوال فترة بعد الظه��ر مجتمعين ح��ول بعض��نا البعض وراء الس��د. ظلت النيران شديدة إلى درج��ة لم نكن نس��تطيع فيه��ا أن نرف��ع رؤوس��نا. ف��العراق متفوق علينا من حیث السالح. النسبة فيما بيننا وبينه على هذا الص��عيد نس��بة واحد على مئة. كما لم تكن األرض هناك إرثا ورثناه عن آبائنا، بل كانت أرضه ويعرفها كما يعرف كف يده. وهو قاد الفيلق الثالث إلى هناك وأحكم خط��وط دفاعه من الشمال إلى الجنوب. الشيء الوحيد الذي كنا نملك��ه ونتف��وق في��ه على العراقيين هو إيمان الشباب، وأرواحهم القوية التي تسحبهم وتتق��دم بهم

إلى الخطوط األمامية. فبات كل شخص هناك يطوي األرض بإيمانه.

��ر عند الغروب، انهمرت نيران العدو علينا بشكل متواصل. وقفت للحظ��ة ألغي��ة لفخ��ذي األيس��ر. لم مكاني، فأصابتني رصاص��ة أو ش��ظية في الجه��ة الخلفي أشعر بألم في البداية، إنما بوخز خفيف. مددت يدي إلى الجرح، فامتألت دما.

جلست آلخذ نفسا. كان اإلخوة ال يزالون يخوضون المواجهة. أحسست

Page 266: books.almaaref.orgbooks.almaaref.org/static/documents/zoqaq.doc · Web viewكلّ هذه الذكريات والأصوات، کانت لا تزال تتردّد في زوايا حنجرة

266

ببرودة في جسمي. اعتراني الوهن واإلرهاق، وبدأ الوجع ي��زداد ش��يئا فش��يئا. استعددت للوقوف، فلم أستطع. في تلك اللحظة وصل مس��عفان، لكنهم��ا لم��ا وس��رت يسعفاني، بل راحا يفتش��ان عمن أص��يب إص��ابة بالغ��ة. قمت منحني قليال على كتف الساتر معتمدا على ي��دي ورجلي، ومن ثم وض��عت ي��دي على ركبتي ووقفت. وبصعوبة استطعت إجالس ظهري. سحبت رجلي على األرض��ة وأن��ا أع��رج في مش��يتي. تق��دمت بض��عة أمت��ار وعدت إلى الخط��وط الخلفي��ا باتجاه خط دفاعنا، فتوقفت لي ش��احنة تويوت�ا، ووض�عوني في ص��ندوقها. كن قرابة الثمانية أفراد، حملونا كالبضاعة بعضنا فوق بعض. فأصبحت ي��د أح��دهم متكأ لغيره. كان جواد ص��راف من بينن��ا، وه��و مس��ؤول الفص��يل وق��د أص��ابته شظية في يده وربطها بالكوفية. كانت الشاحنة تنزل في حفر الطريق وتعلو، فيعلو معها صراخ اإلخوة. وصلنا إلى المستش��فى المي��داني في عتم��ة اللي��ل. مددوني على األرض في ناحية. غفوت من شدة التعب. بقيت نص��ف واع حين نقلوني إلى أح��د األس��رة. التفت إلى أن أح��دهم يقص لي س��روالي الك��ردي. رفعت رأسي وقلت للشخص الواقف أمامي: "أوال يمكن أن تنزع��ه نزع��ا من

دون قص؟".

أجاب: "لم يبق منه شيء، وما الذي سأنزعه؟".

قص سروالي من فوق الركبة صعودا، وس��اعدني على خل��ع قميص��ي. غس��لوا ج��رحي وض��مدوه. ومن ثم أركب��وني وبعض الج��رحى في س��يارة إس��عاف

وأرسلونا إلى األهواز.

بقينا في الطريق ألكثر من ساعة، حتى وص��لنا إلى أح��د مش��افي األه��واز. لم يكن مستشفى، بل ناد رياضي حول إلى مستش��فى. ك��ان مغطى؛ وذا س��قف عال. وقد صفت األسرة فيه بعض��ها إلى ج��انب بعض؛ لكن م��ع ذل��ك، م��ددونا

أرضا ومتجاورين. بعد نصف ساعة، بدأ الرفاق يظهرون، كما جاء

Page 267: books.almaaref.orgbooks.almaaref.org/static/documents/zoqaq.doc · Web viewكلّ هذه الذكريات والأصوات، کانت لا تزال تتردّد في زوايا حنجرة

267

بعض شباب محلتنا. امتألت الص��الة ب��الجرحى. وق��د جلس بعض ممن أص��يبوا إص��ابات طفيف��ة في أي��ديهم على الس��اللم. ك�ان القل��ق والخيب��ة ب��اديين على وجوه الجميع وقد نسوا أوجاعهم وانشغل بالهم بأوض��اع رف��اقهم. خرج��وا من القاع��ة وأش��علوا الس��جائر. أم��ا أولئ��ك ال��ذين لم يس��تطيعوا الح��راك فراح��وا يبحثون بهدوء عن ]س��حبة[ س��يجارة، فتقاس��مت ك�ل مجموع�ة منهم واح�دة. وضع أح��دهم الس��يجارة في فم رفيق��ه وق��ال: "ال تنفث ال��دخان إلى الخ��ارج،

حتى ال يالحظ الممرض ذاك".

��اء يت��ابعون من قطعت أط��رافهم والح��االت الوخيم��ة. أم��ا من هم ك��ان األطب��دة. بقيت ملقى في ذل��ك المك��ان إلى م��ا بع��د ظه��ر أمثالي فتعتبر ح��الهم جي اليوم التالي. وبدل الغداء جيء لكل شخص بجعبتي عصير وكعكة. عال ص��راخ اإلخ��وة أن "أين طع��ام الغ��داء ي��ا أخي؟". قي��ل: إن تن��اولتم الطع��ام، س��تبدأ

معدتكم بالعمل، وستتأذون.

لم يتع��اط أح��د معي إلى الغ��روب، حتى إنهم لم يعلق��وا لي مص��ال. قراب��ةا في س��يارة إس��عاف وأرس��لوهم إلى الغروب وضعوا ك��ل اث��ني عش��ر شخص�� مطار األهواز. انتظرنا هن��اك س��اعتين، إلى أن أص��عدونا الط��ائرة ال��تي حطت

"، أنن��ا في أص��فهان. قلت1بعد ساعة، وفهمنا من تردادهم لكلمة "عامو عاموألحدهم: "عامو، إننا شباب طهران، أرسلونا إلى هناك، فليس لدينا عمل هنا".

فأجاب بلهجة أصفهانية: "عامو، ما من أماكن اآلن في طهران، نرسلكم فيم��ابعد".

أدخلت إلى مستشفى في أصفهان. أخذوا مني سلسلتي العسكرية

1 . واألب واألخ للعم وتقال عمو، أي

Page 268: books.almaaref.orgbooks.almaaref.org/static/documents/zoqaq.doc · Web viewكلّ هذه الذكريات والأصوات، کانت لا تزال تتردّد في زوايا حنجرة

268

�ة؛ لم يكن بح�وزتي ش�يء آخ�ر. بع�د ذل�ك أج�روا لي ص�ورة ومحرمتي اليزديشعاعية ونقلوني إلى غرفة العمليات.

في ص��باح الي��وم الت��الي، اس��تعدت وع��يي ونش��اطي بالكام��ل، ج��اء الط��بيبلمعاينتي، فسألته: "ما الذي كان في رجلي أيها الطبيب؟".

- مهما كان، لم نستطع إخراجه. وقد اخترق عمق العضلة واس��تقر إلى ج��انب العظم. فإن أردنا انتزاعه فال بد لنا من شق العضلة عميق��ا، وفي تل��ك الح��ال

عليك مالزمة الفراش لستة أشهر.

في اليوم التالي لنقلي إلى أصفهان، ترددت في االتصال وإخب��ار العائل��ة. لكنعزة نفسي لم تسمح لي بذلك. لم أرد أن أتسبب لهم بأي قلق.

في اليوم الثالث، نقلت إلى المطار بسيارة إس��عاف، ومن هن��اك إلى طه��ران بالط��ائرة. أدخلت إلى مستش��فى "بن��ك ملي"، فمكثت في��ه ي��ومين، ومن ثم

أوصلتني سيارة إسعاف إلى أمام باب المنزل.

لم أقرع الباب، بل وكما يفعل أهل "الفتوة" التقطت حص��اة ورميت به��ا علىزجاج الغرفة العلوية.

فتحت فاطمة الباب، ذهلت حين رأتني وقالت: "لم لم تخبرنا بأنك أصبت؟".

��ون؟ لق��د دخلت وأنا أعرج في مش��يتي وقلت: " أرأيت م��اذا فع��ل بي العراقيأرادوا تصفيتي".

بقيت في البيت إلى أواخر شهر آب، فكنت طريح الفراش لمدة أربعة أش��هر، إلى أن التأم الج��رح. لم أكن أش��عر بالرصاص�ة أو الش��ظية أب��دا، إنم�ا كنت ال أستطيع المشي بسرعة فحسب، وحين كنت أض��غط على رجلي، كنت أش��عر

بالوجع.

Page 269: books.almaaref.orgbooks.almaaref.org/static/documents/zoqaq.doc · Web viewكلّ هذه الذكريات والأصوات، کانت لا تزال تتردّد في زوايا حنجرة

269

ذات يوم، ركبت الحافل��ة م��ع "حس��ين محم��ودي" و"علي ب��رادران" و"الش��يخ��ات. محمود خدا كرم"، وذهبنا إلى "كرمانش��اه" عن��د ش��باب معلوم��ات العملي

وكان حينها "حسين الله كرم" هو مسؤول معلومات العمليات.

قال حسين: "جرت الليلة الماضية عمليات فوق مرتفعات "س��لمان كش��ته" و "بنه ريگ"، وقد قامت بهذه العمليات كتيبة "س��لمان"، فج��رح قائ��دها وارتب��ك

طاقمها. لقد أتيتم في الوقت المناسب، هيا بنا نذهب لنتفقدهم".

عصر ذلك الي��وم، أخ��ذنا العن��وان ورحن��ا نس��أل ه��ذا وذاك إلى أن وص��لنا إلى مس��تقرهم. وهن��اك رأيت اإلخ��وة ق��د أزه��رت ش��قاواتهم ونص��بوا خيم��ة على ضفاف النهر. كان هناك قرابة الثمانين نفرا يسبحون ب���)الش��ورتات والم��ايو(، ويطفون على سطح الماء. كان المكان مكشوفا وفي م��رمى ن��يران ط��ائرات��ني لم أنبس العدو، واألرض مسطحة خالية من أي ملج��أ وم��أوى. تعجبت؛ لكن

ببنت شفة. وبت ليلتي تلك في الخيمة لدى شباب الكتيبة.

في ظهر اليوم التالي، جاء الح��اج "همت"، و"رض��ا دس��تواره" و"حس��ين الل��ه كرم"، ونصبوا قائمة جدي��دة لط��اقم الكتيب��ة. وأص��بح الس��يد "زه��رايي" قائ��دا للكتيبة، و"حميد ميرزايي" و"أمير نوري" وأنا مس��ؤولين للس��رايا الثالث. كم��ا أصبح "علي برادران" ال��ذي ك��ان بارع��ا في أم��ور التجه��يزات مس��ؤوال عنه��ا، و"حسين محمودي" معاون السرية، فيما عين الشيخ "محمود" عنصر احتي��اط

لدينا.

قرابة الساعة الثالثة بعد الظهر، سلمنا مئتي عنصر جديد، وك��انوا جميعهم فيعداد كتيبة "ميثم"، فألحقوا بنا.

��ات في وزعنا العناصر على السرايا، وكان من المفترض أن نق��وم ليال بالعملي��ات ��ات تس�مى "عملي سد "پ�ير علي" و"س��لمان كش��ته". وك�انت ه�ذه العملي

مسلم بن عقيل".

Page 270: books.almaaref.orgbooks.almaaref.org/static/documents/zoqaq.doc · Web viewكلّ هذه الذكريات والأصوات، کانت لا تزال تتردّد في زوايا حنجرة

270

��ة بعد الظهر، أقمنا مجلس عزاء ولطم. قرأ أحدهم النعي، فعمت ح��ال معنوي خاصة. اجتمعت وسائر مسؤولي السرايا ب�"الس��يد زه��رائي"، في خيم��ة تبع��د��ات. عن خيمة اإلخوة مس��افة أربعين م��ترا، وذل�ك إلعطائن��ا التعليم��ات للعملي وحيث كنت ق��د التحقت س��ابقا في ]جبه��ة[ "س��ومار"، وكنت على معرف��ة

يسيرة باألرض هناك، لذا، طرحت على الطاولة كل ما كان في جعبتي.

في أثناء الجلسة، تناهت همهمة اإلخوة إلى مسامعي كهدير ط��ائرة، خ��رجت، ووقفت عند باب خيمتهم للحظات. فسمعت صوت لطمهم. ع��دت إلى خيم��ة القي��ادة، أع��دنا تلخيص النق��اط األساس��ية، ومن ثم أص��درنا األوام��ر لإلخ��وة

باالستعداد لالنطالق.

خرج اإلخوة، صفروا أسلحتهم، شدوا أحزمتهم، وذهب بعضهم إلى ضفة النهرا، ا رم�ادي الل��ون واس��عا وفضفاض� وتجمعوا هناك. أما أنا فق�د ارت�ديت قميص��ا، وثالث��ة ا؛ من دون ح��زام أو حمال��ة للرص��اص. وحملت رشاش�� وس��رواال كردي مخازن إضافية. وانتعلت هذه المرة بدل الحذاء الكتاني، شيئا بينه وبين البوطا وجميال، ��اه في مك��ان م��ا؛ ك��ان جل��دي ]نصف بوط[، كان أحدهم قد أهداني إي بمتانة البوط وخفة الحذاء الكتاني. فكنت أنتعله في األرض الموحلة والطرية،

وكذا في الجبال واألراضي الوعرة.

عند الغروب، ظهرت شاحنة تويوتا من بعيد، تق��دمت وت��وقفت أم��ام الخيم��ة. كان سائقها شيخا كبيرا، ذا لحية بيضاء ووجه نوراني، يشبه علماء الدين. ك��ان��ة ��ا وبع��د التحي يرتدي لباسا رم��ادي الل��ون ويمش��ي بس��كينة ووق��ار. تق��دم من

والسالم قال: "سيدي، رأيت ذات ليلة أنني في عداد ك��تيبتكم، وق��د ذهبت معكم للمش��اركة

في العمليات، فقطع رأسي عن جسدي..".

Page 271: books.almaaref.orgbooks.almaaref.org/static/documents/zoqaq.doc · Web viewكلّ هذه الذكريات والأصوات، کانت لا تزال تتردّد في زوايا حنجرة

271

وبينما أنا أستمع إلى كالمه وأنظر إليه، وإذا بي فجأة أس��مع ه��دير ط��ائرة، لم أع بع��دها م��ا حص��ل؛ أحسس��ت بطعم م��ر في حلقي، دخلت في ح��ال من التش��وش، وك��أنني كنت أس��ير ف��وق الغيم. كنت بين الن��وم واليقظ��ة عن��دما رفعت رأسي ألجد نفسي مشلوال من صدري إلى أخمص قدمي، ومي��اه النه��ر محم��رة بل��ون ال��دم، واألط��راف المقطع��ة تطف��و على وج��ه الم��اء، وحس��ين محمودي ابن محلتنا، ورفيق أيامي الصعبة ووحدتي، غارقا بدمائه على بض��عة أمتار مني، وذاك الش��يخ، ق��د فص��ل رأس��ه عن جس��ده وس��قط ف��وق رأس��ي

تقريبا.

لم أع متى وقع االنفجار، ومتى قصفت الطائرة. ففي لحظة واح��دة، اختلطت��ا األمور ببعض��ها البعض. غبت عن ال��وعي. ج��اءت جماع��ة وجمعت األحي��اء من ووضعتهم في صندوق شاحنة تويوتا. عندما رفعوني، ألقيت نظ��رة إلى رجلي،ق من ��ه ش�� ألجد أن ]مش��ط[ ق��دمي ق��د اقتل��ع من الوس��ط م��ع الب��وط، وكأن

وسطه، وكان معلقا بقطعة من الجلد فحسب.

في صندوق التويوت��ا، ك��دت أختن��ق من ش��دة الض��غط. ك��انت أي��دي الج��رحى وأرجلهم المص��ابة والم��دماة ت��رزح ف��وق وجهي وتقط��ع علي أنفاس��ي. فيم��ا��ات والمنعرج��ات، فتهب��ط وتعل��و، وتتع��الى أسرعت سيارة التويوتا تعبر المطب معها آهات وأنات اإلخ��وة. فأح��دهم ق��د أص��يب بش��ظية في رجل��ه، وآخ��ر في��ا وال ينبس ببنت ش��فة. كتفه، وثالث في يده، ورابع فاقد للوعي، أو ك��ان واعي

ماذا أقول بعد؟

وص��لنا بع��د معان��اة كب��يرة إلى المستش��فى المي��داني. ووض��عوا تحت رأس��ي بطانية، وعلقوا لي مصال. بدأ األلم يجتاح جسدي بأكمله، ما أشعرني بالضجر. وفي تلك الحال المزري��ة، جلس أح��دهم ف��وق رأس��ي وراح يق��ول لي: "ص��ل

على محمد وآل محمد يا أخي، صل على محمد وآل محمد..".

Page 272: books.almaaref.orgbooks.almaaref.org/static/documents/zoqaq.doc · Web viewكلّ هذه الذكريات والأصوات، کانت لا تزال تتردّد في زوايا حنجرة

272

��ه إذا م��ا ��ة. ج��رى البحث بين الفري��ق الص��حي أن سمعنا صوت ط��ائرة مروحي أرسلنا هؤالء في الطائرة المروحية فإنهم سيرمونها وهي في اله��واء. وإذا م��ا

أرسلنا وراء طائرة فإن األمر سيستغرق أربع ساعات.

أصعدوني وأربعة أشخاص حالهم وخيمة كحالي ويع�انون نزيف��ا، إلى الط��ائرة. غلب��ني الن��وم في الط��ائرة، وحين أفقت رأيت��ني مم��ددا على األرض في مم��ر طويل، وكنت ما أزال فاقدا الشعور بنصف جسدي. نظ��رت إلى آخ��ر المم��ر، رأيتهم يحضرون من الجهة المقابلة شخصين قد بترت أرجلهما وربطت، وهماا على عقب. ع��دت شعث غبر ملوث��ان بال��دماء. ج��اء شخص��ان وقلب��اني رأس�� وفق��دت ال��وعي، وحين أفقت رأيت نفس��ي في قاع��ة خالي��ة ومظلم��ة. كنت أرتجف كشجرة صفصاف من شدة البرد؛ لكني فق�دت الق�درة على التح�رك. ك��ان ظه��ري يؤلم��ني وكنت أش��عر ب��وخز في��ه. قلت في نفس��ي: إن لم أكن مخطئا فهنا "معراج الشهداء" ]براد حفظ الموتى[. لق��د فق��دت ال��وعي وظن

هؤالء أنني قضيت. بعد دقائق، دخلت جماعة؛ وكانوا يتكلمون بلهجة كرمانشاهية سريعة، وك��أنهم

جاؤوا يبحثون عن عزيز لهم.

عن��دما وص��لوا إلى مقرب��ة مني، اس��تجمعت ك��ل ق��واي ورفعت رأس��ي. حينرأوني صرخوا: "لقد عاد الشهيد إلى الحياة"... وركضوا نحو الصالة.

لق��د ص��ح حدس��ي. فق��د كنت في ب��راد المستش��فى. بع��د دق��ائق، ج��اء ع��دة أشخاص، رفعت يدي ألفهمهم بأني ما زلت على قيد الحياة. وجه أحدهم ضوء��وا المصباح إلى عيني وتحسس نبضي وقال: "لقد كان هذا فاقدا لل��وعي وظن

بأنه قد استشهد، احملوه..". حملوني ووضعوني على سرير نقال. سألت أحدهم في قاعة المستشفى عن

الوقت فقال: "إنها الخامسة صباحا".

Page 273: books.almaaref.orgbooks.almaaref.org/static/documents/zoqaq.doc · Web viewكلّ هذه الذكريات والأصوات، کانت لا تزال تتردّد في زوايا حنجرة

273

- أين نحن؟.1- إيوان

في غرفة العمليات، حقنوني بإبرة مخدر في فخذي وأس��فل ركب��تي وس��اقي؛��ني بين الن��وم واليقظ��ة، التفت إلى أنهم مش��غولون ب��رجلي ويتناقش��ون: لكن "نبترها أو ال نبتره��ا.. فلنعم��ل اآلن على إيق��اف ال��نزيف..". بع��د ذل��ك أع��ادوا

القطعة المفصولة من قدمي إلى مكانها وخاطوها.

عندما أخرجوني من غرفة العمليات كنت نصف واع، أفيق وأغيب.

بعد ساعة أو ساعتين، شعرت ب��ألم خفي��ف في بط��ني. ك��انت رجلي تؤلم�ني، لكن وجع بطني أضيف إلى وجعي، وبدأ يزداد ويزداد بحيث صرت أتل��وى على نفسي مثل األفعى. كدت أصرخ من شدة الوجع، وضعت المخ��دة على وجهي

لكي ال يسمع أحد صراخي.

في تلك األثناء، جاء إلي الشيخ محمود وكان من أبناء محلتنا. جزاه الله خ��يرا، ما إن رأى حالي، حتى ذهب إلى الطبيب وأخبره. ج��اء الط��بيب وراح يتفحص

بطني ويضغط عليه من هذه الناحية وتلك، فيما كنت أتلوى من األلم.

توجه إلى الممرضة وقال: "انقلوه إلى غرفة العمليات".

حلقوا لي شعر بطني، وحقنوني بإبرة، غبت بعدها عن الوعي.

عن��دما أفقت، رأيت الش��يخ ال ي��زال ف��وق رأس��ي. وق��د خ��رج رأس أنب��وببالستيكي رفيع من بطني وما زال معلقا، كما علق مصل إلى يدي.

قال الشيخ: "كيف حالك يا سيد؟".

1 . إيالم محافظة شمال في مدينة

Page 274: books.almaaref.orgbooks.almaaref.org/static/documents/zoqaq.doc · Web viewكلّ هذه الذكريات والأصوات، کانت لا تزال تتردّد في زوايا حنجرة

274

- ال أعلم أي وجع كان؟ كدت أجن.

��ه من المحتم��ل أن تك��ون أمع��اؤك ق��د تقطعت من عص��ف ق��ال ال��دكتور إناالنفجار...

في اليوم الت��الي، نقلت بواس��طة س��يارة إس��عاف إلى "كرمانش��اه"، وأدخلت المستشفى هناك. في ذلك اليوم، كانت جارتنا السيدة "ياري" ال��تي ال يفص��ل بين منزلها ومنزلنا سوى عدة بيوت، قد جاءت إلى "كرمانشاه" لزيارة أهله��ا، وأخبرت عن طريق أقاربها بأنني أرقد في ذلك المستشفى، فجاءت لعي��ادتي؛ حاجة ودودة يبلغ وزنها قراب��ة المئ��ة والثالثين كيلوغرام��ا؛ من تل��ك الجماع�اتط ل��تزويج الش��بان الس��ادة. وعلى ح��د ال��تي تط��رق ه��ذا الب��اب وذاك وتتوس��

تعبيرها، إن من يزوج ابنته لسيد فكأنه صاهر أمير المؤمنين عليه السالم!

��اء ق��د منع��وا ع��ني في ذلك اليوم الذي زارتني فيه السيدة "ياري"، كان األطب الماء والشاي، وك��ان العطش حينه��ا ق��د أخ��ذ مني ك��ل مأخ��ذ. فق��د تش��ققت شفتاي من الجفاف، ويبس لساني فأصبح كالخشبة. كنت مستعدا ألعطي كل مال الدنيا مقابل جرعة من الماء. كنت أتخيل الماء، وأرى أنني أش��رب الم��اء

البارد بنفس واحد.

جلس��ت الحاج��ة إلى ج��انبي وراحت تع��املني ك��األم ال��رؤوم. بللت المنش��فة، وراحت تبلل بها شفتي، وتجف��ف ع��رقي، وتتكلم معي بلهج��ة "كرمانش��اهية". امتأل قلبها رحمة وشفقة علي، لم تعد تكترث لكونها محرما بالنسبة لي أم ال.ا ألن أخ��دع الحاج��ة. فعن��دما لم أع��د أحتم��ل أم��ا أن��ا ب��دوري فكنت مض��طر العطش، قلت لها: "يا حاجة، في الصباح، قال األطباء بأنني ممنوع عن شرب

الماء، لكن ال مانع من شرب الشاي".

Page 275: books.almaaref.orgbooks.almaaref.org/static/documents/zoqaq.doc · Web viewكلّ هذه الذكريات والأصوات، کانت لا تزال تتردّد في زوايا حنجرة

275

نظرت المسكينة إلي نظرة ملؤها المحبة، وذهبت وما لبثت أن عادت بفنجان من الشاي. فراحت تفرغ القليل منه في الصحن ومن ثم تعيده إلى الفنج��ان، وكررت ذلك مرارا حتى برد، وأدنته من شفتي. ومباشرة، رشفت منه رشفة. وبينما كنت أرشف الرشفة األخرى، أتت الممرض��ة، وص�احت بالحاج��ة قائل��ة:

"ماذا تقدمين له أيتها السمينة؟ أال تخجلين مع كل هذه الضخامة؟".

تنحت الحاجة جانبا، ولملمت أطرافها وقالت بمحبة: "ماذا تق��ولين ي��ا س��يدة؟إنه سيد!".

- حسنا، ليكن سيدا، إن يشرب الماء يمت. - ومن الذي قال هذا، فهو في رعاية جده، وهو الذي يحفظه. لقد منعوا الم��اء

عن جده في كربالء، وها أنتم تمنعونه عنه اآلن. وهل أنتم يزيديون؟

أما أنا فتظاهرت كقطة مسكينة بالمظلومية، ورحت أراقبهما بطرف عيني!

من شدة ما دار من جدال بين الحاجة والممرضة، علم الط��بيب ب��األمر فج��اءوأخرج الحاجة من الغرفة.

��ر الخط��ة ولم يكن يعلم الله كم كنت خجال، وكم رق قلبي للحاجة. فأنا من دبللحاجة من ذنب.

جاء الط��بيب إلي وق��ال: "إن ش��ربت الم��اء س��تموت. أت��دري م��ا يع��ني ه��ذا؟��ام م��ات أح��دهم هن��ا له��ذا الس��بب. لم تفعل��ون ه��ذا س��تموت. قب��ل ع��دة أي

بأنفسكم؟".

مضى يوم أو يومان وأنا على هذه الحال من العطش. وأضاف ألم

Page 276: books.almaaref.orgbooks.almaaref.org/static/documents/zoqaq.doc · Web viewكلّ هذه الذكريات والأصوات، کانت لا تزال تتردّد في زوايا حنجرة

276

ظهري مصابا آخر إلى آالمي. كنت أشعر بالوجع في كل أنحاء جسدي؛ بطني، ظه��ري، وس��طي ورجلي، بحيث لم يع��د المس��كن ي��ؤثر بي. أحسس��ت ب��أن ظهري قد ت��ورم، ولم أع��د أس��تطيع االس��تلقاء علي��ه. فكنت أن��ام على ج��انب واحد. أخضعت فورا لصورة شعاعية، فقال الطبيب: "تظهر ه��ذه الص��ورة م��ا بين العشر واالثنتي عشرة شظية ص��غيرة وكب��يرة ق��د اس��تقرت في ظه��رك.

س��م( اس��تقرت ب��القرب من النخ��اع الش��وكي، وال1وهن��اك ش��ظية بحجم ) نستطيع القيام بشيء بالنسبة إليها. عليك االنتقال إلى مستشفى أكثر تجه��يزا

".16من هذا. وهذه الشظايا هي التي تسبب لك هذه اآلال

في اليوم التالي، نقلت إلى مطار "كرمانشاه". وفي المط��ار، غلب��ني العطش من جديد. نظرت من حولي، لعلي أستطيع الحصول على الم��اء، فلم أس��تطع النزول عن الس��رير. م��رت بج��انبي ممرض��ة، ناديته��ا مباش��رة ورحت أتحاي��ل

عليها.لين قلت بصوت مرتجف: "أرضى برشفة من الم�اء في قع�ر ك�وب. هال تتفض��

علي يا أختاه بإحضار قليل من الماء ألشرب الدواء؟".- ال يمكن ذلك.

- إ... لم؟!- أتعلم ماذا كتب في ملفك؟

-ال.

1 . هذا يسبب لم وعنايته، الله بلطف القلب من بالقرب استقرت كثيرا، صغيرة تكن ولم الشظايا، تلك إحدى . صمام إلى طريقا وجدت والسنوات الوقت مرور مع لكن إزعاج أو مشاكل أي لي فيه، المرغوب غير الضيففتضيق. عنه، الناجمة األمراض إلى مضافا القلب، في بآالم مناسبة وبغير بمناسبة أشعر صرت وهناك، القلب

. العام في دنياي ش.1388علي ساسان 2009ه مستشفى في جراحية عملية لي أجريت طويل، مرض وبعد م،. الصمام من الشظية وأخرجت

Page 277: books.almaaref.orgbooks.almaaref.org/static/documents/zoqaq.doc · Web viewكلّ هذه الذكريات والأصوات، کانت لا تزال تتردّد في زوايا حنجرة

277

- لقد كتب بأنك تكذب، وأن شرب الماء ممنوع.��ة - يا أختي، هذا كان قبل خمسة أيام، لقد تحسنت ح��الي اآلن. ك��وني مطمئن

من هذه الناحية...

انطلت الحيلة عليها ه��ذه الم��رة، ف��ذهبت وأحض��رت قليال من الش��اي الف��اتحا اللون في قعر فنجان. شربته فتحسنت حالي وفتحت عي��ني واس��تعدت بعض��

من قوتي.

في الطائرة، التقيت ب�"ميثم غفاري". سلمنا على بعضنا البعض فقط، وعندما��ا في س��بيله. أدخلت إلى حطت الط��ائرة في مط��ار أص��فهان ذهب ك��ل من مستش��فى من مستش��فيات أص��فهان. م��ا إن مألوا اس��تمارة اإلص��ابة، حتى

أعطيت نمرة هاتف منزل جارنا "رضا طال" ألحد الممرضين ليخبر فاطمة.

في اليوم الت��الي، وبينم��ا كنت وحي��دا أس��رح في الخي��ال، وإذا بي أرى س��يدةا، وإيش��اربا متوسطة العمر تدخل غرفتي؛ أنيقة المظهر! ترتدي معطف��ا خمري

أحمر اللون، تحمل في يدها علبتي عصير تفاح.

ألقت التحية، اقتربت مني وقبلت��ني في جبي��ني! وأن��ا ال��ذي كنت ف��تى هيئ��ات دينية ولم أعش مثل هذه الحاالت؛ شكوت، وقلت في نفسي: ما يع��ني ه��ذا؟

ومن هذه يا ترى، لتأتي من دون مبرر، وتطبع مباشرة على جبيني قبلة؟!

أخذت نفسا عميقا، واستعددت ألقول شيئا، وإذا بها تصب لي كوبا من عص��ير التفاح، تقدمت وض��عت ي��دها تحت رأس��ي وأدنت الك��وب من فمي، فش��ربت

منه جرعتين وأرجعت رأسي إلى المخدة.

قالت: "كيف الحال يا سيد؟ إن شاء الله أفضل حاال؟". ك��انت ودودة ولطيف��ةإلى درجة لم أستطع فيها التكلم بأي كلمة؛ كنت فقط أهز برأسي.

بعد عدة دقائق، جاءت أمي وفاطمة وسعيد، وسلموا على تلك

Page 278: books.almaaref.orgbooks.almaaref.org/static/documents/zoqaq.doc · Web viewكلّ هذه الذكريات والأصوات، کانت لا تزال تتردّد في زوايا حنجرة

278

ا. سألت أمي عن تلك المرأة فقالت: السيدة سالما حار - هي زوجة الس��يد "مش��يري"، ابن خ��الي، بتن��ا الليل��ة الماض��ية في م��نزلهم.

كانت كالفراشة تحوم حولنا وعاملتنا بلطف ومحبة.

بعد دقائق ذهبت أمي و"سعيد" والسيدة "مشيري"، وبقيت فاطمة عندي.

كانت قد مضت عدة أسابيع من دون أن أستحم، فصرت أشعث أغبر متس��خا. وحيث إنني من شباب وسط المدين��ة، لم أس��تطع أن أطلب من أح��د ليحض��ر

لي طشتا، أو ليأخذني إلى الحمام. فغروري لم يكن يسمح بذلك.

المصيبة الكبرى أنني لم أكن أستطيع السير على ق�دمي. فك�ل األم�ور ك�انتكانتزاع الروح بالنسبة إلي.

وهكذا، أحضرت فاطمة طشتا، ووض��عته إلى ج��انب الس��رير، س��اعدتني على خلع مالبسي، وغسلت رأسي بالماء والصابون. وكانت ق��د تجمعت طبق��ة من ال��تراب والرم��ل في��ه! حین أص��بح ش��عري نظيف��ا، زال التعب عن جس��دي. شعرت بحال أفضل، وخفت أوجاعي. وبينما كنت أرت�دي مالبس�ي، التفت إلى أن فص خ��اتمي الخم��ري الل��ون لم يكن في ي��دي. ك��ان الخ��اتم موج��ودا في

إصبعي، لكنه كان خاليا من الفص.

انحنيت ورحت أفتش عنه تحت رجلي وبين طيات المالءة. ألقيت نظ��رة تحت السرير، لكنني لم أج��ده. لم أع��رف م��تى وق��ع من مكان��ه. انقبض��ت أح��والي وشعرت باالنزعاج. فذلك الخاتم كان ذكرى من "حسين محمودي". مر مشهد��ا أبن��اء شهادة "حسين محمودي" وذلك النهر أم��ام مخيل��تي. فأن��ا وحس��ين كن الزقاق نفسه ورفاق اللعب؛ زقاق النقاشين ذاك. وكانت لنا معا جوالت كثيرة

في حرب الشوارع، وتشاركنا معا األفراح واألتراح. أرجعت

Page 279: books.almaaref.orgbooks.almaaref.org/static/documents/zoqaq.doc · Web viewكلّ هذه الذكريات والأصوات، کانت لا تزال تتردّد في زوايا حنجرة

279

رأسي إلى الوراء، رأيت فاطمة تنتحب وتبكي. سألتها: "لم تبكين؟".- إن مت فماذا سأفعل؟

ية الح��رب. ففي لحظ�ة نك��ون - الم�وت بي�د الل�ه. بالمناس��بة، ه�ذه هي خاص��ة الحمص وينتهي ك�ل موجودين، وفي لحظة أخرى تص�يبنا ش�ظية بمق�دار حب

شيء... نموت. يقول الشاعر:الليل مظلم والطريق ضيق وأنا سكران

وقع الكأس من يدي ولم ينكسرفحارسه ]الله[ قد حفظه جيدا

1 وإال فمئة قدح تنكسر دون أن تسقط

بعد يومين، ع�ادت أمي وفاطم��ة وس��عيد بالحافل�ة إلى طه�ران، أم�ا أن��ا فق�دنقلت إليها بالطائرة وأدخلت إلى مستشفى "بهارلو".

��تين في رجلي، لكن أعص��اب ق��دمي ك��انت ق��د خضعت هناك لعمليتين جراحي قطعت، فلم يلتحم الجرح. وبسبب تقطع أمعائي، ت��أذت كلي��تي والمثان��ة، فلم أع��د أس��تطيع التحكم ب��اإلدرار )التب��ول(. وكنت أش��عر ب��ألم دائم في بط��ني.��ة ثاني��ة في بط��ني. وق��الوا لي: لق��د جعلن��ا أمع��اءك ��ة جراحي خض��عت لعملي

مستقيمة )قطعة واحدة( لكي ال تشكل ضغطا على المثانة.

بعد أسبوع، أجريت لي عملية ثالثة في بطني، وقالوا إنهم وصلوا قطعة أمعاء ص��غيرة إلى أمع��ائي. واآلن ه��ل هي أمع��اء كلب أو أي حي��وان آخ��ر، ال أدري؛

المهم أن الوجع قد انتهى. فقد كان بطني يؤلمني كلما أكلت

ويكون 1 أمر، لحدوث واألسباب العلل كل تتوافر فقد تعالى، الله بإرادة شيء كل أن األبيات هذه من المغزى . . بالعلل يتأثر وال يحدث ال فإنه ذلك تقتض لم الله مشيئة ألن لكن، والمعلول العلة لنظام طبقا محتوما األمر

. . والموت الحياة إلى بالنسبة األمر وهكذا الخارجية واألسباب

Page 280: books.almaaref.orgbooks.almaaref.org/static/documents/zoqaq.doc · Web viewكلّ هذه الذكريات والأصوات، کانت لا تزال تتردّد في زوايا حنجرة

280

شيئا، ولم أعد أستطيع تناول الطعام، وأصبحت نحيال ال رغبة لي بالطعام.

في تلك األيام، كانت فاطم��ة هي ال��تي تعت��ني بي، وال أس��تطيع أن أص��ف م��ا عانته تلك المرأة من أجلي! فقد كانت ت��ذهب في الص��باح إلى مجم��ع األيت��ام للعمل هناك، ومن ثم تأتي عن��د الظه��ر إلى المستش��فى فتمكث عن��دي ح��تى

صباح اليوم التالي.

في تل��ك الف��ترة، ال��تي التهب فيه��ا ج��رح رجلي، وكنت أتل��وى فيه��ا من األلم وأعاني ما أعانيه، كانت تبقى مستيقظة إلى الص��باح وهي ت��دلك رجلي، فيم��ا أئن وأتوسل باألنبياء وأطلب منهم المدد. وال أكاد أغفو قليال، حتى يعود الوج��ع

من جديد فأنادي فاطمة:- فاطمة، مددي رجلي إلى هذه الناحية...

- فاطمة، غيري وضعية رجلي؛ فقد تخدرت...

المسكينة لم تكن تنبس ببنت شفة، بل أظهرت محبتها، ومحبتها فقط.

في النهار، جاء لعيادتي ع��دد من الن��اس؛ الن��اس الع��اديين، المثقفين، التج��ار، والمتعلمين. كانت قلوب الناس حينذاك ربانية. ذات يوم، حض��ر الح��اج قاس��م لزيارتي، بعد غياب أكثر من سنة. فبس��بب اإلص��ابة البالغ��ة ال��تي أص��يب به��ا،س ��ة، فأس�� قلما صار ي��ذهب إلى الجبه��ة. وق��د التح��ق بس�لك األعم�ال الخيري مؤسسة "الخامس عشر من خرداد" في "كرج"، وتابع من خاللها أمور عوائل��ا ي��أتي إلى الشهداء. كما ظل فعاال في مركز تنظيم صالة الجمعة، وكان أحيان

ا. الجبهة إليصال التجهيزات. فيده التي أصابتها طلقة دوشكا قد تعطلت كلي

ذات ي��وم ج��اء خ��الي "الس��يد علي" لزي��ارتي. وأحض��ر مع��ه ص��ندوق برتق��الووزعه على الجرحى.

Page 281: books.almaaref.orgbooks.almaaref.org/static/documents/zoqaq.doc · Web viewكلّ هذه الذكريات والأصوات، کانت لا تزال تتردّد في زوايا حنجرة

281

��اخ حين جاء ش��باب الكتيب��ة لعي��ادتي، قلت لهم: "خ��الي الس��يد علي ه��ذا، طب م��اهر، وطبخ��ه ال يعلى علي��ه. لدي��ه مقهى، وطب��ق "ال��ديزي" ال��ذي يع��ده لن

تجدوه في أي مكان".

يومها قال لي خالي السيد علي: "ماذا سأفعل بهذه األوشام التي على ي��دي؟وكيف أزيلها؟".

قلت: "اتركها، ستطلع روحك إن حاولت إزالتها. تسكب عليها األسيد".

لكن خالي أصر على إزالتها. يومها تخالط خالي مع اإلخوة وأصبح صديقا لهم، وذهب إلى الفرقة ليطبخ لهم. أصبح واحدا من المجاهدين، وكانت عاقبته إلى

��ة في الع�ام م، وه�و في1988خ�ير؛ لكن ش��اء الق�در أن يص��اب بس�كتة قلبي��ه. رحم��ه مخيم تدريب أقيم إلى جانب سد "لتيان"، انتقل إثره��ا إلى ج��وار رب

الله.

��ام، ك��ان ي��أتي ال أحد يعلم إال الله ماذا يخبئ لنا في الغد الزم��ان في تل��ك األي إلى عيادتي بين اليوم واآلخ��ر، ك��ل من أمي و"نن��ه پ��ری" و"س��عيد". وم��ع أن سعيد لم يكن يراني كثيرا، إال أنه لم يتعام��ل معي كالغرب��اء. فق��د ك��ان يح��وم حول سريري، يمسك بيدي مريدا مالعبتي. لكنه ك��ان ق��د اعت��اد ع��ادة س��يئة؛

فعندما كان يغضب من أحدهم كان يبدأ بالصراخ ويكيل له الشتم والسباب.

ذات يوم، كنت جالسا على الكرسي المتحرك فإذا بسعيد و"ننه پري" يأتي��ان. ألبسوه بزة رسمية، وقد بدا أنيقا ووسيما. جاء وأمس��ك الكرس��ي بكلت��ا يدي��ه

وراح يحدثني ويتكلم بطالقة. ثم أمسك بيدي بقوة ولم يتركهما.

��ا ي��ا ب��ني، تع��ال عندما انتهى وقت الزيارة، ج��اء المم��رض وق��ال لس��عيد: "هيألعطيك جائزة".

Page 282: books.almaaref.orgbooks.almaaref.org/static/documents/zoqaq.doc · Web viewكلّ هذه الذكريات والأصوات، کانت لا تزال تتردّد في زوايا حنجرة

282

فجأة ب��دأ س��عيد بالص��راخ، وك��ال بعض الش��تائم للمم��رض المس��كين. بع��دها أمسك بالكرسي المتحرك وبدأ بالبك��اء والنحيب. تس��مر المم��رض في مكان��ه

وخاف من بكاء سعيد، وراح يتمتم: "والله لم أفعل له شيئا..".

تقدمت "ننه پري" وأخذت بيد س��عيد وراحت تتملق��ه أوال، ثم انج��ر األم��ر إلىا وراح النزاع. وفيما ك��ان س��عيد يص��رخ ويص��يح، ت��رك الكرس��ي وارتمى أرض��

يتململ ويخبط رجليه باألرض ويقول: "أريد أن أبقى عند أبي".

اجتمع المستشفى حوله. وكل من حاول التكلم معه بكلمة، كال له شتيمتين.

بالنهاية، اجتمع طاقم التمريض وأخرجوا سعيد من الغرفة.

في صباح اليوم التالي الباكر، جاء بقال الزق��اق الس��يد "ناص��ر"، ممس��كا بي��دسعيد. قلت: "إ... سيد ناصر، لماذا أتعبت نفسك؟".

قال: جاء سعيد إلى المحل وألح علي: "ب��أن باب��ا يطلب من��ك أن تأخ��ذني إلىالمستشفى".

ما إن رآني سعيد حتى ركض وارتمى في أحضاني. تعجبت لهذا الطف��ل ال��ذي لم يكن قد رآني كثيرا، كيف فرح بي وأحب أن يبقى دوم��ا معي. ج��اء وجلس

في حضني، راح يمسح بيديه على وجهي ورأسي ويتحدث إلي.

في لحظة الوداع أيضا، كانت لنا أيضا جولة من بكاء سعيد ونحيبه.

ط في ذات ي��وم، ج��اء رج��ل من مرض��ى المستش��فى لعي��ادتي، رج��ل متوس��العمر، يرتدي لباس المستشفى، ويعرج في مشيته.

قال: سالم يا حاج، أين أصبت؟".

بال مباالة قلت: "الفتح المبين".

Page 283: books.almaaref.orgbooks.almaaref.org/static/documents/zoqaq.doc · Web viewكلّ هذه الذكريات والأصوات، کانت لا تزال تتردّد في زوايا حنجرة

283

- يا عم، ذات يوم التحقت بالجبهة في تلك الناحية.

حينها، رددته بطريقة ما وذهب في حال سبيله. شعرت بتطفله.

في اليوم التالي، عاد وقال: "سالم يا حاج، أشعر بأني أعرفك منذ زمن.- ممكن.

- أين جرحت؟- في مكان ما، لم تسأل؟

- عزيزي، قل لي أين جرحت؟- لم أكن في الجبهة أساسا.

- إذا، أين كنت؟ - الليلة قبل الماض��ية، ذهبت إلى مقهى "أف��ق طاليي"، تن��ازعت م��ع أح��دهم،

فطعنني بخنجر في بطني.- إ... إذا، لم أحضروك إلى هنا؟ فهذا المكان مخصص لجرحى الحرب.

- هذا المستشفى ملك لعائلتنا، وأنت هل طعنك أحدهم بخنجر؟- ال يا حاج، روحي فداك، وداعا.

بقي ف���اغرا ف���اه من الح���يرة، وراح يرمق���ني بنظرات���ه. ذهب ونش���ر في المستشفى كله بأن هذا المريض قد طعن بخنجر؛ وجيء به إلى قسم جرحى

الحرب!

كانت هذه حكاية المستشفى.

في تلك الفترة، أخرجوا الشظايا من ظهري واحدة بعد األخرى، إال تلك

Page 284: books.almaaref.orgbooks.almaaref.org/static/documents/zoqaq.doc · Web viewكلّ هذه الذكريات والأصوات، کانت لا تزال تتردّد في زوايا حنجرة

284

��ا من نخ��اعي الش��وكي، فلم يق��تربوا منه��ا. خ��رجت واح��دة أو المستقرة قريب اثنتان منها مع الدم والقيح. كما ظهر رأس واحدة منها، لكنه عل��ق في اللحم،

فكنت كلما أردت أن ألبس ثيابي علقت بها.

كان من المقرر أن ي��أتي الس��يد "جعف�ري"، وه��و من معارفن��ا ومن ممرض�ي القسم، كل عدة أيام ليعقم لي جرح رجلي. كان ذلك األمر مؤلم��ا إلى درج��ة جعلتني أنا القوي أرتجف خوفا عندما أرى السيد جعفري. كم��ا ك��انت فاطم��ة تستاء لقدومه. وما إن كان يطرق باب ال�بيت حتى تض�طرب فاطم�ة وتق�ول:

"أبو الفضل، لقد جاء..".

كنت بعد تعقيم الجرح أتلوى من األلم لساعات. وقد حار األطباء من ك�ل ه�ذااأللم.

شيئا فشيئا، صارت تنبعث من رجلي رائحة عفن كريهة تك��اد تقتل��ني. لم يع��د أحد يأتي لزيارتي. فأولئك الذين كانوا يأتون لعيادتي كل ي��وم، ك��انوا يتهرب��ون ويقولون لدينا عم��ل. وح��دها فاطم��ة، ك��انت ت��أتي إلى غرف��تي وتتحم��ل تل��ك

الرائحة الكريهة.

لكن، ذات ليلة جمعة، أقيمت في بيتنا مراسم دعاء كميل، فاكتس��ب المجلسا، وحصل تواصل ما. في اليوم التالي، جاء السيد جعفري وق��ال لي أنسا خاص���ة"، أال تكفي ك���ل ه���ذه متهكم���ا: "كنت تطلب المس���كن من "الس���يدة رقي

المسكنات التي نعطيك إياها؟!".

أمسك برجلي وراح يحركها إلى هذه الناحية وتلك، ويتهكم بكلماته تلك ويغمز بها من قناتي. فجأة، انفلق رأس الجرح، ونفر منه سائل أس��ود الل��ون ول��وث

مريلة السيد جعفري البيضاء.

خاف "جعفري" واختفت ضحكته. رجع القهقري وقال: "آخ، آخ...

Page 285: books.almaaref.orgbooks.almaaref.org/static/documents/zoqaq.doc · Web viewكلّ هذه الذكريات والأصوات، کانت لا تزال تتردّد في زوايا حنجرة

285

لقد تقيح الجرح من الداخل واسود، كان ملتئما من الخارج فقط!".

قلت: "هذا تجلي أهل البيت عليهم السالم. منذ خمسة وعشرين يوما أئن منالوجع، وال أحد يسمع كالمي".

أخذت في ذلك اليوم صورة لرجلي. كان االلتهاب والقيح قد وصال إلى ركبتي.��ات؛ لكن ال��دكتور قيل ينبغي بتر ه��ذه الرج��ل، ونقلت ف��ورا إلى غرف��ة العملي

"طاهري" جزاه الله خيرا، قال: "لقد لطف الله بك، إذ انفتح رأس الجرح".

بعدها، أحضر حقنة كبيرة ج��دا، من دون إب��رة، أدخ��ل رأس��ها في قلب الج��رح وسحب القيح منه. كنت واعيا وأرى كل م�ا يحص�ل من ح�ولي. كم��ا قص ك�ل اللحم الزائ��د على الج��رح، وأخ��ذ بعض اللحم من فخ��ذي وزرع��ه في أس��فل��ة ناجح��ة. قدمي وظاهرها. واقعا، لقد أبلى الط��بيب بالء حس��نا، وك��انت عملي

وبلطف الله وعنايته، تحسنت حالي بعد يومين أو ثالثة.

ذات يوم، استيقظت وأنا أتضور من الجوع. تناولت ثالث وجب��ات من الطع��ام.ا، بالمش��ي متكئا على العص��ا، وذل��ك قال لي الط��بيب: علي��ك أن تب��دأ ت��دريجي

ليجري الدم في أسفل قدمك وتترمم أعصابها".

عندما التحم الجرح ونبت اللحم، أذن لي بالخروج من المستشفى.

أمضيت عاشوراء تلك السنة على الكرس��ي المتح��رك. وفي ظه��ر عاش��وراء، وبينا كنت في وسط مجلس الع��زاء، أحسس��ت ب��دوار في رأس��ي، وغبت عن الوعي. فنقلت من جديد إلى مستشفى "به��ار ل��و"، وبقيت في��ه أيام��ا بس��بب ض��عف جس��مي وال��دوار. ومن ك��ثرة م��ا تن��اولت األدوي��ة المض��ادة لاللتهاب��ات وحقنت بها، صرت نحيال جدا؛ تخيل أنك وضعت عودين رفيعين ف��وق بعض��هما

البعض، وسميتهما إنسانا! إلى هذه الدرجة أصبحت

Page 286: books.almaaref.orgbooks.almaaref.org/static/documents/zoqaq.doc · Web viewكلّ هذه الذكريات والأصوات، کانت لا تزال تتردّد في زوايا حنجرة

286

نحيال، فلم أع��د أس��تطيع الوق��وف على ق��دمي. لكن بالنهاي��ة، خ��رجت منالمستشفى في شهر آذار.

ذات يوم رأيت فاطمة وقد جاءت بع��دد من الف��رش وفرش��تها وس��ط الغرف��ة بشكل طولي، كما ربطت حبلين غليظين من أحد جوانب الغرف��ة إلى الج��انب

اآلخر. تعجبت وسألتها:- ماذا تفعلين؟

- تمسك بهذين الحبلين، وقف شيئا فشيئا على رجليك. ف��إن وقعت تق��ع علىالفرش، ولن يصيبك أي أذى.

منذ ذلك الحين، صرت كل يوم أتدرب على المش��ي بواس��طة ه��ذين الحبلين.وشيئا فشيئا نهضت عن الكرسي المتحرك وصرت أمشي على العكاز.

كنت في النهار أخرج من البيت متكئا على العكاز، وفي اللي��ل أقض��ي أوق��اتي��ا في المطالع��ة. وق��د ذهبت م��رتين لزي��ارة عائل��ة في الهيئة والمسجد وأحيانا ومفعم��ا الش��هيد "حس��ين محم��ودي" في ش��ارع "إي��ران"؛ ك��ان م��نزال تراثي بالحي���اة. ولكم حللت و"ناص���ر كله���ر"، و"داود ني���ازي" و"علي جمش���يدي"، و"ع��رب زاده" ض��يوفا على مائ��دة وال��دة الش��هيد؛ ام��رأة راس��خة كالجب��ل، وصبورة، حيث ذاقت لوعة فقد ابنتين من بناتها، وزوجها، وأخوين من إخوانها،��ه لوع��ة فق��د "حس��ين كانا من تجار السجاد ومن الخيرين، واألهم من ه��ذا كل محمودي" التي كسرت قلبها؛ لكن نفسها وأنفاس أمهات الش��هداء األخري��ات

كانت وما زالت مصدر البركة والرحمة في هذه البالد.

لقد حيرت ش��هادة "حس��ين محم��ودي" ش��باب المس��جد والهيئ��ة. وحتى إم��ام��ام الك��روب المسجد الشيخ "صديقي"، الخب��ير بأوج��اع الن��اس والرج��ل في أي

بكى كثيرا لفراق حسين.

Page 287: books.almaaref.orgbooks.almaaref.org/static/documents/zoqaq.doc · Web viewكلّ هذه الذكريات والأصوات، کانت لا تزال تتردّد في زوايا حنجرة

287

تذكرت شيئا من أعمال الشيخ "صديقي" الرائعة: فقد دعا أح��د ق��راء الع��زاء، وكان كبيرا في السن ويدعى الميرزا إبراهيم، ليق��رأ المج��الس الحس��ينية في المسجد بع��د الص��الة في العش��ر األوائ��ل من مح��رم الح��رام. ق��ال لي حينه��ا معظم اإلخ��وة إن ص��وته ض��عيف؛ لم ال ت��دعون قارئا ذائ��ع الص��يت ومعروف��ا. نقلت ذلك إلى الشيخ صديقي فقال: "عزيزي السيد، سأقول لك شيئا، وليكن درسا لك؛ أوال، لقد كان صوته لسنوات طوال حديث الناس، وها هو اليوم ق��د أصبح شيخا كبيرا. ثانيا، منذ أشهر وهو يس��تدين من اللح��ام والبق��ال ويع��دهما بأنه سيفيهما أموالهما في أيام محرم. اإلمام الحسين عليه السالم راض ]بهذا األم�ر[؛ ولق�د دعوت�ه ليق�رأ في العش�ر األوائ�ل من المح�رم؛ ووض�عت ]ب�دل

العشر[ أجرة ستين يوما في ظرف لندخل السرور إلى قلبه".

إلهي، أس��ألك بح��ق اإلم��ام الحس��ين علي��ه الس��الم أن تحف��ظ حرم��ة الش��يخ��ام الح��رب م��اء وج��ه الكث��يرين من دون ص��خب ��ه حف��ظ في أي "صديقي"، ألن

وضجيج.

Page 288: books.almaaref.orgbooks.almaaref.org/static/documents/zoqaq.doc · Web viewكلّ هذه الذكريات والأصوات، کانت لا تزال تتردّد في زوايا حنجرة

288

Page 289: books.almaaref.orgbooks.almaaref.org/static/documents/zoqaq.doc · Web viewكلّ هذه الذكريات والأصوات، کانت لا تزال تتردّد في زوايا حنجرة

289

جسور فوق األلغام

..ال تكسر المملحة في مكان تناولك الملح

م، مش��يت وأن��ا أع��رج إلى المس��جد ألطل��ع على1983أواس��ط ش��تاء الع��ام أحوال الرفاق وأروح عن النفس قليال. فقال أحد اإلخوة فجأة:

- نحن بصدد عمليات مهمة والقوات متأهبة.

وأضاف بعد لحظات:- لقد أوصانا إمام المسجد أن ال نخبرك باألمر.

فقلت:- لقد اعتدت على رائحة الطين والتبن وأضحى هواء المدينة سما لي.

في الحقيقة، وجدتها فرصة ألنسلخ عن المدينة والمنزل، وفكرت بم��ا أن��ني ال أس��تطيع المش��اركة في ق��وات الهج��وم والخ��ط األم��امي، فألذهب إلى خيم��ة

،1استطالع العمليات خاصة أنني رفيق لعناص��ر االس��تطالع ول���"أب��رام ه��ادي"وهناك يمكنني االضطالع بمسؤولية ومهمة ما.

سألت هذا وذاك إلى أن اهتديت إلى مقر استطالع العمليات في منطقة

1 ) ( . المترجم إبراهيم على سالم رواية بطل هو العامية، اللهجة في إبراهيم مخفف إبرام

Page 290: books.almaaref.orgbooks.almaaref.org/static/documents/zoqaq.doc · Web viewكلّ هذه الذكريات والأصوات، کانت لا تزال تتردّد في زوايا حنجرة

290

"فكة"، وقد استقبلني أبرام هادي مسؤول االستطالع بحرارة وترحاب.

ا وبطال ق��ل كان "إبراهيم" معلم��ا في وزارة التربي��ة والتعليم، رياض��يا متمرس�� نظ��يره في الح��رب. ك��ان م��درب الك��رة الط��ائرة ]ف��اليبول[ ومعلم أخالق��ه س��لك درب العرف��انيين في للكثيرين. ب��رغم أوض��اعه المالي��ة الجي��دة، إال أن الرياض��ة وبن��اء ال�ذات. فك��ان ي��ركب الحافل��ة في تنقالت��ه، وي��ذهب نه��ارا إلى السوق، فيعمل مع الحمالين في نقل البضائع ليصقل روح��ه وجس��ده، ويتغلب على الغرور والكبرياء. كان "إبراهيم" أيضا، ضليعا في االستطالع وجمع حول��ه

فريقا من نخبة العناصر.

أثناء مرحلة تحضر القوات للعمليات، زرت ضفة النه��ر ال��ذي تع��رض للقص��ف قبيل عمليات مسلم وجرحت في��ه. كنت آم��ل أن أج��د حص الي��اقوت للخ��اتم. خيم صمت مطبق على المكان وقد هبت عليه الرياح فتماثل مشهد استش��هاد "حسين" أمامي ثاني��ة. مهم��ا بحثت في ال��تراب وبين األعش��اب والنبات��ات لم أجده، فعدت إلى المخيم خالي الوفاض. طبعا إن األمل بإيجاد جوهرة صغيرة

في هذا المكان وبعد هذه المدة من الزمن ألمر مبالغ فيه.

في أحد األيام جاء "محمد تيموري" من عناصر استطالع فرقة "سيد الش��هداء��ة ش��ميران10 " إلى خيمتنا، وكنا رفيقين مقربين جدا. محم��د من أه��الي محل

المرفهة ووالده صاحب مصنع، ورجل ثري معطاء.

��ه للمق��اتلين، وم��ا1عرف محمد بين الرفاق ب�"محمد جماراني" ، لس��خائه وحب زال كذلك إلى اآلن. ظل كلما سنحت له الفرصة يدعو الشباب لتناول الدجاج

المحمر والكباب مع األرز في منطقة "انديشمك"، يمازحهم

1 ( ) ( . ) المعطاء ) جمراني المرفهة شميراني بدل طهران في سره قدس الخميني اإلمام مقر جمران إلى نسبة) المترجم(. ) والتواضع

Page 291: books.almaaref.orgbooks.almaaref.org/static/documents/zoqaq.doc · Web viewكلّ هذه الذكريات والأصوات، کانت لا تزال تتردّد في زوايا حنجرة

291

ويتودد إليهم، ويشاكسني دائما بقوله: - أنتم حفن�ة من الج�وعى من جن�وب المدين��ة، جئتم إلى الجبه�ة ألج�ل تن�اول

أل��ف50مرق اللحم، بينما أمثالي! عندما يأتون يكون بحوزتهم ما ال يق��ل عن تومان. أنا أملك سيارة "مارس��يدس ب�نز" بينم��ا أعظمكم ش��أنا ال يمل��ك ح�تى

.paykan1سيارة "بيكان"

كان محمد طاهر القلب، يقول ذلك فقط بهدف إضحاك الرفاق ومشاكستهم. فالضحك في تلك األيام القاسية أمسى نعمة حقا تهون علينا مش��اق الح��رب، خاصة الشبان الذين فقدوا كل أنواع المسرات قد أص��يبوا ب��الحزن واالكتئ��اب

أحيانا.��ا في لعب ك��رة الق��دم كنا نصلي جماعة وندعو ونتوسل ساعة، ثم نقضي وقت الخماسية ]مي��ني فوتب��ول[، ولم نكن نقض��ي ك��ل أوقاتن��ا في ال��دعاء والبك��اء

فقط!

في الليل عندما يذهب فريق االستطالع للتعرف إلى المنطقة أو فتح المع��ابر، نتحلق ونتبادل األحاديث، وإذا حضر السيد محمد بينن��ا، أطل��ق بعض ال��دعابات إلضحاكنا. حتى إنه ابتدع حديثا من تأليف��ه ي��ردده أينم�ا ح�ل ويق�ول: الش��هداء "الشمرون" ]نسبة إلى منطقة شمران[ أفضل من شهداء "الطهرون" ]نسبة

إلى طهران[! ثم يقول أجري وأجركم ليس واحدا عند الله، ذل��ك أن��ني من أبن��اء "ش��مران"��ف من األح��اديث واآلي��ات، اعتق��د الرف��اق وأنتم من أبناء طهران. لكثرة ما أل الناطقون باللغة التركية واللهج��ة اليزدي��ة أن��ه رج��ل دين حق��ا، وك��انوا يحبون��ه

ويتوددون إليه.

أن 1 كما مارسيدس، سيارة مع مقارنة الثمن زهيدة بيكان سيارة كان 50كانت الزمن ذلك في تومان ألف) ( . المترجم جدا كبيرا مبلغا

Page 292: books.almaaref.orgbooks.almaaref.org/static/documents/zoqaq.doc · Web viewكلّ هذه الذكريات والأصوات، کانت لا تزال تتردّد في زوايا حنجرة

292

تقرر في أحد األيام أن نصلي جماع��ة بإمام��ة الس��يد محم�د. وقفن��ا في ص��ف الصالة داخل الخيم��ة، وكي ال يح��رج ل��ف محم��د مالءة بيض��اء بش��كل عمام��ة

ووضعها على رأسه، وتقدم المصلين ثم قال: - هناك مسألة شرعية... واسمحوا لي أن أقولها باللغ�ة الفارس��ية كي يفهمه�ا الجميع. هناك رواية تقول: "من داوم على أك��ل الرم��ان، حب��ة في الي��وم وزن

يوما، فاز بقصر النور والزمرد الكائن في الجنة".20كيلو غرام واحد ولمدة

صدق اليزديون ]أهل يزد[ المؤمنون الطيبون، مقالته تل��ك وفي الي��وم الت��الي ص��ناديق من الرم��ان وزن الحب��ة4أحضر مسؤول التموين للقوات "اليزدي��ة"

منها كيلوغراما تقريبا.

كان محمد يوصيهم دائما ونقال عن بعض العلم��اء أن��ه يجب أن ال تس��قط حب��ة رمان واحدة على األرض. فكانوا يضحكون كثيرا من أقواله وأفعاله ويقول��ون:

"يا له من إنسان رائع!".

في بعض األيام، ازداد ش��غب الس��يد محم��د كث��يرا. ف��راح يل��ون كفي��ه ب��اللون ، وعن��دما يق��ترب الغ��ريم من��ه1األس��ود ويش��ارك في لعب��ة "ع��الي وط وط"

لإلمساك، يلوث له وجهه باللون األسود فيضحك الرفاق.

، ج��رت عملي��ات "والفج��ر التمهيدي��ة" في1983أوائل شهر ش��باط من ع��ام منطقة "فكة" الرملية، وكان للمعارك في منطقة رملي��ة مص��اعبها ومش��اكلها الخاص��ة، هن��اك عجزن��ا عن الحرك��ة خط��وة واح��دة. فك��ل ش��يء يغ��وص في الرم��ال؛ من س��يارة اإلس��عاف إلى ناقل��ة الجن��د وغيره��ا. وكي تتمكن س��يارة

اإلسعاف من نقل المصابين، بسط اإلخوة شباكا كبيرة مصنوعة من

1 . المشارك لكن بهم اإلمساك محاوال محددة مساحة في المشاركين بمالحقة أحدهم يقوم تقليدية لعبة) ( . المترجم مرتفع مكان على وثب إن منه اإلفالت يستطيع

Page 293: books.almaaref.orgbooks.almaaref.org/static/documents/zoqaq.doc · Web viewكلّ هذه الذكريات والأصوات، کانت لا تزال تتردّد في زوايا حنجرة

293

األسالك المعدني��ة على الرم��ال. حقيق��ة، ش��كلت الرم��ال عوائ��ق أص��عب من عوائق الجيش العراقي نفسه، ما صعب مهمة قواتنا وجعل من هذه العمليات

مجرد ترويج إعالمي وعرض للعضالت أمام القوات العراقية.

خالل العمليات، ركبت دراجتي قاصدا الخط األم��امي، لكنه��ا علقت في رم��ال أحد الكثبان. عانيت األمرين بقدمي العرجاء تلك حتى اس��تطعت تخليص��ها من الرمال والعودة به��ا إلى خيم��ة االس��تطالع. بع��د ع��دة أي��ام علمت أن "أص��غر

أرسنجاني" قد جرح.

عندما التحقت بفريق "أبرام هادي"، كانت أعداد أصحاب الفتوة "والعنتريات" قد تن��امت بين أف��راد الفرق��ة، ولم يل��تزموا ب��النظم واالنض��باط. فق��د تع��ددت مش��اربهم وطب��اعهم، واختلفت أخالقهم، واآلن ت��وجب تنظيمهم والس��ير بهم

على الصراط المستقيم.

��ا مس��نن ال�رأس وقبع�ة حيث ��ا وخف��ا حريري كان بعضهم يرت��دي س��رواال كردي��ة عرف مرتدوها آنذاك ب�"إلهي قلبي محجوب"، وآخرون يحملون مناديل يزدي ويرخون لحاهم ليتصفوا بالهيبة، أو يخالفون النظام ويعملون على ه��واهم في الفرقة وأكثرهم من أبناء مدينة طهران. وحاول الشبان الي��افعون منهم تقلي��د مشي وسلوك "قبضايات" وفتوات األيام الغ�ابرة، فلم يض��عوا حاف��ظ األحذي��ة

Bootالعسكرية ] Guard]1ولم يشاركوا في المراسم الصباحية بانتظ��ام، أو لم يرت��دوا ال��زي العس��كري "الك��اكي" الل��ون بانتظ��ام، وه��ذا م��ا ال يتناس��ب

والحرب الكالسيكية ويسبب الفوضى العارمة.

، وإذا ما قهقهت2عدد آخر من المقاتلين لقبوا "بالكبسون" ]الكبشة[

1 - ويسمى التلف من لحفظه البوتين العسكري الحذاء ساق على يلف الجلد أو السميك القماش من نوع(getrبالفرنسية ( . المترجم كتر والفارسية

2 ) ( . المترجم صدورهم من جزء أي يظهر ال كي قمصانهم باقة تحت كبشة يضيفون كانوا ألنهم

Page 294: books.almaaref.orgbooks.almaaref.org/static/documents/zoqaq.doc · Web viewكلّ هذه الذكريات والأصوات، کانت لا تزال تتردّد في زوايا حنجرة

294

ون على ش��فاههم ويس��تغفرون الل��ه أمامهم تحمر وجوههم من الغيظ، ويعض�� ففي رأيهم الض��حك والم��زاح والم��رح من الكب��ائر. وآخ��رون ال هم لهم س��وى الحرب والقتال، ال اللباس وال الطعام، وال اختيار الخيمة من أولوياتهم، ناهي��ك

عن الفتوات والبطوالت.

لكن الحاج "همت" ابتغى التأقلم مع جميع هؤالء األصناف والتقرب منهم، فقد كان قائدا لفرقة طهرانية، وهو قائد مثقف ومحنك أراد التع��رف إلى خص��ائص ومم��يزات جمي��ع العناص��ر ليتمكن من خل��ق االنس��جام والوح��دة في ص��فوف

قواته، وبالتالي قيادتهم لتحقيق األهداف المنشودة.

دعاني الحاج "همت" في أحد األيام، فذهبت إليه برفقة "إبرام" قائد "فتوات" الجبهة. كان الحاج ينتظرنا في مق��ر الفرق��ة، وبع�د التحي��ة والس��الم ق��ال لي: "أريد أن أتعلم منك بعض األمور. كل شخص متفوق وم��اهر في مج��ال معين، هي��ا أخ��برني م��ا هي حكاي��ات "الفت��وات" و"القبض��ايات" وم��ا هي مع��اييركم

ومفاخركم؟".

كالعادة، كنت متأهبا لإلجابة وأخبرته الحكاية والوقائع كما هي: "كان في طهران رجل اشتهر بالبطوالت والفتوة اس��مه "مص��طفى بادك��ان"، وألنه كان يحب أهل البيت عليهم السالم بجنون، لقب ب�"مصطفى المجن�ون". لكن مصطفى هذا ك��ان يعاش��ر في ش��بابه جماع��ة من "الفت��وات" وي��رافقهم للس��هر والله��و لي��الي الجمع��ة إلى حديق��ة "الخال��ة" في "ف��رح زاد" ش��مالي "طهران". في المقاب��ل ك��ان هن��اك رج��ل دين فري��د من نوع��ه اس��مه الس��يد مهدي قوام، وال مثيل أو ند له في ذلك الزمن غير السيد "طباطب��ائي" المقيم في شارع غياثي. في إحدى الليالي ذهب السيد مه��دي إلى حديق��ة "الخال��ة". وعندما رأى تالمذة السيد "مصطفى"، طلب��وا من��ه أن يحس��ن التص��رف ه��ذه الليلة"، فتقدم أحد الرفاق وسأل: "هل من أخب��ار الليل��ة؟" م��ا إن أخ��بروه أن

السيد قوام جاء

Page 295: books.almaaref.orgbooks.almaaref.org/static/documents/zoqaq.doc · Web viewكلّ هذه الذكريات والأصوات، کانت لا تزال تتردّد في زوايا حنجرة

295

إلى هنا، حتى نهض مصطفى من مكانه وذهب إليه فقبل جبينه وقال له:- أنا خادم للسادة.

فقال السيد قوام:- أريد أن أصبح فردا من مجموعتكم فأخبرني عن قوانينكم.

.1- في قانوننا أن "ال نكسر المملحة في المكان الذي نتناول فيه الملح" - حسنا، هذا القانون موجود في عرفنا أيضا، لكن هل تنفذون هذا الق��انون أم

هو كالم فحسب؟

سكت مصطفى فتابع السيد مهدي:- أنتم الذين تناولتم من ملح رب العالمين، لماذا تكسرون المملحة؟

ا على عقب، قيل إن كالم الس��يد ه��ذا ق��د قلب ح��ال وأح��وال مص��طفى رأس��قى، وق��د أنش��أ في حي "باتش��نار" هيئ��ة "محبي فت��اب وأص��بح من أه��ل الت الزهراء عليها السالم" وما زالت ذكرى لمصطفى "مجنون أه��ل ال��بيت عليهم

ش��هيدا للث��ورة50السالم". ال بد من التذكير أن هذه الهيئ��ة ق��دمت أك��ثر من اإلس��المية منهم القائ��د "عب��اس فرامي��ني". وه��اك ق��انون البطول��ة والفت��وة:

"حفظ حريم الخبز والملح..".

كنت أتكلم من دون أي مقاطع��ة من الح��اج "همت" وه��و يص��غي لك��ل كلم��ة أقولها، ويدون بعض األمور في دفتره، كما أخبرت��ه الكث��ير عن س��لوك وأخالق

"فتوات" الفرقة.

لقد تمتع الحاج "همت" بروح سامية فلم يظهر أي رد فعل أو اع��تراض، ح��تى لو أنه في قرارة نفس��ه لم يعجب��ه كالمي، لكن��ه لم يكش��ف ذل��ك ب��ل تص��رف

بكثير من التواضع والهدوء. أقبل يديه ألنه قائد متواضع

1 ) ( . المترجم والوفاء العهد حفظ عن كناية

Page 296: books.almaaref.orgbooks.almaaref.org/static/documents/zoqaq.doc · Web viewكلّ هذه الذكريات والأصوات، کانت لا تزال تتردّد في زوايا حنجرة

296

لم يشعرنا أبدا أنه قائد فيأمر وينهي لمجرد أنه قائد.ا كان يقوم بواجبه فحسب، ويسعى إلقرار النظم واالنسجام في فرقته، وأيض����ة واح��دة وألج��ل لجمع المقاتلين مهما تع��ددت مش��اربهم وأخالقهم تحت مظل هدف واحد أال وهو القتال والدفاع، وكم ك��ان موفق��ا في مس��اعيه. من��ذ ذل��ك

.1اليوم، كان كلما رآني ضحك وقال: "إنها لغنيمة أن أرى جمالك"

لكن عندما يلتقي بأصحاب "الكبشة" يحييهم بهدوء وأدب قائال:- السالم عليكم ورحمة الله.

بع��د ذل��ك، وقعت ح��وادث أخ��رى، فك��انت عملي��ات "والفج��ر التمهيدي��ة" وعمليات"الفجر األولى"، حيث قدمت فرقتا الطهرانيون العدي��د من الش��هداء والجرحى، واعتبر ذلك ضربة قاسية لقيادتيهما. كم أدمى قلوبن��ا نب��أ استش��هاد "إبرام هادي" قائد وحدة استطالع العمليات، وبدا وكأن اليأس ق��د س��رى إلى قلوب المقاتلين ما صعب أمر القيام بعمليات أخرى، وربما كان لبعض الق��ادة

ما يقال في هذا المجال.

لقد شهدنا حجم الخسائر التي منينا بها في عدد من العمليات السابقة، وكيف علق عدد من أبطالنا في صحاري العراق الحارقة. وأضحى هم المق��اتلين في

تلك الحقبة من الحرب هو التخفيف من الخسائر.

وسمعنا رسالة الشهداء من أف��واه كب��ار الح��رب أمث��ال: "علي موح��د، ك��اظم رستكار، أصغر رنج��بران، منص��ور كوتش��ك محس��ني، س��عيد قاس��مي، محم��د جوان بخت، حسين الله كرم، حسين اسكندر لو، مجيد زاد بود" وغيرهم. فقد اس��تعرت تل��ك الن��يران في أرواح المق��اتلين، لكن بعض��هم لم يج��د الج��رأة

لإلفصاح عنها. وأدى هذا األمر لتوقف العمليات العسكرية مدة

1 ) (. المترجم يلقاهم عندما تحيتهم في والفتوات القبضايات لغة يستخدم كان أنه أي

Page 297: books.almaaref.orgbooks.almaaref.org/static/documents/zoqaq.doc · Web viewكلّ هذه الذكريات والأصوات، کانت لا تزال تتردّد في زوايا حنجرة

297

أشهر، بل وللتراخي في القيام أو الحديث عن عملي��ات جدي��دة. ص��حيح أن3 الحرب والمعارك ك��انت الش��غل الش��اغل في تل��ك األي��ام، لكن الق��ادة األك�ثر انزعاجا وقلقا من العناصر، اجتمعوا في طهران يتبادلون التجارب، ويفصحون عن مكنونات قلوبهم ويناقشون سبل حل مشكالت الخط األم��امي في س��بيل

تسجيل انتصارات أكبر.

تقرر وبقيادة قدامى المحاربين، تقديم اع�تراض على أس�لوب الح��رب "اللحم الحي بمواجهة الدبابة"، وألنه ينبغي أن يتصدى أحدهم للمهمة فقد وقع الخيار على حامل لواء الضحايا، السيد "حسن بهمني"، كي يحمل هذا الطراز الجديد من الفكر الذي هو وليد كالم وآراء القادة، لمسؤولي الدولة. حقيق��ة، ال يوج��د من هو أفض��ل من "حس��ن بهم��ني"، ال��ذي وعى حساس��ية الموق��ف في تل��ك الحقبة من تاريخ الحرب ألداء هذا الدور. لقد كان مفكرا عالما بفن��ون القت��ال والحرب وسعى لتقديم نم��اذج وأس��اليب جدي��دة في القت��ال. أراد للح��رب أن تك��ون تحت مظل��ة العقائ��د والفك��ر، وأن تج��ري في ظ��ل الق��راءة التحليلي��ة

والتخطيط المبرمج.

في تلك السنوات، اندفع كثيرون وضحوا بأرواحهم في حقول األلغام وساحاتالوغى، وقدموا االنتصارات، لكن "حسن" كان مفكرا وهذا أمر ال يستهان به.

عاما من عمري، درسنا معا في مدرس��ة "جمش��يد"، ه�و20كان حسن رفيق في الصف الرابع، وأنا في الصف األول. نشأنا معا ولعبنا في ذات الحي، لكنه كان متفوقا في كل شيء. حسن، هو االبن األكبر لعائل��ة ثري��ة ومؤمن��ة تتمت��ع

بذكاء رباني وقد حصلوا جميعهم على مراتب علمية عالية.

بع��د أن حص��ل على ش��هادة الثانوي��ة العام��ة، تم قبول��ه في ج��امعتين، جامع��ةشركة النفط وجامعة الحقوق والقضاء، لكنه لم يلتحق بالجامعة

Page 298: books.almaaref.orgbooks.almaaref.org/static/documents/zoqaq.doc · Web viewكلّ هذه الذكريات والأصوات، کانت لا تزال تتردّد في زوايا حنجرة

298

وفضل البقاء إلى جانب والده يعين��ه في إدارة معه��د تعليم قي��ادة الس��يارات. ربما شعر أنه ليس بحاجة للذهاب إلى الجامعة، فهو ك��ان من المث��ابرين على المطالع��ة ويمل��ك كم��ا من المعلوم��ات. وفي ال��زمن ال��ذي انغمس��ت في��ه

والتردد على هيئ��ات ومج�الس الع�زاء وتكي�ات1بممارسة رياضة ال�"زورخانه" ، ويحفظ أشعار2العبادة، كان هو يقرأ أشعار "مثنوي معنوي وكلستان سعدي"

"حافظ"، هذا إلى جانب إيمانه واعتقاده الديني العميق. لكن��ه أب��دا لم يتف��اخرأو يدعي بأنه أكثر إيمانا من اآلخرين.

كان حسن، شابا مليح الوجه ذا جسم رياضي قوي، حسن الهن��دام يهتم ببنيت��ه الجسمية إلى جانب بنائه الروحي. أذكر أنه منذ حداثة سنه، كان يختار مالبسه بعناية، وينسق ما بين القميص والسروال والحذاء، واعتبره نموذجا يحتذى ب��ه بين شبان الحي من حيث الهندام. م��ع بداي��ة الث�ورة، لم�ع نجم�ه وش��ارك في أعمالها مع اآلالف من الشباب اإليراني وساهموا في انتص��ارها. كم��ا ك��ان من المؤسسين واألعضاء الرئيسيين في الحرس الثوري وكنت أنزع إلى أن أك��ونا في أعم��الي، وفي حين لم أكن مهتم��ا بوج��ودي أو عدم��ه في الح��رس ح��ر

الثوري، كان هو يعتقد أن تشكيل الحرس ضرورة ال غنى عنها لحفظ الثورة.

أذكر في الوقت الذي نبذ فيه الناس والمجتمع أولئك المدمنين والفقراء، ك��انحسن يمدهم بالمال ويقول: "هؤالء مرضى ويجب معالجتهم".

ضمه إليه، قبله بمحبة وعطف ووضع الم��ال في3كان كلما التقى "مش قادر"جيبه. عبرت تصرفاته تلك عن أخالقه الدمثة وإنسانيته. وأعماله

1 ) ( . المترجم إيران في التقليدية والمصارعة القوى ألعاب رياضة2 ) (. المترجم الشعرية دواوينه من اثنان معنوي ومثنوي وكلستان المعروفين القدامى الشعراء من سعدي3 ) ( ) المترجم ) المقدسة مشهد زار من أي مشهدي مخفف مش

Page 299: books.almaaref.orgbooks.almaaref.org/static/documents/zoqaq.doc · Web viewكلّ هذه الذكريات والأصوات، کانت لا تزال تتردّد في زوايا حنجرة

299

لم تخطر على بال أي شاب في مثل سنه.

لكن لحسن أفكاره الخاصة حول الحرب، باعتقاده يمكن مع هذا العدد الكب��يرمن التعبويين وعناصر الحرس الثوري تحقيق اإلنجازات بخسائر أقل.

فكر المقاتلون الفاقدون لزمالئهم، والقادة المصابون بالخسائر وال��ذين تلق��وا��ا بكالم حس��ن. وفي ص��باح الضربات القاسية خاصة في فرق��تي طه��ران، ملي أحد األيام وبتنس��يق مس��بق، اجتمعن��ا م��ع ب��اقي المق��اتلين في مق��ر الح��رس

"، لنس��مع الق��ادة رأين��ا وطبع��ا10الكائن في ثكنة "ولي عصر" في "المنطقة بواسطة حسن، وقد انتدب الحرس الث��وري الس��يد "محس��ن رض��ائي" ليجيب

عن جميع تساؤالتنا.

تقرر االجتماع في الباحة بحضور الجميع كي ال يبقى أي مجال لإلبهام.

حضر االجتماع ك��اظم نجفي رس��تكار، ص��ديق وزمي��ل حس��ن بهم��ني، منص��ور كوتشك محسني، سعيد قاسمي وحسين الله كرم، وهم من قدامى المقاتلين والمش��رفين على العم��ل، كم��ا حض��ر عالم��ا دين ي��دركان م��رامي الش��باب المقاتلين ويمتلكان الجرأة على الكالم. عندما وصل محسن رضائي، وقبل أن يتفوه حسن بأي كلمة، سأل محسن رضائي: ه��ل تش��ك بوج��ود مندس��ين بين

هذا الجمع من المقاتلين؟

أجاب حسن: أجل

قال محسن: لدي كالم ال أستطيع التفوه به أمام هذا الجمع، لذا اختاروا ع��ددامن المندوبين وتعالوا إلى الطابق العلوي.

وافق حسن وصعد إلى الطابق العلوي برفقة "كاظم رستكار، سعيد كاظمي،عباس نجف آبادي، منصور كوتشك محسني، وحسين الله كرم".

Page 300: books.almaaref.orgbooks.almaaref.org/static/documents/zoqaq.doc · Web viewكلّ هذه الذكريات والأصوات، کانت لا تزال تتردّد في زوايا حنجرة

300

وفي المقابل كان "محسن رضائي" إضافة إلى "محمد كوثرى وأكبر نوجوان" مسؤولي تخطي��ط العملي��ات، وهم��ا ن��اظران وس��طيان غ��ير منح��ازين إلى أي

طرف.

س��اعات3انتظرنا نتيجة االجتماع في باحة الثكنة وفي مطعمها، وبعد ح��والي صباحا.10خرج السادة وقالوا إن النتيجة ستعلن غدا الساعة

خالصة االجتم��اع أن "محس��ن رض��ائي" ك��ان يق��ول: "يجب عليكم أن تطيع��وا أوامرنا"، أما مندوبونا فأوضحوا أن: "على القائد أن يعاين المنطقة ويق��رر إذا

ما كانت مناسبة للعمليات أم ال".

كان كالم مندوبينا سليما، لكن "محسن رضائي" قال لهم: "لنذهب صباحا إلىاإلمام، واطلبوا منه أن يعين شخصا آخر غيري. فاإلمام قد اختارني أنا".

قال حسن: لم نأت لنعزلك من منص��بك، لكنن��ا غ��ير راض��ين عن أس��لوبك في الحرب، حرب اللحم الحي مقابل الدباب��ة، ونري��د إيج��اد ح��ل لتالفي ك��ل ه��ذه الخسائر. نحن نتساءل لم ال يوجد نظم ودقة في التخطي��ط؟ ولم منعن��ا دوم��ا من الكالم وإبداء الرأي؟ فنحن ال نقاتل ألجل أمالك آبائنا وميراثنا. وم��ا نقول��ه

سنوات من الحرب".4هو عصارة تجارب

قيل هذا الكالم وتقرر التجمع في الغد أو بعد غد في ثكنة "ولي العصر" ليأتيمندوب اإلمام ويطلعنا على األوامر.

حمل مندوب اإلمام رسالة ال أذكر تفاصيلها بدقة، لكن فحواها قول اإلم��ام: " إما أن يكون عدد من السادة مضللين، وإما أن يكون كالمهم من باب الشفقة والتعاطف، وأعتقد أن��ه االحتم�ال الث��اني. وأن�ا بص��فتي القائ��د األعلى للق�وات

المسلحة آمر السادة بإطاعة القائد حتى لو كان على خطأ".

بعد قراءة رسالة اإلمام، سرت همهمة بين المقاتلين، وحدث شرخ

Page 301: books.almaaref.orgbooks.almaaref.org/static/documents/zoqaq.doc · Web viewكلّ هذه الذكريات والأصوات، کانت لا تزال تتردّد في زوايا حنجرة

301

بينهم. كان حسن مرشد وممثل القوات ويجب سماع رأي��ه ب��األمر، لكن ع��ددا من المجموعات انفصلوا عنا وذهبوا في طريقهم، ورافق الب��اقون حس��ن إلى

أمام "زورخانه" ثكنة "ولي عصر".

جميعنا انتظرنا ما سيقوله حسن، هل نبقى أم نرحل. كنا على مف��ترق ط��رق، فمن جانب أمر اإلمام، ومن جانب آخر الخوف من كسر شوكتنا وكبريائنا. كنا

في وضع ال يحسد عليه.

قال "أصغر رنجبران": "هيا تجالد وقل ما عندك".

بقي حسن صامتا للحظة ثم قال: - لقد قلت لهم ما عندي وأسمعتهم اعتراضي. لكنني تابع وموال لإلمام. ح��تى لو طلب مني اإلمام تقبيل يد "صدام" فسأفعل. غدا سأعود إلى الجبهة. ف��إذا لم نح���ارب س���نعرض البالد للتهكم. م���ا أردت���ه ه���و الحص���ول على "العنب

مع��ا! واآلن إذا حص��لنا على العنب فسنخس��ر الن��اطور، وإذا م��ا1والن��اطور"*�دنا خس�ائر فادح�ة. ل�و أنهم طبق�وا أعطانا "صدام" شيئا فبالتأكيد بع�د أن يكب

الخطة التي قدمتها لهم لكنا رفعنا علم إيران في بغداد..".

قبل كثيرون كالم حسن وآخرون انفصلوا عن��ه. في الحقيق��ة، كنت من ال��ذينانفصلوا وأفلت عائدا إلى المنزل بعد أن ودعت الرفاق.

في األي�ام ال�تي قض��يتها في طه�ران، ح�دث معي ح�ادث طري��ف. في إح�دى الليالي ذهبت مع "فاطمة" و"سعيد" لزيارة أهلها، وعند عودتنا رأيت ازدحام��ا وضوضاء بالقرب من ساحة "ب��يروزي" أم��ام معم��ل "مكعب��ات الس��كر" حيث

تجمهر عدد من األشخاص.

انتابني الفضول فقد اعتقدت بداية أنه حادث اصطدام، لذا ركنت

1 ) نسترد ) مسار في نذهب واآلن ، والمكان الزمان نربح والزمان األرض الستعادة سبيل عن البحث أردت. الوقت ونخسر األرض

Page 302: books.almaaref.orgbooks.almaaref.org/static/documents/zoqaq.doc · Web viewكلّ هذه الذكريات والأصوات، کانت لا تزال تتردّد في زوايا حنجرة

302

��ا واق��تربت من الحش��د، رآني ع��دد من أه��الي محل��ة دراج��تي الناري��ة جانب"بيروزي" وكنت أتمتع ببعض الهيبة حينها، فشقوا لي طريقا وسط الجموع.

رأيت سيارة ع�روس متوقف�ة وق�د أمس�ك أح�دهم ب��"ربط�ة عن�ق" الع�ريس يسحبه للخارج، فخافت الع��روس وب��دأت بالبك��اء. وتح��ول الع��رس إلى حفل��ة

صياح ونواح! ما إن رآني الرجل حتى ترك ما بيده وتراجع.

تقدمت من الع��ريس ورافقت��ه إلى س��يارته، ثم ض��ممته إلي وقلت ل��ه: "إنهمجهلة، أنا في خدمتك، لقد أخطأوا التصرف..".

فقال بانزعاج: "لقد أهانني ألنني أضع ربطة عنق".

قبلت��ه وأدخلت��ه س��يارته، كم��ا ج��اءت "فاطم��ة" وقبلت الع��روس وه��دأت منروعها، ثم ودعناهما وانطلقا.

التفت نح��و الرج��ل وقلت ل��ه: إن كنت رجال فتع��ال غ��دا إلى الخ��ط األم��امي للجبه��ة، فه��ذان العريس��ان لن ينس��يا ص��نيعك إلى ي��وم القيام��ة وس��يكرهان التعبوي جيال بعد جيل. لم فعلت ذلك؟ ومتى أصبحت وكيال عن اإلمام الصادق

عليه السالم؟

لم يتفوه الرجل بأي كلمة بل التف على عقبيه وانصرف.

عندما ركبت دراجتي وانطلقت، قلت لفاطمة: "األمر بالمعروف جيد، لكن..".

��ا من العي��وب ا خالي قاطعتني وقالت: "جيد، لكن شرط أن يكون الش��خص تقيوالذنوب".

عندها أدركت لم كانت تتهرب كلما قلت له��ا أن ترش��د النس��وة عن��دما تك��ونبينهن، إذ كانت تقول لي:

-ومن أكون ألرشد الناس، علي أن أبدأ بنفسي أوال..

Page 303: books.almaaref.orgbooks.almaaref.org/static/documents/zoqaq.doc · Web viewكلّ هذه الذكريات والأصوات، کانت لا تزال تتردّد في زوايا حنجرة

303

في تل��ك الحقب��ة علمت ع��بر الس��يد "محم��د كش��في"، ص��ديقي وزميلي في الح��رس الث��وري، أن المتم��ردين أع��داء الث��ورة في "كردس��تان" ق��د ق��ويت ش��وكتهم وراح��وا يتواط��ؤون ويت��آمرون على الث��ورة، واض��طر ع��دد من أبن��اء ومؤسسي الحرس للذهاب إلى منطقة "سقز" تحت غطاء االستطالع والقيام باألنشطة المتنوعة، بينما الهدف القض��اء على التم��رد. قض��ت الخط��ة القي��ام بنوع من حرب العصابات على تلك الجماعات، وهكذا ت��ولى "محس��ن ش��فق"��ا ل��ه، بينم��ا ت��ولى قيادة الحرس الثوري لمدينة "سقز"، و"حسين خالقي" نائب السيد "محمد كشفي" مس��ؤولية الت��دريب للعملي��ات، وأص��بحت أن��ا مس��ؤول التربية البدنية لمدينة "سقز". كما اقترحت أن يرافقنا الحاج "قاسم" في هذه

المرحلة.

لذا، ذهبت إلى منزل الحاج قاسم بمفردي كي أقنع��ه بمرافقتن��ا إلى "س��قز". كان والده غاضبا ومنزعجا كثيرا، وكالني أنا والحرب ما اس��تطاع من الس��باب والشتائم. كان يرغب دوما في بقاء ابنه قرب عائلته. رغم أن��ني علمت س��بب غضبه وشتائمه، إال أنني انزعجت وأردت ال��رد علي��ه، لكن عن��دما رأيت الح��اج

قاسم صامتا مطرقا برأسه، عدلت عن الرد وسكت.

عندما خرجنا من المنزل سألت الحاج قاسم:- لماذا لم تقل شيئا ألبيك؟

عاما وهو يقرع��ني وأن��ا20- ال يتوقف األمر على كالمه اليوم، فهذا دأبه، منذ ال��ذي تحم��ل1ال أرد عليه. عندما أنزعج من كالمه أت��ذكر المرش��د "تش��لوئي"وعانى األمرين، لكنه لم ينبس ببنت شفة، ولو أنه رد على كل

1 - العرفانيين بساعي والملقب جلويى تشلوئي المرشد بالحاج المعروف نهاوندي عابد أحمد ميرزا الحاج . ديوانه بطباعة يسمح لم الشعر بلغة الناس بين ويحاضر طهران سوق في مطبخا يملك كان المعاصرين،

. ) المحترق ) أي مرات عدة سوخته بديوان عرف الذي ديوانه طبع وفاته وبعد مطبخه، مع احترق الذي الشعري) المترجم)

Page 304: books.almaaref.orgbooks.almaaref.org/static/documents/zoqaq.doc · Web viewكلّ هذه الذكريات والأصوات، کانت لا تزال تتردّد في زوايا حنجرة

304

كالم أو أذية لما عرف بالمرشد. ال يحق لي ال��رد على وال��دي أو رف��ع ص��وتيفي حضوره.

-لكنه نطق بما يخالف الصواب!رف بم�ا تقتض�يه الظ�روف - حتى لو فعل ذلك، فه�و وال�دي. كم�ا علين�ا التص�� واألشخاص، فأحيانا علينا الصراخ وأحيانا أخرى السكوت ح��تى ول��و ك��ان على

حساب حفظ ماء الوجه.

بالطبع لم أملك ما يقال أو أعلق به على كالمه!

قز". انطلقن��ا في النهاية، وبعد أخذ ورد تمكنت من إقناع��ه بمرافقتن��ا إلى "س��إليها في صباح أحد األيام برفقة السيد قاسم مشهدي باقر.

توقفنا بالقرب من "ديوان دره"، لتناول طعام الغ�داء، وق��دم لن��ا المطعم أرزا قد تعجن في الطهي إلى جانب حساء قد طهي إلى أن جف المرق فيه. مهما حاولن��ا لم نس��تطع تناول��ه. فطن ص��احب المطعم إلى حالن��ا فق��ال لن��ا: "أيه��ا

السادة، تناولوا هذا الطعام ألن رميه يعد إسرافا".

أجابه الحاج قاسم: "ألهذا الطعام تقول إس��راف! إنم��ا اإلس��راف إن تناولن��اه،ألن معدتنا غير قادرة على هضمه".

وأضفت أنا: "بعد أن جرحت لم يعد بإمكاني تناول طعام متعجن، فألم معدتيسيقضي علي ال محالة".

خرجنا من هناك وذهبنا إلى مطعم ومشاوي "سنتز" الذي ق��دم لحم��ا مش��ويا)كباب( لذيذ الطعم والمذاق.

قز" واس��تقررنا في مب��نى ك��ان لل���"س��افاك" قبي��ل الغ��روب، وص��لنا إلى "س�� سابقا، وقد استقرت القوات في القاع��ة الرياض��ية، وت��ولى "حس��ين خ��القي"

مهمة توزيع األعمال والمهام.

ليال، كانت تجري مباراة في الكرة الطائرة بين عناصر مركز قيادة الحرس

Page 305: books.almaaref.orgbooks.almaaref.org/static/documents/zoqaq.doc · Web viewكلّ هذه الذكريات والأصوات، کانت لا تزال تتردّد في زوايا حنجرة

305

�ا كن��ا نجلس الثوري في "سقز" وعناصر التدريب، فيسود الهرج والمرج. أحيان إلى مائدة واحدة، ونقيم صالة الجماعة ومجالس العزاء الحسيني مع��ا. وعلى��ا بين الحين واآلخ��ر نلعب لعب��ة "ترن��ا" الرغم من عدم رضى بعض األفراد، كن ]الملك والوزير والحرامي[ وهي لعبة تقليدية وقديمة تناقلتها األجيال جيال بع�د

جيل.

اللعبة عبارة عن اختيار شخص ما، يج��ري القرع��ة بواس��طة عي��دان الك��بريتا المج��رم ال��ذي يع��اقب! إم��ا ليختار الملك والوزير الذي ينف��ذ أحكام��ه، وأيض�� بالجلد بواسطة قماشة ملفوفة على شكل حبل طوي��ل، أو يطلب من��ه ق��راءة أشعار في مدح آل البيت عليهم السالم. أحيانا ومن أج��ل التس��لية يحكم على المجرم بالجلد بواسطة المنديل اليزدي الملفوف على هيئة حبل. بالطبع ك��ان السادة وكبار السن يعفون من الجلد. على أي حال، وجدنا تلك اللعب��ة أفض��ل

من الغيبة والكالم الفارغ والتعرض باألذية لخلق الله.

في األيام األولى لبدء األعمال، تقرر عقد اجتماع لتوزيع المه��ام ووض��ع خط��ة لمواجهة المتمردين. رغب اإلخوة بتولي "الحاج قاس��م" نوع��ا من المس��ؤولية واإلف��ادة من تجارب��ه، لكن "الح��اج قاس��م" نهض وس��ط االجتم��اع وق��ال:

"اعذروني علي أن أجدد وضوئي".

خرج من االجتماع ومهما انتظرنا لم يعد، لذا خرجت أبحث عن��ه فلم أج��ده، الفي مبنى التربية البدنية وال في الباحة.

انتظرت إلى الغروب ثم اتصلت بمنزله في "كرج". رف��ع ه��و س��ماعة اله��اتففقلت له:

- لم غادرتنا يا حاج؟ا، فلماذا تضعني في - اسمع! تقرر أن أرافقكم بصفتي عنصرا عادي

Page 306: books.almaaref.orgbooks.almaaref.org/static/documents/zoqaq.doc · Web viewكلّ هذه الذكريات والأصوات، کانت لا تزال تتردّد في زوايا حنجرة

306

الواجه��ة لت��ولي المس��ؤولية؟ أن��ا لس��ت ق��ادرا على مواجه��ة المتم��ردين وال أستطيع تس��لق تل��ك المرتفع�ات. لس��ت أهال له�ذه المهم�ة. رفاق��ك من كب��ار المسؤولين في الحرس، وسيقولون من هذا التعبوي الذي ال نع��رف ل��ه قيم��ة

وال وزنا، قد جاء ليصبح مسؤوال؟

كنت واثقا أن "الحاج قاسم" سيكون قائ��دا الئق��ا وق��ديرا، لكن��ه ك��ان يف�ر من المس��ؤولية والوجاه��ة، وألن��ني أؤمن ب��ه وبقدرات��ه لم أق��ف على كالم��ه أو

أعارضه.

بعد ذلك، علم المتمردون عبر جواسيسهم وعيونهم بوجود ق��ادة الح��رس في "كردستان"، ومن خالل دراس��ة الوض��ع أدركن��ا أنهم ين��وون الس��يطرة عليه��ا،قز" وتأسيس "جمهورية كردستان الشعبية الديمقراطية"، على أن تك��ون "س���اتهم، تع�رض التعب�ويين لثالث�ة كم�ائن عاصمة لها. من األعمال ال�تي أك�دت ني��ة قز". وق��د أق��ام المتم��ردون حف��ل رقص وم��وت ح��والي تل وقتلهم في "س�� "بنفشه" فرقصوا ببنادقهم حول أسرى "التعبئة"، وتناولوا "الكباب" والكحول، ثم قتلوهم. ومرة ثانية، اختطفوا عددا من التعبويين وحرس الث��ورة ودفن��وهم أحياء، وثالثة اختطفوا عددا من عناص��ر الح��رس ف��دفنوهم ح��تى الص��دور في األرض، ثم وضعوا بالقرب منهم خلية من النحل راحت تلسعهم حتى الم��وت،

، وتماي��ل1وعندما وصلنا إليهم رأينا وجوههم قد تورمت وانتفخت كقربة الم��اءلونها إلى األزرق القاتم واألسود.

لقد عاينت وسمعت بوقوع الكثير من أمثال ه��ذه الج��رائم ال��تي أحيت ذك��رى األليمة، فعملنا للحؤول دون تكرارها ثانية. لذا2فاجعة "بافة"

1 ) ( . المترجم الماعز أو الغنم جلد من المصنوعة القربةبافه 2 مثل- Pavehفاجعة ومناطق مدن على الديمقراطي الكردستاني والحزب اليسارية األحزاب هجوم

. المجازر تلك ومن الدولة عن وفصلها كردستان على السيطرة بهدف فيها المجازر وارتكاب وبافه مريوانعام بافه ثكنة المستشفى 1979محاصرة على الهجوم ثم ومن الجرحى تحمل التي المروحية وإسقاط

) ( . المترجم الجرحى الحرس عناصر وذبح األبرياء وقتل والمدينة

Page 307: books.almaaref.orgbooks.almaaref.org/static/documents/zoqaq.doc · Web viewكلّ هذه الذكريات والأصوات، کانت لا تزال تتردّد في زوايا حنجرة

307

قررنا وإلى جانب قمع التمرد المسلح، القيام بأنشطة ثقافية وإعالمية لج��ذبالناس وتعريفهم إلى الثورة اإلسالمية.

وخالل تل��ك الم��دة، ع��دت إلى "طه��ران" م��رتين، وبمس��اعدة أخي ورفيقي "سعيد مجلسي" وبتنسيق مع إمام مسجد "توفيق"، تمكنت من شراء حوالي

طاولة "بينغ بونغ" ونقلها بواسطة الشاحنة إلى محافظة "كردستان".20

كما أهدى الحاج الخير "حسين رحمتي"، مولد كهرب��اء لمرك��ز التربي��ة البدني��ة في "سقز"، وكان الحاج "حسين" قد قدم منذ مدة طويلة من مدينة "زواره" وأقام في نزل "آقا" في مدينة "طهران" م��دة من ال��زمن قب��ل أن يص��بح من

طبقة التجار.

وزعنا طاوالت "البينغ بونغ". بين الناس وبناء على اق��تراحي، نظمن��ا مباري��ات في المص��ارعة ش��ارك فيه��ا حش��د كب��ير، ك��ان مركزه��ا ال���"زورخان��ه" وس��ط السوق. الجدير ذكره أن األكراد رحبوا أيما ترحيب بإقامة تلك المباريات، وم��ا لفت نظ���ري وأث���ار تعج���بي أنهم ك���انوا يس���محون للنس���اء بال���دخول إلى ال�"زورخانه" ومشاهدة المباريات. على أي حال، كانت تلك أيام طيب��ة س��ادها الكثير من المرح والنشاط خاصة عندما كنا نتبارى مع عناصر الدرك والحرس الث��وري ال��ذين "حمل��وا دم��اءهم على أكفهم"، غري��بين بعي��دين عن األه��لا لهم واألحباب، ليحرسوا األمن في ه��ذه المنطق��ة، فغ��دت المباري��ات متنفس�� ومبعث سرور. كان له��ذه األنش��طة أثره��ا الطيب ونتائجه�ا المثم��رة أك��ثر من

المواجهات المسلحة، خاصة لدى السكان واألهالي األصليين.

بالطبع اكتشفت الجماعات المتمردة أمرنا بعد مدة، وقاموا ليال بمهاجمتنا فيالقاعة الرياضية بعدد كبير من قذائف اآلر. بي.جي، ودام

Page 308: books.almaaref.orgbooks.almaaref.org/static/documents/zoqaq.doc · Web viewكلّ هذه الذكريات والأصوات، کانت لا تزال تتردّد في زوايا حنجرة

308

صد الهجوم لساعات طويلة بقيادة كشفي ومرادي.

سمعت من اإلخ��وة في "س��قز" ب��أنهم ين��وون القي��ام بعملي��ات في مرتفع��ات وق�د اس�تقرت الق�وات في معس�كر "الش�هيد بروج�ردي1"بنج��وين كرم�ك"*

قالجه". هذه المرة وألجل ولعي بالعمليات انطلقت نحو قالجه.

كان الهواء باردا ينخر العظام، وحرارة شمس الظهيرة منخفضة وخفيفة.

يق��ع معس��كر "الش��هيد بروج��ردي"، على س��فح جب��ل قالج��ه، وهن��اك التقيت "أصغر ارسنجاني" ثانية، ولم نكن قد أصبحنا مقربين بعد، فقد ك��ان المع��اون

الثاني للواء عمار، ومن كبار القادة المتميزين.

من ذكريات "قالجه" الرائعة، إقامة مراسم الرياضة التقليدية في المعسكر.

كان "أصغر رنجبران" من األبطال المعروفين في هذه الرياض��ة ومن محبيه��ا، وهو من أنشأ "الزورخانه" هناك، وقد أطلق عليها اسمه بعد استش��هاده. وق��دد سقفها من القماش الس��ميك طليت أرضها بطبقة رقيقة من اإلسمنت، وشي المشمع الذي رفع على سقالة حديدية. هكذا ق��امت أول "زورخان��ه" في تل��ك الجبهة، وقد تبعها إنشاء العديد غيرها. لقد صنع "أصغر رنجبران" من حشوات قذائف المدفع الفارغة أوزان ]ميل[ هذه الرياض��ة. وراح ك��ل ص��باح يمارس��ها م��ع ع��دد من أبطاله��ا على وق��ع نق��ر وإنش��اد "حس��ين دجب��ان" ذي الص��وت الحسن، والضارب على الطبل كالمرش��دين المح��ترفين له��ذه الرياض��ة. وبم��ا أنني مصاب بق��دمي، كنت فق��ط أحم��ل األوزان كي ال أت��أخر عن أق��راني في ممارسة هذه الرياضة. هناك تعرفت أكثر إلى أس��د الجب��ال، "مه��دي خن��دان" معاون لواء عمار، لكننا أصبحنا مقربين أكثر ف��أكثر في منطق��ة قالج��ة. أبحث

عن جملة واحدة كي

1 Panjvain Grmalk

Page 309: books.almaaref.orgbooks.almaaref.org/static/documents/zoqaq.doc · Web viewكلّ هذه الذكريات والأصوات، کانت لا تزال تتردّد في زوايا حنجرة

309

أصف فيها مهدي، لكنني أعجز عن ذلك، إذ يجب تأليف كتب في وصفه!

من العم��ر آن�ذاك وه�و24 أو 23كان "مهدي خندان" من أبن��اء لواس�ان، في من عناصر الحرس الثوري الرسميين، وكان من األشقياء قبل الثورة، وسمحا وش��جاعا إلى ج��انب م��ا يتمت��ع ب��ه من روح الطرف��ة. وكتب على قميص��ه من الخلف: "مهدي خندان ها ها ها.." وبسبب ما يتمتع به من أخالق، اجتمع حوله عدد من الموالين الجسورين الذين ال يعرفون حدا أو حدودا. كان مهدي مولعا

بالسجائر ويقول: "الصالة أوال، بعد الشاي والسيجارة!".

�ز فري�د، لم يش�ابه برأيي، كان مهدي يعيش على هواه، حتى في عبادته، متمي أحدا ألعطيكم مثاال على أخالقه وسلوكه. وبكلم��ة أخ��رى لم يكن كغ��يره ممن يواظبون على صالة اللي��ل ودع��اء التوس��ل ألنهم ج��اؤوا إلى الجبه��ة فحس��ب، وليس ممن ينجرون ألي شيء بسهولة. لق��د ج��اء ألج��ل قلب��ه، ويص��لي ألج��ل

قلبه.

لقد أنست ب��ه وأنس بي رغم أنن��ا لم نكن من نفس الحي. تش��ابهنا في بعضاألمور، ولدينا الكثير لنسره لبعضنا بعضا.

في أحد األيام، كنا نجلس في الخيمة غ��ارقين بتب��ادل األح��اديث، وق��د أخبرت��هبقصة أعجبته كثيرا. القصة كانت كالتالي:

- في أحد األيام دخل الناس المسجد وانتظروا "الم��يرزا ج��واد ملكي" إلى أنرآه أحدهم يتمشى في الحديقة فقال له:

"الجميع ينتظرونك في المسجد إلقامة الصالة، فرد الم��يرزا: "ق��ل للن��اس أن يأتوا للصالة غدا. فسأله لماذا؟ قال: ألنني ال أشعر بالرغبة اليوم إلمامتهم في

الصالة".

ضحك مهدي عندها وقال: "أجل والله، أنا أيضا ال أستطيع الصالة

Page 310: books.almaaref.orgbooks.almaaref.org/static/documents/zoqaq.doc · Web viewكلّ هذه الذكريات والأصوات، کانت لا تزال تتردّد في زوايا حنجرة

310

قبل شرب الشاي وتدخين السيجارة". كانت الجبهة فسحة وفرصة للبعض لبناء ذاتهم والترويض الروحي والجس��دي. فك��انوا يس��جدون من اللي��ل ح��تى الص��باح، ي��ذرفون ال��دمع، يص��فون قل��وبهم ويصقلون أرواحهم. لكن مهدي كان يقوم بذلك على طريقته الخاصة. كان كل ي��وم قب��ل ش��روق الش��مس بخمس دق��ائق، يس��تيقظ فيتوض��أ بم��اء مطرت��ه العسكرية، يصلي ثم يندس تحت بطانيت��ه ويق��ول: "وم��ا العيب في ذل��ك أيه��ا

اإلخوة، أحب أن أتلو تسبيحات الزهراء عليها السالم تحت البطانية!".

ش��كلت تص��رفاته تل��ك مص��در تس��اؤل واس��تغراب الكث��يرين، ولم تعجبهم، وآخرون كانوا ينجذبون إليه. بدا مهدي كمن هزأ بكل ش��يء، بالحي��اة والم��وت��ة. برأي��ه أن الح��رب أم��ر آخ��ر، وبكل شيء، لكنه في الح��رب ك��ان أك��ثر جدي

ويجب أن يكون لكل مقام مقال.

" في4عندما ذهبنا إلى "قالجة"، ك��انت المرحل��ة األولى من عملي��ات "والفجر مرتفعات "كاني مانغا" قد انتهت. تقع هذه المرتفع��ات غ��رب نه��ر "قزلتش��ه" شمال بنجوين العراق وتشرف عليه��ا. تت��ألف ه��ذه المرتفع��ات من ع��دة قمم

"، وكان االستيالء عليها ه��و اله��دف ال��رئيس1904إحداها عرفت باسم قمة " للعمليات، ذلك أنها تطل على جميع البل��دات والم��دن، وتش��رف على الط��رق الرئيس��ية في منطق��ة الس��ليمانية في الع��راق. الع��دو ال��ذي فطن ل��ذلك وزع العيون في كل مكان. وكي يتمكن من صد أي هج��وم لن��ا، ق��ام بعملي��ة إن��زال

جوي، وزرع على تلك القمة مئات الجنود وأنواع العوائق واأللغام.

بعد عمليات االستطالع، أدركنا أن المنافقين وأعداء الث��ورة ق��د ش��قوا طريق��اخلف المرتفعات الستخدامها في عمليات التجسس.

Page 311: books.almaaref.orgbooks.almaaref.org/static/documents/zoqaq.doc · Web viewكلّ هذه الذكريات والأصوات، کانت لا تزال تتردّد في زوايا حنجرة

311

"، وكنت ق��د1904ك��ان على كتيب��ة "ميثم" الهج��وم على أح��د س��فوح "قم��ة انضممت إلى صفوفها بقيادة "إبراهيم كسائيان" بعن��وان مقات��ل غ��ير متف��رغ، وبما أنني مقاتل "دولي"، لم ي��رفض أي من الق��ادة وج��ودي ومش��اركتي. في

ذلك الوقت كان "أكبر حاجي بور" قائد اللواء.

في الليل��ة الثاني��ة من المرحل��ة الثالث��ة للعملي��ات، ح��ان دور كتيب��ة "ميثم" "، بتث��بيت الخط��وط27للمشاركة، على أن تقوم الكتائب األخرى من "فرق��ة

الدفاعية في مرتفعات "كرم��ك" و"كنك��رك"، وق��د ح��دد موع��د االنطالق ليل��ةالجمعة أوائل شهر تشرين الثاني.

قبيل االنطالق، تواصلنا عبر الالسلكي بالمقر لنخبرهم بعدم ق��درتنا على نق��ل 15الذخائر والرشاش سيرا على األقدام إلى األعلى، لذا أرس��لوا لن��ا ح��والي

ا وقد شق علي تسلق القمة، لكن تخلفي بغال لألمر. مع أني جررت قدمي جر عن القافلة كان أكثر مشقة وأص��عب. ل��ذا ت��ابعت الس��ير بش��ق النفس. ك��ان إبراهيم حامل لوائنا يتح��دث على جه��از الالس��لكي، وأن��ا أس��ير في أث��ره علىمهل. قال: "هناك فريق يتسلق التل من الجهة اليمنى لتلتي كرمك وكنكرك".

تابعت الصعود، والحصى والرمال تنزلق تحت ق��دمي م��ع ك��ل خط��وة وته��وي إلى األس���فل. أص���بحت الطري���ق ض���يقة ج���دا، ص���خرية كث���يرة النت���وءات

والمنحدرات، ما عرقل حركة الرتل.

كان قد ولد ألصغر رنجبران، معاون لواء أبو ذر، طفل أس��ماه محم��د حس��ين. عندما كنا نسأل عن أحوال أصغر في الالسلكي كنا نق��ول: "س��لمان س��لمان،

ما هو موقع محمد حسين؟ .. محمد حسين في الموقع الفالني".

قال أحدهم ألصغر مرة:

Page 312: books.almaaref.orgbooks.almaaref.org/static/documents/zoqaq.doc · Web viewكلّ هذه الذكريات والأصوات، کانت لا تزال تتردّد في زوايا حنجرة

312

- اختر إما الله أو محمد حسين!

أجابه: أنا أحب محمد حسين ألجل الله.

سار الرتل بهدوء وقد خيمت أجواء العشق على المقاتلين.

م، وك�انت المنطق�ة ق�د ح��ررت الليل��ة30تق�دمت أن�ا وإب�راهيم الرت�ل بنح��و الماضية، لكن ال تزال غير آمنة وفي معرض رصاص العدو.

عندما وصلنا إلى النتوءات الصخرية قال إبراهيم: "هذا السكوت م��ريب، لق��د اقتربنا من نقط��ة االنتش��ار والمواجه��ات، ومن الممكن الوق��وع في الكم��ائن.

ترى ما الذي يجري في المحورين عن يميننا ويسارنا؟".

عناص��ر ووض��عهم في آخ��ر الرت��ل وطلب منهم ت��ذخير بن��ادقهم3بعدها اختار والمحافظة على جهوزيتهم ح��تى ال نخ��ترق من الخل��ف، ثم طلب من عناص��ر االس��تطالع اختي��ار عنص��ر منهم لمرافق��ة عنص��ر من كتيبتن��ا فيتق��دمنا ص��عودا

م، وإذا ما كانت األمور على خير ما يرام، فليخبرونا عبر الالس��لكي50مسافة ونلحق بهم.

دقائق10صعد مهدي شريفي من الكتيبة برفقة أحد عناصر االستطالع، وبعد اتصلوا بالالسلكي وأخبرونا أن المكان آمن.

تلك الليلة وصلنا على مقربة من القمة من دون مواجه��ة أو ح��تى إطالق ن��ار. هناك قال إبراهيم: "أنا واثق أن في األم��ر م��ا ي��ريب. بالتأكي��د ق��د جه��زوا لن��ا��ا، وأفس��حوا في المج��ال كي نتق��دم تمهي��دا ليطبق��وا علين��ا بين فكي كمين الكماشة". عم الهدوء والسكوت المكان وتموضعنا بين الصخور طبق��ا ألوام��ر

إبراهيم. بعد نصف ساعة تقريبا، سمعنا أصوات العراقيين يتحدثون.

اتصل إبراهيم بالحاج همت عبر الالسلكي وقال: "نحن لم نبدأ المعارك

Page 313: books.almaaref.orgbooks.almaaref.org/static/documents/zoqaq.doc · Web viewكلّ هذه الذكريات والأصوات، کانت لا تزال تتردّد في زوايا حنجرة

313

بعد، فما هي األوامر؟".

هنا ظهرت خبرة ومهارة إب��راهيم كس��ائيان، فق��د ك��ان على ح��ق. لق��د انتهت الطريق الصخرية الضيقة التي تسلقناها بحقل مفخخ بأنواع األلغ��ام الص��غيرة والكبيرة إضافة إلى الكمائن. وقد زرعت الكم��ائن بش��كل ت��ؤمن لهم الرماي��ة من النت��وءات واالخادي��د المج��اورة إن عج��زوا عن ذل��ك من خالل الس��فح المنخفض ال��ذي تس��لقناه. ونظ��را لع��دم اس��تكمال اس��تطالع المنطق��ة، ف��إن

لفطنة ووعي وتجارب الفرد الكلمة الفصل.

قرابة السحر، وبينم��ا ك�انت فرق�ة التخ��ريب تعم��ل على تفكي��ك األلغ�ام وفتح الطريق، بدأ الرصاص ينهمر علينا، وبدأت معه المواجه��ات من دون أن ن��درك كيف حصل ذلك. لم يكن الضوء قد انبلج بعد عن��دما ب��دأت الق��ذائف تتس��اقط

م.400علينا من كل حدب وصوب، ولم يكن يفصلنا عن القمة أكثر من

ما إن بدأ إطالق النار حتى أصيب قائد السرية وسقط أرضا. كان بحوزة كتيبة تطلق قنابل على شكل البيض. وكانت ك��ل قنبل��ة1ميثم أربع أو خمس بنادق*

كفيلة بتفجير متراس أو كمين من كم��ائن الع��دو، فتمكن عناص��رنا من ت��دمير عدد من متاريس العراقيين. بداي��ة ك��ان بح��وزتي بندقي��ة كالش��نكوف ومن ثم أخ��ذت مطل��ق القناب��ل من أح��د العناص��ر، وتمكنت من إص��ابة ع��دد آخ��ر من

المتاريس وتدميرها.

اتصل إبراهيم بالمقر فقال له الحاج همت: ه��ذه ح��دودكم وعليكم المحافظ��ةعليها ريثما تصل الكتيبة األخرى وتستكمل الطريق بعدكم.

أجابه ابراهيم: ال نستطيع االستمرار بالمواجهات، فخسائرنا بازدياد

عيار ت 1 مقنبالت .40طلق ملم

Page 314: books.almaaref.orgbooks.almaaref.org/static/documents/zoqaq.doc · Web viewكلّ هذه الذكريات والأصوات، کانت لا تزال تتردّد في زوايا حنجرة

314

بينما العراقيون مسيطرون على الوضع.

بعدها ن��زل من الت��ل ليتح��دث إلى الح��اج همت مباش��رة. وق��د أفلحت مه��ارةر القائد "كسائيان" وتض�حيات الش�باب هن��ا، ف�رحت أراقب ان�دفاعهم وأتحس� ألنني ال أستطيع مجاراتهم. لقد كانوا كال��درر بينم��ا أن��ا ع�اجز م��ع ه��ذه الق��دم واألنفاس المتقطعة. جواد طالئي، مهدي شريفي، أحم��د ح��اج خ��اني، قط��بي، الس��يد أص��غر معص��ومي، وغ��يرهم من ال��ذين ض��حوا بحي��اتهم كي نتمكن من

العبور. طاب ثراهم وطابت ذكراهم.

عند الظهر، عاد إبراهيم وق��ال إن الح��اج همت طلب الثب��ات في مواقعن��ا إلىالليل ريثما تصل القوات األخرى وتستكمل المهمة.

قرابة الغروب، كنا قد تلقينا نصيبنا من الق��ذائف والرص��اص ورمين��ا الع��دو م��ا قدر الله لن��ا. لق��د تن��اثرت أجس��اد الش��هداء والج��رحى بين الص��خور وش��قوق المنخفضات واس��تمر الوض��ع على ه��ذا المن��وال إلى أن وص��لت كتيب��ة كمي��ل

بقيادة إبراهيم معصومي.

قال إبراهيم معصومي لمعاونه: "ابق على رأس القوات؛ سنصعد إلى القمة".

صعدت قوات كتيبة كميل نحو القمة من المحور األيسر، وقوات كتيب��ة ح��بيبمن المحور األيمن بهدوء تام، من دون أي صوت.

انضممنا أن��ا وإب��راهيم كس��ائيان إلى رت��ل كتيب��ة كمي��ل، وتابعن��ا ص��عود القم��ة معهم. لم تتوقف النيران المنص��بة علين��ا لحظ��ة واح��دة وكن��ا نتوق��ع أن تخ��ف حدتها مع حلول الليل. لكن حص��ل العكس، فق��د زادت ح��دتها، وعن��د الس��اعة

��ا نض��طر إلى11 ليال بدأوا بقصفنا بقذائف اله��اون والمدفعي��ة المباش��رة، فكناالنبطاح كل دقيقة وخسائرنا في ازدياد. استمر القصف

Page 315: books.almaaref.orgbooks.almaaref.org/static/documents/zoqaq.doc · Web viewكلّ هذه الذكريات والأصوات، کانت لا تزال تتردّد في زوايا حنجرة

315

حتى السحر من دون انقطاع، ما أثر في سرعة تحركن��ا وتق��دمنا. أدى قص��ف العدو المس��يطر والمش��رف على تل��ك المرتفع��ات إلى ش��ل حركتن��ا إلى ح��د كبير، لكننا تمكنا بعد جهد جهي�د من الوص�ول إلى مقرب�ة من القم�ة وأض�حت

صباحا، بدأ عناص��ر كتيب��ة س��لمان وح��بيب5في قبضتنا. فجأة حوالي الساعة إض��افة إلى مجموع��ة من مقاتلين��ا ال��ذين س��بقونا في الوص��ول إلى القم��ة، ب��الهبوط س��ريعا إلى األس��فل. الج��رحى والس��المون على الس��واء، جميعهم توسلوا الممرات والمنخفضات في النزول. من مس��اوئ ه��ذه القم��ة مس��احة سطحها الضيق إذ ال يسمح بالمناورة والتحرك، كم��ا إن الع��راقيين ق��د أنزل��وا ق��وات الح��رس الجمه��وري في المك��ان ال��ذي راح يقص��ف قواتن��ا بالمدفعي��ة

وأجبرهم على االنسحاب.

ما إن بدأت قواتنا ب�التراجع ح�تى س��يطر الع�دو على المك��ان س��يطرة كامل��ة قلبت األوضاع رأسا على عقب، فأسرعنا في الهبوط إلى أس��فل الجب�ل، كم�ا

إن رصاصاتنا لم تعد تنفع في تدمير متاريسهم لبعد المسافة.

كان إبراهيم معصومي وإبراهيم كس��ائيان ق��د وص��ال قب��ل الجمي��ع إلى القم��ة.وسمعت من األخوة المنسحبين أن إبراهيم معصومي قد استشهد.

كنت أنتعل جزمة بالستيكية طويلة الساق م��ع معط��ف للمط��ر، لكن لم أض��ع الخوذة على رأسي. كانت تعرجات السفح والصخور ش��ديدة االنح��دار وجعله��ا ندى الصباح زلقة، لذا كنت أنزلق عليها وسقطت على رأسي مرات. ومع كل��ا من تث��بيت خطن��ا الس��ابق ذل��ك، ن��زلت من الجب��ل وبمس��اعدة االخ��وة تمكن وإحكام سيطرتنا عليه. بقينا في الخط حتى الظهيرة، بعدها اتجهنا نحو المق��ر مع المقاتلين السالمين وهناك علمنا أن إبراهيم كسائيان ق��د ج��رح ونق��ل إلى

الخطوط الخلفية. لكن إبراهيم معصومي

Page 316: books.almaaref.orgbooks.almaaref.org/static/documents/zoqaq.doc · Web viewكلّ هذه الذكريات والأصوات، کانت لا تزال تتردّد في زوايا حنجرة

316

.1الذي استشهد بقيت جثته في األعلى

عندما سمعت بعد أس��بوع أن كتيب��ة عم�ار تن��وي الهج��وم على القم��ة مج��ددا، جه��زت نفس��ي لالنض��مام إليهم. كنت أرغب أك��ثر بمواكب��ة مه��دي خن��دان��ه ذكي ع��ارف بفن��ون ومرافقته. تلك الليل��ة، ت��ولى مه��دي إرش��اد الق��وات؛ إن

القتال ومقدام.

وقد رأيته هائجا تلك الليلة ويردد باستمرار: "سأجد طريقا لاللتفاف حول جبل " وأبس��ط س��يطرتي1904"كاني مانك��ا" وس��ترون كي��ف سأص��ل إلى "قم��ة

عليها. طبعا لم يكن مهدي ممن ينطقون عن الهوى، ويس��تند بكالم��ه ه��ذا إلىخطة قد رسمها في ذهنه وأراد تطبيقها.

كان الليل مقمرا وبرودة الهواء الش��ديدة تنخ��ر العظ��ام. التحقت برت��ل كتيب��ةا. انطلقت كتيبت��ا مال��ك وح��بيب األولى عمار، وكان الحاج "بروازي" معنا أيض��

". ك�ان مه�دي يش�جعنا1866عن يميننا والثاني��ة عن يس�ارنا؛ واله�دف "قم�ة ويقول: "يا شباب! نكاد نص��ل إلى القم��ة ولم يب��ق الكث��ير قب��ل أن تص��بح في

قبضتنا".

عندما اقتربنا من القم��ة، اخت��ار مه��دي ع��ددا من عناص��ر التخ��ريب وانطلق��وا لتأمين طريق آمن لنا. قبل أذان الصبح بساعة واحدة، جاء مهدي وقال: "لق��د وجدنا طريقا، لكن العراقيين قد وض��عوا في��ه الكث��ير من العوائ��ق من أس��الك ش��ائكة وألغ��ام، ويجب أن يفتتح أح��دنا المع��بر من دون ض��جة ويمه��ده لعب��ور البقية". بحسب الخطة التي وضعها مه��دي، وال��تي ك��ان واثق��ا بنجاحه��ا، فإنن��ا سنتمكن بعد عبور الممر من االلتفاف حول قمة "كاني مانكا" والوصول إليها.

وبما أن العراقيين كانوا يركزون

.15بعد 1 رفاته من بعضا أحضروا سنة

Page 317: books.almaaref.orgbooks.almaaref.org/static/documents/zoqaq.doc · Web viewكلّ هذه الذكريات والأصوات، کانت لا تزال تتردّد في زوايا حنجرة

317

على النت��وءات والتعرج��ات الص��خرية الس��ابقة للجب��ل، فمن الممكن أن تنجحالخطة إلى حد كبير.

قال مهدي: "إذا أرس��لت عناص�ر التخ��ريب لفتح المع�بر، فلن يكمل��وا المهم�ةقبل الصباح، وعندها سيشل العراقيون حركتنا".

تقدم أحد الشباب وقال: "يا سيد مه��دي، أن��ا أري��د الن��وم على اللغم لتتمكن��وامن عبوره".- ما اسمك؟

- كامبيز روان بخش.

لم ينتظر الشاب اإلذن وبدأ يخلع قميصه، فسأله مهدي: لم تخلع قميصك؟- هذا القميص لبيت المال ويحب أن نحافظ عليه.

قلب كالم الشاب الكتيبة رأسا على عقب وتقدم آخ��رون يري��دون الن��وم علىاأللغام.

جثم الشاب على أحد األلغام وآخر على اللغم المجاور، م��ر مه��دي أوال به�دوء وتأن وتبعه باقي العناص��ر واح��دا تل��و اآلخ�ر. ك��ان أح��د العناص��ر ثقي��ل ال�وزن وش��كل ثق��ل وزن��ه م��ع وزن الش��اب الج��اثم على اللغم ض��غطا كب��يرا على الصاعق فانفجر اللغم واستشهد الثالث�ة ف�ورا، فانتب��ه الع�دو لوجودن��ا. وألن�ني

كنت في آخر الرتل لم أستطع العبور، وبدأ مدفع الرباعي بحصادنا.

راح مهدي يصيح من الجهة األخرى: "فليتقدم كل من هو مع مهدي".

حمل علي وهو أحد عناصر التخريب قطاعة األسالك بيده وانطلق في أثر

Page 318: books.almaaref.orgbooks.almaaref.org/static/documents/zoqaq.doc · Web viewكلّ هذه الذكريات والأصوات، کانت لا تزال تتردّد في زوايا حنجرة

318

برصاص��ه فس��قط على1مه��دي. في تل��ك اللحظ��ة، أمط��ر الرب��اعي مه��دي األس��الك الش��ائكة، وق��ال لعلي الق��ريب من��ه: "تع��ال ي��ا علي.. تع��ال علي..

تعال!".

قطع علي األسالك واحدا تلو اآلخر، وما زالت الن��يران تنهم��ر علي��ه، ثم وص��لإلى مهدي ورفع جسده قليال. قال مهدي: ال ال، قل للشباب أن يتقدموا!

ا، ونحن م��ا زلن��ا تابع علي قطع األسالك، لكن ما لبث أن أصيب وس��قط أرض����ا،20في هذه الجهة منبطحين ملتصقين باألرض. كنا نبعد عنه مسافة م تقريب

لكننا لم نستطع التقدم والصعود كما لم نستطع التراجع. أصبت بالصمم جراء ص��وت الرب��اعي المخي��ف والم��رعب. وأدت غ��زارة الن��يران إلى فش��ل جمي��ع مساعي وتضحيات شبابنا. تمركز األعداء على القمة وتابعوا الصعود من خلف

قواتنا. ال أدري أكان لديهم قوة احتياط في المكان أم هي عملية إنزال؟!

استش���هد ع��دد من الرف���اق وج���رح آخ���رون، وانتش���رت جثث بعض���هم في المنخفضات وبين الصخور كجسد الشهيد جواد أفراسيابي وآخرين كثر لم أعد أذكر أسماءهم. وهكذا، أقفل سجل حياة مهدي خندان، أس��د الجب�ال في تل�ك العملي��ات. ك��انت ش��جاعة مه��دي موروث��ة من والدت��ه المؤمن��ة ال��تي امتلكت

نساء! األم التي لم أرها تنزوي وتبكي لذكرى ابنها أبدا.10وحدها شجاعة

كثيرون من أهالي "داالهو"، وبعد مرور كل تلك السنوات، م��ا زال��وا يطلق��ونا ووفاء لمهدي خندان. وعندما تتحدث األمهات عن اسم مهدي على أبنائهم حب مهدي خندان، فحديثهن ح�ديث المحب�ة والعش�ق وم�ودة الن��اس. ك�ان مه�دي

شهما يوزع المؤونة اإلضافية للكتيبة بين أبناء

.14بعد   1 رفاته من بعض على البحث فريق عثر عاما

Page 319: books.almaaref.orgbooks.almaaref.org/static/documents/zoqaq.doc · Web viewكلّ هذه الذكريات والأصوات، کانت لا تزال تتردّد في زوايا حنجرة

319

أ القرى المج��اورة. ويجم��ع راتب��ه ورواتب رفاق��ه ويقدم��ه للن��اس. ك��ان يتوض�� بكوب واحد فحسب، لكنه كان يردد دوم��ا: "ال يمكن التح��دث إلى الل��ه بحل��ق

جاف!".

قرابة الظهر، تركنا سفح الجبل وتعرجاته أنا واثن��ان من الش��باب وهبطن��ا إلىاألسفل من جهة اليسار.

وصلنا أسفل الجبل، وعلمت أن أصغر رنجبران وعباس وراميني وأكبر ح��اجي بور ومجيد زاد بود قد استشهدوا. وهكذا خسرنا في معركة غير متكافئة ع��ددا من أبطال وقادة الح��رب. ه��ذه الخس��ارة بالنس��بة للمق��اتلين تع��ادل خس��ارة

رأسمال وكنز كبيرين.

كان أصعب عمل علينا القيام به بعد العمليات هو إخالء الشهداء والجرحى منا كي نتمكن المنطقة الجبلية. توجب علينا أن نكون كإبراهيم هادي ق��وة وبأس����ة، وإال فس��نهلك نحن وإي��اه، من حم��ل الج��ريح وس��حبه إلى الخط��وط الخلفي خاصة أن هبوط تلك التعرجات والصخور ص��عب للغاي��ة على اإلنس��ان الع��ادي

المعافى فكيف بك وأنت تحمل جريحا على ظهرك!

بعد عناء ومشقة كبيرين تمكنا من الوص��ول إلى معس��كر قالج��ه. لكن مش��هد��ا فلم أس��تطع تحم��ل البق��اء المعسكر الخالي من الرفاق مأل قلبي ألم��ا وحزن فيه دقيقة واحدة. لقد انصب ج��ل تفك��يري على كيفي��ة الوص��ول إلى طه��ران للمشاركة في تشييع الشهداء. انطلقت في اليوم ذات��ه متنقال من س��يارة إلى أخ��رى ح��تى تمكنت في النهاي��ة من الوص��ول إلى طه��ران. ك��انت "بهش��ت زهراء" )جنة الزهراء( تعج بالناس والمشيعين كيوم القيامة. بدا عدد كب��ير من

الرفاق الذين وصلوا قبلي منهكين معفرين بالتراب من

Page 320: books.almaaref.orgbooks.almaaref.org/static/documents/zoqaq.doc · Web viewكلّ هذه الذكريات والأصوات، کانت لا تزال تتردّد في زوايا حنجرة

320

رأسهم إلى أخمص قدميهم. تقرر دفن أصغر رنجبران إلى جانب علي موح��د، لكن حجرا كبيرا ما زال عالقا في قعر القبر ومهما حاول حفار القبور انتزاع��ه لم يفلح. حينه��ا ن��زل حس��ن بهم��ني إلى الق��بر وك��ان يمل��ك معص��مين ق��ويين فتمكن بضربة واحدة من قلع الحجر، واستمر حفر قبر رنج��بران إلى العص��ر، بعد التشييع عدت إلى المنزل لكنني لم أطق البقاء فيه فقلبي منقبض حزين. كان رفاقي نجوما أفلوا الواحد تل��و اآلخ�ر. لم تس��لبنا أي من العملي��ات رفاق��ا

" التي ح��ولت طه��ران إلى دار ع��زاء، فلم يب��ق4كما فعلت عمليات "والفجر حي من أحيائها إال وفقد واحدا من أبطاله.

كل ليلة تسقط نجمة إلى األرض لكن الس��ماء ال ت��زال حبلى ب��النجوم بي��د أن الم��رء يمتحن في تل��ك األي��ام، الرج��ال يهب��ون أرواحهم في مي��ادين ال��وغى، والنسوة في المدن يؤازرن ويساندن ما استطعن، وآخرون ال مب��الين. حقيق��ة��ز الرج��ل كالم الشهيد شمران عبرة ودرس: "عندما تقرع طب��ول الح��رب يمي

من الرعديد".

في أحد األيام، وصلتني دعوة لزيارة اإلمام، فذهبت مص��طحبا معي "س��عيد"، كان حينها في الرابعة من العمر، وقد ارتدى زي الحرس الثوري الذي خاطت��ه له والدته. عندما رأى اإلمام "سعيد"، مسح على رأسه وق��ال: "إن ش��اء الل��ه تك��ون من الح��رس". ك��انت تل��ك الم��رة الثالث��ة ال��تي ألتقي فيه��ا اإلم��ام بع��د

. وك��ان1979اس��تقباله وزيارت��ه مرق��د "ش��اه عب��د العظيم" في ش��تاء الع��ام لكالمه عالم من الرموز واألسرار، كالم يمنح اإلنسان الهدوء والس��كينة وق��وة

القلب.

Page 321: books.almaaref.orgbooks.almaaref.org/static/documents/zoqaq.doc · Web viewكلّ هذه الذكريات والأصوات، کانت لا تزال تتردّد في زوايا حنجرة

321

في فم األسد

سقى الله ذكرى جميع الرجال الشجعان..

م، حزمت حقيب��تي بغي��ة ال��ذهاب1984ذات يوم في أواخر شهر كانون الثانيإلى "دوكوهه".

جرى الكالم عن المغادرة؛ ولم تخالفني فاطمة في ذلك، وكعادتها تحلت بروحا من مس��حوق عالية. يومها، وحين الوداع، وض��عت فاطم��ة في حقيب��تي كيس�� سكر النبات وقالت: "إنه يفيد كث��يرا لوج��ع البطن. كلم��ا تن��اولت طعام��ا رديئا

وآلمتك بطنك، خذ حفنة من سكر النبات هذا؛ تتحسن حالك على الفور".

ك�انت ام�رأة بعي�دة النظ�ر ش�فوقة. حين�ذاك، أص�بح م�زاجي س��يئا، ومع�دتي��ا كلم�ا تن��اولت ش��يئا، أش��عر ب�ألم فيه�ا تؤلم�ني بش�دة ومرتبك��ة. وكنت تقريب وأص��اب باإلس��هال. وجب علي أن أراعي الدق��ة في طع��امي. إذ منعت عن

والثري��د ال��تي كنت أحبه��ا كث��يرا.1أطعم��ة أمث��ال الحمص والفاص��ولياء واآلشوهذه شكلت مصيبة بحد ذاتها.

إلى جانب مسحوق سكر النبات، وضعت فاطمة كنزة صوفية رمادية

1 .- الحبوب أنواع لجميع شامل حساء

Page 322: books.almaaref.orgbooks.almaaref.org/static/documents/zoqaq.doc · Web viewكلّ هذه الذكريات والأصوات، کانت لا تزال تتردّد في زوايا حنجرة

322

اللون، جميلة، من صنع يديها وقالت: "لقد حكتها لك بنفسي. وثبت له��ا أزرارا من الجانبين وحول الرقبة، وذل��ك ليمكن��ك ارت��داؤها وخلعه��ا بس��هولة. ارت��دها

تحت لباس المطر خاصتك، حتى ال تتأذى كليتاك وجرح معدتك".

ظلت تخجلني دوما ببعد نظرها ذاك ومحبتها. لم تشك يوما من ذه��ابي وع��دم وجودي إلى جانبها. حقا، إني ألعجب من روح هذه الم��رأة العالي��ة. كنت كلم��ا��ات ��ة أج��دها مش��غولة؛ إم��ا في ال��بيت، في تهيئ��ة الجهيزي 1آتي في مأذوني

والصدقات، أو في دار األيتام. لقد أمدها الله تعالى بهذه القوة. وفي كل مرة��ة في كان شباب مسجد التوفيق يريدون العودة إلى الجبهة بع��د قض��اء مأذوني المدينة، كانوا يحلون عند الغداء األخير ضيوفا على مائدة فاطمة. أمسى ه��ذا برنامج منزلنا الدائم. سواء بحضوري أو عدمه. وقد استشهد الكثير من أولئ�ك

الشباب، وهم ليسوا موجودين ليشهدوا على عظمة تلك المرأة ونجابتها.

�ني به�ذه لطالما قالت فاطمة: "لربم�ا ال يمكن��ني حم�ل الس��الح والقت��ال؛ لكناألعمال أشارك التعبويين".

اليوم، حين أفكر فيها، أجد أنها كانت عارفة كاملة؛ لكن عرفانها على نمطه��ا؛ا وفي الخفاء. نسوي

في اليوم التالي، ذهبت إلى "دوكوهه"، فصادفت هناك "أمير عط�ري" فق�ال:"سيد، لك عندي خبر جيد، الحاج قاسم موجود في "دوكوهه".

فرحت لذلك، وذهبت إلى المباني سعيا وراء الحاج قاسم. فوجدت��ه في ع��داد��ة تام��ة. ناديت��ه، شباب كتيبة "حمزة". وكان أيضا قد جاء بنحو سري وبمجهولي

ولما رآني نهض، وذهبنا معا إلى فناء القاعدة. سألنا عن

1 . ).. وهذه ) زواجها عند للبنت تقدم مطبخ أدوات فرش، معيشة وسائل من البنتها األم وتهيئه تعده ما جهيزيه) (. المحرر إيران في مشهورة عادة

Page 323: books.almaaref.orgbooks.almaaref.org/static/documents/zoqaq.doc · Web viewكلّ هذه الذكريات والأصوات، کانت لا تزال تتردّد في زوايا حنجرة

323

األحوال، وسررنا ببعضنا بعضا كثيرا. قلت: "لم ذهبت من دون أن تخبر أح��دا؟كان عليك البقاء واستالم مسؤولية ما".

- لقد جئت اآلن أيضا بإصرار من أمير؛ وإال، فكنت أريد البقاء في "ك��رج". أن��ا ال أسعى وراء المسؤولية. فالمسؤولية دكان؛ وسيلة تبع��دنا عن الن��اس. أري��د

ا. أن أحيا حياتي مجهوال. أخالط الناس وأبقى تعبوي

قلت: "ولكن الشيء األهم اآلن هو الحرب، وإننا مسؤولون إزاءها". - حتى وإن كانت الحرب قائمة، أنا أفكر بالتكليف الملقى على عاتقي. فأحيانا يكون تكليف الش��خص أن يعم��ل من أج��ل رض��ى الل��ه فق��ط من دون ض��جيج وفي الخفاء. يجب علي أن أقبل بالعمل الذي أبرع به، ويمكن��ني أداؤه ب��النحو

الصحيح. وما نفع القيادة التي ال يمكنها القيام بعملها بنحو صحيح؟

لم أملك قول شيء. فالحاج قاسم تميز بالتجربة وقد خبر الحياة، وكان يعرف ماذا يفعل. وألعمال��ه م��بررات. فلم أس��تطع ولم أرد توجيه��ه وإرش��اده. وبع��دا. ك��انت أج��وائي س��اعة أو س��اعتين من البحث والج��دل، ودعن��ا بعض��نا بعض����ه ل��و ح��ددت لحي�اتي خمس�ة أرك�ان الفكرية في تلك الفترة مختلف�ة. وم�ع أن أساسية لكان الحاج قاسم أحدها، وعلى الرغم من إيم��اني واعتق��ادي ب��ه، لم

أستطع اللحاق به.

شكلت في "دوكوهه" كعنصر حر في كتيبة "ميثم". وك�ان قائ�د الكتيب�ة حينه�ا "إبراهيم كسائيان" عائ��دا للت��و من ف��ترة النقاه��ة ال��تي قض��اها بع��د اإلص��ابة. فكنت أمضي معظم وقتي مع شباب كتيب��ة "ميثم"، ذل��ك أن عاداتن��ا وأخالقن��ا متشابهة. كنا جميعا من أبناء محلة واحدة ونعرف أيضا أس��رار بعض��نا البعض. يومذاك، جرت الع��ادة والع��رف أن ك��ل قائ��د يجم��ع حول��ه العناص��ر المالئمين

والمناسبين له، ولربما ألن هذا يساعد في انتظام األعمال

Page 324: books.almaaref.orgbooks.almaaref.org/static/documents/zoqaq.doc · Web viewكلّ هذه الذكريات والأصوات، کانت لا تزال تتردّد في زوايا حنجرة

324

واتساقها أكثر. آنذاك، كان ش��باب كتيب��ة الش��هادة أو "أبي ذر" التابع��ة لفرق��ة "محمد رسول الله" صلى الله عليه وآل��ه وس��لم- طه��ران، بمنزل��ة إخ��وة لي،��ة ومكان��ة ورفاقا من نفس س��جيتي وطين��تي؛ لكن بقيت لكتيب��ة "ميثم" جاذبي

أخرى بالنسبة لي.

، ناداني "إب��راهيم كس��ائيان"1984ذات يوم، في أوائل شهر شباط من العام وقال: "سيد، هناك أمر ال يقدر عليه أحد غيرك؟".

- ما هو؟��ات في الجن��وب. وق��د أع��دت الع��دة ل��ذلك، وج��رت ��ام عملي - س��تنفذ بع��د أي عمليات االستطالع أيضا. وإنهم في هذه المرحل�ة يوجه�ون الق�ادة ويعط�ونهم��ات. وأنت تعرف��ني؛ أحب أن أك��ون مطلع��ا على ك��ل ش��يء. التعليمات للعملي ويجب أن أعرف أين ستنفذ هذه العمليات؛ لكن بم��ا أني مس��ؤول، فليس من

المصلحة أن أقدم على هذا األمر بنفسي.

أبديت موافقة، وذهبت يومها برفقة مع��اون إب��راهيم "أحم��د ح��اج خ��اني" إلىشباب معلومات العمليات لالطالع على سير األمور.

كان إبراهيم رفيقي. ولم أرد له أن يقدم على العمل من دون رعاية االحتياط. وحتى لو أخطأ في ذلك، لم أكن ألرفض له طلبا. فحرمة الصداقة بالنسبة لي أهم من أي ش��يء آخ��ر. س��ألنا واس��تدللنا على الطري��ق إلى أن وص��لنا إلى�ة صحراء "جفير". وكان شباب المعلوم�ات ق�د حف�روا حف�را عن�د أس�فل التل حيث تستوي األرض، وبنوا دشمة لهم. ب��دت فتح��ة الدش��مة الس��وداء الل��ون؛ا. وق��د أحض��روا وقد جعلوها بنحو، تظ��ل في��ه بم��أمن من رص��اص األع��داء كلي حوله��ا بعض الق��وارب ودهن��وا أس��فلها ب��الزفت. وكنت على معرف��ة بمعظم��ة، وأن على اإلخ��وة أن الشباب. واتضح بأن العمليات ستكون في منطقة مائي

يعبروا بالقوارب.

تقدمنا منهم، وسلمنا، ودخلنا إلى الدشمة. وكان المسؤولون عن

Page 325: books.almaaref.orgbooks.almaaref.org/static/documents/zoqaq.doc · Web viewكلّ هذه الذكريات والأصوات، کانت لا تزال تتردّد في زوايا حنجرة

325

معلومات العمليات: "أحمد أستاد باقر"، و"أحمد كوتشکي" و"سرتيبي".

بقين��ا معهم م��ا بين األرب��ع والخمس س��اعات. ق��ال اإلخ��وة: إنن��ا مض��طرون��ه ال يمكن نق��ل الستخدام القوارب ذات المحركات في هذه العمليات. ذلك أن��ة. وك��انت إي��ران ق��د اش��ترت بعض الق��وارب ذات الق��وات ب��القوارب العادي المحرك���ات من الياب���ان، إال أنهم لم يس���محوا باس���تالمها بس���بب الحظ���ر المفروض، ما اضطر اإليرانيين إلى شراء قوارب عن طري��ق السماس��رة من

دبي، بسعر أعلى.

عن��د العص��ر، ودعن��ا ش��باب المعلوم��ات. وأثن��اء ذل��ك ق��الوا لن��ا إن "محس��ن قد تعرض لمحاولة اغتيال!1رضائي"

ة محاول��ة االغتي��ال م��ا زالت ت��دور على حين وصلنا إلى "دوكوهه"، كانت قص�� األلسن. قال البعض إنه تعرض لح�ادث س��ير، وك�ان ه�ذا ه�و الخ�بر الص�حيح.

فتشت عن إبراهيم وقلت له: "تأكد بأن العمليات ستجري في الهور".

قال إبراهيم: "أويمكن ذل��ك؟ أنى له��ؤالء أن ينقل��وا عناص��ر غ��ير م��دربين إلىالهور؟ فالشباب غير مدربين على الغوص".

- حقا، فواقع األمر يختلف في الهور عنه في اليابسة. فإن ضل المرء طريق��ه في اليابسة، ينعطف إلى ناحية أخرى. ويمكنه التنقل ما دام هن��اك أرض؛ أم��ا��ه س��يعلق في��ه إلى ي��وم القيام��ة. وأينم��ا انعط��ف فهن��اك إن تاه في الهور فإنمعابر مائية؛ ال مخرج منها. وحقول القصب عالية جدا تحول بينه وبين الرؤية.

- علي أن أتحدث مع الحاج همت.

1 . الفترة تلك في الحرس قائد

Page 326: books.almaaref.orgbooks.almaaref.org/static/documents/zoqaq.doc · Web viewكلّ هذه الذكريات والأصوات، کانت لا تزال تتردّد في زوايا حنجرة

326

- وهل الحاج لديه وقت ليسمع كالمي وكالمك؟- تعال نذهب معا.

في صباح اليوم التالي، سألنا اإلخوة عن نقطة وج��ود الح��اج همت، فقي��ل لن��ا إنه في "موقف الحسينية" الواق��ع ب��القرب من "جف��ير". وفي��ه مرك��ز اإلم��داد

للمجاهدين.1و"المحطة الصلواتية"

انطلقنا قبيل الظه��ر بقلي��ل، ك��انت ش��مس الجن��وب في ش��هر ش��باط دافئ��ة، والجو أشبه بج��و الربي��ع. في موق��ف الحس��ينية، رأين��ا قراب��ة الثالثمئ��ة عنص��را تحت الس��ماء يس��تمعون إلى ح�ديث يرتدون البزات الرمادية، جالس��ين أرض��

الحاج همت.أسرعنا نحوهم. سألت "أبرام": "أي كتيبة هي هذه؟".

- إنهم من قوات التعبئة الذين وفدوا للتو. وقد شكلوا كتيبة باسم "أبي ذر".

��ة تظه��ر في س��ماء كنا على مسافة مئتي ق��دم منهم، وإذا بالط��ائرات العراقي المنطقة فجأة، وتقص��ف المنطق��ة بع��دة ص��واريخ. زحفن��ا نح��و مرتف��ع ت��رابي والتصقنا به. انبعث التراب والغبار وتفرقت الكتيبة. نهضنا وهرعنا إلى اإلخوة. كان من لطف الله بهم أن الصواريخ س��قطت إلى ج��انبهم، ولم يس��قط منهم سوى بعض الجرحى. أما الحاج همت فق��د دفع��ه عص��ف االنفج��ار ناحي��ة غ��ير

بعيدة، فكان مشوشا وال يمكنه النهوض.

��ا"، باش��رت وأب��رام بالمس��اعدة، وض��عنا الج��رحى في ص��ندوق س��يارة "تويوتوأرسلناهم إلى الخطوط الخلفية.

على 1 الصلوات الضيف إطالق مقابل مجانا للناس الضيافة فيه تقدم مكان الصلواتي الموقف أو المحطة. محمد وآل محمد

Page 327: books.almaaref.orgbooks.almaaref.org/static/documents/zoqaq.doc · Web viewكلّ هذه الذكريات والأصوات، کانت لا تزال تتردّد في زوايا حنجرة

327

بعد الغد، التقينا من جديد بالحاج همت أمام مبنى "دوكوه��ه". ن��اداه إب��راهيم.فتوجه الحاج همت نحونا بوقار وأدب، وتبادلنا التحية والسالم.

قال إبراهيم للحاج همت:- حاج، هل يوجد ماء في المنطقة التي سنقوم فيها بالعمليات؟

- محتمل.

كان الحاج همت رجال محنكا، وال يستدرج بسهولة. فق��ال: ه��ل الس��يد أخ��بركبذلك؟"

- أنى يكن الذي أخبرني، ما الفرق؟ مشكلتي أنكم لم تعلموا القوات السباحةوالغوص.

- سيتعلمون عندما تسنح الفرصة.

لو بنيتم حوضا في دوكوهه، ألمكن لإلخوة تعلم السباحة في��ه. أن��ا قائ��د وعلي مس��ؤولية. أري��د أن يتقن عناص��ري الس��باحة. وال أس��تطيع نق��ل ق��واتي إلى

الخطوط األمامية من دون أن أدربهم عليها.- وأين ستعلمهم السباحة؟

- س��آخذهم إلى طري��ق ع��ام دزف��ول أنديمش��ك، فهن��اك يوج��د ح��وض ت��ابع]لمديرية[ التربية البدنية. يتعلمون فيه السباحة والغوص.

- موافق، افعل ما تراه مناسبا.

لكن إبراهيم لم يتمكن من تنفيذ قوله؛ ذلك أن الفرصة لم تؤاته ألخذ الق��واتإلى المكان المنشود.

��ة، والمش��ي، وعلى القت��ال إلى أواس��ط ��ات الليلي استمر التدريب على العمليشهر شباط. وخالل فترة تدريبات األخوة، وبسبب ألم رجلي، بقيت في

Page 328: books.almaaref.orgbooks.almaaref.org/static/documents/zoqaq.doc · Web viewكلّ هذه الذكريات والأصوات، کانت لا تزال تتردّد في زوايا حنجرة

328

الخيمة أتابع األعمال التي لم يتصد لها أحد كتصفير الس��الح، وتعبئ��ة المخ��ازنبالرصاص وغيرها.

��ات س��تنفذ في "اله��ور" وجزي��رتي "مجن��ون" ش��يئا فش��يئا، اتض��ح ب��أن العملي الشمالية والجنوبية، باسم عمليات "خيبر"، وأن الهدف منها هو تهديد البص��رة

عن طريق هاتين الجزيرتين.

بدأت العمليات في ليلة الثالث والعشرين من شهر ش��باط وبن��داء "ي��ا الل��ه"،وسمعنا في اليوم التالي في اإلذاعة بأن المجاهدين توضأوا بمياه نهر دجلة.

27في الليلة الثالثة للعمليات، ج��اء دور كتيب��ة "ميثم". وك��ان ينبغي للفرق��ة "��ه" محمد رسول الله" أن تكسر سد "مايلة" وتجر المعركة نح��و "جس��ر طالئي

ثار الله". ولهذا، أصبحت ك�ل من جزي��رتي مجن�ون41لتلتحق هناك بالفرقة " الشمالية والجنوبية محورا للعمليات، ما وسع من نطاق العمليات وجعلها أكثر صعوبة. وكان من المفترض بكتيبتي "عمار" و"أبي ذر" أن تشاركانا العمليات. ليلتها، سرنا عند الساعة الثانية عشرة راجلين وفي ط��ابور من خ��ط "جف��ير" الخلفي إلى ضفة الهور. كان البرد الذعا وقاتال يجعل الحجر يرتج��ف. ب��دوري، ارتديت تحت لباسي الرمادي تل��ك الس��ترة ال��تي حاكته��ا لي فاطم��ة، وفوق��هق مالبس��ي. السترة الواقية من المطر، الخضراء اللون. أحببت دوم��ا أن أنس�� الكث��ير من اإلخ��وة يوم��ذاك، لم يلبس��وا الس��ترات الواقي��ة من المط��ر أو

المعاطف، فراح البرد ينخر أجسامهم ويؤذيهم بنحو أكبر.

��ا من تل��ك الق��وارب على الضفة، بدأ كل سبعة أو ثمانية أشخاص يركبون قاربالتي طلي أسفلها بالزفت.

كان سائق الزورق يعرف الطريق جيدا. فع�بر من بين حق��ول القص��ب ونب��اتالبردی من دون إحداث أي جلبة أو صوت، وبعد ساعتين أو ثالث

Page 329: books.almaaref.orgbooks.almaaref.org/static/documents/zoqaq.doc · Web viewكلّ هذه الذكريات والأصوات، کانت لا تزال تتردّد في زوايا حنجرة

329

ترجلنا على ساحل الجزيرة.

تقدم إبراهيم الطابور، وسرنا خلف��ه. وعلى كت��ف أح��د الس��دود ال��ذي لم يكن يعلم في الظلمة رأسه من قاعدته، أص��در إب��راهيم األوام��ر ب��التوقف. جلس��نا في أماكنن��ا، واس��ترحنا. ك��انت األرض رطب��ة وموحل��ة، واألق��دام تنغ��رس في الوحل. وحمل الهواء معه مقدارا صغيرا من رائحة النفط. جلس��ت إلى ج�انب إبراهيم، فيما راح اإلخوة يتهامسون في هدأة اللي��ل. وهن��اك تيممت، وص��ليت ركعتين. ك��ان الجمي��ع مت��وجهين إلى الل��ه. فتل��ك ك��انت ليل��ة االف��تراق وطلب المس��امحة. وج��اء في الكتيب��ة بعض ص��غار الس��ن الملتحقين للت��و بالجبه��ة، فقبلتهم واح��دا واح��دا. ك��انوا بري��ئين ج��دا ون��ورانيين، ولق��د خ��الطتهم جميع��ا

وطلبت منهم المسامحة.

بعد ساعة، أصدر إبراهيم أوامره لنا بالقيام، فقمنا وسرنا. على بعد عدة أمتار من هناك، كانت تسمع أص��وات اش��تباكات ون��يران ش��ديدة، وق��د ألقيت بعض القنابل المضيئة فأنارت سماء الجزيرة. قال إب��راهيم: "لق��د أبلغن��ا ع��بر جه��از��ه لم تتم عملي��ة ان��دماج الق��وات الالسلكي بأن اإلخوة ع��بروا "القرن��ة"؛ إال أن

األولى بنحو صحيح، لذا، عليكم فتح جسر "طالئية" بأي وسيلة".

لم نكن ندري ماذا سنفعل؛ الكلمة األخيرة قالها إب��راهيم. ك��ان من المف��ترض أن نقوم بالعمليات في الطريق الموجود وسط الجزيرة؛ لكن العراقيين ك��انوا قد نصبوا الكثير من السواتر الترابية وبنوا القنوات المتداخلة ببعض��ها البعض،وجاؤوا بالدبابات، بحيث سلبوا منا القدرة على التفكير، وصعبوا علينا األمور.

إلى جانب السد، حيث سرنا، لفت نظري س��اتر ت��رابي قلي��ل االرتف��اع، فقلت في نفسي: إن تعقدت األمور آخذ اإلخوة ليحتموا به. ذل��ك أن كت��ف الس��د لميكن يتجاوز العشرين سنتمترا، وهو ضيق جدا ال يمكن المشي والتجوال عليه.

وبينما كنا نسير على امتداد السد، إذا بنا نفاجأ برشاش دوشكا، مثبتة على م��ايبدو في آخر السد، فبدأت بإطالق النار على سطح السد الضيق.

Page 330: books.almaaref.orgbooks.almaaref.org/static/documents/zoqaq.doc · Web viewكلّ هذه الذكريات والأصوات، کانت لا تزال تتردّد في زوايا حنجرة

330

وكما تعلمون، الدوشكا ال تعرف المزاح مع أحد. ناديت اإلخوة. كنت أفكر في ذلك الساتر الذي رأيت�ه وارت�أيت أن آخ�ذ اإلخ�وة إلي��ه إذا م�ا تعق�دت األم�ور.�ني ت�أخرت في الحرك�ة. في البداي�ة، س�ارع أم�ير ناديتهم وأرشدتهم إليه؛ لكن عطري وأحمد حاج خ��اني إلى تغطيتن��ا. بع��دها، س��قطت قذيف��ة إلى جانبهم��ا،

فتناثرت أشالؤهما يقينا ولم يبق منهما شيء.

هرعنا إلى خلف الساتر. قال إبراهيم: "سيد، كي��ف سنس��كت الدوش��كا؟ لق��دطرحت الجميع أرضا.

قلت: "بالله عليك ال ترسل أحدا إلسكاتها، ستحصد منا المزيد".

قال: "اتصلت بالقيادة؛ يطلبون مني أن أرسل إليها أربعة أشخاص تحت الماءليسكتوها".

- إن كنت راغبا، فلتجرب ذلك.

عندها، وثب أربعة أش��خاص إلى الم��اء، وراح��وا يس��بحون إلى أن وص��لوا إلى مقرب��ة من الس��د، فغطس��وا تحت الم��اء؛ وفي ذل��ك الج��انب، م��ا إن رفع��وا

رؤوسهم فوق الماء، حتى أمطرهم العراقيون بوابل من النيران.

بقيت الدوشكا تمطرنا بنيرانها إلى غروب الي��وم الت��الي، فش��لت ق��درتنا على��ا التق��دم خط��وة نحوه��ا. فق��دنا أي خي��ار الحرك��ة بالكام��ل. لم يس��تطع أي من للعودة أو التقدم. فأمامنا الدبابات التي كانت تقصفنا بش��كل مباش��ر، وخلفن��ا الماء الذي بلغت مس�افته ثالثين كيلوم�ترا. أم�ا من األعلى فن��يران الط�ائراتا على عقب. وعلى األرض، تن��اثرت المروحية تحرث كتف الس��د، وتقلب��ه رأس�� أجساد الشهداء، وراح الجرحى يئنون ويرتفعون شهداء واحدا بعد اآلخر. يا ل��ه

من محفل!

عندها، أخذتنا الحمية شيئا ما، فانتقمنا من العراقيين على ما فعلوه بنا.

Page 331: books.almaaref.orgbooks.almaaref.org/static/documents/zoqaq.doc · Web viewكلّ هذه الذكريات والأصوات، کانت لا تزال تتردّد في زوايا حنجرة

331

قبيل الغروب، جاء "جعفر جهروتي زاده" وكان معلما في التخريب. فتش عن طريقة ليسكت الدوش��كا. في النهاي��ة، وم��ع طل��وع الفج��ر، قف��ز أح�د اإلخ��وة التعبويين، وال أعرف اسمه، إلى الم��اء، وتق��دم إلى أن وص��ل إلى مقرب��ة من دشمة الدوشكا، رمى عليها قنبلة وأسكتها، وارتفع ش��هيدا في مكان��ه. عن��دها، قال إبراهيم: "يا شباب، إن القوات التي توجد على يميننا وشمالنا هي ق��وات

"أبي ذر". هذا ما أبلغت به عبر جهاز الالسلكي".

سررنا لذلك، وظننا بأننا سنتقدم خطوة إلى األمام وأن انفراجا م��ا سيحص��ل، وأن كتيبة "أبي ذر" قد جاءت لتؤازرنا؛ لكن، ب��دأت الق��ذائف بالمئ��ات تس��قط��ون على الس��اتر، ب��القرب في ناحية الكتيبة، فلم يبق منها أحد. وهجم العراقي من السد وأحدثوا جلبة كب�يرة "والقت�ل ش�غال"! واقع�ا أص�بحوا على مس�افة قريبة منا. وتعقدت األمور بشدة. رميت عليهم بشدة وأف��رغت ك��ل مخ��ازني، ورميت بقنابلي وكل ما كان بحوزتي. كدت أختنق من رائحة ال��دخان والب��ارود والدماء. حينذاك، رأيت من المصلحة االنس��حاب. ن��اديت س��بعة أو ثماني��ة من اإلخ�وة وتراجعن��ا مس�رعين إلى حاف��ة الم��اء. رأيت اإلخ��وة يثب��ون في الم��اء،

فقلت لهم: "أيها السادة، اركبوا القوارب".

لكن اإلخوة خافوا. فقد كانوا صغارا في السن، ذوي قلوب رقيقة. أن��ا ص��دقا،��ا. وإنم��ا هي جزي��رة ص��غيرة شعرت بالخوف، فالموت على مسافة خطوة من��ون يحرثونه��ا بواب��ل ن��يرانهم ش��برا جدا عائمة على سطح الماء، ك��ان العراقي بشبر قنابل هاون، رصاص، قذائف... إال أن جماعة صبرت وس��ط ذاك الجحيم

وقررت متابعة عملها.

بعض اإلخوة قاموا بعم�ل ينم عن ع�دم تجرب�ة. فق�د وض�عوا م�ا بين العش�رة والخمسة عشر نفرا في مقدمة القارب، فانقلب القارب في الماء. ي��ا ل�ه من

مشهد عجيب! رأيت جثتين تطفوان على سطح الماء وقد انغرزت

Page 332: books.almaaref.orgbooks.almaaref.org/static/documents/zoqaq.doc · Web viewكلّ هذه الذكريات والأصوات، کانت لا تزال تتردّد في زوايا حنجرة

332

فيهما بعض أعواد القصب.

صرت أفكر في تلك اللحظة بنفسي. قفزت إلى أحد القوارب وانسحبت. في قوية، أدركت حينه��ا1الطريق، أثناء االنسحاب، شممت رائحة "قورمه سبزى"

بأني تنشقت المواد الكيميائية.

استخدم العراق حينها السالح الكيميائي للمرة األولى.

وإننا ما شاء الل��ه، لم نكن نمل��ك األقنع��ة الواقي��ة للغ��ازات الس��امة، ولم نكننعرف ما هي طبيعة السالح الكيميائي.

ما إن وصلت إلى الس��احل، حتى ذهبت إلى مق��ر الفرق��ة ألس��تعلم األوض��اع. وج��دت هن��اك كال من "عب��اس ك��ريمي"، "رض��ا دس��تواره"، "الح��اج همت"��ني ف��رحت كث��يرا حين و"الحاج إبراهيم". لم أعلم متى انس��حب إب��راهيم؛ لكن

ا يرزق. وجدته حي

كانوا يتحدثون عن أجواء المعركة. لقد كبدنا الع��راقيين خس��ائر فادح��ة، لكنن��ا أيضا قدمنا شهداء وجرحى كثرا. صعب هذا على القادة. لقد كانوا مض��طربين ويتداولون في األمر. ق��ال "عب��اس ك��ريمي": "لق��د أرس��لتم الش��باب إلى فم

األسد!".��ا ن��رغب ب��أن نخس��ر ش��بابنا ه��درا؟ تكليفن��ا ه��و أجابه الح��اج همت: "وه��ل كن

االمتثال لألوامر".

كان إبراهيم يصيح بشكل جنوني ويقول: "يا أخي، إن شجاعتنا ال تعود لنا، إنها تعود لهؤالء التعبويين. لقد أبيدت كتيبة، فليكن، فداء للوالية. ليس علينا القيام

بعمل آخر، يذهب بقوات الكتيبة هدرا".

1   . هذه تشتهر األرز جانبها إلى ويقدم واللحم، الخضار من أنواع عدة من تتكون اإليرانية الوجبات أشهر من. الحادة برائحتها الطبخة

Page 333: books.almaaref.orgbooks.almaaref.org/static/documents/zoqaq.doc · Web viewكلّ هذه الذكريات والأصوات، کانت لا تزال تتردّد في زوايا حنجرة

333

كان همت مستاء كثيرا وقلقا. مع أنه رجل ذو معرفة وفهيم؛ لكنه لم يس��تطع أن يفعل شيئا. فحينذاك كان البحث بحث الوقوف في وجه العراق والدفاع، ال

بحث المشاعر واألحاسيس.

لم يع��د بي طاق��ة على الخ��وض في مس��ائل الح��رب ونقاش��ات المق��ر، تعبت كث��يرا وأنهكت ق��واي. خ��رجت بلباس��ي الرم��ادي الملطخ بال��دماء من المق��ر. ظلت رائحة النفط تزكم أنفي، فرحت أسعل س��عاال هادئا. أم��ا اإلخ��وة ال��ذين وصلوا بعدي إلى الخطوط الخلفية وكانوا قد استنشقوا الغاز الكيميائي بشكل

كبير، فصاروا يسعلون سعاال حادا ويتقيأون.

بت ليلتي تلك في مقر الفرقة، وذهبت في اليوم التالي إلى "دوكوهه" ومنه��اعدت إلى طهران.

في اليوم التالي، سمعت بأن "الحاج همت" و"أكبر زجاجي" قد ذهب��ا ليتفق��دا��ة واستش��هدا هن��اك. ب��رأيي، لم يكن ينبغي الجزيرة، فأص��ابتهما قذيف��ة مدفعي السماح لقائد مثل هذا بالذهاب إلى جزيرة الشؤم تلك. الجزي��رة ال��تي ك��انتا على عقب بفع��ل ن��يران الع��راقيين. لكن وا أس��فاه إذ ذهب ق��د قلبت رأس����ات س��تتوقف برحي��ل وخسرناه به��ذه الطريق��ة. وك��أن الع��راق علم أن العملي الحاج همت، وأن ك��ل ش��يء مرتب��ط بوج��وده المب��ارك. نقاش��ات المق��ر تل��ك أشارت إلى أن البعض تحسس من بعض األمور. وعلى ك��ل ح��ال، لق��د فق��دنا قائد عمليات خيبر، وحامل الراية "زجاجي"، والكث��ير من التعب��ويين الش��جعان��ه مس��ؤول ك� "أحمد حاج خاني" و"أمير عطري"؛ الرجل الذي لم يقل يوما إن شؤون االفراد أو العديد. فك��ان يجلس في م��ؤخرة الش��احنة كجن��دي مجه��ول ويذهب إلى المعركة؛ الرجل الذي جع��ل زوجت��ه ووالدي��ه ينتظرون��ه لس��نوات؛ الرجل الذي دافع عن غربة اللطم والعزاء الحسيني، وال��ذي حف��ظ م��اء وج��ه

الكثيرين وحل

Page 334: books.almaaref.orgbooks.almaaref.org/static/documents/zoqaq.doc · Web viewكلّ هذه الذكريات والأصوات، کانت لا تزال تتردّد في زوايا حنجرة

334

مش��اكلهم من دون ادع��اء وب��أخالق عالي��ة. س��قى الل��ه ذك��راه وذك��رى جمي��عالرجال الشجعان.

في تل��ك الف��ترة، ك��ان برن��امجي الي��ومي عب��ارة عن المش��اركة في تش��ييع الشهداء، ومجالس الفاتحة التي أقيمت عن أرواحهم، وعي��ادة الج��رحى. وفي تلك الفترة، كانت المدينة والبالد كافة تفوح برائحة العش��ق. ومج��الس ال��ذكر

والتوسل عمت سائر األمكنة. وكانت الخدمة جزءا من حياة الناس اليومية.

ذات يوم، قال لي "رضا ب��ور أحم��د" إن بعض اإلخ��وة ش��كلوا هيئ��ة، فلن��ذهبالليلة إلى هناك".

عند المساء، ذهبنا معا إلى "باتشنار". فمن خالل بيت صغير، وبص��وت "داوود��اس، عاب��دي" و"الح��اج حس��ن عاب��دي" الع�ذب والحن��ون من هيئ��ة محبي العب واللذين كانا بالموقع نفس��ه م��ع "محم��ود جولي��ده" في جم��اران، أقيم مجلس أنيس وحاف��ل، وفي آخ��ره ش��رع "محم��ود جولی��ده" یتح��دث بح��ديث القلب والروح. بعدها ب��دأ "داوود عاب��دي" ب��ذكر "ي��ا علي م��دد" وهن��اك رأيت للم��رة األولى وجوه رجال أمث��ال "غالم غلي��اف"، "أص��غر أرس"، "مجت��بى درودک�ر"، "مجي��د ش��يخ ون��د"، الس��يد محس��ن الموس��وي"، "رض��ا امي��د علي"، "علي رمضاني" والكثير من األبطال اآلخرين، وتهيأت الظروف أللتقي رفاق الخندق

في "عمليات بدر" من كتيبة "ميثم".

��ه ق��د في تلك الفترة، سمعت من "السيد محمد كشفي" أحد أبناء محلتن��ا، بأن أعيد إحياء كتيبة "ميثم". فأصبح قادة الكتيبة: "عزيز رحيمي" و"الس��يد أص��غر��ة ش��ميران و"الس��يد أب��و الفض��ل ك��اظمي معص��ومي" وهم��ا من أبن��اء محل

مزدآبادي"، رفيقي القديم وموافقي في المسلك واألخالق.

Page 335: books.almaaref.orgbooks.almaaref.org/static/documents/zoqaq.doc · Web viewكلّ هذه الذكريات والأصوات، کانت لا تزال تتردّد في زوايا حنجرة

335

..وفاحت عطور العشق

إن طردت أيها الحبيب من زقاقك.. سأعود من جديد

م حين ترددت أنباء عن اق��تراب1985في أواخر شهر كانون الثاني من العام موعد العمليات، ذهبت إلى "دوكوهه". من لطف��ه وتواض��عه ج��اء الس��يد "أب��و

��ا عني. فق��د علم1الفضل كاظمي" إلى محط��ة القط��ار في "أنديمش��ك" باحث عن طريق "سعيد مجلسي" بأنني آت إلى الجبهة. لذا، جاء برفقة "عباس بور أحمد" و"عباس رضا بور" إلى محطة القطار الستقبالي، من هناك انتقلنا مع��ا إلى موق��ع كتيب��ة "ميثم". ك��ان الس��يد "أب��و الفض��ل ك��اظمي" من الق��ادة��ة "ب��اغ بيس��يم"، وك��ان ه��و المقتدرين والمتمرسين بالحرب، من ش��باب محل�ا. وق�د تع�رفت إلي�ه من�ذ ح�وادث �ة ذاته�ا تقريب وأص�غر أرس�نجاني من المحل الثورة، وآمنت بكفاءته ولياقته للقيادة. في مخيم "الش��هيد بروج��ردي" حض��ر الحاج عبد المجي��د همت علي، ومجت��بى هادي��ان، وحجت أم��ير ص��وفي، وعلي رمضاني، وأكبر بشت كوهي، وسعيد طوق��اني و...، وك��انوا جميع��ا من ش��بابا ومتجانسا. ه��ذا م��ا محلتنا القدامى ومن شباب طهران، وشكلوا جمعا حميميا- الش��باب الش��جعان وأه��ل القلب والعش��ق شاءه القدر، بأن يلتح��ق -ال إرادي

بكتيبة "ميثم". لقد تجلى لذلك الجمع

1 . هنا الذكريات صاحب اسم اسمه يماثل كتيبة قائد كاظمي الفضل أبو

Page 336: books.almaaref.orgbooks.almaaref.org/static/documents/zoqaq.doc · Web viewكلّ هذه الذكريات والأصوات، کانت لا تزال تتردّد في زوايا حنجرة

336

ص��فاء خ��اص لم أش��هد مثل��ه في أي من الخيم والكت��ائب. تواف��د المض��حون للقت��ال والش��هادة. وك��ان ال ب��د لش��باب كتيب��ة "ميثم" أن تتش��ابه ع��اداتهم وأخالقهم ليجتمعوا تحت س��قف واح��د. معظمهم من ش��باب طه��ران ورف��اق؛ جريئ��ون وش��جعان ال يعرف��ون االنض��باط. وجميعهم من أه��ل مج��الس الع��زاء واللطم محبون أله�ل ال�بيت عليهم الس��الم، ومن أه�ل العش�ق واإلخالص. لم يكونوا باحثين عن المنص��ب والمس��ؤولية. فكتيب��ة "ميثم" تع��ني أن تعيش من أجل عشقك. ولهذا السبب، انجذب مداحون من أمثال "محمود جوليده" إليه��ا

من تلقاء أنفسهم.

كان محمود من أبناء "كذر لوتي صالح"؛ ش��جاعا عارف��ا بأه��ل ال�بيت وعاش��قا لهم. حسن الوجه حلو اللسان. كنا ن��ذهب س��ابقا إلى هيئ��ة "باتش��نار". وك��ان "عباس بور أحمد"، "رضا بور أحمد"، "أصغر ارس��نجاني"، "حس��ين ط��اهري"ا م��داحون، ومن و"رضا مير كمالي"، من المولعين ب���"كتيب��ة ميثم". وهم أيض��

أهل القلب.

في الیوم األول، بعد انته��اء المراس��م الص��باحية، ح��دثت جلب��ة بين الص��فوف. كانت تصدر أص��وات ثغ��اء كثغ��اء الخ��راف، وارتفعت قهقه��ات اإلخ��وة، راح��وا

يمزحون ويمرحون ويسخرون من بعضهم البعض ممازحين.

في تلك الفترة، راجت كلمة بيننا. فبمجرد أن كان يلتقي أحدنا باآلخر يقول له "أنا حمارك". وذات يوم جاء أح��د علم��اء ال��دين إلى كتيب��ة "ميثم". وك��ان من أبناء محلة "الشاه عبد العظيم"؛ متوسط العم�ر، يمي��ل إلى البدان�ة ش�يئا م�ا. كان يعتمر العمامة في الصالة، أما فيما ع��دا ذل��ك، فك��ان ينزعه��ا عن رأس��ه، ويخالط اإلخ��وة ويجالس��هم بلباس��ه الرم��ادي. وحين رأى أن اإلخ��وة يظه��رون شيئا من االحترام لي، جاءني وسأل: "سيد، م��ا ه��ذه الكلم��ات ال��تي أش��يعت

وروجتم لها من أمثال: أنا حمارك؟".

Page 337: books.almaaref.orgbooks.almaaref.org/static/documents/zoqaq.doc · Web viewكلّ هذه الذكريات والأصوات، کانت لا تزال تتردّد في زوايا حنجرة

337

قلت له: "إن أردت أن تبقى وترسخ في كتيب��ة "ميثم"، علي��ك أن تتع��رف إلىثقافتهم وعاداتهم. عليك أن تعرف كيف تتعامل معهم".

- وما هي ثقافتهم وعاداتهم؟ - عليك أن تحاكيهم وتقلدهم. وأن تعيش كأي واحد منهم. إن شباب طهران ال��ون المواع��ظ. ل��دينا في طه��ران علم��اء ك��ثر، ودراويش وذوو خ��برة في يحب الس��لوك والعرف��ان والعلم والعش��ق، ك���"الش��يخ ح��ق ش��ناس" والس��يد علي النجفي، وهما من أولياء الله وذوي التأثير ومستجابي الدعوة، وممن يق��دمون

الغذاء المعنوي. إننا نحل مشاكلنا عند هؤالء. ونعتقد بكالمهم ونسمع لهم.- وماذا يقول علماؤكم؟

- إنهم ب��دل الكالم والموعظ��ة، يب��ادرون للعم��ل أوال، ف��ترى فيهم العرف��انالعملي. إنك ترى المعجزة وتسمعها في عملهم وسلوكهم وأقوالهم..

- وما الذي يجب أن أفعله اآلن؟ - األمر األول أن تأتي معنا في الصباح إلى ن��ادي "الزورخان��ه" وتم��ارس معن��ا

الرياضة.

في صباح اليوم التالي، عقدت بنفسي اإلزار للشيخ، وأدخلته حلبة الزورخان��ه.��ه لم شرعت بحركات الليونة شيئا فش��يئا، وراح الش��يخ يتح��رك ويتماي��ل؛ لكن يس��تطع أن يحم��ل اله��راوة. وم��ا إن س��لمته اله��راوة حتى جث��ا على ركبتي��ه

؛ فقمن��ا1وجلس. بع��د ذل��ك وق��ف إلى ج��انب الحلب��ة وذهبن��ا نحن للس��باحة بممارس��ة س��باحة ال��رجلين المنفرج��تين، وال��رجلين المض��مومتين، وس��باحة

االستلقاء

1 . الزورخانه رياضة في الحركات إحدى

Page 338: books.almaaref.orgbooks.almaaref.org/static/documents/zoqaq.doc · Web viewكلّ هذه الذكريات والأصوات، کانت لا تزال تتردّد في زوايا حنجرة

338

على الظهر. كان "سعيد طوقاني" بطال صغيرا و"عباس دائم الظه��ور" معلم��ا��ة القديم��ة. فكان��ا يتناوب��ان على في الض��رب على ال��دف والرياض��ة التراثي��ة والكرمانش��اهية كمعلمين. الضرب، ويقومان بحركات ليونة األرج��ل التبريزي

يتقدمان إلى األمام ويرجعان إلى الوراء وينشدان الرباعيات الصوفية.

��ا جميع��ا ننح��ني، ومن ثم نق��وم ونبقى عندما كان المرش��د يق��ول: "علي"، كن نفعل ذلك إلى آخر األمر. أي إننا نقوم مرة ثانية بحركات الليونة ليبقى الب��دن

حاميا.

ودع��اء "محم��د ولي ك��اظمي" إذ يق��رأ بتوج��ه:1آخر العمل هو "الخميركيري"��ا. إلهي ال تخرجن��ا من قبورن��ا س��ود "إلهي ال تخرجنا من الدنيا حتى ترضى عن

الوجوه..". وكان يختتم بالصلوات على محمد وآله معلنا انتهاء الرياضة. شيئا فشيئا، بدأ ذلك يعجب الشيخ، وأصبح رفيق��ا لن��ا. في��أتي في الص��باح إلى

نادي الزورخانه، يخالط اإلخوة إلى أن احتل بالنهاية، مكانا في قلوبهم.

كان "داوود عابدي" شجاعا وبطال آخر من أبطال كتيبة "ميثم"، يق��رأ مج��الس��ة األص��يلة ��ة باللهج��ة الطهراني الع��زاء بص��وت ع��ذب وجه��وري، ويتل��و األدعي��ه لم يلت��ق يوم��ا ب���"أب��رام والمشبعة، واإلخوة ينادونه ب�"داوود غ��زلي". م��ع أن��ه أص��بح من مريدي��ه، فك��ان كلم��ا التق��اني س��ألني عن بطوالت��ه ه��ادي"، لكنا ذا مقدم��ة ومسلكه. أراد أن يصبح شهما ك���"أب��رام". ك��ان ينتع��ل ح��ذاء قطني

ا وقبعة، وهذا ما كان يزيد من بهاء الطلعة. حادة، وسرواال كردي

كان داوود يملك س��بحة من الس�ندلوس الف�اخر، وك�ل ص�باح يفركه�ا ب�الزيتلتصبح شفافة وأكثر لمعانا. التحق داوود بكتيبة "ميثم" منذ

1 . الخصر تليين يتم وفيها التراثية الزورخانه رياضة حرکات إحدى

Page 339: books.almaaref.orgbooks.almaaref.org/static/documents/zoqaq.doc · Web viewكلّ هذه الذكريات والأصوات، کانت لا تزال تتردّد في زوايا حنجرة

339

". وفي كل مرة كنت أراه والسبحة في يده.4عمليات "والفجر

��ات، فك��ثرت ش��يئا فش��يئا، ب��دأت األنب��اء تس��ري عن اق��تراب موع��د العملي التوجيه��ات وإعط��اء التعليم��ات، وك��ثرت االس��تطالعات. وعلمن��ا ب��أن اس��م العمليات سيكون "بدر"، وأنها ستكون شبيهة ب�"عمليات خيبر" واستكماال لها. فكانت القوات التي شاركت في "عمليات خيبر" وتعرف طرقه��ا ومنح��دراتها، موجهة تقريبا وعلى دراية بالتعليمات، كما كان الخط الخلفي ونقطة االنتش��ار��ق بالمنطق��ة، معلومين بالنسبة لهم. لكن العراق أصبح حساسا جدا فيم��ا يتعل

ولم يكن واضحا كيف سيتعامل هذه المرة؛ وهل سيدعنا نتقدم أم ال.

في أوائل شهر آذار، ذهبنا ذات ليلة بالحافلة إلى خط "جفير" الخلفي. وص��لنا إليه قرابة السحر. كانت خيمه مع�دة ومجه��زة. وهن��اك، لم نقم ب��أي ت��دريبات��ا ن��ؤدي ص��التنا ��ة. فكن وتمارين ليلية؛ ذلك أننا كنا قريبين من الخطوط األمامي��ة في الخيم؛ في الخيم، وال نجتمع خارجها. أنجزت التدابير واإلج��راءات اإلداري كتسليم الوسائل والممتلكات الشخص��ية إلى تع��اون الفرق��ة، وكتاب��ة الوص��اياا ولم أكن أملك وأمثالها، ولم أعتد يوما فعل أي منها. فلطالما كنت عنصرا حرتي، أي ممتلك��ات شخص��ية. وممتلك��اتي الشخص��ية الوحي��دة هي البالك خاص��

والمنديل الحريري والخاتم وكنت أحملهم معي أينما ذهبت.

بدأت المرحلة األولى من العمليات في الثامن من آذار، وتم اختراق خط دفاعالعراقيين. وفي الليلة الثانية للعمليات كان دور كتيبة ميثم لتهجم على الخط.

في صباح اليوم الثاني، ذهبت برفقة "محمود جوليده" و"داوود

Page 340: books.almaaref.orgbooks.almaaref.org/static/documents/zoqaq.doc · Web viewكلّ هذه الذكريات والأصوات، کانت لا تزال تتردّد في زوايا حنجرة

340

عابدي" إلى خيمة كتيبة "أبي ذر". وكان قائدها "محمد ن��وري نج��اد"، ومعظمعناصرها من أصحاب المروءة والشهامة وذوي البنى القوية.

ذهبنا لنستعلم األخبار من "حسن بهمني"، و"كاظم رستکار"، والتحق بالكتيب��ة حينها "بهمن نجفي" أيضا، وكان يوما قائد لواء، وها هو اآلن حاضر بين عناصر كتيبة أبي ذر مثله مثلي، كجن��دي بس��يط وع��ادي. عن��دما جلس��نا ح��ول بعض��نا

ا فساد الجو حال معنوية. البعض، أنشد داوود شعرا صوفي

سألت بهمن إن كان لديه أخبار عن "حسن بهم��ني" و"ك��اظم رس��تکار" أم ال، فقال: "كانا هنا اليوم برفقة "ناصر شيري". وقد التحق كل منهما بكتيبة "أبي

ذر" كعنصر حر وتعبوي، ليشارك في عمليات بدر".

عصر ذلك اليوم أقيم مجلس عزاء حسيني، وق��رأ المجلس ك��ل من "محم��ود جولی��ده" و"داوود عاب��دي". في زحم��ة اللطم ن��اداني ش��خص وق��ال لي: "إن

"كاظم" و"حسن بهمني" خلف الخيمة، اتبعني إن كنت تريد رؤيتهما".

قلت: "فلننتظر ريثما ينتهي المجلس".

��ة بع��د دق��ائق، علت أص��وات النحيب والبك��اء، وغم��رت المجلس ظالل معنويعجيبة. حين قمت وخرجت رأيت كاظم وحسن يغادران.

ناديتهما، فعادا. سلمت عليهما، وأدخلتهما في الخيمة بعد إصرار كبير.

وقد أعد "عباس بور أحمد" لنا الشاي.

بدا حسن منقبض القلب ومضطربا. سألته: "لم التحقت كعنصر حر؟ أنت قائدذو خبرة وقدير، عليك أن تتسلم مسؤولية ما لتسير األمور قدما..".

- عزيزي يا سيد، لم ولن أسعى يوما وراء المسؤولية. ولم أتاجر مع أحد آلخذالتنويه. إن قالوا لي "اجمع األحذية، أجمعها، وإن قالوا تسلم

Page 341: books.almaaref.orgbooks.almaaref.org/static/documents/zoqaq.doc · Web viewكلّ هذه الذكريات والأصوات، کانت لا تزال تتردّد في زوايا حنجرة

341

. لكنني أردت أن أقول لهؤالء "ال تظنوا ، أتنح مسؤولية أتسلمها، وإن قالوا تنحا أنني ال أفهم األمور". أن��ا رج��ل الح��رب، وق��د جئت ألقات��ل؛ لكن لي اعتراض�� على أس��لوب قت��الكم وح��ربكم. عليكم أن تزي��دوا من الت��دريبات العس��كرية. وتطوروا بناء الدشم والدفاع الشخصي. وعلى القناصة أن يتدربوا بنحو صحيح

وعلى األصول. عليكم أن تقوموا باألعمال بنحو مدروس.

امتدت جلستنا قرابة النصف ساعة، وبثثن��ا همومن��ا لبعض��نا البعض. ك��ان كالم��ات. عن��دما أراد الرحي��ل، حسن بمعظمه عن الح��رب وطريق��ة القي��ام بالعملي�رثى ل�ه. ك�ان احتضنا بعضنا البعض وطلبنا المس�امحة، وذهب حس�ن بوض�ع ي بحال سيئة ألنه كان عاشقا. فالعشق ال يعرف الحیثية والس��معة. لم تع��د روح حسن تستطيع البقاء حبيسة جسمه. لم يفهمه أحد في تل��ك الف��ترة ويعرف��ه. لقد كان منقطعا عن الدنيا، ويعيش حاال معنوية كبيرة بحيث بدا وبنح��و واض��ح

بأنه ذاهب من دون عودة.

بعد ذه��اب حس��ن، ع��دت إلى الخيم��ة حيث يقيم اإلخ��وة مجلس الع��زاء. ق��رأ�اس علي��ه الس�الم، وبقين�ا جميع�ا داوود في آخر الليل مجلس أبي الفضل العب��ات لم يع��د مس��تيقظين إلى وقت االنطالق نح��و الخ��ط األم��امي. أثن��اء العملي��اني هناك فرق بالنسبة لي بين المنديل الحريري والكوفية، أو بين الحذاء الكت والحذاء العسكري، فلبست ما حصلت عليه. لم أع��د أك��ترث لش��يء، ك��ل م��ا��ني لم أس��ع لت��أمين جعب��ة أردته هو الهجوم على خط دفاع العراقيين. حتى إنالماء وال السالح. كنت ذاهبا من دون سالح، ألرمي ما لدي من الرمان��ات، ال�"

B7.و... كنت أريد أن أقاتل فحسب "

في منتصف الليل، ركبن��ا ش��احنة، ووص��لنا قراب��ة الفج��ر إلى الس��احل. ك��انتا وس��ط العتم��ة ونطلب ��ل بعض��نا بعض�� القوارب مجهزة. قبل ركوبها، رحنا نقب المسامحة. كنت أرتدي لباسا واقيا من المطر أخض��ر الل��ون، وقبع��ة، وجزم��ة

بالستيكية تصل إلى أسفل الركبة.

Page 342: books.almaaref.orgbooks.almaaref.org/static/documents/zoqaq.doc · Web viewكلّ هذه الذكريات والأصوات، کانت لا تزال تتردّد في زوايا حنجرة

342

وقف "ميثم غفاري" وكان بطال في الدوران في رياضة الزورخانه، وذا عي��نينخضراوين، في زاوية ساكتا، يتفرج على اإلخوة.

واحدا بعد واح��د، ركبن��ا الق��وارب ال��تي ك��انت ذات مج��اديف ومح��رك في آن.منا إلى ف��رق مؤلف��ة من ا؛ لكنن��ا قس�� وكان كل منها يتسع الثني عش��ر شخص��

ثمانية عناصر. وكنا جميعا ندندن بهذه األبيات من الشعر:ذاك الحسين الذي مجده الله أضعافا مضاعفة

هو األمير وكل العالمين مساكينهالماء مهر للزهراء وقضى عطشان إلى جنب الفرات

ا ليبقى دين محمد حي

ساد السكون المكان ولم تعد تسمع س��وى دن��دنات اإلخ��وة. س��رنا في عتم��ة الليل وانطلقنا من المعبر المائي. لم نكد نبتعد عن الض��فة حتى باغتن��ا رش��ق من الن��يران وس��ط الم��اء لم أدر من أي جه��ة انطل��ق. حمين��ا رؤوس��نا بأي��دينا والتص��قنا ب��أرض الم��ركب. على م��ا يب��دو أن دش��مة كمين للع��راقيين ك��انت موجودة في المكان وما علمنا بها. بلطف الل��ه، م��رت الرصاص��ات من ج��انبا ق��د القارب ولم تتسبب لنا بأي خسائر. كان المسير الذي سلكناه مع��برا مائي سلكه عناصر المعلومات قبلنا، وتوجب علينا المسير في الطريق نفس��ه. ول��و انحرفنا يمينا أو يسارا، لكان من الممكن لقاربنا أن يصطدم باأللغام. استغرق نقل القوات إلى الساحل الجنوبي ل�"جزيرة مجنون" إلى ما قبل غروب اليوم

الثاني.

عندما وصل قاربنا إلى ساحل الجزيرة وترجلنا منه، قي��ل لن��ا: عليكم االنتظ��ارإلى حين اشتداد الظلمة.

عمد العناصر الذين وصلوا قبلنا إلى حفر دشم شبيهة بوجار الثعلب

Page 343: books.almaaref.orgbooks.almaaref.org/static/documents/zoqaq.doc · Web viewكلّ هذه الذكريات والأصوات، کانت لا تزال تتردّد في زوايا حنجرة

343

في سفح السد واحتموا فيها. كان البعض نائم��ا، فيم��ا راح آخ��رون يدردش��ونويتناجون فيما بينهم.

إلى جانب أحد السواتر سقط جثمان الشهيد "هاشم حم��امي" المس��ؤول عن��ة "غي��اثي". وك��انت رصاص��ة مباش��رة ق��د حمام الكتيبة، وهو من ش��باب محل��ة. كم��ا أصابت رأسه فراح اإلخوة ينتظرون قاربا لينقل��ه إلى الخط��وط الخلفي��ه استش��هد حين وص��ل إلى الخط��وط أصيب "مهدي بور"، وعلمنا فيما بع��د أن��ة. قراب��ة الس��اعة الحادي��ة عش��رة نهض��ت من مك��اني ألق��وم بجول��ة الخلفي

وإذا بي1وأستطلع المكان بالقرب من حقول القصب. ذهبت إلى حافة ال�"بد" أرى من البعيد شبح قارب وسط حقول القص��ب، في��ه ع��دة أش��خاص، يتوج��ه��ه ق��د أض��ل الطري��ق. ك��انت نحونا، ويستدير يمنة ويسرة من حين آلخ��ر. وكأن المسافة بيني وبينه ال تعدو المئ��تي م��تر. ص��ار ي��دور ح��ول نفس��ه وال يتق��دم. احتملت بأنه علق في األسالك الشائكة. رحت أسير إلى جانب الحافة إلى أن اق��تربت منهم بحيث يس��معونني، وقلت به��دوء: "توقف��وا في مك��ان م��ا. وال

تتحركوا. توجد ألغام في المكان، إن تحركتم، انفجرت".

سمعوا كالمي وثبتوا في مكانهم. ذهبت وأخبرت شباب المعلومات. ف��انطلقوا بقارب وجاءوا بهم. عندما وصل القارب، تبين أنهم بعض العناصر المتبقية من

كتيبة "ميثم".

عند الحادية عشرة والنصف ليال، جاء إلي الس��يد أب��و الفض��ل ك��اظمي وق��ال:"تعال يا سيد لنذهب إلى مكان ما، فلي حديث معك".

ذهبت معه إلى ناحية من نواحي الساتر الترابي، قال: "سيد هناك أمر

1 ( . ابن الدين نور كتاب في عنها مفصال الحديث ورد والمستنقعات الماء في مستحدثة ترابية وتحصينات طرقالقافلة(- سادة .20ايران

Page 344: books.almaaref.orgbooks.almaaref.org/static/documents/zoqaq.doc · Web viewكلّ هذه الذكريات والأصوات، کانت لا تزال تتردّد في زوايا حنجرة

344

أخجل من مفاتحتك به".- ال، قل؛ ال مشكلة في ذلك.

- نري��د اآلن أن نقط��ع ع��دة كيلوم��ترات راجلين، س��تتخلف أنت عن ال��ركببرجلك المصابة هذه.

- كال، سآتي، لقد قطعت كل هذه المسافة ألكون معكم.- أنا قلت لك، المسافة طويلة، وال مزاح في األمر.

بعدها عدنا إلى صفوف اإلخوة.

بعد ثالثة أرباع الساعة تقريبا، جمعنا اإلخوة خلف الساتر الترابي.

فجأة ناداني أحدهم بصوت خافت: "سيد أبو الفضل، سيد أبو الفضل..".

التفت فإذا بي أراه "داوود عابدي". قلت: "عزيزي داوود ما بك؟".- بأي ذكر تحب أن ننطلق نحو العراقيين؟

- بأي ذكر تريد.- أنت من السادة، وإننا ال نبدي رأيا فوق رأي السادة.

- اختر اآلن ما بدا لك.- أحب أن أقول شيئا في "حيدر".

- وهو كذلك. - تع��ال واجلس إلى ج��انبي؛ أري��د أن أق��رأ مقطع��ا أخ��يرا من مجلس أم��ك

الزهراء عليها السالم.

Page 345: books.almaaref.orgbooks.almaaref.org/static/documents/zoqaq.doc · Web viewكلّ هذه الذكريات والأصوات، کانت لا تزال تتردّد في زوايا حنجرة

345

بدأ داوود بالقراءة بهدوء، فجاء اإلخوة واحدا بعد آخر والتفوا حولنا.

حسين عزيزي، أصغر أرس، أصغر كالهدوز، عباس رضا بور، س��عيد طوق��اني،محمود عطا، الحاج همت علي و...

اعترض السيد أبو الفضل. تق��دم نحون��ا وق��ال: "م��اذا يج��ري ي��ا عم؟ ال��تزمواالهدوء أكثر، قد ينكشف أمرنا جميعا".

في النهاية، قرأ داوود:إن طردت من زقاقك أيها الحبيب

سأعود والله من جديد حتى ولو لم يريدوني قافلة محضرك1أصبحت أيها الحبيب كلب

على أمل أن يوصلوني إلى زقاقك

ا، وب��دا بكينا جميعا. حدست بأن داوود راحل ال محالة. لق��د أص��بح حقا س��ماويذلك على وجهه. نظرت إليه، أخرج مشطا من جيبه وراح يسرح لحيته.

قلت: "داوود وكأنك على موعد مع حبيب".

قال: "أريد الليلة أن أنال مكافأتي يا سيد!".

قرابة الساعة الثانية عشرة، سرنا في الطابور بهدوء تام.

2التقيت ب�"أسد الله بازوكي" في مكان ما. كان العراقيون قد اخترقوا جانبه*فقاوم شبابه مقاومة شرسة، لكنهم أصيبوا واحدا بعد آخر وسقطوا

1 . هجرتهم في رافقهم الذي الكهف أهل كلب إلى إشارة2 . جبهته خاصرة من شيئا أخذوا

Page 346: books.almaaref.orgbooks.almaaref.org/static/documents/zoqaq.doc · Web viewكلّ هذه الذكريات والأصوات، کانت لا تزال تتردّد في زوايا حنجرة

346

شهداء وجرحى. ق��ال اإلخ��وة إن الع��راقيين موج��ودون في القن��اة، ويحمل��ونمناظير ليلية.

تق��دم الط��ابور حام��ل ل��واء الكتيب��ة "عزي��ز رحيمي"، والس��يد "أب��و الفض��ل ك��اظمي"، مع��اون الكتيب��ة، فس��ار اإلخ��وة خلفهم��ا. في البداي��ة، كنت في المقدمة، شيئا فشيئا بدأت رجلي تؤلمني، فتخلفت عن الطابور. ك��ان اإلخ��وة يأتون ويمرون من جانبي. ب��دأت الن��يران تعن��ف وتس��بب ال��ذعر. توجهن��ا نح��و ساتر ترابي هاللي الشكل. كان من المفترض بكتيبة "عمار" أن تق��وم بعمله��ا من ج��انب الم��اء، وكتيب��ة "ميثم" من على يمين الس��اتر الهاللي، وكتيب��ة "أبي��ا، ص��ف الع��دو رتال ذر" من الجهة اليسرى له. إلى األمام على بعد مئة متر من من ال��دبابات. وهن��اك اش��تد ألم رجلي كث��يرا بحيث تخلفت حتى عن الس��رية الثالثة وصرت في مؤخرة الكتيبة. لم تعد رجلي تستطيع حم��ل جس��دي. ك��ان

الطابور يبتعد عني فيما بقيت ألهث خلفهم.

تابعت طريقي وأنا أعرج في مشيتي. إلى األم��ام قليال، ش��اهدت شخص��ين أو ثالثة ملتفين حول بعضهم البعض. توجهت نح��وهم فوج�دت "س��عيد طوق��اني" قد سقط أرضا، وقد أصيب بطلقة دوشكا دخلت من بطنه وأحدثت في ظهره فجوة بمقدار كف اليد، والدم يف��ور من جرح��ه. ك��ان س��عيد يتل��وى من األلم،

ويأخذ برأسه وبصدره وينهشهما بأظفاره وينادي: "يا حسين، يا حسين..".

جلست، وضعت يدي تحت رأسه وقلت: "عزيزي سعيد، إنه جرح بسيط، اآلنيأتي اإلخوة وينقلونك إلى الخطوط الخلفية".

أمسك بيدي وقال: "يا حسين، يا حسين، أرأيت؟ إننا لسنا متخاذلين".

لم يكن في كامل وعيه، كان يحتضر.

Page 347: books.almaaref.orgbooks.almaaref.org/static/documents/zoqaq.doc · Web viewكلّ هذه الذكريات والأصوات، کانت لا تزال تتردّد في زوايا حنجرة

347

حض��ر المس��عف، ربت على كتفي وق��ال: "انهض ي��ا أخي، انهض، تك��اد روح��هتفيض".

مسحت مرة أخرى على رأسه ونهضت. ح��دقت للحظ��ات في وجه��ه وذهبت. لم يعد به من رمق، كانت أنفاسه األخيرة. لقد رحل م��ع ص��غر س��نه، وبوجه��ه

الطفولي ذاك رحيل الرجال األبطال.

تقدمت إلى األمام قليال، وم��رة أخ��رى وج��دت جماع��ة متحلقين ح��ول ج��ريح. اقتربت منهم فرأيت "داوود عابدي" وقد أصيب بطلقة دوشكا في بطنه. ك��ان

" بي��ده ونص��بها كعص��اB7يجلس القرفصاء ويرتجف. وق��د أمس��ك بقبض��ة ال�"بة بدمائ��ه. م�ا إن رآني اإلخ�وة حتى ق��الوا ل�ه: واتكأ عليها. ك�انت ثياب�ه مخض��

"داوود، انظر ها هو السيد أبو الفضل قد جاء".

كان رأس داوود متكئا على القبضة ولم يستطع تحريكه. وإنم��ا ق��ال فحس��ب:"يا علي... أرأيت يا سيد أبا الفضل؟ أنا راحل".

قلت: "عزيزي داوود، بلغ سالمي ألمي الزهراء".

تمتم بعبارة. جلست بجانبه وضعت يدي على كتفه، أدنيت رأسي من��ه ألس��معنجواه فقال: "سيد، سأكون هناك بانتظارك!".

لوحده وتابعت طريقي.1احتضنته وقبلته. كنت آخر من ترك "داوود غزلي"*

ما كان من المفترض بنا أن نبدأ بالمواجهة في تلك المواقع؛ بل اعتماد التقدم إلى وس�ط الجزي�رة والوص�ول إلى نقط�ة االنتش�ار. ع�برت من ج�انب س�اتر

ترابي قليل االرتفاع وتخلفت من جديد عن الركب وصرت وحيدا؛

1 . والمرثيات االشعار قارئ فهو بذلك لقبه

Page 348: books.almaaref.orgbooks.almaaref.org/static/documents/zoqaq.doc · Web viewكلّ هذه الذكريات والأصوات، کانت لا تزال تتردّد في زوايا حنجرة

348

��دا، أرى خي��ال أن��اس وط��ابور ��ني كنت حين أمعن النظ��ر إلى األم��ام جي لكن العناص��ر يبتع��د. رحت أس��ير ببطء ومنح��ني الظه��ر. لم أع��د أس��تطيع التق��اط��ني أردت اللح��اق بالط��ابور، إلى أن وص��لت إلي��ه في النهاي��ة، أنفاس��ي؛ لكن فرأيتهم جالسين خلف ساتر ترابي بكامل الهدوء. ناداني أح��د اإلخ��وة بص��وت

خافت وقال: "تعال، تفصلنا مسافة خمسين مترا عن كمين العراقيين".

أشار الجميع إليه بأيديهم أن: صه واجلس.

جلسنا، التقطت أنفاسي قليال، وعدت من جديد أتخطى اإلخ��وة به��دوء ألص��ل إلى مقدمة الطابور. عبرت من جانب "محمود جولیده"، ولم أكن ق��د وص��لت بعد إلى مقدمة الطابور حتى ان�دفع فج�أة وفي عتم�ة اللي��ل، خمس�ة أو س��تة أشخاص من خلف الساتر الترابي نحونا وعادوا واختفوا في الظلم��ة. أص��ابني

الهلع. وجف حلقي.

من كان هؤالء؟ هل هم من شبابنا أم من العراقيين؟ ال أحد يعلم.

؛ لكننا لم نطل��ق1كانت ظلمة الليل تثير الرعب في النفوس. سحبنا األقسام* النيران لعدم صدور األوامر بذلك. فقد نطلق النار عليهم ويكونون من شبابنا.

ما زال هذا السؤال يتردد في ذهني: من كان هؤالء؟

بعد دقائق صدرت األوامر بالتحرك.

��ا نجلس وت��ارة ننهض ونت��ابع مس��يرنا. تق��دمنا ببطء بظه��ور منحني��ة، ت��ارة كن ومجددا أصبحت في وسط الط��ابور، وش��يئا فش��يئا في آخ��ره. ك��انت األوام��ر

تصل همسا من واحد إلى آخر.

وصلنا إلى مكان، يوجد على يسارنا ساتر ترابي؛ سواتر ترابية قليل��ة االرتف��اعأيضا ووراء بعضها البعض. وقد اصطف خلف أحدها عدد

1 . للرمي استعدادا السالح لقمنا

Page 349: books.almaaref.orgbooks.almaaref.org/static/documents/zoqaq.doc · Web viewكلّ هذه الذكريات والأصوات، کانت لا تزال تتردّد في زوايا حنجرة

349

من الدبابات. وكنا على بع��د خمس��ين م��ترا من ذل��ك الس��اتر ال��ترابي. ورأين��االعراقيين بشكل جيد.

علمنا هناك عن طريق جهاز الالسلكي، بأن كتيبة عم�ار ق�د علقت إلى األم�اممنا؛ تفاجأنا بأن كتيبة عمار كانت تستقر في مكان آخر، ولم نكن نعلم بذلك.

غيرنا مسارنا؛ فأجبرنا الدبابات على االستدارة. لو كان طلب منا رميها، لك��ان ذلك الموقع والوقت األنسب لصيدها؛ لكن، قيل لن��ا إن ه��دفنا ليس ال��دبابات،

بل الوصول إلى آخر حدودنا وتثبيت أقدامنا هناك.

هل. ص�اح أح�دهم: "ي��ا انتش�رنا ب�القرب من آخ�ر س��اتر ت��رابي كح�راس الس�إخوان، قوموا إلى ذكر الله تعالى، لقد حان موعد صالة الصبح".

ا أدى كل واحد منا ص��الته ب��النحو ال��ذي يس��تطيع. اغتنمت ه��ذه الفرص��ة أيض�� للوص��ول إلى مقدم��ة الط��ابور. ت��وجهت نح��و الس��يد "أبي الفض��ل". ولم أك��د أخطو بضع خطوات حتى س��معت ه��دير جن��ازير دباب��ة وبع��دها مباش��رة رأيت

فوهة دبابة تعلو فوق الساتر الترابي. جلست في مكاني، والتصقت بظله.

صعدت الدبابة بس��رعة ف��وق الس��اتر ال��ترابي، ورمت بطلق��ة مباش��رة علين��ا. فبدأت المواجهات في أسوأ موقع ممكن. ك��انت ال��دبابات تحي��ط بن��ا من ك��ل جانب؛ من خلفنا ومن أمامنا. تقدمت وانحرفت فوق الساتر، كاآللية التي تريد

االنعطاف إلى جهة الشمال. فكانت تصعد وتهبط عنه وترمي علينا.

قال السيد أبو الفضل: "انهضوا يا شباب وتعالوا واحتموا بهذا الساتر".

ما إن نهضنا من أماكننا حتى وجهت الدوشكا فوهته��ا نحون��ا وحص��دتنا. أولئ��ك الذين كانوا في مقدمة الطابور، ك� "أبي الفضل كاظمي" و"رمض��اني" تمزق��ا

من الخلف إربا إربا وسقطا صريعين. لقد شكلوا درعا لنا فهرعنا إلى

Page 350: books.almaaref.orgbooks.almaaref.org/static/documents/zoqaq.doc · Web viewكلّ هذه الذكريات والأصوات، کانت لا تزال تتردّد في زوايا حنجرة

350

خلف الساتر حيث أشار السيد "أبو الفضل".

بدأت المواجهات، فكنا نحن في مقابل الدبابات. لم نش��اهد هن��اك أي جن��دي،وأينما نظرنا لم نكن نرى سوى الدبابات والدوشكا.

أظن أننا بقينا نقاتل بشكل متواصل إلى قرابة العاشرة صباحا. كانت الدباباتر لن��ا؛ لكن تتقدم خمسا خمسا لتكبدنا الخسائر. وكنا نحن نرميها بكل م��ا تيس��

هل كانت لتنتهي وتنفد؟

" التابع��ة لكتيب��ة "الش��هادة".B7في تلك األثناء، جاءت مجموعة من رماة ال�"وفي ظرف دقيقة واحدة، أصابوا ثالث دبابات، فتحسنت األوضاع قليال.

ات ل��دباباتهم وذل��ك حتى تص��عد في وضح النه��ار ت��بين لن��ا ب��أنهم نص��بوا منص�� بسهولة وترمي، ثم تعود إلى خلف الساتر. وق��د ترك��وا بين الس��واتر مس��احة

متر خالية وذلك ليتمكنوا من إرجاعنا القهقري. 100

"B7في خضم المعركة رحت أفتش ]عن شيء أرميهم به[، فوجدت ق��اذف " وبعض القذائف، وب��دأت ب��الرمي. في موض��ع م��ا، رأيت "عزي��ز رحيمي" وق��د سقط أرضا. لم يكن على ما يرام، فقد أصيب برصاصة وساءت حال��ه فق��ال:

"سيد، اسحب اإلخوة إلى خلف الساتر".

��ا اإلخ��وة: "ي��ا ش��باب، ليلتجئB7حملت ق��اذف ال�" "، واعتليت الس��اتر مناديالجرحى والسالمون منكم إلى خلف الساتر..".

" في رأس الق��اذف، وقب��ل أن أطل��ق أص�ابتB7بعد ذلك وض��عت قذيف�ة ال�"ا، الق��اذف من ي��دي وس��قطت على كت��ف رصاص��ة كتفي، ف��رميت، ال ش��عوري

الساتر. انتشر األلم في سائر أنحاء جسمي.

ارتميت لبضع دقائق خائر القوى، ال أعي شيئا. بعدها نهضت وأردت

Page 351: books.almaaref.orgbooks.almaaref.org/static/documents/zoqaq.doc · Web viewكلّ هذه الذكريات والأصوات، کانت لا تزال تتردّد في زوايا حنجرة

351

��ني لم أس��تطع أن أعق��د المن��ديل بي��د أن أضمد جرحي بمن��ديلي ال��يزدي؛ لكنواحدة.

�ا، وتعطلت ي�دي. كم�ا رحت أضغط على الجرح. ش��عرت بش��لل نص��في تقريب سقط اإلخوة حولي جرحى وممزقين. واحد أصيب في يده، وواحد في رجل��ه، وثالث استشهد، ورابع راح يئن من شدة األلم وال يعي ما يقول: "بحق كل م��ا

هو مقدس عندك، بحياة أمك، انقلني من هنا".

عبر بعض اإلخوة من جانبنا جريا متجهين نحو الخطوط الخلفية. وسقط ع��الم دين يعتم��ر عمام��ة س��وداء، وراح "محم��ود عط��ايي" يلتق��ط ص��ورا ألجس��اد

الشهداء بسرعة.

��ة، وإذا بالس��يد اس��تجمعت ك��ل ق��واي ألنهض وأرج��ع إلى الخط��وط الخلفي"حسني" يأتي إلي، يأخذ بيدي ويقول: "سيد ما الذي أصابك؟".

وبينما كنت أوضح له كيف أصبت، صرخ فجأة: "آخ احترقت".

سقط واستشهد على الفور. لم أستطع اإلمساك ب��ه، س��قط بك��ل ثقل��ه أم��ام قدمي. ولقد اخترقت رصاص��ة قلب��ه من الخل��ف. وحيث إني لم أكن أس��تطيع��ة. ومن فعل شيء، تركت السيد وسرت بضع خط��وات نح��و الخط��وط الخلفي جدي��د التقيت ب���"عزي��ز رحيمي" فق��ال: "لم يب��ق ل��دينا س��وى عش��رين من

العناصر".

حين رآني، تقدم نحوي. أخذ المنديل ورب��ط ب��ه ج��رحي. ك��ان المن��ديل ممتلئا بالدماء. قال عزيز: "علينا أن ننقل هؤالء الجرحى إلى الخل��ف، أم��ا الش��هداء،

فننقلهم فيما بعد".

في تلك األثناء وصل اثنان من فريق اإلنقاذ وتوجه��ا نح��و الج��رحى بحم��التين.كما وصل إلينا أيضا كل من "محمود جوليده" وكان مصابا

Page 352: books.almaaref.orgbooks.almaaref.org/static/documents/zoqaq.doc · Web viewكلّ هذه الذكريات والأصوات، کانت لا تزال تتردّد في زوايا حنجرة

352

والحاج "همت علي" وهما بحالة يرثى لها.

قال عزيز: "سيد، تعال وساعد ناقلي الجرحى".

ذهبنا، فأخذ كل واحد منا بيده السليمة قبضة من قبضات الحمالة، أن��ا والح��اج "همت" من ناحي��ة، و"محم��ود جولي��ده" وش��خص آخ��ر من الناحي��ة األخ��رى،

وانطلقنا نحو الخطوط الخلفية.

كما لحق بنا بعض الجرحى ممن استطاع المشي. ما إن خطونا بضع خط��واتحتى رأينا عددا من الشهداء.

على مس��افة خمس��مئة م��تر إلى ال��وراء، ص��رخ أح��د اإلخ��وة فج��أة وق��ال:"الدبابات، الدبابات آتية". استجمعنا كل قوانا وبدأنا بالجري بعيدا.

وبينما كنت أجري، اس��تدرت ونظ��رت خلفي، ف��رأيت ال��دبابات وق��د ض��غطت على دواسة البنزين. شرعت تتقدم بشكل متعرج ومتماي��ل، وتس��حق ك��ل م��ا��ة تس��قط علين��ا بالعش��رات تج��ده في طريقه��ا. كم��ا راحت الق��ذائف المدفعي��ة. أردن��ا أن نت��ذاكى فيغطي الدخان والنيران كل مكان. وص��لنا إلى قن��اة مائي وأن ال نهدر وقتنا في القناة؛ فعبرناها، وإذا برصاصة تصيب فجأة رج��ل الح��اج

همت علي، فيترك الحمالة ويجثو على ركبتيه؛ لكنه يعود ويقوم من جديد.

بعدها، أصابت رصاصة يدي؛ تلك اليد المجروحة نفسها. أحسست بألم وحريقا التوت يدي إلى الخلف وشعرت بش��للها بنح��و ت��ام. انقطعت كبير، وال شعوري��ني لم أت��رك الحمال��ة. كم��ا أص��ابت رصاص��ة ي��د أنفاسي من شدة الوجع. لكن��ا. ومن ��ا إرب محمود. فتشبث بالحمالة أكثر. أما الجرحى فوقه��ا، فتقطع��وا إرب

شدة هلعنا، لم نتركهم أرضا بالرغم من معرفتنا بأنهم استشهدوا.

Page 353: books.almaaref.orgbooks.almaaref.org/static/documents/zoqaq.doc · Web viewكلّ هذه الذكريات والأصوات، کانت لا تزال تتردّد في زوايا حنجرة

353

راح الحاج "همت علي" يجر قدمه على األرض بصعوبة، ويتق��دم معن��ا خط��وةخطوة بمعاناة كبيرة.

إلى الخلف قليال، وضعنا الحماالت على األرض. حيث تركتنا الدبابات بعد عبور ينهم��رBKCالقناة، وتخلصنا من نيرانها المباشرة. وبقي رصاص الدوشكا وال���

علينا.

جلسنا إلى جانب ساتر ترابي. سقط اإلخوة في حالة إعياء شديد. جاء أحدهم��ة. رفعت إلي مث��ل ي��د الغيب، ال أعلم من أي جه��ة، ورب��ط ج��رحي بالكوفي رأسي؛ رأيت وجهه معتما وملخبطا. ش��عرت ب��دوار وغبت عن ال��وعي. وح��ده أزيز الرصاص ظل يتردد في أذني. ال أعلم كم من الوقت بقيت مطروحا على األرض. عندما أفقت، كنت وحيدا. واإلخوة جميعا قد غادروا. كان هناك حمال��ة��ا. لربم��ا ترك��وني واحدة إلى جانبي وعليه��ا ش��هيد مرم��ل بدمائ��ه ومقط��ع إرب

ليرجعني نقلة الجرحى إلى الخلف.

بع��د بض��ع دق��ائق، ج��اء شخص��ان يجري��ان وهم��ا ينقالن جريح��ا إلى الخط��وط�ة. م�را من ج�انبي. نهض�ت بع�د جه�د جهي�د، ورحت أس�ير مترنح�ا في الخلفي��ة، إلى أن وص��لت إلى حاف��ة الموق��ع الم��ائي الطري��ق إلى الخط��وط الخلفيا. بقي قارب��ان أو ثالث��ة على حاف��ة ال���"ب��د". ك��ان عب��اس ك��ريمي هن��اك أيض�� ال�"اليابسة". وعلى ما يبدو أنه��ا ك��انت الق��وارب األخ��يرة. ك��ان جثم��ان داوود

ا إلى جانب ال�"بد". عابدي مرمي

ركبت ومحمود و"أص��غر أرس" وثالث��ة أو أربع��ة أش��خاص في الق��ارب. حم��لشخصان جثمان "داوود عابدي" ووضعوه في القارب.

امتأل الق��ارب وأص��بح ثقيال. توقعن��ا بين لحظ��ة وأخ��رى أن يجنح وينقلب فيالماء. صاح أحدهم: "تحركوا، فالدبابات تأتي من خلفنا".

Page 354: books.almaaref.orgbooks.almaaref.org/static/documents/zoqaq.doc · Web viewكلّ هذه الذكريات والأصوات، کانت لا تزال تتردّد في زوايا حنجرة

354

كان "عزيز رحيمي" يتكلم بسرعة مع "عباس كريمي" ويقول: "هيا بنا نذهب،اآلن يأتون..".

وعباس يهز برأسه معترضا ويقول: "اذهب أنت!".

وبقي حيث ...

صعد "عزيز رحيمي" مع عامل اإلشارة إلى قاربنا. وكانت القوارب األخرى قد امتألت وغادرت. لم يعد أمامنا متسع من الوقت؛ فال��دبابات ك��ادت تص��ل إلى حافة الماء. حين االنطالق، قال أح��دهم: "فليترج��ل البعض منكم، فق��د ينقلب

القارب ونغرق جميعنا".

كان عدد منهم يضحكون في تل��ك األوض��اع وق��د جلس��وا ث��ابتين في أم��اكنهم. فقال أحدهم وك�ان ض�خم البني�ة: "على الس�ادة أن يغ�ادروا أوال، ألن الس�ادة

مقدمون على غيرهم".

قلت: "يا عم، أنت لوحدك تعادل ثالثة".

فضحك الجميع، وفي النهاية، لم يترجل أحد وانطلق القارب بكل ثقل��ه. ك��انت�ا. عن��دما اس��تدرت بعض الجثث عائمة على وج�ه الم�اء فأزاحه�ا الق�ارب جانب ألنظر إلى حافة ال�"بد"، رأیت عب��اس ك�ريمي واقف�ا على الحاف�ة. ال أدري لم

لم يأت معنا. ولم أعد أراه بعدها، فقلت في نفسي: إن شهادته حتمية.

��ة ص��غيرة وأطلقت بعض لم نك��د نبتع��د عن الس��احل حتى ظه��رت مروحي الص��واريخ في الم��اء. التص��قت ب��أرض الق��ارب. ومن ثم انخفض��ت وأمط��رت

سطح الماء والقوارب بنيران رصاصها.

حمينا رؤوسنا بأيدينا، وجلسنا القرفصاء. أصيب واحد أو اثنان من اإلخوة. كم��اأصابت رصاصتان جثة داوود، ورصاصتان أخريان أرض

Page 355: books.almaaref.orgbooks.almaaref.org/static/documents/zoqaq.doc · Web viewكلّ هذه الذكريات والأصوات، کانت لا تزال تتردّد في زوايا حنجرة

355

القارب. صار الماء ینبع من أسفل القارب مصدرا صوت بقبقة. رفعت رأس��ي فرأيت الدبابات تهدف علين��ا. س��قطت ثالث ق��ذائف وس��ط الم��اء وانفج��رت. فتعثر القارب وتمايل يمنة ويسرة. انعطف قارب أو قارب�ان خلفن�ا إلى إح�دى

القنوات لالحتماء.

قلت للسائق: "بحياة أمك، أسرع، اآلن نكاد نذرى كلنا في الهواء".

كان السائق المسكين خائفا، فكان يأخذ القارب يمنة ويسرة. قال: "لق��د رأىهؤالء جهاز الالسلكي، فظنوا أنه قارب القيادة".

اقترب القارب من حقول القصب. استندت إلى حافته ورحت أنزح الم�اء من��ه بيدي السليمة وأرميه خارجا. فقد اجتمع الماء في قعر الق��ارب، وض��اعف من إمكانية أن يص��بح أك��ثر ثقال في ك��ل لحظ��ة. هب اإلخ��وة للمس��اعدة، وراح��وا ينزحون الماء بأكفهم؛ لكن الماء ظل يعلو ويرتفع. شارفنا على الغ��رق. قرأن��ا التشهد. خلع أح��د اإلخ��وة، وك��انت حال��ه الص��حية أفض��ل من الجمي��ع، س��ترته الواقية من المطر ورب��ط الكمين، وجعله��ا ككيس، ومن ثم راح يمأله��ا بالم��اء ويرميه خارجا. وقد كرر هذا األمر لم��رتين. في الم��رة الثالث��ة، تم��زق الكم��ان فرحنا نضحك بشدة. لم نستطع رغم تلك الحال المزرية أن نمن��ع أنفس��نا من��ة الضحك! قال أحد اإلخ��وة: "ال تض��حكوا، الزم��وا الص��مت ف��القوارب العراقي

(.bkcتتبعنا. وبالفعل تبعتنا ثالثة ق��وارب كب��يرة مجه��زة بمع��دات وبرش��اش ) عديمو المروءة، عرفوا أنه ال يوج��د غيرن��ا في حق��ول القص��ب؛ ف��أتوا ليص��فوا

حسابهم معنا.

دخ��ل الق��ارب ع��دة م��رات في حق��ل القص��ب وخ��رج. أص��بحنا وكأنن��ا نلعب الغميضة مع العراقيين. من ناحية أخرى بدأت الدماء تنزف من األجس��اد وب��دأ األلم يشتد شيئا فشيئا. ابتلت مالبسنا وأجسادنا بالماء وأصبحنا نرتجف كشجر

الصفصاف. بدأت أرى األشياء مظلمة من حولي، وأحسست

Page 356: books.almaaref.orgbooks.almaaref.org/static/documents/zoqaq.doc · Web viewكلّ هذه الذكريات والأصوات، کانت لا تزال تتردّد في زوايا حنجرة

356

بعطش قاتل. مددت يدي إلى مي��اه اله��ور وش��ربت من��ه غرف��ة، ف��إذا رائحت��ه��ك إن رائحة نف��ط. أمس��ك أح��د اإلخ��وة بي��دي وق��ال: "ال تش��رب الم��اء... فإن

شربت تموت. إنك تنزف".

��ه جمي��ل. قرأت آية السد وصليت على محمد وآل محمد. الم��وت ص��عب، لكنأما األسر فأصعب من الموت.

واقعا، أحببت في تلك اللحظة أن أستشهد وال أقع أسيرا بيد العراقيين.

قال أحد اإلخوة: "إن أسرونا، فسيضربوننا في البداية ضربا مبرحا. فم��ع ه��ذها". اللحية وهذه الهيئة سيظنون أننا على قدر من األهمية. وسيكون موتنا حتمي

بقينا لنص��ف س��اعة الئ��ذين بالص��مت في حق��ل القص��ب، إلى أن ق��ال س��ائق الم��ركب: على م��ا يب��دو أنهم لم يرون��ا. ال حس لهم. والظ��اهر أنهم غ��ادروا

المكان".

عند العصر، وصلنا إلى حافة ال�"بد" موقعنا وس��احلنا. فوج��دنا القيام��ة قائم��ةحقا.

ك��ل من اس��تطاع، الت��ف وذهب. أم��ا الج��رحى فك��انوا م��رتمين على األرض ينازعون، وينتظرون سيارات اإلسعاف، ويئنون. في تلك األثناء، صاح أح��دهم:

ماذا عن "عباس كريمي"؟ هل يعلم أحدكم عنه شيئا؟

قلت: "اصرف النظر عنه. يقينا استشهد. لقد رأيت ب��أم عي��ني ال��دبابات وهيتحيط به".

أخذ الحاج "أكبر نوجوان" بيدي وس��اعدني على الخ��روج من الق��ارب. ج��اءت س��يارة اإلس��عاف، فنقلون��ا إليه��ا لتقلن��ا إلى المستش��فى المي��داني في خ��ط

"جفير" الخلفي.

Page 357: books.almaaref.orgbooks.almaaref.org/static/documents/zoqaq.doc · Web viewكلّ هذه الذكريات والأصوات، کانت لا تزال تتردّد في زوايا حنجرة

357

هن��اك ض��مدوا ج��رح ي��دي، وبع��د التم��اس وإص��رار أعط��وني حقن��ة مس��كن. فغططت في ن��وم عمي��ق من ش��دة التعب واإلعي��اء. لم أع من أخرج��ني من هناك وأركبني الس��يارة من جدي��د ونقل��ني إلى مستش��فى "اإلم��ام الحس��ين" علي��ه الس��الم في "األه��واز". عن��دما أفقت، وج��دت نفس��ي في ن��اد رياض��ي، وفهمت من السقف والمصابيح الموجودة ب��أنني في ن��ادي األه��واز الرياض��ي،

ذاك النادي نفسه الذي كنت قد ذهبت إليه في عمليات رمضان.

عن��د المس��اء اجت��احني الوج��ع من جدي��د. كم��ا ك��ان هن��اك ع��دد من الج��رحىممددين حولي يئنون.

نهضت وذهبت إلى الطبيب وقلت له: "أريد حقنة أو حبة مسكن. فقد أتلف��نيالوجع".

حقنني بإبرة مسكن، لكنني لم أنم. كنت قلقا على اإلخوة؛ "محمود جولیده"، "حس��ين ط��اهري"، "غالم غلي��اف"، "تقي غالم نج��اد"، "الح��اج همت علي"

وباقي أبناء األحياء الطهرانية.

عند الصباح، اتصلت بمنزل "رضا طال" وأخبرت فاطمة بإصابتي. كانت فاطمة��ات أن أخبره��ا ب��أن رجلي ق��د قطعت. تتوقع بعد ك��ل مش��اركة لي في العملي

كانت خائفة فقالت بصوت مرتجف: "هل قطعت رجلك؟".- ال، لم تقطع رجلي. إنما رصاصتان أصابتا يدي.

- حسنا، رصاصة ورصاصتان هما من لوازم األم��ر، لكن أص��دقني الق��ول؛ ه��لرجلك سالمة؟

- نعم، كوني مطمئنة.- متى ترجع؟

- بعد يوم أو يومين.

Page 358: books.almaaref.orgbooks.almaaref.org/static/documents/zoqaq.doc · Web viewكلّ هذه الذكريات والأصوات، کانت لا تزال تتردّد في زوايا حنجرة

358

وودعنا بعضنا البعض.

في الليلة الثانية، نقلت بسيارة إسعاف إلى مطار "دزفول". رأيت الطهرانيينمجتمعين هناك، وكأنني كنت آخر الواصلين.

��ا م��ا بين األربعمئ��ة وصلت طائرة نقل تابعة للجيش. فأدخلن��ا جميع��ا إليه��ا. كن والخمس��مئة ش��خص. والجمي��ع خ��ائرو الق��وى، متلف��و األعص��اب. من بين المصابين جريحان أو ثالثة قد أصيبوا بعصف انفجار، فراح��وا يكيل��ون الش��تائم لقائد الطائرة ويقولون له: زد من سرعتك ي��ا س��يد، زد من س��رعتك! وإذا م��ا بادر أحدهم في تلك األثن��اء ليعظهم وي��ذكرهم ق��الوا ل��ه: أقف��ل فم��ك ي��ا ب��ائع

1اللبن...

��ارة بعد ساعة، هبطت الطائرة في مط��ار طه��ران. بع��دها ب��دقائق ج��اءت طي أخرى فقال أحد اإلخوة الموجودين بالمطار: "اصعدوا على متن تلك الطائرة،

سيتم نقلكم إلى مشهد".

��ون وقلن��ا بص��وت واح��د: "ال ا وكلن��ا طهراني اجتمعنا نحن المحنكين واألكبر سنطاقة لنا يا سيد، ولن نترجل. أنزلنا هنا في طهران، لن نذهب إلى مشهد".

تقدم أحدهم نحونا وقال: "اسمعوا الكالم، وإال عاملناكم بأسلوب آخر؟".

قال السيد تقي له: "أقفل فمك يا بائع اللبن".

ضحك الجميع، اعترض األخ، واحتدم الجدال، وحصل شجار ونزاع.

قال أحد اإلخوة له: "ي��ا ع��ديم الم��روءة، لق��د ع��اد ه��ؤالء للت��و من الح��رب...وجميعهم مصابون، بأي داع ستنقلون شباب طهران إلى مشهد؟".

1 . فيه رأيه ويبدي خاص، أمر في له رأي ال الذي الشخص عن كنايه

Page 359: books.almaaref.orgbooks.almaaref.org/static/documents/zoqaq.doc · Web viewكلّ هذه الذكريات والأصوات، کانت لا تزال تتردّد في زوايا حنجرة

359

ج��اء ش��خص آخ��ر وق��ال: "ال ت��نزعجوا، أن��ا سأص��لح األم��ر. ترجل��وا اآلن منالطائرة؛ ومن ثم أبدوا اعتراضكم على الذهاب إلى مشهد".

ترجلن��ا نحن الثالثين أو األربعين ف��ردا من الط��ائرة، وافترش��نا األرض هن��اكوسط المطار.

مرت ساعة. جاء كثيرون وحاولوا إقناعنا بطريقة وبأخرى، فلم يفلح��وا. وقلن��الهم: من المستحيل أن نذهب إلى مشهد.

جاؤوا بحافلة. أركبونا فيها ونقلونا إلى قاعة. وضعوا ق��درين على الن��ار أع��دوافيهما الشاي وقدموه لنا مع الجبن والخبز اإلفرنجي.

لم نكن قد تناولنا الشاي منذ عدة أيام، وكنا جائعين جدا. التهمنا الخبز والجبنبنهم شديد، فاستعدنا شيئا من طاقتنا وقوتنا.

جاء الطبيب وأراد تصنيف حاالتنا. وجاء معه ذلك السيد الس��يئ األخالق، وراحيوجه الطبيب ليتعامل معنا بشكل سيئ، وال يسمح لنا بالتمادي كثيرا.

في جادة2فكتب الطبيب بدوره: ليحول هذا وهذا وهذا إلى المستشفى رقم "كرج".

تقدمت منه وقلت: "اسمع أيه��ا الط��بيب العزي��ز، أن��ا أتكلم بلس��ان ه��ؤالء. لن ن��ذهب إلى "ك��رج". م��ا أنت فاع��ل؟ أرس��لنا إلى طه��ران، وانتهى األم��ر. وبالمناس��بة، خ��الي ط��بيب في مستش��فى "الش��فاء"، وأري��د أن أذهب إلى

هناك".

حولني الطبيب أنا وأربعة من اإلخوة إلى مستش��فى الش��فاء. وهن��اك افترقن��اعن الرفاق.

Page 360: books.almaaref.orgbooks.almaaref.org/static/documents/zoqaq.doc · Web viewكلّ هذه الذكريات والأصوات، کانت لا تزال تتردّد في زوايا حنجرة

360

قرابة الساعة العاشرة صباحا، نقلونا بسيارة اإلسعاف إلى مستشفى الشفاء. وكانت يدي وصدري من الجهة اليسرى قد تورما وأصبحا كالمخدة. أج��ري لي عدد من صور األشعة، لكنهم لم يقول��وا ش��يئا. قراب��ة الظه��ر، أج��ريت اتص��االا بالمنزل. فج�اءت فاطم�ة بع�د الظه�ر إلى المستش�فى لرؤي�تي برفق�ة هاتفي "محم��ود كله��ر"، و"علي جمش��يدي"، و"الح��اج حس��ن کنجی زاده"، وهم من

شباب الهيئة.

لم يمر وقت قصير حتى ع�ادوا وأج�روا لي ص��ورتين وق�الوا: إن الرصاص�ة أو الشظية لم تظهر في الصورة. قد تك��ون دخلت من تحت اإلب��ط وخ��رجت من جانب عظم الترقوة؛ ألن مكانها ظاهر لكن هي نفسها غير ظاهرة. وقد ظه��ر

ثقب تحت اإلبط وثقب آخر فوق الترقوة.

إلى حين العملية شدت إلى يدي جبيرة وعلقت إلى رقبتي.

يومذاك جاء عدة أشخاص من عائلة "داوود عابدي" وأصدقائه لعيادتي.

كان المستشفى مالصقا لمنزل الشهيد رجائي. وقد ظه��ر حائ��ط بيت الش��هيد رجائي من نافذة الغرفة التي أرقد فيه��ا. فكنت كلم��ا وق��ع ن��اظري على ذل��ك الحائط، تذكرت رئيس ال��وزراء وأي��امي الخ��والي م��ع الح��اج قاس��م والش��هيد

رجائي.

في الصباح الباكر من اليوم التالي تناهت إلى سمعي جلبة آتية من ناحية ممر المستشفى، وكان الممرض يقول: "ليس ال��وقت وقت زي��ارة". بع��دها، دخ��ل

"مجيد سيب سرخي" و"رضا بور أحمد" بلباسهما العسكري مضطربين.

قلت: "ما الخبر؟".

Page 361: books.almaaref.orgbooks.almaaref.org/static/documents/zoqaq.doc · Web viewكلّ هذه الذكريات والأصوات، کانت لا تزال تتردّد في زوايا حنجرة

361

- لقد استشهد "حسن بهمني" في القصف الجوي. وصديقا حس��ن الحميم��ان، "كاظم رستکار" و"ناصر شیري"، تحوال رمادا ولم يبق لهم��ا من أث��ر. يتم اآلن

تشييع جثمان "داوود عابدي" و"حسن بهمني" في "بهشت زهراء".

��ا ب��أن حس��ن راح��ل ال محال��ة. وأي رحي��ل! ولم أكن أحتم��ل ع��دم كنت موقنالمشاركة في تشييعه.

لم أعد أطيق صبرا. قلت: هؤالء لن يسمحوا لي بمغادرة المستشفى. نهض��ت من سريري، وضعت رجلي على حافة النافذة، ونزلت إلى س��ور بيت الش��هيد

"رجائي".

في الجانب اآلخر من السور، كان هناك برميل حدي��د. وض��عت رجلي األخ��رىعليه وقفزت إلى الزقاق الخلفي، حيث جاء اإلخوة بالسيارة.

في البداية، ذهبنا إلى محلة "نازي آباد" لتشييع الشهيد "داوود عابدي". معظم الحاضرين كانوا من شباب الهيئات. وأجري ل��ه تش��ييع مهيب. لق��د دفن داوود تحت التراب بعالم من الصفاء واإلخالص ودم�ع العين وحرقته�ا. ولق��د خس��رنا��ا ملت��اعين لفراق��ه. بقي أب��وه الح��اج عب��اس، ص��احب القلب رفيقا كبيرا، فكن

الكبير وحيدا. وقدر ألخيه حميد، وابنه أمير حسين أن يربيا يتيمين.

اجتمعت حشود غفيرة في "بهشت زهراء"! كانت أص�وات التكب��ير تص�دح في المكان، ولم تكن تج��د مح��ل إب��رة فارغ��ا. م��ا إن رآني بعض أه��الي الش��هداء الذين بقيت أجسادهم في أرض المعركة، حتى جاؤوا إلي. بادرتهم إلى الكالم قائال: "لقد تلقوا رصاصة الخالص في الجزيرة. اقطع��وا أملكم منهم. على أي

حال، الميدان اآلن في يدنا".

Page 362: books.almaaref.orgbooks.almaaref.org/static/documents/zoqaq.doc · Web viewكلّ هذه الذكريات والأصوات، کانت لا تزال تتردّد في زوايا حنجرة

362

كان الحاج جمشيد، والد حسن، من أبط��ال وفت��وات العص��ر. جلس على ق��برولده وقال: "ال نريد رأسه. أتخيفوننا من الرأس المقطوع؟

لو كنا نخاف من الرأس المقطوع لما رقصنا في محفل العشق.

خذوه لم أتيتم به؟".

يا له من رجل، ويا له من يوم ذاك اليوم.

ما إن رآني الحاج "جمشيد" حتى تقدم نحوي، احتضنني وتوجه للحشود ق��ائال:"هذا من أبناء محلتنا ورفيق حسن؛ يريد أن يحدثكم عنه".

أعطوني مكبر الصوت، فرحت أقص، وأنا في لباس المستشفى ويدي معلق��ةة وداعي األخ��ير لحس��ن. وذك��رت الش��هداء إلى رقب��تي، على مس��امعهم قص��

بالخير.

بعد انتهاء مراسم التشييع، أوصلني مجيد ورض��ا إلى أم��ام ب��اب المستش��فى.عندما دخلت ورآني الممرض قال: "إ.... أين كنت؟".

- في فناء المستشفى.- يريد الطبيب معاينتك.

ج��اء الط��بيب، نظ��ر في ي��دي وق��ال: "االحتم��ال األك��بر أن العص��ب والعظمسالمان ولم يتأذيا".

م، خرجت من المستش��فى1363/1985في اليوم الثاني للعيد )نوروز( العام ا من كتيب��ة "ميثم" ي��أتي وقضيت كل فترة العيد في البيت. فك��ان من بقي حي

لعيادتي.

لم تتحسن ح��الي. ب��ل ش��عرت أن ي��دي مش��لولة تمام��ا، وكنت للت��و أس��تطيعالتحكم بها من المفصل، أما كفي وأصابعي فكنت ال أشعر بهما، وعشت

Page 363: books.almaaref.orgbooks.almaaref.org/static/documents/zoqaq.doc · Web viewكلّ هذه الذكريات والأصوات، کانت لا تزال تتردّد في زوايا حنجرة

363

تل��ك الف��ترة على األدوي��ة والمس��كنات. وص��ف لي الط��بيب جلس��ات عالجفيزيائي. فانشغلت كثيرا بهذا العالج.

بع��د عطل��ة العي��د، ص��رت ك��ل ي��وم أذهب إلى قس��م العالج الفيزي��ائي في مستشفى الشفاء، فكان هن��اك ممرض�ة ت�دعى الس��يدة "كاش��اني" هي ال�تي تتولى تدليك يدي. وهناك أحواض ص��غيرة من الم��اء يض��خ إليه��ا الم��اء بش��كل��ك ي��دي عن طري��ق ض��غط مضغوط، فكنت أدخل نصف جسدي في الماء ألدل الماء. علمت السيدة كاشاني بطريقة ما أنني من أهل الش��عر، فأص��رت علي

أحيانا وطلبت مني أن أنشد أشعار حافظ.

فأجبتها، وقرأت لها بعض األشعار.

أثناء متابعة العالج، تابعت أيضا أعمال مراسم مجالس الفاتحة والليلة السابعة وليلة األربعين للشهداء من أبناء محلتنا. وقد بذلت جهدا في مس��اعدة اإلخ��وة���ني كنت مص���دوما من حتى ال يبقى ش���يء من أم���ور الش���هداء عالق���ا. لكن��ة والنفس�ية، ك�ذا الجس��دية. فلوع�ة الرف��اق ك��درت كي�اني؛ الن��احيتين الروحي أبطال ال نظير لهم أمثال "علي رمضاني"، "حجت أمير صوفي"، "أكبر بش��ت كوهي"، "عباس دائم الظهور"، "سعيد طوقاني"، "مهدي بور صالح"، "هاش��م حمامي"، "حجت اإلسالم حسني"، "حجت اإلسالم موسوي جزائ��ري"، "داوود عابدي" و"السيد أبي الفضل كاظمي" الذي حرق قل��وب ش��باب الكتيب��ة أك��ثر من باقي الرفاق، وقلب حامل لوائها "عزيز رحيمي"، وما زالت لوعته تس��تعر

في القلوب إلى اليوم.

بعد شهرين أو ثالثة، تمكنت شيئا فشيئا من تحريك إص��بعين من أص��ابع ي��دي. ذات يوم عدت إلى البيت مسرورا ضاحكا وقلت لفاطمة: "انظري يا فاطم��ة،

أصابعي تتحرك وأستطيع رفع يدي إلى األعلى!".المسكينة، هي األخرى فرحت لهذا األمر.

Page 364: books.almaaref.orgbooks.almaaref.org/static/documents/zoqaq.doc · Web viewكلّ هذه الذكريات والأصوات، کانت لا تزال تتردّد في زوايا حنجرة

364

��اء. وق��د أظه��ر انشغلت لس��بعة أو ثماني��ة أش��هر بمتابع��ة العالج وزي��ارة األطب��ة ��وا ي��أتون ك��ل ي��وم ص��باحا على الدراج��ة الناري الرفاق محبتهم وودهم، فظل ويأخذوني إلى مركز العالج الفيزيائي حتى تمكنت في نهاية المطاف من رف��ع

يدي فوق كتفي.

ذات يوم علمنا ب��أنهم يري��دون إحي��اء ذك��رى الش��هداء في ن��ادي قاع��دة "ولي العصر" للزورخان�ه. ف�ذهبت مباش�رة إلى الزورخان�ه، وتق�رر أن نحض��ر بعض عوائل شهداء "بدر"؛ كوالد الشهيد "حسن بهمني"، ووال��د الش��هيد "ج��ابري"، ووال��د الش��هيد "عاب��دي"، ووال��د الش��هيد "رنج��بران"، ووال��د الش��هيد "ش��اه

مرادي"، وكثيرين مع آباء آخرين، ليزينوا المجلس ويضفوا عليه رونقا.

اجتمع معظم المجاهدين، وج��رى أداء ع��رض في رياض��ة الزورخان��ه. ومن ثم قمت أنا الحقير بالدعاء في دور قدامى هذه الرياض��ة؛ على ال��رغم من وج��ود "حسين کیل" ورياديين فيها من أمثال الحاج "محمد خ��وش ج�ان" ال�ذي ك��ان

بحق من أقوى مديري العصر الرياضيين وعارفا بفن الزورخانه.

في تلك الفترة، بذلت جهود كثيرة من أجل الرياضة القديمة، ومن ثم أصبحت��زون بين س��يخ الحياك��ة وه��راوة مظلومة ومجهولة. وق��د ج��اء أش��خاص ال يمي

الزورخانه.

لقد حفر العشق جبل "بيستون" ونال فرهاد شهرة ذلك ع��انى البلب��ل معان��اة ال��وردة ولم يل��ق س��وى

الهباء

Page 365: books.almaaref.orgbooks.almaaref.org/static/documents/zoqaq.doc · Web viewكلّ هذه الذكريات والأصوات، کانت لا تزال تتردّد في زوايا حنجرة

365

للعرفان لون واحد.. متى تنحل العقدة من القلب

��ات ب��در، وبإص��ابة "عزي��ز رحيمي" واستش��هاد الس��يد "أبي الفض��ل بع��د عملي�ا. ومعظم من بقي من ه�ذه الكتيب��ة كاظمي"، انفرط عقد كتيبة "ميثم" تقريب أمس��ى جريح��ا، ولم يكن لهم تش��كيل منس��جم ليمكنهم من تأس��يس كتيب��ة أخرى. له�ذا الس��بب، دمج��وا في كتيب��ة "المق�داد" ال��تي ك��ان يقوده��ا "أحم��د��ام ال��تي قض��اها نوزاد" و"علي جزماني". لكن عش��ق ميثم وذك��رى ميثم واألي

اإلخوة فيها معا، بقيت حية في القلوب.

، ش��كل قراب��ة األربعين نف��را من الش��باب1ب��التزامن م��ع ه��ذه االفتراق��ات المصرين كثيرا على إعادة إحياء ميثم، لواء عرف ب���"ل��واء الح��ر" بقي��ادة األخ��ات. كنت على "حس��ين الل��ه ك��رم"، وك��انت مهمت��ه جم��ع المعلوم��ات للعملي معرفة بمعظم شبابه، فأغلبهم من المحلة نفسها، ومن ذوي التوجه والمسلك نفسه. وقد أسس مق��ر مش��ابه له��ذا الل��واء في الجن��وب باس��م مق��ر نص��رت "النصرة" ومهمته اس��تطالع منطق��ة اله��ور، وك��ان مس��ؤوله "علي هاش��مي".

تأسيس هذا المقر كان من ابتكارات "محسن رضائي".

1 .. بعضهم وترك آخرين وجرح أخوة واستشهاد ورحيل التغييرات قصد ربما

Page 366: books.almaaref.orgbooks.almaaref.org/static/documents/zoqaq.doc · Web viewكلّ هذه الذكريات والأصوات، کانت لا تزال تتردّد في زوايا حنجرة

366

وأنا بدوري، التحقت بلواء "الحر" لوجود أولئك الرفاق فيه. كنت على معرف��ة جيدة بحسين. فنحن من أبن��اء الجل��دة نفس��ها، وترعرعن��ا في الزق��اق نفس��ه.��ة ا، وذا ت��دبير. هيئت��ه رجولي ا، مخلص�� ��ا، واقعي ا، مؤمن ا ذكي ك��ان حس��ين ش��اب��ة القديم��ة. ولم وبطولية، ووجهه جذاب. أما أداؤه فممتاز في الرياض��ة التراثي

يكن أحد يتفوق عليه في لعبة "البینغ بونغ".

ا وإضافة إلى كونه رائدا في معلومات العمليات، جمع حسين حول�ه فريق�ا قوي ج��دا من النخب��ة في ه��ذا الحق��ل. ومن ذوي الخ��برة في اس��تطالع الجبه��ة العراقية. إلى ج��انب ه��ذه األم��ور، ك��ان يوج��د ن��وع من العرف��ان الخ��اص في سلوك حسين وتصرفاته، ولربم��ا أخ��ذه عن وال��ده. وباعتق��ادي، ل��و لم ي��دخل

حسين عالم السياسة، لبقي إلى نهاية الدنيا بطال بالنسبة إليران واإليرانيين.

والد حسين "شوقعلي ش��اه" من ال��دراويش "الخاكس��اريين"، وق��د عم��ل فی تص��ليح األحذي��ة. ومن��ذ أن أص��بحت في ش��بابي رفيق��ا لخ��الي "الس��يد علي"، انتعلت الحذاء الكتاني، ومنذ أن همت في وادي العرفان، تع��رفت عن طري��ق حس��ين إلى "ش��وقعلي ش��اه". فأص��بحت من مريدي��ه، وك��ذا ص��رت أش��تري

أحذيتي الكتانية من دكانه.

لقد حيرني وأسرني دكان "شوقعلي شاه" المتواضع وحياته البسيطة. وخالف��ا للكثير من أهل هذا المسلك الذين يفتتحون دكاكين من الدروشة، ك��ان س��ليم النظر والفكر. ولم يملك س��وى حج��رة ص��غيرة في مس��تديرة "قي��ام"، فك��ان يخيط األحذية من الصباح حتى المساء. لق��د ف��ر من الص��خب والض��جيج، ولم يسع وراء الشهرة. في تلك الفترة، حيث الجميع يفتش�ون عن ش��یخ ومرش��د، كان في ليالي الذكر يطفئ مصباحه. فلم يتفاخر على الناس أب��دا بنف��وذه في

الدروشة.

Page 367: books.almaaref.orgbooks.almaaref.org/static/documents/zoqaq.doc · Web viewكلّ هذه الذكريات والأصوات، کانت لا تزال تتردّد في زوايا حنجرة

367

ا، وأردت أن أتعرف إلى مسالك الطريقة والعرفان. عندما بدوري كنت فضولي جلس��ت إلى جانب��ه، راح بوجه��ه الن��وراني ولحيت��ه البيض��اء يتكلم معي بغاي��ة��ه ن��ادرا م��ا التواضع. جلست إليه لمدة ساعتين، وأخذت بكالمه العرف��اني؛ لكن

كان يرفع رأسه وينظر في عيني. لم أر إنسانا خجوال إلى هذه الدرجة.

عندما سألته "لم أطلقت على نفسك لقب الشاه؟" قال: "إنني أخيط األحذية منذ خمسين عاما. لم أسمح لمريدي أن يضع قرشا في جيبي. فلست أس��عى خلف التجارة والربح. أريد أن أكون ملك مملكة وجودي وحسب. فأستطيع أن آمر عيني بما ينبغي أن تنظرا إليه وم��ا ال ينبغي أن تنظ��را إلي��ه. أن آم��ر ي��دي ورجلي. أن أكون مسيطرا على نفسي لتكون تحت تص��رفي. أن يك��ون زم��ام وج��ودي بي��دي وأق��وده بنفس��ي..". عرف��ني "ش��وقعلي" إلى الف��رق الثالث؛

"المالمتية"، و"الذهابية"، و"الخاكسارية".

ذات يوم سألته "كيف يمكن لي أن أصبح عارفا؟"، فقال: "إذ أردت أن تك��ون عارف��ا فعلي��ك أن تع��رف الطريق��ة، والش��ريعة والحقيق��ة. فالطريق��ة لوح��دها��ا؛ ب��ل تج��ارة. عن��دما ت��دعي العرف��ان علي��ك أن ال تب��دل قالب��ك ليس��ت عرفان

وتتلون. أن تكون على لون واحد هو الخطوة األولى.

إن أردت أن تكون عزيزا في هذه الدنيا عليك أن تكون على لون واحد

فالسجادة ذات األلوان الكثيرة تطأها األرجل

لها على كان "شوقعلي" يصنع نعال األحذية من المالبس القديمة. فك��ان يفص��جل، ومن ثم يطرقها بالمطرقة إلى أن تصبح قاس�ية ومتين��ة. بع�دها قياس الر

ا كان يخيط وجه الحذاء به. في كل مرة كنت أشتري حذاء قطني

Page 368: books.almaaref.orgbooks.almaaref.org/static/documents/zoqaq.doc · Web viewكلّ هذه الذكريات والأصوات، کانت لا تزال تتردّد في زوايا حنجرة

368

ا من "طين األحذي��ة" . حتى لق��د1من "ش��وقعلي"، ك��ان يعطي��ني مع��ه كيس��علمني كيف أصنع طين األحذية لتبقى أحذيتي دوما نظيفة.

عندما سلكت طريق الحرب والقتال، تح��ولت من العرف��ان ال��ذي تعلمت��ه منا ينقس��م إلى "شوقعلي" إلى العرفان األحمر. ولقد علم��ني ب��أن العرف��ان كلي قسمين: النظري والعملي. العرفان النظري هو الحف��ظ الظ��اهري، ب��أن تق��رأ أشعار حافظ وتحفظها، وأشعارا في مدح المولى أمير المؤمنين عليه الس��الم وأن تمتلك وسائل الدراويش. لكن العرفان العملي هو بأن يكون المرء إنسانا��ا كامال؛ من أهل الذكر، قلي��ل الكالم، من أه��ل العم��ل، وأه��ل المع��نى، وطاوي لمن��ازل الس��ير والس��لوك. لكن إلى ج��انب ه��ذه األم��ور، لم يكن الكث��ير من العرفاء ومدعي العرفان يتع��اطون ش��ؤون الح��رب، ولم يقوم��وا ب��أدنى عم��ل للدفاع عن الدين والبلد والشرف في الزمن الصعب ولم يحاربوا. لق�د خ�برت��ة بين جم��وع ��ة والنظري العرفان األحم��ر في الجبه��ة. وفهمت مظ��اهره العملي المجاهدين، وهذا يعني أن يقرأ العارف أشعار حافظ تحت حمم الق��ذائف؛ أن يقيم مجلس "ناد علي" في الدش��مة المحاط��ة ب��الخطر، وي��ؤدي ص��الة اللي��ل تحت مرمى النيران، وينادي في قلب الليل "يا علي". العرفان األحمر ه��و أن تقاتل برجولة في جو قارس تنخفض درج��ة حرارت��ه إلى أربعين تحت الص��فر،

ومن ثم تقوم من جديد لتؤدي صالة الشكر.

ذات مرة، كان مقر معلومات )استطالع( عمليات الح��ر، في س��فح مرتفع��ات"آق داغ" في قاعدة "إسالم آباد". في فترة أسبوع أو أسبوعين

يصبح 1 أن إلى والماء الالجورد من بقليل ويخلط الجبس من بمقدار يؤتى الشكل بهذا األحذية طين يصنع . يتحول أن إلى بالمطرقة فيطرق تماما، يجف أن إلى الشمس تحت يترك ثم ومن ناعمة عجينة شكل على

. أن وبعد الكتاني، الحذاء سطح على بالماء المبلول المسحوق هذا خليط يدهن ناعم مسحوق إلى جديد من . لتنظيف الكلس من اليوم يستفاد جيدة رائحة وذا نظيفا ويصبح الغبار ليخرج بعضا ببعضه يضرب الحذاء يجف

األحذية.

Page 369: books.almaaref.orgbooks.almaaref.org/static/documents/zoqaq.doc · Web viewكلّ هذه الذكريات والأصوات، کانت لا تزال تتردّد في زوايا حنجرة

369

قضيتها فيه، لم يحدث حدث مهم. وسارت األمور بشكل عادي. ك��انت الف��رق��ات االس��تطالع، إلى أن استش��هد أح��د ش��باب تذهب ليال بالتناوب للقيام بعملي المعلوم��ات "علي خ��رم دل". وك��ان معروف��ا ب���"علي رزقي"؛ مجاه��د عظيم، عالوة على الجهاد؛ كان من أهل الذكر ومن العاشقين ألشعار حافظ ومولوي، ومن أهل الفضيلة. استأت كث��يرا لس��ماع خ��بر ش��هادته. ق��ررت والش��باب أن نقيم مجلس عزاء عن روحه في مقر معلومات العمليات نفسه. فتحت قن��اة،

إلى مق��ر1وأحض��رت عن طري��ق ج��واد آق��ا كب��يري "الس��يد علي النجفي" المعلومات ليتح��دث في المجلس المق��ام تخلي��دا ل��ذكرى علي. فالس��يد ك��ان العالم الوحيد الذي لم يرفض أبدا الحضور في مجلس المجاهدين كلما دعوته

م حين كنت1981لذلك، بل أب�دى موافق�ة ورغب��ة في ذل�ك. أذك��ر في الع�ام أفتش و"حسين محمودي" عن شيخ ندرس العرفان على يدي��ه، ذهبن��ا بتوجي��ه من والد حسين إلى هيئة ]دينية[ اتخ��ذت من س��رداب واق��ع تحت بيت "ج��وادا من أولي��اء الل��ه ومس��تجاب ا لها. و"جواد آقا" نفسه ك��ان ولي آقا كبيري" مقر الدعوة. امتلك محال لصنع الصابون في ش��ارع "ص��احب جم��ع". وق��د تع��رفتللمرة األولى إلى السيد علي النجفي في تلك الهيئة، وصرت أحضر مجلسه.

العام 1 في النجفي علي السيد . 1947ولد الناحية من وطهران قم في ودرس األشرف، النجف في ممقام إلى وصلت إنك شفيعي السيد له فقال شفيعي، إسماعيل السيد الله آية للمرحوم تلميذا كان السلوكية،

. بدقائق،. ونحوها محاضرة موعد قبل يصل كان فحين الصالة من يشبع يكن لم أنه حاالته عجائب من االجتهاد . يخوض ي�د الس كان وصفر، يرم مح شهري في المحاضرة وقت يح�ن أان إالى بالصلاة ويشرع ناح�ة أاخذ ي كان

. لم وما التوحيد عن الكالم دون من البدء أستطيع ال قائال العميقة التوحيد مباحث في دقيقة عشرين لمدة . إلى المحاضرات في يلتفت يكن لم أنه البارزة خصائصه من بشيء لكم أتحدث أن أستطيع ال قلبي، يعمر . . أنه لو كما الحال تلك في يتكلم وكان شخصان والحضور محاضرته بإلقاء شرع ولمرات الحاضرين عدد

. . فيه يبارك سبحانه والله تحضره المالئكة فإن علم مجلس مجلسنا كان إذا ويقول شخص ألفي في يخطب . األعلى الملكوت إلى المجاهد العارف هذا انتقل جديدة مطالب لي تنكشف وأتحدث إليكم أخطب وعندما

العام من أيلول شهر في له تعرض سير حادث الشموس ) 1992جراء شمس مؤسسة نشين، خاك أفالكيانالثقافية(.

Page 370: books.almaaref.orgbooks.almaaref.org/static/documents/zoqaq.doc · Web viewكلّ هذه الذكريات والأصوات، کانت لا تزال تتردّد في زوايا حنجرة

370

ا في العش�ق والعرف�ان. وال يتكلم في السياس�ة أب�دا. كان السيد علي مختص� وإذا ما خاض أحيانا في السياسة، فإنه ينتقل مباشرة إلى العرفان. كان عالما حسن الحديث والوج��ه، ذا عي��نين واس��عتين للغاي��ة وجميل��تين، ولحي��ة طويل��ة ووجه جذاب جدا. أما نظراته فثاقبة إلى درجة وكأنه ي��رى ويعلم م��ا في قلب الم��رء. حين التقيت ب��ه للم��رة األولى لم أفهم أه��و معي أم ك��ان يفتش عن شيء في عيني، فطأطأت رأسي مع كل ذلك االدعاء ولم أس��تطع النظ��ر في عينيه. كان يميل إلى السمنة قليال، یمشي بوقار، ومن شدة ما يتكلم بطريق��ة عرفانية تظن أنه في حالة سكر. ال ينفك يذكر أسماء الحق تع��الى ويش��رحها، ويشرح دعاء الجوشن الكبير، ويصل كل شيء بالقلب والعشق، ويأخ��ذ الم��رء

نحو الله تعالى.

درس السيد علي في حوزة "قم" العلمية، وتتلمذ في شبابه على يد "آية الله جوادي اآلملي"، وطوى منازل السير والسلوك. كان الس��يد علي مجته��دا، أي��ة، وبمق��دوره الجل��وس في الح��وزة ��ة الحوزوي ��ه بل��غ أعلى الم��راتب العلمي إن وتدريس الطلبة من دون مشقة ووجع رأس؛ لكنه ذات ي��وم رأى رؤي��ا فش��عر بعدها بالمسؤولية، وعزم على المك�وث بين الش�باب والحض��ور في خ�دمتهم. لم أر عالم دين مثله، يخالط الشباب ويتحدث إليهم ببساطة مع تل��ك المرتب��ة والمق��ام العلمي، وال يك��ترث لمس��ؤولية الط��رف المقاب��ل وال لمنص��به وال لتحصيله العلمي. فالصدق والعلم اللذان تحلى بهما الس��يد علي لم أر مثلهم��ا في أحد. كان يتكلم بشهامة ومروءة ويضرب األمث��ال المناس��بة. وك�ان كالم��ه

بسيطا وجذابا يفهمه جميع الناس ويتقبلونه.

��رت حال��ه وانهم��رت أذكر أنه كلما سمع اسم اإلمام الحسين عليه الس��الم تغي دموعه بنحو عجيب. وكان في مجالس العزاء يخل��ع عمامت��ه عن رأس��ه ويب��دو

مضطربا وكأنه ليس في هذا العالم. كانت دموعه تنحدر مدرارة على

Page 371: books.almaaref.orgbooks.almaaref.org/static/documents/zoqaq.doc · Web viewكلّ هذه الذكريات والأصوات، کانت لا تزال تتردّد في زوايا حنجرة

371

خديه، تبلل لحيته وتتقاطر على عباءته.

وقد قال أحد الفضالء: أشم في هذا السيد رائحة أمير المؤمنين عليه السالم.

��ه ك��ان يلبي دعواتن��ا لقد كان واقعا عارفا كامال. وإح��دى خصائص��ه الجميل��ة أنللحضور بين جموع المجاهدين ببشر وجه ومن دون تكبر أو غرور.

بقي السيد ضيفنا في مقر معلومات العمليات لمدة أسبوع.

في النهار يجول في سفوح الجبال وفي مدين��ة "س��ومار"، وفي اللي��ل يحض��ر بين المجاهدين فيلهب المجلس بالعش��ق والعرف��ان. انج��ذب المجاه��دون إلىلة، ك�ان مجلس�ه عب��ارة عن إنش��اد الش�عر �ة. والمحص�� أمثاله ونكات��ه العرفاني

وتفسير الدعاء والعزاء والقرآن. كان كل مجاهد يعجب به من اللقاء األول.

وهناك انتشر ذكره على كل لسان. وهو نفسه كان ملتاعا، فقد استشهد أخوه في الحرب. ذات يوم قال لي: "سيد أبا الفضل، أنا س��عيد ل��دعوة المجاه��دين

لي، والستطاعتي أن أكون بين الشهداء".

بعد رجوع السيد علي إلى طهران، ناداني ذات يوم "حسين الله كرم" وق��ال: "سيد، لقد مضت ف��ترة على وج��ودك في الجبه��ة؛ أرى اآلن الفرص��ة مناس��بة لتثبيت أقدامنا في الفرقة. وكم هو جيد أن نجمع الرفاق الق��دامى والش��جعان من كتيبة "ميثم" من جدي��د. تس��تطيع أنت القي��ام به��ذا األم��ر. فاس��مك ال��ذي��ة يماثل اسم قائد الكتيبة الس��ابق "أبي الفض��ل ك��اظمي"، وكون��ك من المحل

نفسها، سيؤديان دورا في طاعة الشباب لك".

ا، كنت مس��رورا وأقن��ع في تل��ك اللحظ��ة، لم أع��ط حس��ين أي ج��واب. فقلبي نفسي بإعادة تشكيل ميثم، وفكرت بأنني أستطيع القيام بذلك. فق��د ك��ان لي وللس��يد "أبي الفض��ل ك��اظمي" أص��دقاء مش��تركون، وكنت على يقين ب��أنهم

سيأتون ويشكلون كتيبة "ميثم" من جديد؛ لكنني لم أقبل بكالم

Page 372: books.almaaref.orgbooks.almaaref.org/static/documents/zoqaq.doc · Web viewكلّ هذه الذكريات والأصوات، کانت لا تزال تتردّد في زوايا حنجرة

372

حسين بنحو قاطع. لربما كنت أفتش عن شريك ورفیق. صحيح أنني ش��اركت في الجبهة لسنوات كعنصر حر، إال أنني قاتلت تحت قيادة أبطال وق��ادة كب��ارليان"، "حس��ين قج��ه إي"، "حس��ن بهم��ني"، "إب��راهيم أمث��ال "أحم��د متوس�� كسائيان" و"السيد أبي الفضل كاظمي". وتحصلت لي خ��برة تع��ادل عش��رين سنة فكنت أعرف ما علي القيام ب��ه؛ لكن قي��ادة الكتيب��ة، مس��ؤولية خط��يرة، وفيها تكون أرواح أعداد كب��يرة من البش�ر بي�دك، وال ب�د أن تس�اءل يوم�ا عن

ذلك.

فكرت أليام فيما بيني وبين نفسي. كنت أفتش عن شخص ألسلمه لواء كتيبة"ميثم". الشخص الوحيد الذي بدا لي هو "أصغر أرسنجاني".

كان أصغر من شباب شارع "الطيب" الواق��ع في آخ��ر "ب��اغ بيس��يم"، أن��ا من أبناء "كوتشه نقاشها". من حيث الس��ليقة واله�دف والمس��لك تحلين��ا بالطب��اع نفسها. كان أصغر الولد الثالث في أسرته، ومن أبن��اء تل��ك العوائ��ل األص��یلة،

". أم��ا والدت��ه فهي ام��رأة مؤمن��ة،1وعلى حد تعب��ير الطه��رانيين، "نن��ه باب��ادار مضيافة، حس��نة األخالق ومن أه�ل ص�الة اللي�ل وخدم�ة الن��اس، ووال�ده فه�و الحاج عباس، تاجر من أهل الهيئات الدينية، محب لعائلته، ومن أهل الش��هامة والمروءة في شارع "الطيب"، وال�ذي لم يق��دم يوم�ا لقم�ة مش�بوهة ألوالده، ورباهم في جو ديني، ودائما ما كان الذكر والعشق والهيئات الدينية، ومجالس

العزاء قائمة في منزله.

��ة في العل��وم يصغرني أصغر بسنة أو سنتين. وحاز تلك الفترة الشهادة الثانوي اإلنسانية. كان متعلما وذا تجربة، وضليعا في اللغة اإلنكليزية، في وقت أهم��ل الن��اس تعلمه��ا، ولم يهتم��وا به��ا. لطالم��ا التقيت ب��ه في ف��ترة الث��ورة وفي

ا حسن الوجه بشوشا يتحلى بمعنويات عالية. المظاهرات. كان شاب

النجيبة. 1

Page 373: books.almaaref.orgbooks.almaaref.org/static/documents/zoqaq.doc · Web viewكلّ هذه الذكريات والأصوات، کانت لا تزال تتردّد في زوايا حنجرة

373

مضافا إلى هذه األمور، كان من أهل الصالة والهيئات الدينية. لقد عمل كث��يرا��ه، أن عش��ق اإلم��ام في بداية الثورة على ته��ذيب نفس��ه، واألهم من ذل��ك كل الحسين عليه السالم جرى في عروق��ه، وه��ذا م��ا أدى إلى انس��جامي وأص��غر

أحدنا باآلخر.

ازدادت معرفتي به في الحرب، وفي كردستان، وخبرت طينته الرفيعة الشأنأكثر في عمليات "الفتح المبين"، "بيت المقدس"، وفي لبنان.

��ائين" على اإلم��ام في "دوكوهه"، كان هناك خمسة أشخاص يعرف��ون ب���"البك الحسين عليه السالم؛ وهؤالء وصلوا في عشقهم لإلمام الحسين عليه السالم إلى درج���ة الجن���ون. وه��ؤالء هم: "أص���غر أرس��نجاني"، "أم��ير طه��راني"،

، وأص��غر في1"مص��طفى ملكي"، "حس��ن ش��يخ آذري"، و"علي روض��ه إي"طليعتهم.

كان أصغر في غاي��ة الش��جاعة، ال يع��رف الخ��وف طريق��ا إلى قلب��ه، وعاش��قا للشهادة. وقد ش�هدت ه�ذا العش�ق والش�جاعة الالمتن�اهين في جمي�ع أفعال�ه وتصرفاته؛ وذلك على الرغم من افتراقن��ا عن بعض��نا البعض لف��ترات طويل��ة، حيث التحقت في الجبه��ة كعنص��ر ح��ر، وك��ان ه��و يعم��ل في إط��ار مؤسس��ة

الحرس.

لطالما رأيته يط��الع الكتب، فعرفت��ه من أه��ل المطالع��ة والعش��ق والعرف��ان؛وكان يقرأ الكتب التاريخية واألخالقية وخاصة قصص األنبياء عليهم السالم.

سمعت مرات صوته العذب والجميل بين جموع المجاهدين، فق��د تعلم ق��راءة العزاء على يدي الحاج "محمود آلبالويي"، فصار خب��يرا في ه��ذا المج��ال. ب��دا��ة ح��ول رقبت��ه، ويحم��ل المن��ديل حقا من أهل الفتوة والم��روءة، يل��ف الكوفي اليزدي، ويتختم بخاتم عقيق. كان من أهل العشق والصمت والس��كوت، م��رح

الطباع، ومن أهل

1 . كان طهراني أمير بدر عمليات في إي روضه وعلي الفاو؛ دفاعات في آذري شيخ حسن البطل استشهد . استشهد فقد ملكي مصطفى أما عليه األرمن المسيحيين جميع بكى استشهد وحين مسيحي، حي في يقطن

.) الراوي ) الرصاص أم جزيرة في

Page 374: books.almaaref.orgbooks.almaaref.org/static/documents/zoqaq.doc · Web viewكلّ هذه الذكريات والأصوات، کانت لا تزال تتردّد في زوايا حنجرة

374

ا من الدرجة األولى. وأخيرا، كل الخصال ا وعسكري العمل في آن، وكان رياضي الفاض��لة ال��تي تحلى به��ا الص��الحون، اجتمعت في أص��غر بمف��رده. في تل��ك الفترة التي كنت أفكر فيها بأصغر، كان كل أهل المروءة في الجبه�ة يطلب�ون رضاه. وهو مضافا إلى كونه من أبناء محلة "الطيب"، وكبير حملة ألوي��ة أه��ل

المروءة في طهران، كان يمتلك فطرة صافية ونفسا طيبة وطاهرة.

كلما غاص فكري في الماضي والحرب والعمليات، أيقنت أكثر بأن أص��غر ه��ومن أبحث عنه، ولم يخطر ببالي من هو أقدر منه في أمر القيادة.

مضت مدة لم أسمع فيها شيئا عن أخباره. فبعد إصابته في عمليات رمض��ان،��ات "والفج��ر ".4جرح مجددا وبنح��و أش��د وأبل��غ في "مرتفع��ات بم��و" وعملي

فطحنت رصاص��ة "دوش��كا" عظم رجل��ه، ليقب��ع ألربع��ة عش��ر ش��هرا فيمستشفى "الشفاء".

كانت إعادة تشكيل كتيبة "ميثم" حجة للذهاب ورؤيته. ناداني ممرض القس��موسألني: "أهذا رفيقك أيها السيد؟".

- نعم، أوامرك؟ - إنه يرقد هنا منذ ثالثة عشر شهرا، وقد أجريت له خمس عمليات في رجله،ولم نسمعه يقول كلمة "آخ". وهو دائما في حال ذكر. أي نوع من البشر هو؟

- قائد. - برأيي، هو عارف. العرفاء فقط هم من يصبرون كل هذا الصبر. لم يق��ل لن��ا

يوما إنه قائد في الجبهة.

بعدها، أرشدني إلى غرفة أصغر. كان ممددا على السرير، وقد أزيلت

Page 375: books.almaaref.orgbooks.almaaref.org/static/documents/zoqaq.doc · Web viewكلّ هذه الذكريات والأصوات، کانت لا تزال تتردّد في زوايا حنجرة

375

األثقال للتو من رجله، وتحسنت حاله واستعاد لونه ورونقه، وكان يضحك.

��ة والس��الم ومض��ي وقت من األنس والس��رور قلت: "أري��د أن أعي��د بعد التحي تشكيل كتيبة "ميثم". ف�"حسين الله كرم" قد قال ما عنده، وال أستطيع حمل هذا األمر لوحدي. عليك أن تساندني في ه��ذا األم��ر، فأن��ا بحاج��ة إلى ش��ريك

ومعين". - ال إش��كال في ذل��ك، أن��ا مواف��ق. س��أخرج من المستش��فى في الي��ومين القادمين وأعود إلى الجبهة. وأي مك��ان أفض��ل من كتيب��ة "ميثم"؟، لكن ل��دي

شرط!- ما هو؟

- ش��رطي أن ال يعلم من ه��و القائ��د ]في ه��ذه الكتيب��ة[. وأن ال يك��ون هن��اك��ا ف��وق رأي الس��ادة. مظاهر واستعراض في األمر. أنت سيد وأن��ا ال أب��دي رأي

سأقف إلى جانبك، وأكون حاضرا في الشدائد والمصاعب كلها. - لكن ي��ا أخي أص��غر، إن "محم��د ك��وثري" واف��ق على اس��مك. وك��ل الق��ادة��ني أق��دم على ه��ذا األم��ر ب��النظر لكون��ك إلى ج��انبي. س��يلتحق يعرفونك. وإن

الكثيرون ب�"ميثم" من أجلك وبسبب حبهم لك.��ون لقي��ادة - لكن يا سيدي العزيز، يوجد الكثير ممن هم أكثر مني خبرة مؤهل "ميثم". ولدينا رفاق كل واحد منهم يصلح ألن يكون قائد لواء، ولديهم الخ��برة في أي عمل تطلبه منهم... ابحث أنت األمر مع الحاج محمد ريثم��ا أخ��رج من

المستشفى.

أب��ديت موافق��تي، ودعت "أص��غر" وع��دت إلى "دوكوه��ه". وهن��اك التقيت�ات في منطق�ة الجن��وب. بعنصرين من لواء الحر، فقالوا: تقرر القي��ام بالعملي

وقد أرسل الحاج حسين مجموعة من اإلخوة ليشاركوا فيها ثم يعودوا.

Page 376: books.almaaref.orgbooks.almaaref.org/static/documents/zoqaq.doc · Web viewكلّ هذه الذكريات والأصوات، کانت لا تزال تتردّد في زوايا حنجرة

376

سألت: "متى تقرر أن يكون موعد العمليات؟".

- ال نعلم. كل ما نعلمه أن "حسين اسكندرلو" هو القائد.

س��يد الش��هداء)ع(".10ت��ركت ذين��ك الشخص��ين وذهبت إلى مق��ر الفرق��ة "��ات ��رت أن أت��ابع تفاص��يل المس��ألة وجزئياته��ا، حتى إذا م��ا ب��دأت العملي فك

" ب�"محمد جعف��ر جنك��روي"، بط��ل10شاركت فيها. التقيت في مقر "الفرقة الحرب وصديقي الحميم، فبقيت عنده بضعة أيام.

��تي ��ات س��تنفذ في جزي��رة أم الرص��اص. وألن عملي قال محمد جعفر: "العملي "بدر" و"خيبر" لم تنجحا، فإنهم يريدون العم��ل على منطق��ة اله��ور. والع��راق أيضا قام بأعمال من قبيل قطع أشجار النخيل، وص��فها كله��ا في اله��ور. وق��د�ة، ووض�ع جفف منطقة من الهور، فصف ال�دبابات فيه�ا، وأنش�أ نقط�ة حدودي

المفخخات وما شابهها".

سألته: "هل تعلم أي كتائب ستقوم بالعمليات في الهور؟".- "ستقوم كتيبة "علي األصغر" بالعمليات في جزيرة "أم الرصاص".

- أريد أن أشارك شباب لواء "الحر" و"الحسين" هذه العمليات.

، عن��د "حس��ين10ودعت محمد جعفر وذهبت إلى مقر التكتيك التابع للفرق��ة إسكندر لو".

كان حسين من شباب طهران. وقد درس الفنون العسكرية في قاعدة اإلمام الحسين عليه السالم. كانت فطنته وذكاؤه على كل لسان. ولقد تع��رفت إلي��ه وهو في لجنة استقبال اإلمام الخميني )رض��وان الل��ه علي��ه(. وقب��ل ه��ذا ك��ان

قائد كتيبة "زهير" و"سلمان" أيضا.

بعد التحية والسالم والسؤال عن األحوال قلت: "أريد أن أذهب

Page 377: books.almaaref.orgbooks.almaaref.org/static/documents/zoqaq.doc · Web viewكلّ هذه الذكريات والأصوات، کانت لا تزال تتردّد في زوايا حنجرة

377

معكم إلى الهور". - لقد أتى ما بين الثالثين واألربعين شخصا من رفاقك، أت��وا بأع�داد كب��يرة من "لواء الح��ر" إلين��ا. العنص��ر الح��ر ه��و رج��ل المهم��ات الص��عبة. في أي مك��ان

تعقدت األمور حلها...- مثال، من هم هؤالء؟

- "علي نصر الله"، "رضا بور أحم��د"، و"مجي��د س��يب س��رخي"؛ لكن من أينعرفت بأن العمليات ستنفذ في الهور؟.

- عن طريق محمد جعفر. - إذا، لتعلم بأن العمليات في "الهور" إنما هي للتضليل. والعمليات ستنفذ في هذه النواحي. أقول لك هذا فحسب، ب��أن "الف��او" محوره��ا األساس��ي. لكن ال تخبر أحدا بذلك. سنهجم على "اله��ور" لنش��تت انتب��اه الع��راقيين. ال ينبغي أن ندخل األراضي العراقية. علينا فقط أن نفرقهم. اذهب إلى رفاق��ك؛ وق��ل لهم

إنك فهمت القضية بشكل مجمل.

ليال، ذهبت إلى الشباب. حينها، قادوا آليات الجيش نحو "اله��ور" وهي مطف��أة المصابيح، وذلك لخداع العراقيين. وبدل أن يجع�ل الخ�ط الخلفي على مقرب�ة من الخط األمامي، نصب في مكان يبعد مس��افة س��اعة ونص��ف الس��اعة عن الخ��ط األم��امي. في األول من ش��هر ش��باط، ذهبت ليال إلى الخ��ط الخلفي، والتحقت باإلخوة، واتخذت مكاني في طابور كتيبة "علي األصغر". كانت ليل��ة صافية مقمرة، والقوارب ذات المجاذيف مس��تعدة على حاف��ة الم��اء. ركبناه��ا

وانطلقنا.

بلطف الله تعالى وعنايته، فإن مياه نهر "أروند" الهائجة غالبا، أص��بحت هادئ��ةوساكنة كمياه الحوض.

Page 378: books.almaaref.orgbooks.almaaref.org/static/documents/zoqaq.doc · Web viewكلّ هذه الذكريات والأصوات، کانت لا تزال تتردّد في زوايا حنجرة

378

س��رنا في قلب "أرون��د" به��دوء وراء بعض��نا البعض. ب��دأ م��داح كتيب��ة "علي األصغر" األخ "سيب سرخي"، وكان ذا صوت جيد، يدندن بعض أبيات الش��عر،

فرحنا نردد معه:يا أصغري أصبحت شفتاك صفراوين الي الي

متى تنحل العقدة من القلب الي الي

بالقرب من جزيرة "أم الرصاص"، انقلب أحد القوارب فج��أة فس��قط اإلخ��وة في الماء. لكنهم جميعهم كانوا يرتدون سترات النج��اة، فراح��وا يس��بحون إلى��ات "خي��بر" أن أوصلوا أنفسهم إلى القوارب األخرى. لق��د جعلت تجرب��ة عملي و"ب�در" المري��رة الق��ادة أك�ثر دق�ة وانتباه��ا، فعمل��وا ه�ذه الم��رة عن دراس��ة

وتخطيط.

كنت وحسين نسير في قارب واحد في مقدمة الجميع. بعد ساعة رسونا على ساحل الجزيرة، وشيئا فشيئا وصلت الق��وارب األخ��رى. ترجلن��ا من الق��وارب من دون إحداث أي جلبة. كان نور القمر ساطعا بحيث بتنا نرى كل شيء من حولنا جيدا، وكأننا لسنا في الليل. قال حسين: "ال تطلقوا النار، فقط اس��حبوا

األقسام وكونوا مستعدين".

"أم الرصاص" جزيرة صغيرة تقع بين "الفاو" و"اله��ور العظيم". أح��اط الم��اء به��ا من جمي��ع الج��وانب، وليس له��ا طري��ق للخ��روج. غطت أش��جار النخي��ل وحق��ول القص��ب س��طح الجزي��رة. عم الص��مت واله��دوء المك��ان. ال أعلم كم��ون ق��د بن��وا الدش��م وأق��اموا دقيق��ة س��رنا في الط��ابور راجلين. ك��ان العراقي الموانع في وسط الجزيرة. لم يعلموا بقدومنا وكانوا يغطون في ن��وم عمي��ق. ال أذكر في أي ساعة من الليل صدرت األوامر بالتوقف، فتوقفنا. لكن لم تك��د

"، فاستفاق العراقيونB7تمضي دقيقة واحدة حتى أطلق أحد اإلخوة قذيفة "وبدأوا بإطالق النيران.

Page 379: books.almaaref.orgbooks.almaaref.org/static/documents/zoqaq.doc · Web viewكلّ هذه الذكريات والأصوات، کانت لا تزال تتردّد في زوايا حنجرة

379

��ات ب��أن الع��راقيين ك��انوا واقع��ا أحسس��ت للم��رة األولى في الح��رب والعملي ن���ائمين أثن���اء هجومن���ا، وأنهم لم ي���دروا بوجودن���ا، وخ���دعوا. لكنهم عن���دما اس�تيقظوا، رمون�ا بن�يرانهم الغزي�رة. اتخ�ذنا ألنفس�نا دش��ما خل��ف س�واترهم��ا على الترابية، وألن الطلقة األولى كانت بيدنا، تقدمنا من دون خس��ائر. وجري��ون جن��ودهم من الدرج��ة الثالث��ة في الجزي��رة ليقوم��وا الع��ادة، وض��ع العراقي

بالدفاع. فتكبدوا بعض الخسائر، وبعد ساعة ركبوا القوارب والذوا بالفرار.

لم نلحق بهم؛ ألنه كان علینا أن نلهیهم. أقمنا هناك وسط الجزيرة خط دف��اع. عند الفجر، عاد حسين إلى المقر وال أدري لماذا؟ بدأ العراق ب��الهجوم، وه��ذه المرة راح يرمينا بمدفعيته البعيدة المدى؛ ألنه لم يكن يملك قوات كث��يرة في

الجزيرة.

��ة.B7كان سالحنا خفيف��ا؛ الرشاش��ات وال�" ". وهم يرمونن��ا بالق��ذائف المدفعي وق��الوا: إن قائ��د الجيش الخ��امس الع��راقي "س��لطان هاش��م" ق��د ج��اء إلى

الجزيرة وأراد استرجاعها.

��ا في ح��ال دف��اع. بقين��ا في الص��باح حين طلعت الش��مس، ع��اد حس��ين. كن مترددين، مننتظرين أن يصدر حسين أوام��ره لن��ا باالنس��حاب، ويق��ول: قض��ي

األمر؛ ارجعوا. سأله اإلخوة: "حاج حسين، ماذا حصل؟ أننسحب؟".

قال: "ال، فما زال لدينا عمل هنا".

بعدها، نظر إلى خط الدفاع العراقي، ومن ثم نظر إلى قادة الم��راكب ون��ادىبهم: "شغلوا المراكب..".

تعجبنا جميعا، ما الذي يري��د حس��ين أن يق��وم ب��ه؟ وه��ل نس��تطيع البق��اء بع��دلساعات أخرى في هذه الجزيرة الصغيرة تحت مرمى النيران؟

Page 380: books.almaaref.orgbooks.almaaref.org/static/documents/zoqaq.doc · Web viewكلّ هذه الذكريات والأصوات، کانت لا تزال تتردّد في زوايا حنجرة

380

قال: "لتعد القوارب خالية".

قال أحد اإلخوة: "أخ حسين، مرهم فليرجعوا بعد ربع ساعة".

لكن حسين لم يكن ليقتنع بهذا الكالم. فجأة وقف في مكانه ثابت القدم، فتحأزرار قميصه وخلعه. توجه إلينا وأنشد هذا البيت من الشعر:

ليس من العشق أن تعشق معشوقين بقلب واحد فعليك أن تنسلخ إما عن المعشوق أو عن النفس

وع��اد من جدي��د ليق��ول: "م��ا زال ل��دينا عم��ل هن��ا. علين��ا انتظ��ار األوام��ر منا الخطوط الخلفية لنستطيع االنسحاب. إنكم إذ تق��اتلون هن��ا اآلن، هن��اك أيض��

جماعة تقاتل في "الفاو". علينا أن نبقى هنا ونلهي العراقيين"

" وه��دف وقادن��ا بعمل��هB7وحينها أص��بح حس��ين "حس��ينا". التق��ط ق��اذف ال�" وانتقل إلى مكان آخر. الرابح في هذا المحفل ه��و من يك��ون جريئا وش��جاعا؛

ذلك أنه لم يكن من طريق للعودة، وكانت تلك غاية الشجاعة.

وبإبداع��ه، خل��ق حس��ين من األرض، ومن الن��يران، ومن المش��هد عمال. ك��ان القائد الذي دافع بيد خالية، وهجم بي��د خالي��ة. لق��د آتى العم��ل أكل��ه في ي��دي

حسين.

كان حسين ينادي على الدوام: "أشغلوهم، كبدوهم الخس��ائر إلى حين ص��دوراألوامر من الخطوط الخلفية".

يومذاك، خضنا مواجهة شرسة. فقدمنا الخسائر وأخذنا أسرى. كانت الق��وات العراقية قد وصلت إلى الجبهة للت��و، لكنهم حين اش��تدت نيرانن��ا وتق��دمنا إلى وسط الجزي�رة، وض�عوا أي�ديهم ف�وق رؤوس�هم واستس�لموا. ك�انت ت�دعمهم

الدبابات وسالح المدفعية؛ ومع ذلك خافوا وانهزموا.

Page 381: books.almaaref.orgbooks.almaaref.org/static/documents/zoqaq.doc · Web viewكلّ هذه الذكريات والأصوات، کانت لا تزال تتردّد في زوايا حنجرة

381

��ة ب��أن امتدت المواجهات إلى ما بعد الظهر، حيث أبلغن��ا من الخط��وط الخلفي اإلخوة ق��د ثبت��وا أق��دامهم في "الف��او". اتص��ل حس��ين ع��بر جه��از الالس��لكي، فعادت القوارب. لقد سقط لنا في تل��ك المواجه��ات ش��هيدان أو ثالث��ة وبعض الجرحى. من بين الشهداء كان ابن محلتن��ا "محم��د أمين الرعاي��ا"، المع��روف ب���"محم��د ولي"، ذاك ال��ذي ك��ان المرش��د والض��ارب على ال��دف في ن��ادي "قالجه" للزورخانه. أرسلنا القوات بالقوارب إلى "بهمن ش��ير". وهن��اك، حين كان حسين يغادر على دراجة نارية إلى المقر، ركبت خلفه وذهبنا. في المق��ر ترددت أنباء عن سقوط قذيفة دبابة وسط ك��ل من "جعف��ر جن��ك روي" و"ي��د الله كلهر" و"الح��اج علي فض��لي" حين ك��انوا مت��وجهين نح��و "الف��او" لتوجي��ه

القوات، فارتفعوا شهداء.

��ا وتوجهن��ا نح��و خ��ط "الك��وثر" الخلفي لالطمئن��ان ركبت وحسين سيارة تويوت واالستخبار عن حال جعفر، ودخلنا "الف��او". قي��ل لن��ا في المق��ر التك��تيكي إن"علي فضلي" قد جرح، وإن "جعفر جنك روي" و"يد الله كلهر" قد استشهدا.

تخ��وض27لكن القضية الساخنة التي كانت تتردد في المق��ر هي أن الفرق��ة مواجهات مع العراقيين خلف مصنع الملح.

رأيت "محمد كوثري"، كان مستاء ومض��طربا. فق��د ع��اد فري��ق معلومات��ه من استطالع جادة "الفاو - أم القصر"، وأخبروه بأن العراقيين قد جاؤوا برتل من الدبابات يتراوح ما بين المئتين والثالثمئة دبابة ووضعوها على جادة الف��او - أم

القصر.

قال الحاج محمد: "إن كتيبة عمار تقوم بالدفاع اآلن. نريد أن نسلم الدفة إلىكتيبة حمزة. وبعد صالتي المغرب والعشاء سيهجم محمود

Page 382: books.almaaref.orgbooks.almaaref.org/static/documents/zoqaq.doc · Web viewكلّ هذه الذكريات والأصوات، کانت لا تزال تتردّد في زوايا حنجرة

382

أميني على الخط".

في آخر الليل، ذهبت مع حسين إلى عنبر التخطيط والعمليات. عن��دما وص��لناأخبرونا بأن كتيبة "حمزة" قد هاجمت الخط وأن أمورها قد تعقدت.

��ات؛ لكنن��ا لم نع��رف قضينا الليلة في العنبر إلى جانب شباب الخطط والعملي معنى النوم. كان "س��عيد س��ليماني" و"جعف��ر طه��راني" مس��ؤولي التخطي��ط��ة وبرمجة العمليات. قاال إن "محمود أميني" اتصل وأخبر بأن الدبابات العراقي

تصطاد شبابه.

��ة قاص��دين قرابة الصبح، ركبنا ك��ل م��ا ت��وافر لن��ا من س��يارات ودراج��ات ناري الخط لرؤية "محمود أميني". لكننا مهما تقدمنا لم نص�ل إلى الخ�ط األم�امي. لربما كان محمود وشبابه تقدموا مسافة ستة عشر أو س��بعة عش��ر كيلوم��ترا

في عمق األراضي العراقية وجادة الفاو أم القصر.

حين ص��رنا على مس��افة ثالث��ة كيلوم��ترات من ج��ادة الف��او أم القص��ر، ك��انت سيارات اإلسعاف مجموعات مجموعات تنقل الج��رحى. ك��ان الخ��ط مزدحم��اا على عقب. والح��ال ح�ال انس�حاب. فكتيب��ة تعمه الفوض�ى وق�د انقلب رأس� محمود قد تف��رقت وأص��يب مس��ؤول س��ريته برصاص��ة. ك��ان محم��ود يس��عى�ة. وهن��اك س��معت بنب�أ جاه�دا لجم��ع األحي��اء وإرس��الهم إلى الخط�وط الخلفي استشهاد "علي رضا مسيح" و"محسن كاظمي"، وقطعت رجل ص��ديقي وابن

محلتنا "جواد كاشاني".

بعد كتيبة "حمزة"، هاجمت الخط كل من كتيب��تي "مال��ك و"ح��بيب". فقص��فتابغارة جوية. حل الليل، فعقدت الظلمة األمور أضعافا مضاعفة.

" من أصعب العمليات. لكن إيران حتما، قد8لقد كانت عمليات "والفجر

Page 383: books.almaaref.orgbooks.almaaref.org/static/documents/zoqaq.doc · Web viewكلّ هذه الذكريات والأصوات، کانت لا تزال تتردّد في زوايا حنجرة

383

أثبتت نفسها وبرهنت عن قوتها. حيث عبرت القوات اإليرانية من نهر "أروند"الهائج واخترقت الحدود العراقية. وهذا لم يكن بالشيء القليل في زمانه.

��ا عندما استنار الجو، عدنا إلى مدينة "الفاو". لكن الخط األمامي كان أكثر أمن من المدين��ة، حيث راح الع��دو يحرثه��ا بنيران��ه، وأراد أن يحطم خطن��ا الخلفي ويفاجئنا منه ويضيق علينا. يومها، قال اإلخوة في المق��ر إن الح��اج محم��د ق��د

يوما من دون أن يراه. ومهما ق��الوا ل��ه، دع��ك من75رزق بمولود؛ لكنه بقي هذا يا حاج، واذهب لترى ابنك، قال: "ال أستطيع أن أترك الخ��ط". وك��انوا في

يوم��ا لم ت��ر76الغد، يعودون ويصرون عليه من جديد ويمازحونه قائلين: منذ ابنك، ويجيب هو الجواب نفسه بهدوء أعصاب، ويضحك في وجوههم.

أتنقل وأجول في مدينة "الف��او". لم يح��دث1986بقیت إلى أواخر شهر آذار أمر مهم. فقد كانت "الفاو" بيد إيران، وكان اإلخوة في حال دفاع.

��ات في تلك المعمعة، قال أحد اإلخوة: تريد كتيبة "علي األصغر" القي��ام بعمليفي "فكه".

ا وق��د ركبت وإياه سيارة وذهبنا إلى "دوكوهه". في المقر رأيت حسين جالس��بدا الغضب على وجهه كثيرا. لم أفهم ما يجري.

��ه. غ��دا س��يكون ختمي ه��و فج��أة، ص��اح وق��ال: "األحم��ق ال يفع��ل م��ا فعلت "األحمق". وألنه ك��انت ل��دي أوام��ر، ذهبت إلى جزي��رة "أم الرص��اص"، وكنت أعلم بأن موتنا حتمي ومؤكد في تلك الجزيرة..". ك�ان من المق��رر أن ي��ذهب بكتيبته إلى منطقة عمليات "فكة"، ويقوموا بالعمليات هناك. وعلى الرغم من رغبتي بالبقاء إلى جانب حسين، إال أنني بسبب وضع المقر غير المس��تقر، لم

أستطع أن أودعه وال أن أذهب إلى "فكة" معه؛ ألن الحاج

Page 384: books.almaaref.orgbooks.almaaref.org/static/documents/zoqaq.doc · Web viewكلّ هذه الذكريات والأصوات، کانت لا تزال تتردّد في زوايا حنجرة

384

محم��د رس��ول27محمد كان قد أرسل في طلبي. كان حينه��ا قائ��د الفرق��ة " الله صلى الله عليه وآل��ه وس��لم"، ولم أكن ح��تى ذل��ك ال��وقت ق��د انس��جمت

معه، ومن المحتمل أيضا أن يكون هو لم يفهم طباعي بعد.

، كان الحاج محم��د ينتظ��رني في غرف��ة86في أواخر شهر حزيران من العام ��ة، جلس��ت وش��رعت بالح��ديث: "نري��د نحن القي��ادة. ذهبت إلي��ه، ألقيت التحي

تشكيل كتيبة "ميثم" من جديد.- من تعني ب�"نحن"؟

- أنا و"أصغر أرسنجاني". ما إن ذكرت اس��م أص��غر، حتى ه��ز رأس��ه عالم��ة على الموافق��ة وق��ال: "إنأصغر محترم لدينا. وأنت أيضا لك مكانتك. هل خرج أصغر من المستشفى؟".�ه ال ي�زال يع�رج في مش�يته، وعلي�ه أن يمش�ي على �ام وي�أتي؛ لكن - بضعة أي

العكاز. - أنا موافق على هذا الط��رح، لكن ال ب��د من أخ��ذ موافق��ة الس��يد رحيم واألخ��ات. ش��كل شمخاني. في هذه المدة، تعال أنت وأصغر إلى التخطي��ط والعملي

طاقم "ميثم" إلى حين البالغ التالي. - إن توجب علي تشكيل الطاقم في ظرف يومين أو ثالث��ة، فال أظن أن ذل��ك ممكن؛ ألنه ينبغي علي أوال أن أنسق مع "حسين الله ك��رم". فبعض العناص��ر

التي أريد اإلتيان بها إلى "ميثم" هي تحت إمرة حسين".�ات بنح�و - األوضاع اآلن غ�ير منتظم�ة. والش�باب ال ي�ديرون معلوم�ات العملي

جيد. يلزمنا ]طاقم[ معلومات عمليات جيد. اجمع وأصغر شبابكما

Page 385: books.almaaref.orgbooks.almaaref.org/static/documents/zoqaq.doc · Web viewكلّ هذه الذكريات والأصوات، کانت لا تزال تتردّد في زوايا حنجرة

385

ا ببعض اإلخ��وة. عليكم أن تش��كلوا ]ط��اقم[ من لواء "الحر"، وس��نمدكم أيض��ا. معلومات عمليات قوي

- علي أن أنسق األمر مع حسين. فالعناصر المقتدرة والقوية تحت إمرته.

في اليوم نفس�ه، ذهبت إلى "إس��الم آب��اد غ��رب"، وقصص��ت على حس��ين م��ا جرى في لقائي بالحاج محمد. قال حسين: "اسمع مني وال تقم بهذا األمر. إن كان من المفترض بنا تشكيل ]طاقم[ معلومات عمليات آخ��ر، فلم ك��ان ل��واءا في عمل��ك، ولن تس��تطيع الحر؟ إن أنت تصديت لهذا األم��ر، فلن تك��ون ح��ر المشاركة في اقتحام الخط ليلة الهجوم. لن تكون لديك أي صالحية. وس��تأخذ العناصر إلى موقع العمل، ومن ثم تعود بهم إلى الخط الخلفي. ال تت��ابع األم�ر

اآلن. انتظر لمدة لنرى ما سيحدث".

��ام، والتقيت بأص�دقاء لم س��معت لكالم حس��ين، ثم ذهبت في إج��ازة لع�دة أي أرهم منذ مدة طويلة. سمعنا بأن العمليات ستكون عما قريب. ركبت و"جواد مجلس��ي"، "س��عيد مجلس��ي" و"مه��دي عم��وزاده" س��يارة "حس��ين س��ازور" الشخصية، وتوجهنا نحو الغرب. ركنا السيارة في قاع�دة "الل��ه أك�بر"، وذهبن��ا بسيارة "تويوتا" إلى مقر "النجف". وكان "حميد ميرزايي" صلة الوص��ل فيم��ا

بيننا.

، ذهبت وبعض األصدقاء إلى مق��ر86بعد أيام، في أوائل شهر تموز من العام "النجف" في المرتفعات الواقعة أطراف "ك��اني س��خت". وك��ان ش��باب ل��واءا لهم مقابل هذه المرتفع��ات، إلى ج��انب نه��ر "ک��اوی". "الحر" قد نصبوا مقر وك��ان ه��ذا النه��ر مهما من الناحي��ة العس��كرية، حيث يم��ر من فوق��ه طري��ق

"دهلران - مهران".

كانت القوات تعد لعمليات مهمة هدفها تحرير "مهران". وهناك

Page 386: books.almaaref.orgbooks.almaaref.org/static/documents/zoqaq.doc · Web viewكلّ هذه الذكريات والأصوات، کانت لا تزال تتردّد في زوايا حنجرة

386

��ات إلى مجموع�ات مؤلف�ة من ع�دة أش��خاص، توزع ش��باب معلوم�ات العملي��ات. تق��رر في الليل��ة وتقرر أن ينقلوا القوات إلى مواقعهم في مراحل العملي

" أن ينقل "محمود جوليده"، "مرتضى به��زادي"،1األولى من عمليات "كربالء سيد الش��هداء"،10"علي نصر الله" -ابن محلتنا- و"حسن عسكري" الفرقة "

ثار الل��ه" إلى مواق��ع عملهم؛ أي أن ي��ذهبوا من "س��نك ش��كن"41والفرقة " و"إم��ام زاده علي ص��الح"، ويتجه��وا نح��و مرتفع��ات "ك��اني س��خت" و"ب��اغ

كشاورزي" على بعد ستة كيلومترات شمال غرب "مهران".

ث��ار41توجب على المجموعة التي انتميت لها أن تنقل كتيب��تين من الفرق��ة "��ة إلى "ب��اغ كش��اورزي"، ومن ثم نح��ط عن��د ��ة الرملي الل��ه - كرم��ان" من التل

" ونستلم الدف��ة منهم؛ لكن قب��ل أن نص��ل إلى "ب��اغ كش��اورزي"10"الفرقة وقرابة الساعة الثانية بعد الظهر، وردنا اتصال من مقر سيد الش��هداء مف��اده: "أن األم��ور تعق��دت، ك��ان من المق��رر له��ؤالء أن يباش��روا العم��ل ليال؛ لكنهم اض��طروا إلى خ��وض المواجه��ات. وم��ا إن رم��وا الرصاص��ة األولى، حتى رف��ع العراقيون أيديهم فوق رؤوسهم، واستسلموا مجموع��ات مجموع��ات. يمكنكم

العودة إلى الخط الخلفي".

رجعنا إلى الخط الخلفي، فوجدنا أمام النهر أكثر من مئتي أسير عراقي. كان اإلخوة يلعبون ويمرحون إلى جانب النهر، وقد ألقوا قنبلة في الماء واصطادوا

السمك ليصنعوا منه الكباب ويأكلوه.

تعجبت. أولم يكن من المفترض بهؤالء أن يقوموا بالعمليات؟ ما هذا الوض��ع؟ا بالمقر وسألت: "ما الخبر؟ أوال يوجد عمليات؟". اتصلت السلكي

قي��ل: لق��د تعق��دت األم��ور في "ب��اغ كش��اورزي". قلت: على ح��د علمي أن".10 ثار الله" خلف "الفرقة 41"الفرقة

أجابوا: "إذا احمل كتيبتيك وصل جناحهم".

Page 387: books.almaaref.orgbooks.almaaref.org/static/documents/zoqaq.doc · Web viewكلّ هذه الذكريات والأصوات، کانت لا تزال تتردّد في زوايا حنجرة

387

ث��ار الل��ه، وذهبن��ا من خل��ف "ب��اغ كش��اورزي"،41أخ��ذت كتيب��ة من الفرق��ة . فجأة، رأيت طابورا من10فوصلنا بعد نصف ساعة إلى خلف مواقع الفرقة

، س��حبنا األقس��ام10الجنود مطأطئا رأسه وآتيا من بين قواتنا وموقع الفرق��ة ��ون. وجلسنا. في البداية ظنناهم إيرانيين. حين تقدموا أكثر وج��دنا أنهم عراقيا طلق��ة نح��وهم. فوض��عوا أي��ديهم ف��وق رؤوس��هم، أطلق أحد اإلخوة ال شعوري واستسلموا من دون بحث وجدل. وكما هي الع��ادة، أص��اب الع��راقيين الهل��ع. وكانوا حين يخ��افون، يض��طربون وال يعلم��ون رؤوس��هم من أرجلهم؛ ويب��دأون برشق كلمات غير مفهومة، ويتوسلون، وما شابه. بلغ مجم��وعهم كلهم قراب��ة األربعمئة نفر. في هذه الواقعة، أسرنا جماعة كب��يرة من الع��راقيين، وس��ارت

األمور بنحو ممتاز.

جاء "الحاج حسين الله كرم"، ب�"السيد "رحيم"، والسيد "شمخاني"، ليتفقدوا".1األسرى وأداء اإلخوة العظيم في عمليات "كربالء

��ون قمص��انهم كان "فرج أصفهاني" المسؤول عن األسرى. وق��د خل��ع العراقيلشدة ما "انشووا" في حرارة الجو وراحوا ينادون: "يا خميني... يا خميني..".

�ة. وق�د ص��ف األس��رى في ص��فوف كان "أصفهاني" على معرفة باللغة العربي منتظمة وراح يتكلم معهم ويمرنهم على نداء: ي�ا "علي نص��ر الل�ه"، ي�ا "أك�بر

كالهدوز".

عندما جاء السيد رحيم، نادى سبعمئة شخص بصوت واحد:"يا علي نصر الله، يا أكبر كالهدوز".

جحظت عينا السيد رحيم من التعجب وقال: "ما هذا الذي يقوله هؤالء؟".

في الليلة الثانية، توقفت العمليات وهدأت المنطقة إلى حد ما؛ لكن

Page 388: books.almaaref.orgbooks.almaaref.org/static/documents/zoqaq.doc · Web viewكلّ هذه الذكريات والأصوات، کانت لا تزال تتردّد في زوايا حنجرة

388

"مرتضى بهزادي" أخذني جانبا وقال: "إننا ذاهب��ون الليل��ة إلى منطق��ة أحض��ر��ات ليهجم��وا العراق إليها الحرس الجمهوري، وهم ينتظرون أن تتوق��ف العملي

ويستردوا "مهران".

قلت: "دعك مني يا عم... أنا عنصر من عناصر معلومات العمليات. علي اآلنأن ألتف وأذهب إلى طهران".

لم يدعني مرتض��ى أذهب؛ أخ��ذني ب��القوة إلى مرتفع��ات "مه��ران" المح��ررةوقال: "إن لم تأت تندم".

ا. اس��تقررنا في إح��دى ك��ان "علي نص��ر الل��ه" وشخص��ان آخ��ران معن��ا أيض����ون القنوات التي حفرها العراقيون من قبل في أعلى المرتف��ع. وك��ان العراقي في أسفل المرتفع. فكنا نحن المشرفين والمسيطرين عليهم. سحبنا المنظار

وألقينا نظرة.

قال "علي نصر الله": أنا ذاهب آلسر واحدا منهم، لنرى إن كان ص��دام اللعينقد أحضر واقعا قوات الحرس الجمهوري أم ال؟".

وبينما أنا أن��اقش علي مح��اوال إقناع��ه ب��التخلي عن ه��ذا األم��ر، فج��أة س��معنا صوت طلقة، فس�قط علي ببدن��ه الثقي��ل علي. ف�ارتميت ب��دوري على ج�انبي على أرض القناة. مباشرة وضعت يدي تحت جس��ده ورفعت��ه. وإذا بالرصاص��ة قد اخترقت رأسه. كان علي طويل القامة، وعن��دما وق��ف ظه��ر رأس��ه خ��ارج

القناة، فرماه القناص العراقي في جبینه.

بت أرض القن��اة بدمائ��ه. ربطت يعلم الل��ه كم ن��زف علي من ال��دماء. فتخض�� جرحه بمنديلي الحريري؛ لكن الدم لم ينقطع، بل ظل يفور فورانا. ك��ان علي غائبا عن الوعي، ولم أكن أعرف إن استش��هد أم ال. أص��بح جس��ده ثقيال. فم��ا

استطعت الوقوف على رجلي، وما استطعت رفعه. في النهاية،

Page 389: books.almaaref.orgbooks.almaaref.org/static/documents/zoqaq.doc · Web viewكلّ هذه الذكريات والأصوات، کانت لا تزال تتردّد في زوايا حنجرة

389

ربطنا الكوفيات بالحزام، وصنعنا شيئا شبيها بالحبل المتين. ربطنا أحد طرفيه حول جس��د علي، وأخ��ذنا نحن الثالث��ة بطرف��ه اآلخ��ر ورحن��ا نج��ره على أرض القناة. سرنا زحفا نح��و دش��منا. لربم��ا س��رنا كيلوم��ترين أو ثالث��ة كيلوم��ترات��ا نض��عه على أرض القن��اة، نأخ��ذ بمشية البطة. حين كانت أنفاسنا تنقط��ع، كن

نفسا، ومن ثم نعود إلى جره من جديد.

كان علي من أبناء "امامه"؛ وهي قرية تقع في أطراف "أوشان فش��م". وق��د�د. تش�تهر زرتها عدة مرات برفقة األصحاب. كانت قري�ة هادئ�ة ذات من�اخ جي بمحاصيلها الزراعية من الك��رز والج��وز، وق��در لن��ا نص��يب منه��ا. وك��ان وال��ده

الحاج نصر الله من رجال العصر الكبار.

على أي حال، بقي علي راقدا في مستشفى "نمازي" لمدة ستة أش��هر. ق��ال الطبيب أن ب�دن علي الرياض�ي والق�وي س�اعده وبقي على قي�د الحي��اة، ل�ذا استطاع االستمرار. فيما بع��د، أص��يب بط��ل الح��رب ه��ذا بش��لل نص��في، ولم يتمكن العراق من استعادة "مهران" أب��دا. والح��ق إن "علي" من مف��اخر ه�ذا

البلد.

Page 390: books.almaaref.orgbooks.almaaref.org/static/documents/zoqaq.doc · Web viewكلّ هذه الذكريات والأصوات، کانت لا تزال تتردّد في زوايا حنجرة

390

Page 391: books.almaaref.orgbooks.almaaref.org/static/documents/zoqaq.doc · Web viewكلّ هذه الذكريات والأصوات، کانت لا تزال تتردّد في زوايا حنجرة

391

معترضون وأصدقاء

أو كان العشق ..فاذهب

م، بعثت برس��الة ع��بر مس��ؤول مق��ر قي��ادة1986أوائل ش��هر آب من الع��ام الفرقة، إلى الحاج محمد طالبا فيها اللق��اء ب��ه. بع��د ي��ومين ق��ال لي مس��ؤول

المقر إن الحاج محمد مستعد للقائي.

ذهبت في اليوم المحدد إلى "دوكوهه"، وت��وجهت إلى غرف��ة القي��ادة. وج��دت الحاج بانتظاري. ألقيت التحية وجلست إليه فقال: "إلى أين وصل العم��ل في

كتيبة ميثم؟ وماذا حل ب�أصغر؟".ا. - إنني بانتظار تأمين المكان، بالنس��بة للط��اقم فق��د وض��عت ل��ه تص��ورا أولي

وفيما يخص أصغر فإنه سيأتي أيضا. - اجمع طاقم�ك، وبم�ا أن مب�اني "دوكوه�ه" تق�ع في األط�راف، فاتخ�ذ ن�ادي الضباط مكانا لك. لكن قبل ذلك، هن��اك أم��ر أعج��ز عن قول��ه؛ أي أخج��ل من

مفاتحتك به..- قل يا حاج!

��ا في إح��دى رجلي��ه. وال تس��تطيعان ليل��ة - أنت وأصغر، كل منكم��ا يع��اني عيبالعمليات قيادة الطابور.

Page 392: books.almaaref.orgbooks.almaaref.org/static/documents/zoqaq.doc · Web viewكلّ هذه الذكريات والأصوات، کانت لا تزال تتردّد في زوايا حنجرة

392

- ال تحمل هم ذلك. بفضل الله، ال ينقصنا شيء. ف�"حسين ط��اهري" مس��ؤول التدريب في قاعدة اإلمام الحسين عليه السالم من أه�الي محلتن�ا. س�آتي ب�ه وأوكل إليه قيادة الطابور والتدريب والقتال. وحسين نفسه يوازي عش��رة من

قادة الكتائب.- أنا موافق.

- وبما أنك اآلن وافقت، فلي شرطان.- ما هما؟

خ�ذ اآلن - األول، أن تسمى الكتيبة باسم "ميثم التمار"، ال غير. الث�اني: لق�د ات في فرقة طهران تدبير يقض��ي بمعاقب��ة ك��ل من يخل��ع قميص��ه ويلطم ع��اري الصدر. وقد قاموا بتأنيب "رض��ا پ��ور أحم��د" و"محم��د ط��اهري"، و"مص��طفى ملكي"، و"محمد زماني" لقيامهم بهذا األمر. لم هذا؟ وما الضير في أن يخل��ع المرء قميصه في ظهر عاشوراء ويلطم؟ أريد للشباب أن يعبروا عن عشقهم ]لإلمام الحسين[ بالطريقة التي يريدون. ال أريدهم بس��بب ه��ذه المس��ائل أن��اتهم في الجبه��ة والع��ودة إلى طه��ران. يقوموا بتصفية أعمالهم وإنهاء مأموري من بعد إذنك، أريد أن أفسح لهم المج��ال له��ذا األم��ر. ه��ؤالء ج��اؤوا ليق��اتلوا؛

ومن غير المعلوم هل سيبقون على قيد الحياة أم ال. - إن م��ا تتكلم عن��ه ي��ا س��يد يع��ود أم��ره إلى قائ��د الكتيب��ة. أم��ا في المس��ائل العسكرية فعلينا جميعا أن نسلك طريقا واحدا. وأن يكون ه��دفنا واح��دا. كم��ا

إننا نأخذ األوامر من القيادات العليا وننفذها..

بحثنا قرابة الساعة في مس��ائل مختلف��ة. ت��ركت بع��دها الح��اج محم��د وذهبتلتفقد مكان الكتيبة. يقع نادي الضباط في آخر "دوكوهه" إلى

Page 393: books.almaaref.orgbooks.almaaref.org/static/documents/zoqaq.doc · Web viewكلّ هذه الذكريات والأصوات، کانت لا تزال تتردّد في زوايا حنجرة

393

جانب مبنى "النقل". أي أن صحراء قاحل��ة تمام��ا تق��ع خلف��ه. وه��و ص��الة في طبقة غير مكتملة البناء، تقارب مس��احتها الخمس��مائة م��تر، مؤلف��ة من أرب��ع

غرف ومرحاضين.

في البداية، أرسلت ع��ددا من اإلخ�وة فحف�روا قن��اة وبن��وا خمس��ة م��راحيض، "، عند "إبراهيم10واشتغلوا بتوضیب البناء. بعد ذلك ذهبت إلى مقر "الفرقة

كساييان" و"عزيز رحيمي". وكان إبراهيم ذات يوم قائدا لكتيبة ميثم. وكالهماكانا أسدي حرب، وقد بذال جهودا كبيرة من أجل الجبهة.

بعد التحية والسالم، طرحت عليهما موضوع تأسيس كتيب��ة ميثم. قلت: "جئت ألستأذنكما. فأنتما األكبر واألعظم وهذا أمر رسمي وعادة في ثقاف��ة اإلخ��وة؛

ينبغي احترام األقدمين والقادة..".

قال إبراهيم: "إن كتيب��ة ميثم بمنزل��ة بي��تي. وق��د استش��هد مئت��ان من أفض��لشبابي في ميثم".

بعدها، انشغلت بتأسيس ميثم واستقطاب العناصر. وذات يوم، رآني "حس��ين سازور" وهو مداح وقارئ عزاء، وكان من المقرر أن ي��أتي للخدم��ة في ميثم،

فقال لي: "إن زوجة الرئيس رجائي تريدك في أمر، حبذا لو تهاتفها".

تعرفت إلى زوجة الرئيس من��ذ أم��د بعي��د أثن��اء عملي في ال�وزارة. فق��د كان��ا��دعى عائلة أصيلة ومؤمن��ة. وك��ان لهم��ا ابن في الس��ابعة عش��رة من العم��ر ي كمال، شقي ومشاكس، خالفا لوالده الذي كان خجوال وذا حياء. وق��د تع��رفت��ة السيدة رجائي فيما مضى إلى زوجتي فاطمة وشاركت في األعم��ال الخيري

لمجمع األيتام. وظلت كالسيد رجائي تهتم باأليتام وتحب الناس،

Page 394: books.almaaref.orgbooks.almaaref.org/static/documents/zoqaq.doc · Web viewكلّ هذه الذكريات والأصوات، کانت لا تزال تتردّد في زوايا حنجرة

394

ويعم خيرها الفقراء والمحتاجين.

اتصلت بمنزلهم، فأجابتني بنفسها.

سلمت عليها وعرفتها بنفسي فقالت: - سالم يا سيد! جيد أنك اتصلت. لي إليك طلب. إن ولدي كم��ال اآلن ق��د بل��غ السابعة عشرة؛ وهو مش��اكس وش��قي. ودائم��ا م��ا يطلب مني ش��راء دراج��ة نارية له. وإني في حال الحرب هذه ووضع البالد المضطرب وعم��ره الص��غير، ال أرى من فائ���دة في بقائ���ه في المدين���ة. فل���و أمكن المجيء إلى طه���ران والتحدث معه. فإن قبل، فاصطحبه معك إلى الجبهة. ب��الطبع، أبق��ه ف��ترة في

الجبهة ليتمرس على القتال. وبسبب المودة الكبيرة التي كنت أكنها للسيد رجائي، عدت في الي��وم الت��الي إلى طهران وتوجهت مباشرة إلى بيتهم. اصطحبت ابنه كم��ال وذهبت ب��ه إلى��ة تري��ل المحلة ليرى مسجد محلتنا والتعبئة فيها. قلت له: "عندي دراج��ة ناري

؛ فإن أنت أتيت معي إلى الجبهة، وضعتها في تصرفك".250- حسنا، سأرافقك.

- سننقل الدراجة إلى "دوكوه�ه" ع�بر القط�ار؛ وس��نذهب إلى هن�اك بالقط�ارأيضا.

كان كمال فتى نجيبا وذا معدن طيب. وقد وافقني الرأي وصار يس��مع كالمي.��ة، س��لمته ��ه يعش��ق ال��دراجات الناري وعليه قدم إلى الجبهة برفق��تي، وبم��ا أن

دراجة نارية لم تخضع للروداج، وبذلك أصبح عامل بريد الكتيبة.

صار وجوده في كتيبة ميثم أمرا محفزا للعناصر. وقد ارتفعت معنوياتهم حينمارأوا أن ابن رئيس الجمهورية قد التحق بالجبهة أيضا.

بعد يوم أو يومين، جاء أصغر أيضا إلى دوكوهه، وهو يعرج في مشيته

Page 395: books.almaaref.orgbooks.almaaref.org/static/documents/zoqaq.doc · Web viewكلّ هذه الذكريات والأصوات، کانت لا تزال تتردّد في زوايا حنجرة

395

قليال ويمشي بص��عوبة. ذل��ك أن كعب رجل��ه ق��د انفص��ل بفع��ل اإلص��ابة، وق��دأجريت له عملية زرع كعب، ربط برجله عبر سيخين معدنيين ورباط.

منذ ذلك اليوم، بدأ اس��تقطاب العناص��ر إلى كتيب��ة ميثم. وفي ظ��رف أس��بوع عنصرا من الكتائب األخرى أو من العناصر التي التحقت120واحد التحق بها

��رت أن نق��وم بش��يء حديثا بالجبهة. وقد أمنا لهم أمكنة في نادي الضباط. فك جديد في الفرقة وسعيت لذلك. وأردت أن يكون كل شيء في كتيبتنا مختلف��ا

عن الكتائب األخرى.

صباح ذات يوم، وباالتفاق مع األخ أصغر، نصبنا في المراسم الص��باحية رس��ماا جدي��دا للكتيب��ة، وعرفن��ا فيه��ا الس��رايا. وحيث ع��رف أص��غر في ص��مته بيانيا متواض��عا، والس��باق بالس��الم، ص��رت أن��ا وهدوئه الروحاني دوما، وك��ان ترابي أتصدى للخطابات وهو يراقب ويشرف. تغيرت أحوال الكثيرين عندما أصبحوا

قادة سرايا، أما أصغر فلم يطلب يوما ويقول، دعني اآلن أتكلم يا سيد.

وحيث كان عدد العناصر كبيرا فقد شكلنا سرية احتياط من شباب التجه��يزات��ات والعتاد وأطلقنا عليها اسم "كوثر"، لكي نوزعها عند الض��رورة وفي العملي

على السرايا األخرى.

بعد شرح الرسم البياني الجديد قلت: "من لطف الل��ه س��بحانه بن��ا أن التح��ق بكتيبتن��ا ك��ل من الس��ادة "حس��ين ط��اهري" و"جعف��ري" و"گ��ودرزي" وكلهم��ام ا ثالث��ة أي أساتذة في التكتيك والقتال. ضمن برنامج الفرق��ة، ل��دينا أس��بوعي��ة. فلن نق��وم للتدرب على التكتيك. فبرنامجنا سيختلف قليال عن برن��امج البقي بالمراسم الصباحية سوى في أيام السبت. أما أي��ام األح��د والثالث��اء والخميس ستكون لدينا تدريبات عسكرية. وفي ليالي األربع��اء والجمع��ة س��نقرأ دع��اءي

التوسل وكميل. يمكنكم النوم في فترات الظهر،

Page 396: books.almaaref.orgbooks.almaaref.org/static/documents/zoqaq.doc · Web viewكلّ هذه الذكريات والأصوات، کانت لا تزال تتردّد في زوايا حنجرة

396

أما بعد الظهر فلدينا مباراة صغيرة في ك��رة الق��دم وعلى الجمي��ع أن يحض��ر،لنلعب إلى ما قبل الغروب بربع ساعة".

عندما كنت أتكلم عن اللطم، جاءني شخص وس��لمني ورق��ة، كتب فيه��ا: "إنالشباب يافعون، عندما يخلعون قمصانهم، قد يقعون في اإلثم. ه�. م".

قلت: "الس��يد ه���. م، ال أدري من تك��ون ولم كتبت ه��ذا؛ ولكن علين��ا أوال أن��ة. فهن��ا نخل��ع قمص��اننا نكتب عريضة نطالب فيها بإقف��ال الحمام��ات العمومي

ونلطم. وهناك )في الحمام العمومي(، يخلع القوم سراويلهم أيضا..".

علت أصوات الجميع بالضحك.

بعدها قلت له: "هذه هي س��نتنا، أيه��ا األخ. ال أحتم علي��ك خل��ع قميص��ك؛ لكناللطم بالفانيال ال يعجبنا. والقرار لك اآلن ]إن كنت ستبقى في الكتيبة أم ال[.

عندها، خرج البعض من الصف والتحقوا بكتائب أخرى.

ذات يوم، أرسلت عامل بريد الكتيبة "حميد مشكي"، إلى طهران ليحض��ر منا. حيث بتنا نعرض قيادة إسناد الحرب جهاز تلفاز وقرابة الثالثين فيلما سينمائي

األفالم لإلخوة في ليالي األحد واالثنين.

ا في األخالق: "س��يرة الرج��ال صباح كل ي��وم اث��نين كنت أعطي اإلخ��وة درس�� الش��جعان". وض��عت لوح��ا أس��ود الل��ون في مقدم��ة الخيم��ة وكتبت علي��ه: "إب��راهيم ه��ادي". ومن ثم رحت أتكلم عن األبط��ال ورج��ولتهم وش��جاعتهم

الحاسمة، وما سطروا من مالحم في العمليات الكذائية.

قصدت الكالم عن هذه األمور ليتعلم الش��باب منه��ا وتك��ون مث��اال لهم. بع��دهامباشرة كنت أقول لألخ أصغر: "حاج أصغر، الكالم األخير لك،

Page 397: books.almaaref.orgbooks.almaaref.org/static/documents/zoqaq.doc · Web viewكلّ هذه الذكريات والأصوات، کانت لا تزال تتردّد في زوايا حنجرة

397

لنفترض أنها ليلة العمليات، ونحن في "بهمن شير"، وبعد ساعة س��نهجم علىخطوط دفاع األعداء".

قال أص��غر ذات م��رة: "أري��د أن أق��ول ش��يئا واح��دا: ليس��ت الرجول��ة في أن نصيب أربع دباب��ات، الرجول��ة في أن ال نري��ق م��اء وج��ه أح��دهم إذا م��ا ش��عر

بالخوف".

��ات الس��ابقة. وهكذا، راح أصغر يعلم اإلخوة ما اكتسبه من تج��ارب في العملي أردت أن يقوى شباب ميثم من حيث التدريب. وبااللتفات إلى الخس��ائر ال��تي��ا ال تكبدتها الكتائب في العمليات السابقة، اتضح أن تدريبنا ضعيف، ب��ل وأحيان وجود له أبدا. دائما ما كنت أتخذ ق��راراتي بالتش��اور م��ع أص��غر. فك��ان الكالم

األخير له؛ هو يقدم الخطة وأنا أنفذها.

ذات يوم جاء الحاج محم��د إلين��ا وق��ال: "إن أم��ركم لعجيب. لم��اذا أتيتم بك��لمدربي التكتيك هؤالء إلى كتيبتكم؟".

قلت: "لم ي��أتوا جميعهم من أج��ل الت��دريب؛ إنم��ا من أج��ل المش��اركة في العمليات. وللعلم، إن احت��اجت الكت��ائب األخ��رى إلى م��دربين، فإنن��ا نرس��لهم

حتى يرفعوا من مستوى التدريب فيها".

��ا على تميزنا بابتكارات وأفكار جديدة لم تكن رائجة في الكت��ائب األخ��رى.فكنا مع عديد الكتيبة، ونحل المشاكل واألم��ور سبيل المثال نعقد جلستين أسبوعي

من خالل األخذ برأي البقية، وننهيها على خير.

ألقيت مسؤولية متابعة أمور الجرحى، وتقديم المساعدات المالية والخ��دمات لإلخوة في طه��ران، على ع��اتق الح��اج "ج��واد وهابي��ان". وك��ان من العناص��ر القدامى ل�"لجنة األمر ب��المعروف" في مي��دان خراس��ان، وق��د التح��ق بش��كل

منفرد وكعنصر حر بكتيبة ميثم، وصار يقدم المساعدات الدوائية

Page 398: books.almaaref.orgbooks.almaaref.org/static/documents/zoqaq.doc · Web viewكلّ هذه الذكريات والأصوات، کانت لا تزال تتردّد في زوايا حنجرة

398

للمجاهدين والجرحى، خاصة للجرحى الكيميائيين منهم، وإذا ما ع��انى أح��دهممن ضائقة مالية، تصدى لحل مشكلته من دون إثارة أي ضجيج.

بدأنا العمل طبقا للخطة التي وضعناها. كانت صالة الليل والعبادة حتى طل��وع الفجر عادة جميع المجاهدين وسمة الجبهة. ولم تختص به�ذه الكتيب�ة أو تل��ك. وكذلك شباب "ميثم" أيضا، فمقيمو صالة الليل فيهم، يبقون مستيقظين حتى الصباح. وكلما فاض العاشقون عشقا، أقاموا صالة الليل. جميع الكتائب كانت تقرأ زي��ارة عاش��وراء ليال، إال س��رية "أك��بر سرپوش��ان" تتلوه��ا عص��را؛ هك��ذا��ق به��ذه المس��ائل، فق��د أتين��ا اعتادوا. ونحن أيضا لم نتشدد مع أحد فيم��ا يتعل

لنقاتل، والمهم هو إنجاز المهمات واألعمال األكثر أهمية.

كان في سرية فدك فتى يدعى "حسين باشي" يردد كل يوم: "السالم عليكم يا عناصر سرية فدك؛ السالم عليكم يا شباب سرية البقي��ع؛ الس��الم عليكم ي��ا سيد أبا الفضل؛ السالم عليك يا حاج أصغر أيه��ا العاش��ق"، وهك��ذا ظ��ل ي��ذكر��ات الجميع بأس��مائهم ويس��لم عليهم، وبفعل��ه ه��ذا ك��ان يم��د الجمي��ع بالمعنوي

العالية ويبث فيهم الروح ويخرجهم من حال اليأس.

كان أربعة من بین شباب کتیبتنا متعلمين، من أهالي "سرچشمه"، وقد درسوا��ة" وهم: "علي أوس��ط"، "مه��دوي"، "قاس��م حم��امي" في "المدرس��ة العلوي ال��ذي ك��ان وال��ده ص��احب حم��ام عم��ومي، و"مجت��بى ج��واد زاده" ذو األخالق الحميدة، كان ودودا ونجيبا وطاهرا ومستقيما. كلم��ا مازحت��ه ق��ائال: "أأنت من

. أج��ابني ض��احكا: "إنن��ا نتلقى الض��ربات من الن��احيتين. في1الهيئة الحجتية؟"الثانوية يقولون لنا بأننا سنصبح وزراء أو نوابا، وهنا يقولون

يعجل 1 ذلك أن بدعوى األرض، في الفساد وترويج القعود إلى تدعو التي والمنحرفة الضالة الفرق إحدى. لإلمام المبارك الظهور

Page 399: books.almaaref.orgbooks.almaaref.org/static/documents/zoqaq.doc · Web viewكلّ هذه الذكريات والأصوات، کانت لا تزال تتردّد في زوايا حنجرة

399

لنا: أنتم ال تصلحون حتى للقتل".

��ا نقيم مب��اراة في ك�رة الق�دم. وك�ان ه��و المس�اعد، ي�وزع عصر ك��ل ي��وم كن��ا الشباب على الف��رق. أم��ا أن��ا وأص��غر وألنن��ا نع��رج في مش��يتنا، ن��دخل أحيان الملعب ونسدد بالطابة لندخل الس�رور على قل��وب اإلخ�وة. ك�ان لعب أص�غر��ه طوي��ل القام��ة وي��أتي بكبس��ات في الكرة الطائرة على نسق واحد؛ ذل��ك أن

حادة.

ر. فق��د حفرن��ا حف�رة ��ق برياض��ة الزورخان��ه ومحبيه��ا، فلم نقص�� أما فيم��ا يتعل بارتفاع متر ونصف وقطر يبلغ ثالث��ة أمت��ار، إلى ج��انب حس��ينية الح��اج همت؛ فرشنا أرضها وجدرانها من الداخل باإلسمنت. وأص��بح الس��روال الك��ردي ه��و اللباس المخصص للزورخانه، ولففنا قطعة قماش ح��ول الخص��ر لنك��ون على نس��ق واح��د. فك��ان مل��وك الزورخان��ه من أمث��ال "محم��ود جولی��ده"، "علي زاكاني" والحاج "حسين سازور" و... يأتون كل ي��وم ويقيم��ون ه��ذه الرياض��ة. وهكذا أجرينا الرياضة القديمة في تلك البقعة البعيدة. بالنسبة لي، كنت فقط أرفع الهراوة. أما "حسين سازور" فه��و المعلم في ال��دوران، ي��دور ألك��ثر من

دقيقتين.

لم تمض بضعة أيام على وجودنا في "دوكوهه" حتى أرسل الح��اج محم��د في��ام إلى "قالوي��زان" وخط��وط طلبي وقال: "اجمع عناصرك، ستذهبون لعدة أي دفاع "مهران"، وستحلون محل كتيبة الش��هادة حتى إش��عار آخ��ر. وس��نرفدكم

بمائتي عنصر جديد".

في ذلك اليوم نفسه جئنا بحافلة، ونقلنا اإلخ��وة بمس��اعدة "حس��ين ط��اهري" و"أصغر" إلى دشم "قالويزان". كنت على معرفة تامة بمرتفعات "قالوي��زان"��ة. ل��ذلك، ت��رك عناص��ر كتيب��ة وممراتها، ولم أكن بحاجة إلى التوجيه��ات األولي

"الشهادة" المنطقة بسرعة.

كان محرم على األبواب، ففكرت في إقامة مجلس عزاء حسيني في الكتيب��ةأكثر حماسة وحرارة.

Page 400: books.almaaref.orgbooks.almaaref.org/static/documents/zoqaq.doc · Web viewكلّ هذه الذكريات والأصوات، کانت لا تزال تتردّد في زوايا حنجرة

400

�ذكر. في الي�وم الث�اني أما في مهران، فلم يحدث في اليوم األول أي ش��يء ي فقدنا منظارين، ومهما فتشنا عنهما وسألنا لم نجدهما. شككت بأحد العناص��ر الوافدة للتو، وركزت عليه منذ البداية، إذ إنه من األش��خاص الالف��تين للنظ��ر! وأمثال��ه في وس��ط المدين��ة لم يكون��وا ذائعي الص��يت ]في األم��ور الس��يئة[

فحسب، بل يشار إليهم بالبنان!

كان من شباب "ميدان غ��ار" ومن المح��ترفين في البلطج��ة، يس��ميه اإلخ��وة:"حسين سياه".

صادف أن ذهبت ذات يوم إلى حسينية "الحاج همت"، فرأيت "حسين" وحيدا يصلي. وجدتها فرصة مناسبة ألتعرف إلي��ه وإلى أعمال��ه وأي ن��وع من الن��اس

هو. قلت: "طيب الله أنفاسك يا أخي، تقبل الله".- يا علي! أنا نفسي سرقت.

قلت متعجبا: سرقت؟ كيف؟- لقد سرقت أموالي!

- يعني سرقت كاميرتك أيضا؟- ال، بل سرق قلبي.

تعجبت، كانت هذه أول إشارات حسين. فقد أفهمني بطيات كالمه ذاك بأنه الينبغي لي إقحامه في مسألة الكاميرا من دون مبرر.

بعدها قال: "أنا أعرفك؛ هل تعرفني؟".- لربما التقيتك في مكان ما؟!

- ألست أخا السيد باقر؟- بلى، لقد كان أخي في هذه الجماعات ذا وزن! ونافذ الكلمة!

Page 401: books.almaaref.orgbooks.almaaref.org/static/documents/zoqaq.doc · Web viewكلّ هذه الذكريات والأصوات، کانت لا تزال تتردّد في زوايا حنجرة

401

ا ق��د استش��هد. وكلم��ا ��ة؛ أخي أيض�� ��ك من ش��باب الخط��وط األمامي - س��يد! إن سألت أحدا عن المكان األفضل ألذهب إليه، أجاب: علي��ك ب���"ميثم"؛ ففي أي

مكان آخر لن يقبلوا صحبتك.- يا علي!

كانت هذه بداية صداقتي ب�"حسين إسماعيلي". وبهاتين العبارتين البس��يطتين أفهمني أن قلبه بحر. بدا واضحا من هيبته أنه رج�ل ح�رب. لم يظه�ر الخ��وف في عينيه. ومع كل السوء الذي عرف عنه، وال��ذي في الواق��ع لم يكن س��وءا،

لم يعرف التراجع والخوف في الحرب وفي مواطن الخطر.

بعد عدة أيام جاء حسين إلي وقال: "سيد، لي إليك حاجة".- تفضل.

- ال أحب أن أذهب لالستحمام مع اإلخوة المجاهدين. دعني أذهب مع القادة.- لم؟

- ال تسأل لم، بعدها ستفهم.

یوم الخمیس، حمل طاقم الكتيبة صرر ثيابهم، وذهبوا لالستحمام في الحم��ام.1المتنقل*

ناديت "حسين" قائال: "تعال واذهب لالستحمام مع اإلخوة".

للحظة، فكرت في أن أذهب وراءه ألستعلم عن سبب إص��راره على ال��ذهابلالستحمام مع قادة الكتيبة.

وضعت شخصا ينوب مكاني في قيادة الكتيبة، ولحقت اإلخوة إلى الحمام.

1 . ميداني عمومي حمام أي صحرائي؛

Page 402: books.almaaref.orgbooks.almaaref.org/static/documents/zoqaq.doc · Web viewكلّ هذه الذكريات والأصوات، کانت لا تزال تتردّد في زوايا حنجرة

402

كان حسين صاحب جسم رياضي. اختلس��ت النظ��ر إلي��ه عن��دما ش��رع بتب��ديل مالبسه فرأيت جسده مليئا باألوشام؛ في كل بقعة وجزء من��ه وش��م مختل��ف؛ عشق األم، أسير الرفي��ق، أس��ير العش��ق، م��أخوذ ب��الرفيق، الل��ه والكث��ير من

العبارات األخرى.

موا أجس��ادهم ويعرض��وها، كان من عادة المعدمين في جنوب المدينة أن يش��.1لكن ليس إلى هذا الحد

لم أقل شيئا، وعدت أدراجي.

في أيام محرم الحرام، جاء الحاج محمد إلى مقرنا لتفق�د خ�ط ال�دفاع، وك�ذا للمشاركة في مجالس العزاء الحسينية. فهو من شباب الهيئات، ومتدين جدا.��ه س��تقام في كتيبتن��ا مج��الس ع��زاء حس��ينية ك��ان يعلم م��ا نبتغي��ه، ويعلم بأن

مطولة.

قبل "مهران"، كان لدينا خط خلفي عند الكسارة، يوجد فيه موتور للماء، وقد��ا نأخ��ذهم حفرن��ا بأنفس��نا خن��دقا الس��تراحة اإلخ��وة، وعن��دما يش��تد الح��ر كن

للسباحة.

��ة لتقيم مج��الس الع��زاء واللطم، اعت��دنا وض��ع س��رية في الخط��وط الخلفي وإرسال سريتين إلى دشم الدفاع حتى ال يكون خط الدفاع خاليا. بعد ذلك كنا دائم��ا نج��ري التب��ديالت م��ا بين الس��رايا ليتمكن الجمي��ع من المش��اركة في

مجالس العزاء.

في تلك األيام، سمعنا بأنه قد سقط عدد من عناصر كتيبة "الشهادة" ش��هداء؛لكن لم يتضح لم تكبدوا كل هذه الخسائر في خط الدفاع.

ال 1 الذين القادة مع استحمامه يكون أن طلب لذا الوشم أسلوب العناصر منه يتعلم أن يرد لم األخ لعل. غالبا المسائل بهذه يتأثرون

Page 403: books.almaaref.orgbooks.almaaref.org/static/documents/zoqaq.doc · Web viewكلّ هذه الذكريات والأصوات، کانت لا تزال تتردّد في زوايا حنجرة

403

بعد مدة علمنا بأنه كلما وضع قائد الكتيبة حارسا في الدشمة، رم��اه القناص��ةا على المنطقة. وامتلكوا قناصات متين��ة. أم��ا العراقيون. كانوا مسيطرين ناري

نحن فعندما تموضعنا كنا أذكى منهم وأسرع!

��د. ونص��بنا دش��مة ��ا مناس��با يمكنن��ا من��ه رؤي��ة مواض��عهم بنح��و جي وجدنا مكان��ة ونص��بناها على ج��دار للحراسة ووضعنا "خوذة عس��كرية" على رأس البندقي الدشمة بحيث تبدو للعيان. كما وضعنا أكياس الرم��ل وأعلين��ا ج��دار الدش��مة.ا قراب��ة الخمس��ين رصاص��ة مباش��رة. وك��ان فكانت تص��يب ه��ذه الخ��وذة يومي

الحراس ينظرون من بين شقوق الدشمة ويقومون بمهمتهم.

كانت الطرقات في خطوط الدفاع تحت نظ��ر الع��راقيين، م��ا إن تم��ر س��يارة تويوتا أو ش��احنة، ح��تى تس��قط آالف الق��ذائف على الج��ادة. ل��ذا ص��رنا ننق��ل��ة. أم��ا ع�املو البري��د فتنقل��وا من وراء الس��واتر الطعام على ال��دراجات الناري

الترابية.

��ة، اختفى أح��د في اليوم الخامس أو السادس لوجودن��ا في الخط��وط الدفاعي��ون ق��د أت��وا لالس��تطالع الحراس بطريق��ة غامض��ة. احتملن��ا أن يك��ون العراقي فاختطفوه ليأخذوا منه المعلومات؛ ذلك أنه بعد ليل��ة أو ليل��تين، فاجأن��ا الع��دو بواب��ل من الن��يران على المح��ور األيمن. فحركن��ا الق��وات إلى هن��اك وب��دأنا بالمواجهة. فبدأوا من الناحية األخرى برمي نيرانهم أيضا على المحور األيسر. تقدموا ليثبتوا موطئ قدم لهم. كأنهم كانوا قد استخرجوا ك��ل أس��رارنا. بقين��ا نقاتل حتى الصباح. وانجلت المعركة بسقوط ش��هيد وثالث��ة ج��رحى، باإلض��افة

إلى الحارس المفقود.

كان بيننا وبين العراقيين تلة. عند طلوع الصباح جلن�ا بمناظيرن�ا على المك�ان،��ة. قلت في نفس��ي، فرأينا جثة لجن��دي ع��راقي، وثالث��ة من ش��هدائنا على التل

لربما كان الجندي العراقي ثقيال فلم يستطع رفاقه سحبه.

Page 404: books.almaaref.orgbooks.almaaref.org/static/documents/zoqaq.doc · Web viewكلّ هذه الذكريات والأصوات، کانت لا تزال تتردّد في زوايا حنجرة

404

في الليلة التالية ذهبت وحسين ط��اهري و"حس��ين باب��ايي" وك��ان من عناص��ر��ك حس��ين باب��ايي األلغ��ام، وفتح مع��برا ��ة. فك التخريب وخبيرا بعمل��ه، إلى التل فتقدمنا. كنا نرى أجساد الشهداء بوضوح؛ لكن كان واضحا من وض��عية الجثث واأللغام ال�تي ك�انت حوله�ا، ب�أن الع�دو ق�د فخخ الجثث. وكنت واثق�ا أنن�ا ل�و

اقتربنا منها لوقعنا في المصيدة.

قال حسين وهو منزعج: "ذاك الشهيد صديقي؛ إنه "مجي��د حي��در نج��اد"، عليأن أذهب لسحبه".

قلت: "عزي���زي حس���ين، انس األم���ر فه���ذا فخ. إن تق���دمت ينفج���ر اللغم،ا، ويحول��ون حياتن��ا ��ة دك ��ون ال��ذين ي��رون ك��ل ش��يء، س��يدكون التل والعراقي

جحيما".

وبصعوبة، أقنعناه بالتخلي عن سحب الشهداء. تركنا مكرهين أجساد األع��زاء، ورجعنا بنية سحبهم فيما بعد، بع��د القي��ام باالس��تطالع الالزم ودراس��ة الوض��ع

والتدقيق فيه.

��ة، وإذا برس��الة توج��ه لن��ا ع��بر جه��از أمضينا أس��بوعين في الخط��وط الدفاعي الالسلكي، تفيد بأن كتيبة "مالك" ستص��ل الي��وم، وأن علين��ا توجيهه��ا وتس��ليم الخط لها. لم تستغرق عملية تبديل الكتائب بيننا وبين كتيبة مالك يوما واح��دا.

فنقلنا القوات إلى "دوكوهه" لنتابع هناك أعمال التدريب.

عندما استقررنا في مباني دوكوهه، جاءنا الحاج محمد وقال: "سيد، يوجد فيكتيبتك كل أنماط البشر؛ ولم ينقصك أي طراز منهم".

- وكيف ذاك؟ا، يق��ارب طول��ه - في طريقي إلى مقركم، صادفت على "جس��ر كرخ��ه" ش��اب المترين، يحمل كيسا على ظهره، وحيث كانت قيافته تميل إلى شباب "ميثم"

أركبته معي. سألته خالل الطريق: "ما اسمك؟" قال: "محمد

Page 405: books.almaaref.orgbooks.almaaref.org/static/documents/zoqaq.doc · Web viewكلّ هذه الذكريات والأصوات، کانت لا تزال تتردّد في زوايا حنجرة

405

ضعيف". قلت: "هذا االسم ال يليق بهيئتك وجسدك الرياض��ي". بع��دها س��ألته: "ما هذا الذي تحمل��ه في الكيس؟" ق��ال: "أذهب في أوق��ات الف��راغ إلى نه��ر

"كرخه"، أصطاد السمك، وفي الليل أدعو الشباب لتناول الكباب".

أخذتني الدهشة. فهذا الشاب يقطع ثالثة كيلومترات مش��يا على األق��دام حتى يصل إلى نهر "كرخه" ليص��طاد الس��مك! قلت: "الك��ل هن��ا ذوو أخالق عالي��ة؛

وكل واحد منهم يظهر أخالقه بطريقة ما".

في تلك األيام، كنت عازما على السفر برفق��ة أص��غر إلى طه��ران للمش��اركة في اجتم��اع. فق��ال لي أص��غر: "بم��ا أنن��ا شخص��ان فق��ط، ويوج��د مح��ل في

السيارة، فلنأخذ معنا كمال".

جئنا إلى طهران، بعد يوم أو يومين. حين أردنا العودة، وجدنا أن كمية البنزين في حوزتنا قليلة. ذهبت إلى السيدة رجائي وقلت له��ا: "إم��ا أن ي��ذهب كم��ال

بالقطار، أو ينتظر عدة أيام ريثما أؤمن البنزين".

قالت السيدة: "ال، ال... لقد أعطوا الي�وم لك�ل ن�ائب في المجلس مئ��تي لي�تر من البنزين؛ اذهب إلى المكتب اإلداري المالي في المجلس، وخذ حصتي؛ أما

أنا فسأركب الحافلة في تنقالتي".

هكذا تمكنا من العودة بسهولة إلى موقعنا، وإلى منطقة العمليات.

ذات ي��وم، ج��اء مس��ؤول مق��ر الفرق��ة "علي رض��ا ن��وري" إلي وق��ال: "غ��دا،��ات )ك��ربالء ��ة في عملي (.8( و)ك��ربالء1سيعقد اجتماع ت��وجيهي. جول��ة إجمالي

وعليك أن تك��ون حاض��را وطاقم��ك. غ��دا ص��باحا، س��تأتي س��يارة مي��ني ب��اصلتنقلكم".

في الصباح الباكر، جاءت سيارة ميني باص إلى دوكوهه، فركب فيها

Page 406: books.almaaref.orgbooks.almaaref.org/static/documents/zoqaq.doc · Web viewكلّ هذه الذكريات والأصوات، کانت لا تزال تتردّد في زوايا حنجرة

406

قرابة العشرين شخصا من طاقم الكتيبة؛ مسؤولو السرايا، المعدات واآلالت، الصحية، التسليح، والتجهيزات وغيرها. لو كانت التويوت��ا هي ال��تي أتت للفتت

نظر العراقيين، ولقاموا برد الفعل المناسب.

قطعنا "أنديمشك"، وبعد "دزفول" نادى اإلخوة: "سيد؛ إننا جائعون".

قلت للسائق: "أخي، توقف جانبا".

توقف. فترجلنا جميعا. ك��انت بعض ال��دكاكين والمق��اهي ق��د ش��رعت أبوابه��ا.دخلنا إلى أحدها.

صحنا من البيض المقلي.25قلت: يا سيد، اصنع لنا

جلسنا خ��ارج المطعم على الکراس��ي والمقاع��د، وش��ربنا المرطب��ات الب��اردةوتبادلنا المزاح وضحكنا.

وصلنا ما بين الساعة الثامنة والنصف والتاسعة إلى مكان الجلسة.

المكان صالة كبيرة أودعت فيها المؤن والمساعدات الش�عبية. دخلن��ا القاع��ة، فوجدنا أغلب مسؤولي الكتائب قد وصلوا وجلسوا في أماكنهم. ك��ان بعض��هم يعرفنا ويعرف أننا من كتيبة "ميثم". وبعضهم اآلخر قد وصل للتو، وهي المرة األولى التي يروننا فيها. كان القائد جالسا، وقد التف الطاقم حول��ه في حلق��ة

دائرية. فجأة توجهت األنظار نحونا.

��ا يض��ع لفاف��ة الس��اق الجرم��وق على ما عدا "حسين طاهري"، لم يكن أي من حذائه. فسراويلنا كلها كانت مرخية الساقين، والشوارب كانت كثيفة، واللحى��ا بيت من الش��عر. فعلى ��ة قميص ك��ل واح��د من طويل��ة. وق��د كتب على خلفي سبيل المثال: نحن عاشقون وال مبالين وثمل��ون ومخرب��ون للع��الم ال تجالس��نا

وإال ساءت سمعتك. أحدهم طرز على جيب قميصه،

Page 407: books.almaaref.orgbooks.almaaref.org/static/documents/zoqaq.doc · Web viewكلّ هذه الذكريات والأصوات، کانت لا تزال تتردّد في زوايا حنجرة

407

إلى الجانب األيسر ناحية القلب: يا فاطمة الزهراء عليها السالم.

��اه أح��دهم في مك��ان م��ا، ��ا أه��داني إي أما أنا فقد كنت مرت��ديا س��رواال مرقطا كتب على ظهره: وقميصا رمادي

إننا جميعا خجلون من إحس��انك ي��ا حس��ين/ الظف��ر س��يكون حليفن��ا إن ق��دمناأنفسنا في طريقك.

ا، وأحمل في إحدى ي�دي س��بحة، وفي الي��د األخ�رى كما كنت أنتعل حذاء كتانيا مخططا باللونين الرمادي والفضي. منديال حريري

كان "علي رضا نوري" واقفا لدى الباب، ما إن رآني حتى تقدم نح��وي غاض��باوقال: "يا رجل..".

لم أتراج��ع، ورميت الک��رة فی ملعب��ه، ولم أدع��ه يتكلم. قلت: "أال تخج��ل من نفسك؟! هذه األعمال ليست من شأنك. إن أردت أن تخجلنا، فاسع أن تفع��ل

[ قائد..".1ذلك بطريقة أخرى؛ ال أمام أعين الجميع. أنا ]بال زغرى

تعجب نوري من جوابي السريع فقال: "ماذا حصل؟!".��ز بين اإلخ��وة؟ وتعطين��ا الس��يارات - تعطي السيارات الجيدة ألص��حابك؟ وتمي

الخربة؟!

كأنما أسقط في يده.

ك��ان الس��يد "فخ��ر ال��دين حج��ازي" يتكلم م��ع اإلخ��وة، وك��ان لس��انه قاطع��اكالسيف. فكان يضرب األمثال ويقول:

، دي دي دي برسبوليس! من أحرز هدفا، من2"دو دو دو برسبوليس

1 . والشأن االحترام مع معناه اللبنانية؛ باللهجه عامي تعبير زغرة بال أو2 . إيراني قدم كرة فريق

Page 408: books.almaaref.orgbooks.almaaref.org/static/documents/zoqaq.doc · Web viewكلّ هذه الذكريات والأصوات، کانت لا تزال تتردّد في زوايا حنجرة

408

لم يحرز هدفا. ماذا فعل هذا؟ وما فعل ذاك؟ إن برسبوليس لم يص��بح الخ��بز والماء، والبلد اليوم في حالة حرب. إنهم يش�غلون عق�ول الش�باب ب�الفوتبول

ويخدعونهم..".

نظر إلي أصغر وقال: "هذا هو الوقت المناسب لترمي ورقتك الرابحة".

- س��يد حج��ازي، إن كنت من مش��جعي ن��ادي االس��تقالل فق��ل بش��جاعة... لم المبالغ�ة؟ إنن��ا -بحم��د الل��ه- جميع��ا من مش��جعي برس��بوليس. إن ك�ان ن��ادي االستقالل قد أعطاك األموال لتثير هذه األج�واء فق�ل بص��راحة. فهن�ا الجبه�ة،

قل بصدق..

علت ضحكات الجميع وراحوا يصفقون، وتغيرت أجواء الجلسة. بعد ذلك تكلمالسيد "ميثمي" ممثل اإلمام، وصلى فينا صالة الظهرين.

ليتفننوا في عرض خدماتهم، فقد أعدوا شيئا1وقت الغداء، جاء شباب الدعم*شبيها بالدجاج المقلي؛ كان لذيذا! كما قدموا معه الخيار المخلل والخبز.

بدأ أحدهم بتوزيع الطعام. جامل المؤدبون بعضهم البعض، فكان الواح��د منهميقول لآلخر: تفضل يا أخي لنتناول الطعام معا.

وصل الدور إلى طاقمنا، جماعة مي��دان "ش��وش". فراح�وا ي��أكلون، ويقول�ون أعط��ني واح��دة أخ��رى، بحيث أخ��ذ ك��ل واح��د منهم ثالث قط��ع من ال��دجاج؛

والدليل عليه أن إحدى عشرة حصة قد نقصت من الطعام.

سرى الخ��بر من واح��د إلى آخ��ر، ودار الهمس والهمهم��ة. أش��ار الجمي��ع إلين��ا بالبنان وراحوا يقولون: لقد أخذ كل واحد من هؤالء ثالث حصص من الطع��ام،

فجأة قال علي رضا نوري: "سيد، تعال إلى هنا لو سمحت..".

1 .- والمؤن التداركات

Page 409: books.almaaref.orgbooks.almaaref.org/static/documents/zoqaq.doc · Web viewكلّ هذه الذكريات والأصوات، کانت لا تزال تتردّد في زوايا حنجرة

409

ذهبت إليه وقلت: "تفضل، يا عزيزي الحاج..". - يا رجل... لقد قلنا إنكم كتيب��ة األبط��ال وأه��ل الم��روءة. لق��د نقص��ت إح��دى

عشرة حصة يا أخي! وبقي عدد من األشخاص جائعين!- من فعل هذا؟

أشار علي إلى شبابنا وقال: "هم أولئك، أليسوا شبابك؟".- هؤالء ليسوا شبابنا.

تذاكيت عليه وقلت طاقمنا جالس إلى تلك الناحية.

هز برأسه خجال وقال: "ا... سامحني". - انظر يا سيد علي، كم بلغ عدد المرات التي اعتذرت فيه��ا ه��ذا الي��وم؟ لق��د

أحرجتنا صباح هذا اليوم مرة، وها أنت اآلن تفعل ذلك...

ومرة أخرى قام علي المسكين باحتضاني، وقبلني قائال: "أنا خادمك يا سيد".

بعدها توجه نحو قائد كتيبة الشهادة "جواد صراف". ناداه ومهم��ا ح��اول إقن��اع جواد لم يقبل، قال جواد والغضب يمأله: "الس��يد يت��ذاكى فيم��ا يق��ول. ه��ؤالء

شبابه".

نظرت من البعيد لما حل بجواد. كان بح��ال ل��و طعنت��ه بس��كين ال يخ��رج من��ه قطرة دم. كان يتكلم بسرعة ويشير إلي. فجأة أشار لي وق��ال: "س��يد، تع��ال

هنا لنرى..".

کان شبابنا قد أكلوا بسرعة وولوا هاربين. ذهبت إلى جواد وقلت بصوت عال: "عزيزي نوري، دعك من هذا... لقد قاموا اآلن بعمل ما. إنهم شباب يا عم. ال

تقل شيئا للحاج محمد؛ فهو أمر محرج بالنسبة لهم".

Page 410: books.almaaref.orgbooks.almaaref.org/static/documents/zoqaq.doc · Web viewكلّ هذه الذكريات والأصوات، کانت لا تزال تتردّد في زوايا حنجرة

410

قال علي رضا نوري: "حسنا، لن أقول".

قلت: أنا سأحضر جواد وأصالحه. تعال يا جواد..".

أنبني جواد ببعض الكلم�ات الثقيل�ة وق�ال: "تري�د أن تم�ارس ش�غبك في ك�ل مكان؟ الواحد منكم أكل ثالثة صحون من الطعام، أرقتم م��اء وج��وه الجمي��ع.

وينادونك بأخي أيضا؟".

طأطأت رأس��ي إلى األرض. لم يكن ال��وقت مناس��با لمعارض��ة ج��واد والبحث والجدل معه. بقيت هذه المس��ألة حتى اللي��ل س��ببا النزع��اج البعض، ولض��حك

البعض اآلخر.

لقد جيء بالطعام المعلب ألولئك الذين لم يتناولوا طعام الغداء. ص��لينا ص��الةالعشاء، وتناولنا أيضا السمك المعلب.

بعد الصالة أقيمت أيضا جلسة توجيهية في مقر الفرقة. وك��انت تل��ك الجلس��ة��ات "ك��ربالء ". وي��ا له��ا من ليل��ة! ك��انت ليل��ة الث��امن4التوجيهية األولى لعملي

والعشرين من صفر، ولم يكن بي حال ألحضر الجلسة.

حضر أصغر وحسين الجلسة. كنت مرتاح البال لناحية توجيه العمليات وأمث��ال هذه األمور. كانت السيارات قد غادرت؛ ولم تكن هن��اك أي وس��يلة ألع�ود به�ا إلى "دوكوهه"... فاللطم، والشباب، وليل��ة الش��هادة... لم أع��د أطي��ق ص��برا. خرجت من المبنى حيث تعقد الجلسة، وتمشيت قليال في تلك الناحي��ة. ك��انت المنطقة مليئة بمخازن المواد الغذائية ال��تي ت��برع به��ا الن��اس وأرس��لوها. في الطريق، التقيت ب�"مصطفى فرح زادي" بلبل الفرق��ة وق��ارئ عزائه��ا. فق��ال:

"لقد أتيت مع سماحة المحقق".

قلت: "مصطفى، إنها ليلة الشهادة، وقلبي منقبض... ماذا أفعل؟".

بينما كنا نسير من أمام محل استراحة خبازي الفرقة. وقع نظرنا

Page 411: books.almaaref.orgbooks.almaaref.org/static/documents/zoqaq.doc · Web viewكلّ هذه الذكريات والأصوات، کانت لا تزال تتردّد في زوايا حنجرة

411

على مصباحين يومضان. وكأن الخبازين كانوا مستيقظين.

��از، فجأة خطرت ببالي فكرة؛ تقدمت، طرقت على زجاج الفرن ون��اديت الخبسألته: أيها المعلم، كم نفرا أنتم هنا؟.

- ثالثون، أربعون نفرا. - "إن الحاج مص��طفى م��داح أه��ل ال�بيت هن��ا. ه��ل تري��دون أن تس��تمعوا إلى

مجلس عزاء؟ إنها ليلة الشهادة".- نعم يا سيد نحن من أهل المجالس.

��ا، أطف��أت المص��ابيح، ق��رأ دخلنا الصالة. اجتمع الخبازون. أزيحت األسرة جانبمصطفى مجلسا ولطمنا. كان المجلس أنيسا، وقد أقمنا العزاء.

خرجت بعد قراءة المجلس والعرق يتص�ببني، لكني كنت أش�عر بخف�ة كب�يرة،فاللطم على اإلمام الحسين عليه السالم يجري في عروقي ودمي.

من تلك الناحية، كان الحاج محمد يبحث عني.

لما رآني قال: "أين كنت يا أخي؟ لقد انتهت الجلسة".- كنا نقيم مجلس عزاء في غرفة الخبازين.

- سيد، غدا صباحا، ستأتي سيارة إلى باب الخيمة، علينا أن نذهب في الصباحالباكر إلى طهران لرؤية اإلمام، وكذا للقاء الشيخ هاشمي.

- لن نأتي معكم.- لم؟

- غدا هو الثامن والعشرون من صفر، علينا إقامة مجلس عزاء.- وهل األمر بيدك؟ أنت لم تصبح شيئا بعد...

Page 412: books.almaaref.orgbooks.almaaref.org/static/documents/zoqaq.doc · Web viewكلّ هذه الذكريات والأصوات، کانت لا تزال تتردّد في زوايا حنجرة

412

- أنت تعلم، وتعرف��ني. عن��دما أق��ول لن آتي، فلن آتي. غ��دا ش��هادة اإلم��امالحسن عليه السالم.

- لقد قلت لك مئة مرة أن ال تتكلم كالما فوق كالمي. لقد نسقت األمر. غ��دا،عليكم جميعا أن تكونوا في طهران.

عند الساعة الثانية بعد الظهر، وتالفيا لتهربنا، أرسلوا إلينا حافلة نقل مش�تركلتنقلنا إلى طهران.

استغرق األمر ساعة ونصف الساعة حتى جمعنا اإلخوة. كنا م��ا بين العش��رين والثالثين نفرا من كتيبة ميثم، وما بين العش�رة واالث�ني عش�ر نف�را من كتيب�ة

الشهادة.

وصلنا إلى طهران في وقت السحر، توجهن��ا مباش��رة إلى مق��ام "الش��اه عب��د العظيم". أدينا هناك صالة الصبح، بع��دها قص��دنا مطعم داوود للمق��ادم ورأسا؛ "النيفا" في شارع خراسان. رحمة الل��ه على داوود، فق��د ك��ان بطال ورياض��ي كما كان محله مجمعا لألقوياء وله��واة والع��بي رياض��ة الزورخان��ة. تعجب حين رأى عددنا، فقد غزونا محله، وكنا قرابة الخمسين نف��را. فق��ال: "س��يد، أن��ا ال

أقدر عليكم".

وزعنا اإلخوة مجموعات مجموعات، دخلنا وجلسنا. تناول كل خمسة أشخاص��ا من الش��اي م��ع قط��ع1وجبة من المقادم ورؤوس النيفا، وشربنا بعدها فنجان

السكر.

بعد ذلك، وصلنا إلى قاعدة "ولي العصر". كانت طواقم الكت��ائب األخ��رى ق��دوصلت في الليلة السابقة، وخلدت إلى النوم.

1 . مقادم وأربع رأس على تحتوي الوجبة

Page 413: books.almaaref.orgbooks.almaaref.org/static/documents/zoqaq.doc · Web viewكلّ هذه الذكريات والأصوات، کانت لا تزال تتردّد في زوايا حنجرة

413

هن��اك، ت��ذكرت "محم��ود جولي��ده" وأهمي��ة اإلتي��ان ب��ه إلى كتيب��ة ميثم. وك��ان ، وعلمت بأنه قد خرج للت��و1محمود قد أصيب إصابة بالغة في عمليات كربالء

من المستشفى، فأرسلت إليه أحد اإلخوة. فجاءني به إلى أم��ام ب��اب قاع��دة "ولي العصر". لم يكن بعض اإلخوة قد تخالطوا مع��ه. أم��ا أن��ا فكنت كتوأم��ه.��ه م��داح خب��ير، شاب مخلص، شجاع، ال يعرف الخوف، واألهم من ذلك كله، إن��ة والس��الم عرض��ت ل��ه وكنا بحاجة ل��ه في "ميثم" ونفتق��ده كث��يرا. بع��د التحيا مسألة كتيبة ميثم. وبعد أن طرقن��ا ه��ذا الب��اب وذاك، بص��عوبة أمن��ا ل��ه لباس��ا وألبسناه إياه. كان محمود صغير البنية؛ وق��د نح��ل جس��مه أك��ثر بع��د عسكري اإلصابة، فكان اللباس واسعا جدا عليه، فال هو كان للباس وال اللباس كان ل��ه.

ارتدى لباسه، وأصبح هو مسؤول السرايا بدل "أمير برادران".

كان يوم شهادة اإلمام الحس��ن علي��ه الس��الم، ذهبن��ا إلى أم��ام ب��اب المجلس��ام الش��هادة، ]الشورى اإلسالمي[. فجاء األخ كوثري أيضا وقال: "سيد، إنها أي

.1فلتقم لنا دودمه"

توزعنا على مجموعتين وبدأنا نلطم على طريقة ال�"دودمه". قرأ أح��د اإلخ��وة العزاء. عندما دخلنا الصالة، كانت الكتائب األخرى ق��د وص��لت قبلن��ا وجلس��ت في المقدمة؛ وكأن الصالة مس�رح. ال أدري... لربم�ا ك�انوا يخجل�ون؛ أو ك�انوا يعدون اللطم على طريقتنا أم��را س��يئا. وقفت في الوس��ط وقلت وأن��ا ألطم:

"الرجاء من الجميع الوقوف احتراما للمولى ]اإلمام الحسن[..".

الشعر 1 أبيات بعض بقراءة أوال القارئ يقوم السالم عليه الحسين اإلمام وعزاء اللطم مراسم في دودمه . طريقة على الشعر بإلقاء يبدأ الدعاء، وبعد المجلس آخر في مرتين مرتين المصارع بعض ويكرر واحدة، مرة

- - ينقسم بحيث ، أيضا الشعر أنواع من نوع ای وال�چهارباره ، الشعر أنواع من نوع دمه وال�سه ال�دودمه،) ( . الراوية معه األشعار تلك بالتناوب ويرددون مجموعتين، إلى اللطيمة

Page 414: books.almaaref.orgbooks.almaaref.org/static/documents/zoqaq.doc · Web viewكلّ هذه الذكريات والأصوات، کانت لا تزال تتردّد في زوايا حنجرة

414

وقف ك��ل العناص��ر، والمس��اكين تراجع��وا قليال إلى ال��وراء. أم��ا نحن فأخ��ذتنا الحماسة ورحنا ننادي بصوت عال "أبا الفض��ل، أب��ا الفض��ل..". وتق��دمنا ش��يئا

فشيئا وجلسنا في المقدمة.

لقد خدعت الكتائب األخرى، فهي من جهة لم تلطم، ومن جه��ة أخ��رى أخ��ذنامكانها.

بعدها بقليل، جاء "محم��د ك��وثري"، و"الش��يخ هاش��مي"، وحارس��ه الشخص��ي "أحمد بارياب". نهضنا جميعا وقوف��ا وأطلقن��ا الص��لوات. ق��ال لي "علي رض��ا نوري": "سيد، حبذا لو يقرأ محمود مجلسه أوال، وعندما يريد الش��يخ هاش��مي

أن يلقي كلمته، ال أريد أن أسمع أي صوت".

قلت: أوال، لقد خرج محمود منذ أربعة أيام من المستشفى، وحاله الص��حية ال��دت على ��ا، بم��اذا يري��د الش��يخ هاش��مي أن يتكلم؟! إن نك تس��مح ب��ذلك. ثاني

محمود، امتنع عن القراءة! قال: "حسنا، كما تريد!".

وضع كرسي، فجلس عليه الشيخ هاشمي. كما وضعت أمامه طاولة خشبية.

ذهب الحاج محمد إلى الشيخ هاشمي وقال: "هؤالء اإلخ��وة من ط��اقم فرق��ة طهران. وحيث أنك إمام جمعة طهران مضافا إلى كونك ممثل اإلم��ام، علي��ك

أن تأتي مرة بنحو مخصوص إلى الفرقة للقاء اإلخوة".

أطلق الجميع الصلوات مجددا، ليش��رع الش��يخ هاش��مي بكلمت��ه. فج��أة قلت: "إنها ليلة الشهادة، واألخ "جوليده" قد خ��رج للت��و من المستش��فى، فك��ل من يحب أن يقرأ الحاج محمود مجلس ع�زاء فل��يرفع ص�وته بالص��الة على محم�د

وآل محمد".

أطلق اإلخوة صلوات عالية، فتوجه األخ محمود إلى الميكروفون. قرأ

Page 415: books.almaaref.orgbooks.almaaref.org/static/documents/zoqaq.doc · Web viewكلّ هذه الذكريات والأصوات، کانت لا تزال تتردّد في زوايا حنجرة

415

محمود قصيدة، كان "داوود عابدي" يدندن بها ويرددها دائما.إن طردوني من زقاقك أيها الحبيب

فوالله سأعود من جديد حتى ولو لم يدعونيأصبحت أيها الحبيب تابع قافلة عشاقك

على أمل أن يوصلوني إلى زقاقككم ضربت رأسي بباب الخمارة

حتى يسقوني رشفة من خمر عشقك

س��يطرت قص��يدة محم��ود على المجلس. بع��د ذل��ك ق��رأ النعي، ومن ثم ختم ، وبطريق��ة الحف��اة المع��دمين، رف��ع1بالدعاء. فج��أة ان��برى "أص��غر خ��روجب"

صوته قائال: "افسح لنا المجال يا سيد أبا الفضل. ائذن لنا".

قلت: "باسم الله..".

ا فيما بيننا. خلعنا قمصاننا ووقف بعضنا مقاب��ل بعض��نا اآلخ��ر، قمنا وفتحنا ممر ورحن��ا نلطم الص��دور ونق��رأ الم��راثي بش��كل منظم ورائ��ع. في ه��ذه األثن��اء، اش��تكى البعض ممن ليس��وا من أه��ل ه��ذا الع��الم، واعترض��وا أن كي��ف نخل��ع��ا قمصاننا بحضور الشيخ هاشمي، وال نسمح له بالكالم. فعاد محمود وقرأ أبيات من الشعر مجددا، ومن ثم عرج على ذكر مصيبة اإلمام الحسين عليه السالم

وختم بالدعاء.

فقال الشيخ هاشمي: "أحسنتم! بماذا سأتكلم معكم؟".

بهذا 1 لقب وقد الشهادة، كتيبة سرايا إحدى مسؤول كان خروجب، بأصغر المعروف زاده، الحسين عبد أصغر . . من كان اليد حسن بأصغر الجبهة في ينادونه صاروا بعد فيما القوية وأصابعه الكبيرتين يديه بسبب اللقب

كربالء ) عمليات في أثره فقد وقد معصوم، زاده وإمام قبان مفترق (.5شباب

Page 416: books.almaaref.orgbooks.almaaref.org/static/documents/zoqaq.doc · Web viewكلّ هذه الذكريات والأصوات، کانت لا تزال تتردّد في زوايا حنجرة

416

قلت: "أرأيت يا سيد كوثري؟ ما الذي سيقوله الش��يخ هاش��مي بع��د؟ القض��ية األولى، هي الحرب؛ وهذه الجموع منذ أربع��ة أش��هر لم تب��ارح س��احة الح��رب

ولم تر زوجاتها وأوالدها..".

تحدث الشيخ هاشمي حول مشاكل الحرب اليومية وشكر الجميع.

بع��د الجلس��ة، توج��ه الح��اج محم��د إلى اإلخ��وة وق��ال: "ليص��عد الجمي��ع إلىالحافلة، نريد العودة إلى القاعدة... فالعناصر منتظرة".

مباشرة قلت ل�"أكبر سربوشان" وباقي مسؤولي السرايا: "اذهبوا جميع��ا فيإجازة. موعدنا غدا في تمام الثامنة صباحا أمام قاعدة ولي العصر".

بعد ذلك، وقفت أمام السيارات وتظاهرت بأنني لم أس��مع ش��يئا. ق��ال الح��اجمحمد: "ألن تأتي؟".

- إلى أين؟ - لق��د طلبت من الجمي��ع ال��ذهاب إلى قاع��دة ولي العص��ر، ومن هن��اك إلى

الجبهة.- إ... متى قلت ذلك، لم أسمعك؛ لقد أرسلت الجميع في إجازة.

هز الحاج محمد رأسه وقال: "يا أخي، لم أنت هكذا؟ لكن صوته لم يع��ل حتىال ينتبه اآلخرون".

قلت: "يا حاج، أنا أدرك ما مع��نى طاع��ة القائ��د؛ لكن أص��حابنا ق��د ج��اؤوا إلى طه��ران، ويري��دون أن ي��ذهبوا لرؤي��ة زوج��اتهم وأوالدهم. م��ا مع��نى الع��ودة

بالكتائب هذا؟".

تركت الحاج محمد وتهربت، وذهبت إلى البيت.

Page 417: books.almaaref.orgbooks.almaaref.org/static/documents/zoqaq.doc · Web viewكلّ هذه الذكريات والأصوات، کانت لا تزال تتردّد في زوايا حنجرة

417

في ص�باح الي�وم الت��الي، تجمعن�ا في "قاع�دة ولي العص��ر". وقب�ل أي ش��يء قدمت لمسؤول التداركات في الفرقة كشفا بالمصاريف التي أنفقناها، وقلت

أل��ف50 ألف تومان؛ سدد لنا الفاتورة. قال: "إنن��ا نق��دم 100له: لقد صرفنا ألف؟".100تومان لكل كتيبة. فلم أنفقتم

ى وأص��غر في الفن��اء، ق��ال رجعنا إلى "دوكوهه". ذات يوم، وبينما كنت أتمش��لي أصغر: "كم هو جميل أن نأتي للشباب بخبير محنك".

- ماذا؟ - م��اذا ل��و أتين��ا بالس��يد علي )النجفي( ليلقي على مس��امع اإلخ��وة ليال بعض

المواعظ. سيثير حركة وحماسة في الكتيبة!- غدا أذهب إلى طهران وأحضره.

انطلقت في الصباح الباكر، وعند الغ�روب تش�رفت بزي�ارة الس�يد علي. ك�ان السيد متواضعا جدا، بحيث لم تكن هناك من حاجة ألخذ موعد مسبق لزيارته. وقد كان باب بيت��ه مش��رعا للمجاه��دين. قلت ل��ه: "لق��د ش��كلنا كتيب��ة "ميثم"

واآلن هو الوقت المناسب لتشرفنا هناك".- حسنا، غدا بعد صالة الصبح ننطلق.

��ة وفي ذلك اليوم ذهبت إلى رئيس الحكومة الثانية وأخذت منه بطاقة مأموريللسيد علي.

في ذلك اليوم، عندما كنت في طهران، جاء السيد خضرايي إلى بي��تي، وك��انمن أبناء محلتنا، فقال لي: "سيد أريد أن أذهب إلى الخطوط األمامية".

- اذهب غدا إلى قاعدة مالك األشتر والتحق من هناك.

Page 418: books.almaaref.orgbooks.almaaref.org/static/documents/zoqaq.doc · Web viewكلّ هذه الذكريات والأصوات، کانت لا تزال تتردّد في زوايا حنجرة

418

في صباح اليوم التالي، ركبت والسيد سيارة تويوتا وانطلقنا نحو "دوكوهه".

في تلك الفترة، قلما كان يحدث أن يترك عالم دين وواعظ مع كل ما ل��ه من مري��دين ومحبين، من��بره ومكتب��ه والمس��اعدين، وي��أتي إلى الجبه��ة، فيخال��ط المجاهدين، ويعيش على الحجر والمدر تحت سقف خيمة. ك��انت تل��ك الم��رة

الثانية التي يحضر فيها السيد علي بين صفوف المجاهدين.

��ق اإلخ��وة ح��ول الس��يد. وأراد الواف��دون الج��دد أن وص��لنا إلى دوكوه��ه. تحل يتعرفوا إليه. فالعناصر القدامى ك��انوا ينهل��ون من فيض��ه للم��رة الثاني��ة. عن��د المساء، دعونا السيد ليخطب فينا. قلت له: "سيد، لو جاء رفاقنا ومعارفنا من

الكتائب األخرى..".

قال: "ال؛ إن زمامنا بيد السيد ]السيد أبي الفضل[".

في تلك الليلة، ألهب الس�يد ك�ل المش�اعر! تح��دث عن العش�ق، وقلب كي�ان��ه الجميع! تكلم بكالم جديد، عن العشق والعرفان، فغير أفكار اإلخوة. أذكر أن ق��ال في موض��ع من خطبت��ه: ".. عليكم أن تق��ووا التوحي��د في نفوس��كم. السياسة والحكومة فرع هذا األمر. والفرع ينبغي أن يكون قائما على األص��ل. على أي ركن ينبغي له��ذا الس��قف أن يس��تند؟ وعلى أي عم��ود؟ على عم��ود التوحيد. على عمود اإلخالص، وخدمة خلق الل��ه. عليكم أن ت��دوروا ح��ول ه��ذا

". بقينا في تل��ك الليل��ة متحلقين ح�ول1المحور. كونوا موحدين، يهدكم الله... الس��يد إلى الس��اعة الثاني��ة عش��رة منتص��ف اللي��ل. عش��نا ح��ال عش��ق تام��ة وكامل��ة. انش��غل ك��ل واح��د من��ا عن اآلخ��ر، الك��ل انش��غل م��أخوذا بالعش��ق،

وبالعشق فقط..

خرداد 1 الكبير، الجوشن دعاء تموز 1367تفسير .1988حزيران

Page 419: books.almaaref.orgbooks.almaaref.org/static/documents/zoqaq.doc · Web viewكلّ هذه الذكريات والأصوات، کانت لا تزال تتردّد في زوايا حنجرة

419

في بعض الليالي، كان السيد يقول: "سيد، هال نذهب إلى الخمارة؟".

وفورا نركب السيد علي في شاحنة التويوتا ذاتها ال��تي أتين��ا به��ا، ون��ذهب إلىق الس��يد "الس��يد محم��د "دزفول" لزيارة مقام "السيد محمد س��بزقبا". عش��

سبز قبا"، وصرنا نحن نزوره أيضا.

في مقاب��ل مق��ام "الس��يد محم��د س��بز قب��ا"، ك��ان يوج��د مقهى، وق��د أعجب القهوجي بالسيد، فأخذ قطعة الجلد وأحضر متك��أ ووض��عه وراء ظه��ر الس��يد.

وقدم له الضيافة.

بقينا نحن أيضا إلى جانب السيد إلى منتصف الليل. عند عودتنا، ق��ال: "س��يد، إن نحن نمنا اآلن فلن نستطيع القيام ألداء صالة الصبح... سيكون األمر ص��عبا

علينا!".

شخص ينتظرون300عندما عدنا من "سبز قبا" ذهب السيد للوضوء. فرأيت في صف المرحاض.

توقف السيد وق��ال: "س��يد، هن��ا الع��رش أم األرض؟ من هم ه��ؤالء ال��ذين م��ازالوا مستيقظين إلى هذه الساعة من الليل؟ أين نحن؟".

وضع بعض اإلخوة قبعات على رؤوسهم لكي ال يع�رفهم أح�د. واس��تغرقوا فيحاالتهم المعنوية. عندما رأوا السيد، تنحوا جانبا.

فقال لهم : "ال يا عزيزي، علي أن أنتظر دوري".

انتظرنا نصف ساعة. أما السيد، فلضخامة جثته وثقل وزنه، تعب من الوقوفجل وتلك. وبدأت رجاله تؤلمانه. رأيته يتكئ على هذه الر

أقمنا صالة الصبح بإمامته. وكان من عادة السيد أن يتلو زيارة عاش��وراء بع��د��ة، وبكين��ا؛ نظ��رت إلى الس��يد، الصالة. سادت في وس��ط الزي��ارة ح��ال معنوي

فرأيته غاطا في النوم.

Page 420: books.almaaref.orgbooks.almaaref.org/static/documents/zoqaq.doc · Web viewكلّ هذه الذكريات والأصوات، کانت لا تزال تتردّد في زوايا حنجرة

420

قمت وتقدمت نحوه. هززت كتفه بهدوء وأيقظته. رفع رأسه، نظر إلي وق��ال: "من هم هؤالء يا صاح؟ إن زيارة عاش��وراء تس��تغرق نص��ف س��اعة، ال س��اعة

ونصفا! وقد سهرنا كثيرا!".

��ا للن��وم على الس��طح. أخذت بيده وساعدته على النه�وض. وأع��ددت ل��ه مكانفذهب ونام إلى الساعة الحادية عشرة صباحا.

لم يكن السيد من أهل الري��اء، وال من أه��ل التمثي��ل. كم��ا لم يطلب الكس��ب والربح. فأحيانا يقول لي: "سيد، ال أرغب اليوم بأداء صالة الجماع��ة، وال يص��ح

إقامتها إذا لم تكن مستعدا لها".

��ا يق��ول: "س��يد، اترك��ني قليال م��ع ه��ؤالء اإلخ�وة. ال ت��دع ه�ؤالء اإلخ�وة وأحيانيتحسرون".

كان يذهب ويجلس بين اإلخوة، يسليهم، فيترك كالمه أثره فيهم. وق��د علمهم بأن يتناولوا الطعام بأيديهم، ق��ائال: "يوج��د على رؤوس أص��ابع اإلنس��ان م��ادة تساعد على هض��م الطع��ام. بالمناس��بة، إن وج��د في الطع��ام عظم أو حج��ر، فيمكنك االلتفات إليه إذا كنت تأكل بي��دك، أم��ا إن التهمت الطع��ام بالملعق��ة،

فقد يعلق في حلقومك، أو يكسر سنك..".

بهذه الكلمات دخل قلوب اإلخوة، ومع فارق السن بينه وبين بعضهم، ع��املهمبمحبة فائقة، يحسد عليها.

ذات ي���وم، ب���دأ الكالم عن االنتق���ال إلى مخيم "كرخ���ه"، وحكاي���ة الت���دريبوالتكتيك وعذاب الليل والحياة في الخيمة.

وكما باقي كتائب الفرقة األخرى، كان علين��ا أن نص��مم لوح��ة وعالم��ة لموق��ع كتيبتنا وذلك ليكون موقعنا ونطاق سيطرتنا معلوما للكت��ائب األخ��رى.وبس��بب

عمل شباب ميثم بسنة األبطال الشجعان، انتقينا اسم الشهيد

Page 421: books.almaaref.orgbooks.almaaref.org/static/documents/zoqaq.doc · Web viewكلّ هذه الذكريات والأصوات، کانت لا تزال تتردّد في زوايا حنجرة

421

��ة كتب عليه��ا "إبراهيم هادي" ال��ذي ك�ان أم��ير ش��جعان الجبه��ة؛ لوح��ة حديدي بالخط العريض: "المولى ال يقبل للرجال الشجعان أن يذلوا" وكتب فوق هذه العبارة بخط أصغر حجما: "موقع الش��هيد البط��ل إب��راهيم ه��ادي". ورحن��ا في

كل انتقاالتنا ننصب هذه اللوحة في مدخل الموقع لتكون الدليل عليه.

في اليوم األول لدخولنا مخيم "كرخه"، وصل "السيد خضرايي".

قلت لعلي ب��رادران: "ه�ذا الس��يد ق��وي وذو نف��وذ. اجعل��ه مس��ؤول المع��داتوالتسليح".

في يوم، جاءني السيد خضرايي وقال: "سيد، أيمكن أن نفعل ش��يئا من أج��لالله؟".

قلت: "إن كان لله يمكن، واآلن، ما الذي تريد القيام به؟". - جميع الكتائب لديها دوشكا؛ أما نحن فال. وقد وص��لت إلى الفرق��ة اآلن ثالث دوشكات جديدة تطلق الق��ذائف )مقنبالت(. جدي��دة ومتين��ة. لق��د علمت به��ذا

األمر، وأريد أن أستفيد من هذه الدوشكات الجديدة.

في الي��وم الت��الي، ذهب إلى قاع��دة "دزف��ول"، وع��اد عن��د الغ��روب بثالثدوشكات. كيف فعل ذلك؟ الله أعلم!

��ة من عندما وصلت مطلقات القذائف، خط��ر بب��الي أن أجع��ل مجموع��ة ريادية مقدام��ة وال تع�رف الخ��وف، الشباب في مقدمة كل س��رية؛ مجموع�ة خاص�� وأن أسلم كال منها واحدة من ه��ذه الدوش��كات. انتقيت له��ذه المهم��ة كال من "حسين إسماعيلي"، و"أصغر كودرزي" و"محمود عطايي". فهؤالء يمكنهم أن

يفدوا اإلخوة بأنفسهم من دون أخذ ورد.

��ام س��الح كان شباب ميثم مفوهين وفصيحين. وق��د أخل��وا في ظ��رف ع��دة أيالفرقة ومعداتها وتجهيزاتها. كما كانت لدينا مجموعة جيدة في

Page 422: books.almaaref.orgbooks.almaaref.org/static/documents/zoqaq.doc · Web viewكلّ هذه الذكريات والأصوات، کانت لا تزال تتردّد في زوايا حنجرة

422

��ة ص��غيرة. "قسم التسليح" أيضا، فأحضروا لن��ا خمس��ة أجه��زة الس��لكية فرديفسلمت جهازا لكل واحد من قادة المجموعات الخاصة.

��ات أرب��ع ش��احنات أما "جواد حكمي"، فقد جلب لنا من قسم المع��دات واآللي تويوتا جديدة، وسيارة تويوتا ص�غيرة أس�ميناها عرب�ة. يتس�ع المقع�د األم�امي منها لشخصين، وتتسع العربة لثالثة أو أربعة أشخاص. فكنت وأصغر نس��تعمل واحدة منها، حيث يقودها "حسين سازور". والشاحنات الثالث كانت في خدمة��ات. وباإلجم��ال، أص��بح وض��ع تجهيزاتن��ا وتس��ليحنا قسم التجه��يزات والمأموري أفضل من سائر الكتائب األخرى. كما كان عدد قواتن��ا أك��ثر من ع�دد الكت��ائب

األخرى. التحق ب�"ميثم" كل أصحاب النخوة والش��جاعة والم��روءة، ه��واة ك��رة الق��دم، والعشاق، المتشددون والالمبالين. والکثیرون منهم، ج�اؤوا ليس فق�ط عش�قا لله، ربما من أجلي ومن أجل الصداقة. لم؟ ألن قانون ميثم هو قانون العشق والم��ودة والص��داقة. وق��د أص��بحت الح��رب حج��ة لتش��كيل ص��داقات جدي��دة

ودائمة.

لطالما ردد أصغر: "علينا أن ال نقوم بفع��ل، بحيث إذا م��ا انتهت الح��رب غ��دا، والتقى بنا اإلخوة، يعرضون عنا ويكيلون لنا الشتائم والسباب. فلنتعامل معهم بنحو تبقى معه لديهم ذكرى طيبة عن كتيبة ميثم". له��ذا، س��عينا جاه��دين ألن نكون رفاق��ا للش��باب وك��اإلخوة بالنس��بة لهم. فأن��ا على س��بيل المث��ال، خالل وج��ودي في المق��ر، كنت أتكلم عن الح��رب والحص��ار. وخالل وج��ودي بين اإلخوة، كنت أمزح وأمرح ونلعب كرة القدم المصغرة، ونقيم احتفال البطانية

. صار اإلخوة مالذا بالنسبة لي. فعندما1ألحدهم*

1 .) أحدهم ) يوقعون الشباب بين المزاح في طريقة خوبان لشكر االخبار فرقة كتاب في عنها تفصيل ورد. النفس ينقطع حتى بالبطانيات ويرمونه الباحة أو الغرفة وسط

Page 423: books.almaaref.orgbooks.almaaref.org/static/documents/zoqaq.doc · Web viewكلّ هذه الذكريات والأصوات، کانت لا تزال تتردّد في زوايا حنجرة

423

أعود للخطوط الخلفية، ال أستطيع شرب جرعة من الماء وحدي. وظل قل��بي��ا، وفكري عند العناصر والقوات في الخطوط االمامية. وصرت إنس��انا ال مبالي

تزوج ومضى في سبيله.

أردت أن أتخذ مسلكا يقرب األشاوس واألقوياء مني ويقوي ص��حبتي لهم؛ وال�ون إلي يخافني العناصر الص��غار والواف�دون للت�و إلى الجبه�ة، ب�ل ي�أتون ويبث

همومهم وشكاواهم.

وإذا كان من المفترض معاقبة أحد وتأنيبه، ت��ولى حس��ين ط��اهري ذل��ك. فه��ول، ص��احب نظم وانض��باط. ف��إن لم يض��ع أح��دهم لفاف��ة رج��ل متعلم ومحص��

الساق، أو تأخر في الوصول إلى المراسم الصباحية، عوقب.

كان حسين معلما في عمله، يجري كل يوم تمارين الليونة والركض ليكتس��ب��ة، ويعلمهم األخالق والنظ��ام العس��كري على الس��واء. الش��باب اللياق��ة البدني كثيرون انزعجوا من تشدده وقساوته، لكن عند رؤيتهم الجهود التي يبذلها من أجل إقرار النظام في الكتيبة، كانوا يصطفون إلى جانبه. ك��ان حس��ين يعام��ل

اإلخوة كرفاق، ويكن لهم المحبة؛ لكن تدريباته وتشديداته أتت في محلها.

أذكر ذات مرة، عندما أتينا إلى طهران الستقطاب عناص��ر ج��دد وأخ��ذهم إلىا المنطقة، ولم يكن قد مضى على عرسه س��وى ليل��تين، رأيت حس��ين جالس��

على رأس الزقاق.

قلت: "أيها العريس الجديد، لماذا تجلس هنا؟".

قال: "اذهبوا أنتم، سألحق بكم بعد عشرة أيام".

فجأة، أخذ في اليوم التالي العناصر الجدد، وانطلق بهم قبلنا إلى الجبهة.

كان ل�"حسين طاهري" في طهران عمل وحياة جيدة؛ لكنه من أولئك

Page 424: books.almaaref.orgbooks.almaaref.org/static/documents/zoqaq.doc · Web viewكلّ هذه الذكريات والأصوات، کانت لا تزال تتردّد في زوايا حنجرة

424

��ق بالمدين��ة والحي��اة والزوج��ة ب��أي وج��ه من الذين طلقوا الدنيا ثالثا، ولم يتعل الوجوه. ترعرع في "زقاق نقاشها". وعين حارس مرمى في فريق كرة ق��دم��ة فأح�دثت محلي. لكأنه نفخ فيه من روح القاس��م. تع�رف إلى الهيئ��ات الديني��ة، وعن��دما فيه تحوال كبيرا، كونه امتلك أرضية ه��ذا األم��ر. فك��انت نش��أته ديني

��ات "ب��ازي دراز"9أصبح عضوا في الحرس، التحق بالكتيبة وشارك في عملي وأبلى فيها بالء حسنا. وبسبب إقدامه وش��جاعته أص��بح مس�ؤول الت��دريب في قاعدة اإلمام الحسين علي��ه الس��الم، وبع��د إع��ادة تش��كيل كتيب��ة ميثم، ت��ولى أعمال التدريب فيها. كان حس�ين يتش��دد في بعض المس��ائل ويج��ادلني فيه�ا. فبينما أردت لإلخوة أن يعيشوا الحب والعش��ق، وأن يق��اتلوا؛ آمن ه��و ب��النظم والقانون. فعلى سبيل المثال، صار دوما يثير المشاكل بسبب تدخين السجائر في الكتيبة. فبعض اإلخوة كانوا مدمنين على السجائر وال يستطيعون التوق��ف عن تدخينها؛ أراد حسين إحداث تحول في الكتيبة، واقتالع التدخين من جذورها. في ليلة واحدة. سلك كل عنصر من عناصر كتيبة ميثم مسلكا ومرام��ا خاص��

، ال1فسرية البقيع منتظمة ومنضبطة تسرها القوانين. وسرية "نينوى" ثقيل��ة* يشارك عناصرها سوى في المراسم الصباحية، ولم يتقيدوا ب��أي ش��يء؛ أي ال يمكن تقييدهم وربطهم ب��أي ش��يء. أم��ا "أك��بر سربوش��ان" فق��د ك��ان "مل��كا أن التدخين" وغالبا ما تشاجر مع حسين حول ه��ذا الموض��وع. فكنت مض��طر

أتخذ نقطة الوسط فيما بينهما.

قلت: "كل من يريد التدخين فليخرج، وليعد خمسين خط��وة وي��دخن الس��جائرهناك".

نصب "محمود جوليده" خيمة خلف خيم��ة س��رية ف��دك وأطل��ق عليه��ا "خيم��ةالتدخين". فكان يجتمع فيها ملوك التدخين ويدخنون.

1 . بالعامية حالها متقلة

Page 425: books.almaaref.orgbooks.almaaref.org/static/documents/zoqaq.doc · Web viewكلّ هذه الذكريات والأصوات، کانت لا تزال تتردّد في زوايا حنجرة

425

ذات يوم، دعوني إلى خيمتهم. وحين رفعت طرف الخيمة لم أس��تطع أن أرىمن في الداخل لكثرة الدخان الذي مأل فضاءها.

في يوم من األيام رأيت "أكبر سربوشان" عابس الوجه متجهم��ا، وق��د ارت��دىثيابه مستعدا للرحيل وترك المخيم..

قلت: "أخي أكبر، ما بك؟". - لم أعد أتحمل البقاء في المخيم مع حسين هذا. يا عم إنه قاس جدا، ودائماا من ه��ذه الس��يجارة في يم��ارس الض��غط علي. ال أس��تطيع أن أس��حب نفس��

اليوم، ما هذا الكالم يا عم؟!

لففت يدي حول عنقه وأخذته إلى الخيمة. كنت أعلم أن ه��ذه مس��رحية ليسإال. فأكبر لم يكن ممن يتركون ميثم.

��ه ال وهو نفسه يعلم أن حسين طاهري رج��ل بك��ل م��ا للكلم��ة من مع��نى، وأن يقوم سوى بخدم��ة الجبه��ة وأداء مس��ؤوليته. لربم��ا لم يس��تطع، أو ض��ميره ال يسمح له، بالتفكير كما أفكر أنا وأكبر سربوشان. كان يشعر بمسؤولية ك��برى إزاء التدريب والنظم واالنض��باط في الكتيب��ة. وق��د اهتم بص��غار الس��ن ال��ذين اقتدوا وتعلموا من قدامى المجاهدين. فلم يكن ليسمح بالقيام بأي شغب في الكتيبة؛ وكم رأيته يمسك المكنس��ة بي��ده ويكنس أرض الخيم��ة، ك��األخ األك��بر��ة على إخوت��ه الص��غار. ول��و لم تكن حال��ه ك��ذلك، لم��ا يفيض عش��قا ومحب استطاعت كتيبة ميثم أن تبرز في ميدان الح��رب. وكلم��ا م��ر ال��وقت، ازددت يقينا بأني وضعت األمر بين يدي إنسان خبير وفعال، وأنه ال أحد سوى حس��ين

يمكنه تدريب كتيبة ميثم.

في مخيم كرخه، وصل عدد عناصر الكتيبة إلى سبع مئة، بحيث أصبحنا نع��انينقصا في األمكنة والخيم، ما اضطر أصغر لوضع خطة، تقضي بتناول

Page 426: books.almaaref.orgbooks.almaaref.org/static/documents/zoqaq.doc · Web viewكلّ هذه الذكريات والأصوات، کانت لا تزال تتردّد في زوايا حنجرة

426

طعام الفطور والغداء والعشاء بنحو جماعي على مستوى الكتيبة كلها.

فكنا نف��رش س��فرة كب��يرة وواح��دة؛ يجلس إليه��ا س��بعمائة عنص��ر ويتن��اولونا مجموع�ة من ك�ل س��رية الخدم�ة على ه�ذه الس��فرة، طعامهم. وتتولى يومي فتفرش السفرة وتجمعها، وتغسل الصحون. أما طاقم الكتيبة فتولى الخدم��ة مرة في األسبوع. وكلما أراد اإلخوة شرب الماء نادوا: يا حسين. البعض منهم

يالطفوننا فيقولون: يا حسين، يا حسن؛ فكالهما جيد.

�دة والممت�ازة، ك�انت من بن�ات أفك��ار أص�غر. فمثال، أنش�أنا هذه األفك�ار الجي صندوق أمانات وكان دوما بيد أصغر. فكان يوضع فيه مبلغ من الم��ال كأمان��ة،

ويعطى منه من يريد الذهاب في مأذونية، مصروف جيبه وأجرة الطريق.

من باب الخبرة، كنا نرسل الموظفين من عناصر الحرس، والمتزوجين واآلباء��ة. وله��ذا العم��ل فائ��دة من الناحي��ة منهم يومي الخميس والجمع��ة في مأذوني األخالقية. بالمناسبة، حين يذهب هؤالء إلى أحيائهم ومحالتهم، يروجون لكتيب��ة ميثم، ويجلب��ون معهم العناص��ر الج��دد. فج��و الص��داقة واإليث��ار والص��فاء في الجبهة كان يأسر المرء؛ بحيث ال يعود يحتمل أجواء المدينة، فيح��ارب هموم��ه ومش��اكله ويبقى ]في الجبه��ة[. فالمجاه��دون في تل��ك المرحل��ة، ك��ان عليهم مضافا إلى محاربة صدام والصداميين، أن يح��اربوا م��ا يعش��قون؛ ال��بيت واألموا الط��رف عن ك��ل واألب والزوجة واألوالد وأبناء محلتهم والرف��اق؛ وأن يغض��

هؤالء. وهؤالء ليسوا بالشيء القليل بالنسبة لشاب في عنفوان شبابه.

كما اقترح أصغر أن نعطي مسؤولي السرايا بعض الصالحيات، ليحلوا مشاكلعناصرهم، ولكي ال يحتاجوا إلى إذننا في المسائل العادية وصغائر

Page 427: books.almaaref.orgbooks.almaaref.org/static/documents/zoqaq.doc · Web viewكلّ هذه الذكريات والأصوات، کانت لا تزال تتردّد في زوايا حنجرة

427

األمور. وه��ذا األم��ر أدى إلى أن يحس��ب العناص��ر حس��ابا لمس��ؤولي الس��رايا ويأخذوا كالمهم على محمل الجد، وإلى تمكين مسؤول السرية من التخطي��ط

وإعمال فكره وفنه وإبداعه.

��ة ه��ذه، ب��دأ العم��ل به��ا ش��يئا فش��يئا، لقد كان اقتراحا جيدا. فسلسلة التراتبي�وا وتعلم اإلخوة بأن ال يسارعوا إلى قائ��د الكتيب��ة في القض��ايا الص�غيرة، ويحل

مشاكلهم مع قائد السرية.

وراجت في الكت��ائب األخ��رى تالوة ص��يغة الت��آخي فيم��ا بين اإلخ��وة؛ الص��يغة اللفظية الكالمية. لكنها لم تكن رائجة في كتيب��ة ميثم. في األص��ل ينبغي تالوة صيغة التآخي من خالل امتزاج ال��دماء واختالطه��ا ببعض��ها البعض. لكن ق��انون ميثم كان قانون األخوة. ولوال وجوده لما وجدت الكتيبة؛ ال أشك أن مثل تل��ك

الصداقة الصافية استمرت إلى ما بعد الحرب، وما زالت إلى اآلن.

كان معظم شباب ميثم، أبطاال وأص��حاب تجرب��ة؛ لكنهم أقس��موا أن ال يقبل��وا ب��أي مس��ؤولية. فهم ق��د أت��وا من أج��ل الل��ه ال من أج��ل المنص��ب. كم��ا إنهم يحترموننا كثيرا وينادوننا ب�"القائ��د". أع��رف أن القي��ادة في داخلهم، فبعض��هم من أهل المطالعة والدرس والمدرسة. والكث��ير من عناص��ر كتيب��ة ميثم ك��انوا مديرين وذوي تجربة. وال شك لو أن أي واح��د منهم ح��ل مك��اني، لك��ان قائ��دا

بكل ما للكلمة من معنى.

ذات يوم، حين كنت في اجتماع لمجلس قيادة الفرقة، قال لي الح��اج محم��د: "سيد، أتيت إلى هنا لتحدث انقالبا! م��اذا فعلت حتى يق��ول ك��ل من ي��أتي إلى��ه ال مك��ان الجبهة: أريد االلتحاق بكتيبة ميثم؟ لم نكن نجرؤ على القول لهم إن

لدينا. فهذا سيجعلهم يشكون منا".

Page 428: books.almaaref.orgbooks.almaaref.org/static/documents/zoqaq.doc · Web viewكلّ هذه الذكريات والأصوات، کانت لا تزال تتردّد في زوايا حنجرة

428

أجبته: "الكلمة األولى في ميثم هي للصداقة والعشق. واإلخوة من سنخ واحدوطبيعة واحدة".

��ات، ذهبت ذات ي��وم إلى في معمعة إكمال الت��دريبات واق��تراب زم��ان العملي دائرة االستخدام في الفرقة، وجلبت من هناك قراب��ة ثالثين اس��تمارة تص��فية حساب، ووقعت عليها جميعا. فمنذ مدة وفكري مشغول بهذه المس��ألة. كنت أعلم ب���أن بعض األش���خاص ال يس���تطيعون، أو ال يري���دون المش���اركة في��ات؛ وك��ان ينبغي أن تح��دد مس��ؤولياتهم وتك��اليفهم. وإن حص��ل لي أو العمليألصغر شيء ما، كان ينبغي لهؤالء أن تكون لديهم ورقة تصفية الحساب هذه.

��ات كان هذا رأي أصغر أيضا. وقال: "إن اشتعلت ن��يران المعرك��ة ليل��ة العملي وخاف شخص واحد وتراجع، فلو كان لديك مليونا عنص��ر، س��يحدثون أنفس��هم باالنسحاب، وسيتراجعون إلى ال��وراء. ينبغي لإلخ��وة أن يكون��وا مرت��احين وأن��ات ليس��ت مزح��ة. ينبغي أن يختاروا بأنفسهم. إن نيران العراقيين ليلة العملي يعرفوا ماذا ينتظرهم. عليهم أن يكونوا مقدامين وال يعرف الخوف طريقا إلى

قلوبهم".

ذات ي���وم جمعت اإلخ��وة وقلت: "ك��ل ش���خص ال يس���تطيع المش���اركة في العمليات ألي سبب كان، فليقف جانبا؛ فلي شغل مع��ه. س��وف أعطي��ه ورق��ة تصفية حساب مختومة بإمضائي. وإذا ما حصل لنا أمر ما، فليأخذ الورق��ة إلى دائرة االستخدام وينسحب من دون أي مشكلة. لقد كتبت فيه��ا أن ك��ل واح��د

منكم خدم ستة أشهر في كتيبة ميثم".

بالنهاية، وقف بعض اإلخوة في ناحية. جاء أحدهم إلي وقال: "س��يد، أن��ا أري��دالمشاركة في العمليات، وقد أتيت إلى هنا بهذا الهدف؛ لكن أمي..".

Page 429: books.almaaref.orgbooks.almaaref.org/static/documents/zoqaq.doc · Web viewكلّ هذه الذكريات والأصوات، کانت لا تزال تتردّد في زوايا حنجرة

429

- ال تقل شيئا. إن كان األمر يشق عليك، أو فتر العشق... فاذهب.

أعطيته الورقة ومضى.

��ات وتوجهن��ا إلى مخيم ب��القرب من في أواسط شهر كانون األول، ركبن��ا اآللينهر "بهمن شير".

ما إن وصلنا إلى "بهمن شير" حتى انهمر المطر بغزارة. ولك��روم النخي��ل طين الص��ق؛ كالص��مغ. ك��انت أح��ذيتنا العس��كرية تغ��رق في الوحل وال تنس��حب بس��هولة. قي��ل إن ه��ذا االلتص��اق م��رده إلى ج��ذور ش��جر

النخيل. قال مسؤول التجهيزات "علي برادران": "سيد، اآلن وقد حدث ه��ذا األم��ر، ال يمكن للسيارات أن تذهب لجلب الطعام. فالطريق خرب��ة. أت��ذكر عن��دما كنت�ني بن��اء على الع�ادة، خ�زنت طعام�ا تنكد علي وتقول ال تستهلك الطعام؟ لكنا من يكفي لثالثة أيام. ل��دينا مئت��ا علب��ة من الس��مك المعلب، وعش��رون كيس��

الخبز". بعد ساعة، اتصل جواد صراف عبر الالسلكي وقال: سيد، الطري��ق مقطوع��ة،��ر لن��ا في طريق��ة توص��لون إلين��ا فيه��ا وبقين��ا نحن هن��ا من دون طع��ام، فك

الطعام".سألته: "كم عددكم؟"

شخصا.290- ��ك ال تنف��د. تع��ال وأن��ا أؤمن طعام��ك لي��وم أو - لقد لطف الله بنا. وخ��زائن رب

يومين.- وماذا عنكم، أال تبقون جائعين؟!

Page 430: books.almaaref.orgbooks.almaaref.org/static/documents/zoqaq.doc · Web viewكلّ هذه الذكريات والأصوات، کانت لا تزال تتردّد في زوايا حنجرة

430

- هذه هي العناية بأهل الجبهة. إننا نقتات على مائدة الحجة بن الحس��ن علي��هالسالم.

استاء علي ب��رادران من ه��ذا الب��ذل والعط��اء. قلت ل��ه: م��ا ه��ذا الكالم؟ إنهمجيراننا. إن كان من المفترض أن نجوع فلنجع معا.

خذ بيد من قدرت عليه لتجد اآلخذ بيدك غدا

ما إن جاء شباب كتيبة الشهادة وحملوا أكياس الطعام، حتى وص��ل "عليرض��ا شهبازي" فج�أة وق�ال: "س��يد، ل�ك البش�رى... إن ج�ادة "خس�رو آب�اد"، تل�ك��ا، هي ج��ادة إس��فلتية؛ إال أنن��ا لم نلتفت إليه��ا الج��ادة الواقع��ة إلى الغ��رب من

بسبب األوحال التي طمرتها".

عندها، أرسلت "حسين سازور"، و"جواد شيرازي" وشخصا آخر تحت المط��ر إلى الخطوط الخلفية ليجلبوا الطعام. فذهبوا عند الظهر وعادوا عند الغ��روب

بشاحنة صغيرة محملة بالزاد الممتاز؛ الخبز ومعلبات السمك والفاكهة. ما إن سويت الطري��ق، حتى ذهبت م��ع أص��غر إلى المق��ر، عن��د الح��اج محم��د كوثري لحضور جلسة توجيهية حول العمليات المقررة في منطقة بالقرب من

"آبادان". عندما وصلنا إلى المقر، كان جميع قادة الكتائب قد وصلوا: قائد كتيب��ة حم��زة "محمود أميني"، قائد كتيبة عم��ار "رض��ا ي��زدي"، قائ��د كتيب��ة أنص��ار الرس��ول صلى الله عليه وآله وسلم "جعفر محتشم"، قائد كتيبة مالك "نصرت أكبري"،

وقادة كتيبة المقداد "علي جزماني" و"أحمد نوزاد" و...

��ة وجلس��نا ناحي��ة. وك��ان يحض��ر الجلس��ة ع��الم دين ممثال ألقيت وأصغر التحي لإلم��ام الخمي��ني ق��دس س��ره، ولربم��ا حض��ر مس��ؤول التوجي��ه الثق��افي في

الفرقة.

Page 431: books.almaaref.orgbooks.almaaref.org/static/documents/zoqaq.doc · Web viewكلّ هذه الذكريات والأصوات، کانت لا تزال تتردّد في زوايا حنجرة

431

كما حضر الحاج "عباديان" مسؤول التجهيزات، وكان قد عين حينذاك مسؤوالللهندسة الحربية.

جلس أح��دهم إلى ج��انب الح��اج محم��د وفي ي��ده "مس��جل ص��وت" ص��غير. وحينها، كانت ق��د أق��رت ح��ديثا مس��ألة تس��جيل أص��وات الق��ادة ومتابع��ة ك��ل أقوالهم وتحركاتهم. فأصبح هذا الشخص ال يترك القائد إال حين ذهاب��ه لقض��اء��ة. ول��و لم تس��جل ه��ذه الحاجة. بالطبع، أدركت بعدها بأن هذا أمر بالغ األهمي الكلمات لذهب كل شيء في مطاوي النسيان وضاع. عندما وصلنا كان الحاج محمد يتكلم: "نعم، لدينا ستون قطعة من المط��اط، ومن المف��ترض أن ن��أتي

ببعض القطع األخرى" وكالم من هذا القبيل...

مضت ربع ساعة. وأنا كنت بطبعي قليل الصبر، أحببت أن ندخل مباش��رة في صلب الموضوع، وأن ال نخوض في أحاديث ال طائل منها. قلت: "يا حاج، لم ال

نبدأ بالجلسة؟".- وهل كنت نائما يا سيد، إذا، ما الذي كنا نتكلم به إلى اآلن؟

- عذرا... إذا، من أجل م��اذا عينت قي��ادة للفرق��ة؟ وم��ا دخ��ل المط��اط بق��ادةالكتائب؟

- تراني أتكلم. فلم تقاطعني؟! - أنا أيضا أسأل، أوليس لدينا مسؤولو تجهيزات؟ ينبغي لمسؤولي التجه��يزات والتسليح أن يجتمعوا ويتكلموا حول هذه المسائل. أم��ا ق��ادة الكت��ائب فينبغي أن يبحثوا في أمر العمليات. متى يهجمون؟ المنطقة التي سيهاجمونها، وبماذا س��يهجمون. أليس ه��ذا ص��حيحا؟ ل��يرفع الس��ادة ال��ذين يوافق��ون على كالمي

أيديهم.

رفع جميع القادة أيديهم.

Page 432: books.almaaref.orgbooks.almaaref.org/static/documents/zoqaq.doc · Web viewكلّ هذه الذكريات والأصوات، کانت لا تزال تتردّد في زوايا حنجرة

432

فقال الحاج محمد: "جئت لتقاتلني أو لتقاتل العراقيين؟".

أجبته: "إن السيد عباديان شيخ الحرب. سيد قل بجرأة، المط�اط من مهم�اتمن؟".

��ه من أجاب الحاج عباديان الذي كان يراني للمرة األولى: "حسنا، واض��ح... أنمهمات الحاج محمد".

قلت: "أخفت؟".- ال وممن أخاف؟

وسألت مرة أخرى: "المطاط من مهمات من؟".- التجهيزات.

��ات؛ أولس��نا - انتهى األم��ر. ي��ا س��يد مجت��بى، أنت مس��ؤول معلوم��ات العمليسنقوم بالعمليات؟ عليك أن تأخذنا للتوجيه.

- إلى اآلن لم أر منطقة العمليات.��ا، ويع��رف المنطق��ة أك��ثر - حسنا، إن المسؤول الثقافي اآلن قد وجه أكثر من

منا...

��رهم دهش جمي��ع ق��ادة الكت��ائب. وك��أن كالمي الح��اد والن��ابع من الغض��ب حيجميعا. ساد الصمت للحظة. كما ظل أصغر صامتا ولم ينبس ببنت شفة.

لقد شكى الحاج محمد مني كثيرا. فأخذ يؤنبني وقال: "سيد، هذا اجتماع، كانعليك أخذ اإلذن قبل الكالم..".

قال الحاج عباديان: "إنه ال يعرف الحدود".

Page 433: books.almaaref.orgbooks.almaaref.org/static/documents/zoqaq.doc · Web viewكلّ هذه الذكريات والأصوات، کانت لا تزال تتردّد في زوايا حنجرة

433

أجبت: "أي حدود، يا أخي؟ فأنا لست من قادة الكتائب الذين تفكر فيهم. وأنا��ل العناص��ر والق��وات. جئت لست ممثلك في الفرقة ألنفذ سياساتك. أن��ا ممث

ألتكلم وأخبر عن مشاكل اإلخوة".

ا لم أتح��ر أخيرا، حل الظهر وأنا أوجه له االنتقادات الالذعة. وإنني واقع��ا وقلبي الحرب والجدل مع الحاج. كان على الحاج أن يجيب عن أس��ئلة أل��ف ش��خص هم أسوأ حاال مني. فقيادة الفرقة ليست مزح��ة وأم��را بس��يطا؛ لكن التفك��ير في العناصر ونقص السالح واإلمكانيات آذاني. ح��تى بحثت عن س��بيل ألط��رح

هذه المشاكل.

أثناء قيامنا للصالة، توجهت إلى اإلخ��وة وقلت: لس��المة أس��د الجبه��ات الح��اجمحمد صلوات على محمد وآل محمد..".

رفع الجميع أصواتهم بالصلوات، وخف اس��تياء الح��اج قليال فق��ال: ي��ا أخي، إذا أراد المرء أن يقول شيئا، أو لديه رأي يدلي به، عليه أن يقول��ه بنح��و خفي؛ ال

أمام الجميع. فهذا عمل غير مألوف".

قلت: "لست من أولئك األشخاص الذين يقولون دوما حاض��ر س��يدي. فطاع��ة القائد شيء، وحق العناصر شيء آخر. خارج نطاق الحرب أنا خادمك إلى آخر��ات بجه��از الس��لكي العمر. أما اآلن حيث الحرب قائمة، فلن أذهب إلى العملي

خرب، ومن دون بوصلة".

بع��د الظه��ر ع��ادت وافتتحت الجلس��ة. دخلت إلى الجلس��ة وقلت: "ع��ذرا ي��احاج".

- ماذا هناك أيضا. - على مسؤول المعلومات أن يشرح لنا أوال. يا سيد مجتبى لم أصبحت أبكم؟

عليك اآلن أن تقوم بتوجيهنا وإعطائنا المعلومات عن منطقة

Page 434: books.almaaref.orgbooks.almaaref.org/static/documents/zoqaq.doc · Web viewكلّ هذه الذكريات والأصوات، کانت لا تزال تتردّد في زوايا حنجرة

434

العمليات.- ماذا أقول؟ إلى اآلن لم أطلع على المنطقة جيدا.

حينذاك، بدا أن الحاج محمد هو األك�ثر اطالع��ا وخ�برة من بين الجمي��ع، ف�راح يشرح لنا ويرشدنا من خالل الخريطة. فرش الخريطة وش��رع بتبي��ان الح��دود عليه��ا وق��ال: "ه��ذه األرض هي ح��دود كتيب��ة أنص��ار الحس��ين علي��ه الس��الم- همدان. وهذا الحد يصل إلى شط العرب. في المرحلة الثاني��ة، ت��أتي "الفرق��ة

" وتستلم الخط من كتيبة أنصار الحسين عليه السالم..".27

انتهت الجلسة مع الغروب، وبينما كنا خارجين، توجهت إلى الحاج محمد قائال:"يا حاج، ال بد أنك اآلن تكيل الشتائم والسباب لنفسك".

- ال، ولم؟- ألنك عينتني قائدا وفتحت لي طريقا إلى الجلسة.

- ال وقت اآلن لمثل هذا الكالم. اآلن اتبعني. ال وقت لدينا.- حاج، أنا مريدك ورفيقك...

�ا خرجنا من المق��ر، وم��ع انبالج ن��ور الفج��ر، ركبن�ا مجموع�ة في س��يارة تويوت��دة، ومن ثم انعطفن��ا وتوجهنا إلى مكان مجهول. س��رنا قليال على طري��ق معب إلى طريق ترابية، فسرنا وسرنا في ص��حراء قاحل��ة إلى أن ت��وقفت الس��يارة في مكان، لم نكن ن��رى من��ه ش��يئا ول��و وميض مص��باح من المن��اطق النائي��ة. ت��وجهت إلى الح��اج محم��د وس��ألته: "أين نحن ي��ا ح��اج؟ أتري��د أن تس��لبنا

أموالنا؟".

فجأة، فتح ب��اب في األرض، فتحت��ه مدهون��ة ب��اللون األس��ود، وموص��ولة بع�دةساللم. تقدم الحاج محمد ونزل الساللم فتبعناه. سرنا في عدة ممرات

Page 435: books.almaaref.orgbooks.almaaref.org/static/documents/zoqaq.doc · Web viewكلّ هذه الذكريات والأصوات، کانت لا تزال تتردّد في زوايا حنجرة

435

متعرجة إلى أن دخلنا غرفة كبيرة تشبه القاعة. بعد لحظات، فتح أمامن��ا ب��اب آخر. توجه الحاج محمد إلين��ا وق��ال: "أيه��ا اإلخ��وة، إن اإلخ��وة أعاليي، رش��يد،

شمخاني، ومحسن رضايي موجودون هنا جميعا..".

ا في ذل��ك كنت وجواد صراف واقفين إلى ج��انب بعض��نا البعض. جلس��نا أرض��المكان نفسه، ومعنا أيضا، اثنان أو ثالثة من اإلخوة الثقافيين.

في بداية الجلسة، توجه الحاج محم��د ك��وثري إلى الس��يد رحيم وق��ال: "س��يدأعرفك باإلخوة".

فقال السيد رحيم: "دعهم هم يعرفون عن أنفسهم".

بدأ كل واحد يعرف عن نفسه. عرف كل من "محمود أمي�ني" و"رض�ا ي�زدي" و"حسن محقق" و"علي جزماني" عن نفسه. حين وص��ل ال��دور إلي، وض��عت ي��دي على خ��دي وأش��رت إلى ضرس��ي؛ أي إن ضرس��ي يؤلم��ني وال أس��تطيع

الكالم.

كان السيد رحيم يعرفني فقال: "سيد أبو الفض��ل، م��ا هي أخب��ار األخ حس��ينالله كرم؟".

رد السيد محسن: "لم تسأل هذا الشخص؟".

قال الحاج محمد: "ي��ا عم، ه��ذان الشخص��ان متقارب��ان ج��دا. عن��دما قلت ل��هشكل الكتيبة، ذهب وأخذ اإلذن منه".

ثم ق���ال لي الح���اج محم���د: "إن حس���ين ورفاق���ه يري���دون المش���اركة فيالعمليات".

قلت: "هؤالء خبراء بجغرافية المنطقة، ومطلعون على معلومات العمليات".

Page 436: books.almaaref.orgbooks.almaaref.org/static/documents/zoqaq.doc · Web viewكلّ هذه الذكريات والأصوات، کانت لا تزال تتردّد في زوايا حنجرة

436

��ة ]للمنطق��ة[، فرش��ت وراح األخ ش��مخاني يق��دم بعد ذلك، جيء بص��ورة جويبعض الشروحات عن منطقة العمليات واالتجاهات على الخريطة.

��ات. وع��بر غواص��و كتيب��ة قال الحاج محمد: "لنفترض أنن��ا اآلن نخ��وض العملي أنصار الحسين عليه السالم النهر، واقتحموا خط دفاع األعداء بالسالح األبيض ومن دون إطالق للنيران. وسلموا محيط جادة الف��او البص��رة، وأط��راف قن��اة الخن��دق االس��منتي، عليكم أنتم أن تع��بروا القن��اة وتص��لوا إلى ج��ادة الف��او

زم��ام األم��ور.27البصرة. وفي هذه المرحل��ة تت��ولى كتيب��ة "ميثم" والفرق��ة كتيبة الشهادة هي قوات احتياط لكتيبة ميثم، وكتيبة المق��داد ستش��كل ق��وات احتياط لكتيبة حبيب. هدفنا األخير هو مقر التكتي��ك ب��القرب من قن��اة الخن��دق

االسمنتي. أما ما هي الخطة وكيف، هذا فن ومهارة قائد الكتيبة".

كان السيدان رشيد وشمخاني محنكين في هذا العمل. فقد أدي��ا دور الط��رف المقابل وذلك لنطلع على تفاصيل العمليات أكثر، ولنج��ترح الحل��ول، وليتض��ح ما إذا كنا نمتلك فن القي��ادة ومهارته��ا، أم ال! لق��د أدوا دور الع��راقيين، وبين��وا

عيوب أعمالنا وخططنا وطروحاتنا.

على سبيل المثال، قال السيد رحيم: "افترض��وا أنن��ا نحن ق��وات الع��دو. وأنن��ا جئنا إلى هنا بعشر دبابات. فكي��ف يجب أن ت��دافعوا؟ إن رميتم من هن��ا، فإنن��ا

أيضا نرمي من هنا..".

حينذاك، إن وافقنا وقلنا: نعم، سيبطلون مدعانا ويقولون: كي��ف تقول��ون نعم؛ عليكم أن تأتوا بالدليل؛ عليكم أن تعرفوا كي��ف س��تدافعون؟ فه��ا هن��ا منطق��ة

مائية، كيف يمكن لنا إحضار الدبابات؟

وهكذا، ط��رح جمي��ع الق��ادة خططهم على الطاول�ة. إلى أن وص�ل ال��دور إلي وإلى جواد. استعد جواد للكالم. المس��كين أراد أن يط��رح خط��ة، وك�ان واقع��ا

خبيرا بعمله.

Page 437: books.almaaref.orgbooks.almaaref.org/static/documents/zoqaq.doc · Web viewكلّ هذه الذكريات والأصوات، کانت لا تزال تتردّد في زوايا حنجرة

437

توج��ه الح��اج محم��د إلي وق��ال: "أتري��د أن تق��ول م��ا عن��دك في ظ��رف ع��دةدقائق؟".

- أنا لن أتكلم أبدا. - حمدا لله أن ألم ضرسك قد زال! ي��ا س��يد، إن الس��يد أب��ا الفض��ل ه��و قائ��د

كتيبة ميثم.- إننا تشاركنا الكتيبة.

أجاب السيد رحيم: "وكيف هذا؟ وهل هي دكان بقالة لتتشاركاها؟".

قلت: "كيفما كان، نحن شريكان".- مع من؟

- مع علي أصغر.

علت أص��وات الجمي��ع بالض��حك. فقلت: "إن وص��لت إلى هن��اك س��الما، فأن��انفسي أعرف ما أفعل".

رد السيد رحيم: "سلمت يداك. ال وقت لدينا. دعنا نتكلم عن المرحلة التالية".

بالنهاية، لم يصل ال��دور إلى ج��واد ليط��رح خطت��ه. توج��ه الس��يد محس��ن إلىالحاج محمد كوثري وقال: "أين هي قواتك اآلن؟".

أجاب الحاج: "لقد نقلنا كتيبتين من الكتائب إلى "بهمن شير".- أي كتيبتين؟

- مالك وعمار.

رد األخ شمخاني: "ال يجدر بكم إرسالها إلى هناك في هذا الوقت. اتصل بهم��ااآلن لتعودا".

Page 438: books.almaaref.orgbooks.almaaref.org/static/documents/zoqaq.doc · Web viewكلّ هذه الذكريات والأصوات، کانت لا تزال تتردّد في زوايا حنجرة

438

توجه الحاج محمد فورا إلى الهاتف. حينذاك كانوا قد أحضروا نوعا جدي��دا من.1الهواتف الالسلكية*

همس "الس��يد مجت��بى" و"أحم��د ن��وزاد" في أذني وق��اال: "س��يد، ارم األصخاصتك".

قلت: "اعذروني... فالكتيبتان اللتان سيرجعهما الحاج محمد ليستا كتيبة ميثم، ولو أن "ميثم" إحداهما فلن أدعه يرجعه�ا حتى ل�و أتى ص�دام إلى هن��ا، وج�اء

من جاء".

ضحك األخ رحيم.

فقلت: "هل تظن أن قوات العمليات التي في الكت��ائب ليس��وا بش��يء؟ فك��ل واحد منهم يعطي درسا لعش��رة من أمث��الي وأمثال��ك. وفي كتيب��تي أن��ا يوج��د مائة قائد ال يقبل بالمسؤولية. لق��د أت��وا من أج��ل الل��ه. لق��د س��ار ه��ؤالء اآلن

لمدة ساعة ونصف سيرا على األقدام؟ كيف سيرجعون".

ا.4امتدت الجلسة إلى منتصف الليل، ودق ناقوس عمليات )كربالء ( رسمي

خرجنا من المقر. كان الحاج محمد مس��تاء وغاض��با مني بش��دة. وكنت واقع��ا أتفهم��ه. فک��ل الض��غوطات والمس��ؤوليات ألقيت على عاتق��ه، وت��وجب علي��ه اإلجابة عن أسئلة ألف نفر. إنه الوس��يط بين ق��ادة الكت��ائب وقي��ادات الح��رب الرفيعة المستوى. كان عليه حفظ الطرفين حتى ال تنام أمور الحرب، بل تقاد��ات، فس��يكون فش��لها نابع��ا من بنحو جيد. قلت ل�ه: "ح�اج، إن فش��لت العملي

داخل المقر. ينبغي للعمل أن يصلح من الجذور، حتى ينمو ويؤتي أكله..".

أجاب: "دعك من هذا يا عم. تعال اآلن لنهتم بعملنا. ال وقت لدينا.

1 . مرات عدة والعيال األهل بها هاتفت وقد البعيدة، باألماكن االتصال خاللها من يمكن

Page 439: books.almaaref.orgbooks.almaaref.org/static/documents/zoqaq.doc · Web viewكلّ هذه الذكريات والأصوات، کانت لا تزال تتردّد في زوايا حنجرة

439

فغدا ينبغي أن ن��ذهب إلى "آب��ادان" ليق��وم الس��يد مجت��بى بت��وجيهكم لس��احةالعمليات من على عمود الكهرباء".

بتنا ليلتنا تلك في المقر.

في اليوم التالي ذهبنا إلى آب��ادان لنلقي نظ�رة على خط�وط دف�اع الع�دو من أعلى العمود، الذي يرتفع -ما شاء الل��ه- أربعين م��ترا؛ ويض��م م��ا بين األربعينا. عن��دما رأى "حس��ن محق��ق" العم��ود، رف��ع والخمسين درجة وقض��يبا حدي��دي رأس��ه إلى الس��ماء وق��ال: "يجب أن يص��عد الس��يد أوال على ه��ذا العم��ود؛

فالسادة في المقدمة".

��ات قلت: "ولم أنا؟ فكتيبة مالك هي الكتيبة األولى. أما أنا فكتيبتي في العملي. اصعدوا أنتم الخمسة أوال، ومن ثم أصعد أنا".6هي رقم

الحقيقة أنني لم أكن أرغب بصعود ذلك العمود الع��الي والم��رعب. لس��ت أن��اوحدي كذلك، فأنا على يقين بأن ال أحد يرغب باألمر.

صعد "حسن محقق" وعلق في الوسط. فلم يعد يس��تطيع التح��رك ال ص��عوداوال نزوال. صرنا نناديه: "إن لم تعد تستطيع الصعود، فانزل".

بقي المسكين حائرا ماذا يفعل. الش��خص الخ��امس ال��ذي ص��عد ك��ان "جعف��ر محتشم". بعد ذل�ك ص�رخ أح�دهم من األعلى: "س�يد أب�ا الفض�ل، ال تص��عد...

فالجو غائم".تعجب جميع القادة، فمن هو هذا الشخص الذي ال يعرف أحدا غيري!

المه اإلخوة وعاتبوه قائلين: إن كان الجو غائما، فلم لم تخبرنا بذلك عندما كنافي األسفل، وسحبتنا إلى األعلى؟!

نزل اإلخوة، ونزل الراصد خلفهم. ليتبين لي أنه "عباس حاجيان".

Page 440: books.almaaref.orgbooks.almaaref.org/static/documents/zoqaq.doc · Web viewكلّ هذه الذكريات والأصوات، کانت لا تزال تتردّد في زوايا حنجرة

440

تبادلنا التحيات والقبالت.

قال أحد اإلخوة: "أهو من معارفك؟".- بل هو نفسي يا صاح...!

توجهت إلى عباس وهمست في أذنه: "واآلن يا عباس، أحلف��ك بنفس��ي، ه��لكان هناك ضباب؟".

درجة نحو الغيوم؛ فمهما نظروا لم ي��روا120قال: "ال، ولكني أدرت المنظار سوى الضباب".

ومن جديد، وهذه المرة بصبر أكبر ألقينا نظرة على خطوط دف��اع الع��دو، وتمتوجيهنا للعمليات، وذهب كل قائد إلى مركزه وعناصره.

كانت الفترة التي أمضيتها مع عناصر كتيبة ميثم في كروم نخيل "بهمن شير" من أجمل أوقات عمري. بالنهاية، لكروم النخيل قصتها! فهناك، بس��بب قربن��ا من الخطوط األمامية واحتمال هجوم العدو بطائرات��ه، لم نقم بالت��دريب على القتال الليلي، وال بالمسير العسكري، وال بالتدريبات العسكرية العادية. فالذي كان حاضرا هو العشق والعرفان، وتضرع اإلخ��وة العرف��اني في الخف��اء. حيثا، أقيم كل ليلة مجلس معن��وي في الخيم. وللقب��ور خل��ف الخيم حكايته��ا أيض��

حيث مكث اإلخوة فيها حتى الصباح في حال من التضرع والعبادة.

بقي "حسين سازور" يقرأ كل ليلة المناج��اة "الخمس عش��رة" من الص��حيفة��ام ة بع��د األي السجادية، فيجتمع اإلخوة حول بعضهم عشقا لهذا الدعاء. وخاص�� التي أتى فيه��ا "الش��يخ ب��روازي" إلى "بهمن ش��ير" واس��تقر فيه��ا إلى ج��انب��ة عالي��ة. ك��ان س��ماحته من الرج��ال اإلخ��وة، فق��د ع��اش اإلخ��وة ح��اال معنوي

الشجعان ومتمرسا في الحرب، وقد تألق في عدة عمليات. لقد

Page 441: books.almaaref.orgbooks.almaaref.org/static/documents/zoqaq.doc · Web viewكلّ هذه الذكريات والأصوات، کانت لا تزال تتردّد في زوايا حنجرة

441

ا ومرافقا ل�"جواد شيرازي". ومع أن تجربت��ه حل ضيفا علينا بصفته عنصرا حر ضاهت تجربة قائد فرقة إال أنه لم يكبل نفسه بقيود القيادة. وقد أتى ليقض��ي بضعة أيام إلى جانب اإلخوة ومعهم. أصبح عدد من اإلخ��وة من مريدي��ه. وه��و العالم الذي خبر الدنيا، والمفكر، والخطيب المف��وه. فك��ان اإلخ��وة يجتمع��ون

حوله، وهم في شوق لسماع حديثه الجذاب والعرفاني.

عر، وحين يرتدي البزة العسكرية يص��بح حس��ن المنظ��ر كان الشيخ جميل الشوالوجه. وعندما يرى الشباب حسن منظره، يحتل مباشرة مكانا في قلوبهم.

في كروم النخيل تلك، المغمة والرطبة، رأيت أصغر مرات وم��رات مس��تيقظا��ه بك��ل إخالص، يط��ل على اإلخ��وة ويغطيهم حتى الص��باح، يعب��د، وين��اجي رب باألدثرة حتى ال يصابوا بنزالت البرد جراء رطوب��ة ك��روم النخي��ل. لق��د عط��ف أصغر على اإلخوة، بحيث جعلني أخجل من نفسي. فلم أستطع يوما أن أكون

مثله.

ذات يوم، رأيته وق��د وض��ع وع��اء وراح يغس��ل مالبس "حمي��د مش��كي"- بري��د الكتيبة الداخلية. استاء حميد كثيرا وخجل عندما علم ب��األمر، وج��اء إلي ق��ائال:

"لم يفعل الحاج أصغر هذا الشيء؟ فأنا سأذوب من الخجل..".

إن تواضع أصغر وصمته وعرفانه جعله حديث الجميع في الكتيبة. وأشهد الل��هأنه لمن دواعي سروري أن أوفق للخدمة إلى جانب أصغر.

ذات يوم، وبينما كنت مس��تلقيا في الخيم��ة وغارق��ا في التفك��ير، إذ بمس��ؤول الدعم والتجهيزات "رضا هوريا" قد جاء، ووضع في يدي ش��يئا، وق��ال: "س��يد،

كل هذا!".

ألقيت نظرة، وإذا به شيء أبيض اللون ط��ري ش��بيه ب��الجبن. لحس��ت لحس��ةمنه، فوجدته حلو المذاق لذيذا!

قلت: "يا سبحان الله، من أين أتيت بهذا الشيء؟".

Page 442: books.almaaref.orgbooks.almaaref.org/static/documents/zoqaq.doc · Web viewكلّ هذه الذكريات والأصوات، کانت لا تزال تتردّد في زوايا حنجرة

442

- انتزعته من أعلى ش��جرة النخي��ل، من ذل�ك المك��ان نفس��ه ال��ذي ينبت في��ه التمر. يسمى "پنیرک" ]الجمار أو شحم النخيل[. والتمر يطلع من هذا الجمار، فإن لم تكن النخلة تحتوي على الجمار، ال تثمر. وإن حفنة منه تع��ادل علب��تين

من التمر؛ من شدة قوته.- كيف صعدت إلى أعلى النخلة؟

- سبق وقطعوا رؤوس النخل ليتمكنوا من رؤي��ة مواق��ع الع��راقيين؛ فص��عدتواقتلعتهم بالخنجر.

��ني تحسس��ت من��ه ولم أس��تطع ��دا. لكن أكلت كل الجمار. ك��ان حقا لذي��ذا وجيالنوم إلى الصباح.

شيئا فشيئا تعلم اإلخوة طريقة الحصول عليه، فصاروا يص��عدون بس��رعة إلى��ا وم��زودا أعالى شجر النخيل، ينتزعون منها الجمار ويأكلونه. كان طعاما حامي

كبيرا بالطاقة. لهذا، غدا الشباب يسارعون ]بعد تناوله[ إلى السباحة.

�ني لكنني لم أكن راضيا كث�يرا ب�ذهاب اإلخ�وة إلى نه�ر "بهمن ش�ير"؛ ذل�ك أن سمعت من قب�ل، ب�أن لن�ا أف�راد غرق�وا في نه�ر "كرخ�ه". فأوص�يتهم ب�أن ال

يسمحوا للذين ال يعرفون السباحة بالنزول إلى الماء.

في ليلة من أواسط شهر كانون األول، جمعت مسؤولي الس��رايا، وبمس��اعدة أص��غر بلغتهم بم��ا دار من ح��ديث في المق��ر، وقمن��ا بت��وجيههم وش��رح خط��ة العمليات لهم. وكان من المقرر أيضا أن يذهب مسؤولو الس��رايا ويقوم��وا هم أيضا بتوجيه مسؤولي المجموعات، ويجمع��وا أمتعتهم ش��يئا فش��يئا ويس��تعدوا

للذهاب إلى الخطوط األمامية.

كنت كلما اقتربنا من موعد العمليات، أزداد يقينا بأن ما قيل لنا في

Page 443: books.almaaref.orgbooks.almaaref.org/static/documents/zoqaq.doc · Web viewكلّ هذه الذكريات والأصوات، کانت لا تزال تتردّد في زوايا حنجرة

443

المقر يختلف عما يقوله ش��باب المعلوم�ات. وبالمناس��بة، عن��دما خض��نا غم�ارالعمل، اتخذت األوضاع منحى آخر.

في البين، دامت لدينا ورقة رابحة، وهي معرفتنا بشباب المعلومات وص��داقتنا��ا على ص��لة بفري��ق "حس��ين الل��ه ك��رم"، وهم أه��ل خ��برة في لهم. فق��د كن معلومات العمليات. في هذه العمليات، رحت أعمل على األمر بشدة ألتحق��ق

من عمل المقر. وحتى كتيبة الشهادة لم تكن تملك تلك الورقة الرابحة.

وفي األسبوع الثالث من شهر كانون األول ذاك نفسه. اتصلت بالبيت ألطمئنعن أحوالهم، فقالت لي والدتي: "باألمس، نقلنا فاطمة إلى المستشفى..".

في اليوم التالي اتصلت مجددا، فقالت لي والدتي هذه المرة : "مبارك ي��ا أب��اا". الفضل، لقد رزقك الله صبي

قلت: مبارك لك... فلنسمه "سجاد".

وبالرغم من أن الخروج من منطقة العمليات كان ممنوعا، والجميع يس��تعدون للتوجه إلى الخطوط األمامية، كنت أنا من أولئك الذين إذا م��ا ق��ال لي قل��بي إنه عليك الذهاب؛ يجب أن أذهب حتى لو أطبقت الس��ماء على األرض، ول��ذا، توجهت في ذلك اليوم نفسه إلى طهران. عن��دما وص��لت إلى ال��بيت، وج��دت إمام مسجد التوفيق "الش��يخ ص��ديقي" ق��د ج��اء ليس��أل ويطمئن عن��ا. وق��ال سماحته: "إن هذا الطفل قد ولد في ذكرى ش��هادة "حم��زة" ]عم الرس��ول[؛

وإن شاء الله سيكون شجاعا. لذا سمه حمزة".

وافقت، وسميته حمزة.

بقيت إلى اليوم التالي في المنزل. لكنني لم أتفقد ولو لمرة حفاض��ة الطف��ل ولفافته. كم��ا حللت في الي��وم الت��الي ض��يفا على مائ��دة غ��داء العائل��ة. فبع��داإلصابة في بطني وأمعائي، منعني األطباء من تناول األطعمة المسببة للنفخة

Page 444: books.almaaref.orgbooks.almaaref.org/static/documents/zoqaq.doc · Web viewكلّ هذه الذكريات والأصوات، کانت لا تزال تتردّد في زوايا حنجرة

444

ر في ا ب��البيض المقلي؛ وذاك المحض�� وبيض الطيور؛ لكن ذلك جعلني مهووس��رت لي زوج��تي و"نن��ه ب��ري" مقالة بيض كب��يرة. ف��رحت ا. فحض�� ال��بيت أيض����ام الطفول��ة، أش��رب م��ع ك��ل لقم��ة جرع��ة من أتناوله��ا ب��الخبز، وكم��ا في أي��ا العصير. بعدها، وكي ال يصيبني ذلك الوج��ع المعه��ود في بط��ني، ش��ربت كوبا ا كيس�� من سكر النبات المغلي مع ماء النعناع، وحملت معي في سفري أيض����ات، من هذا السكر. عندما ع��دت إلى الجبه��ة، ك��ان اإلخ��وة يس��تعدون للعملي وكتائب الهجوم تنقل إلى ضفة "نهر أروند". فيما بقيت كتيب��ة ميثم على ح��ال من الجاهزية واالستعداد في الخيم المنصوبة على ضفة "نه�ر أرون��د" بانتظ��ار

صدور األوامر بالتحرك.

في الليلة األولى للعمليات، أي في الراب��ع والعش��رين من ش��هر ك��انون األول ذهبت وأصغر إلى مقر القوات المهاجمة على ضفة "نهر أروند"، لالطالع على سير األمور، واالستخبار وجمع المعلومات. ك��انت بعض مجموع��ات الغواص��ين��ا من مستعدة في جوف اللي��ل ومنتظ��رة أم��ر الهج��وم. تظه��ر أطي��افهم أحيان

خلف أشجار النخيل. وكل شيء يبدو على ما يرام.

في الليلة الثانية للعمليات، جاء دور كتيب��ة ميثم للهج��وم على خط��وط ال��دفاعوالتثبيت.

استعدت كل من كتائب "عمار" و"مالك" و"ح��بيب" و"أنص��ار الحس��ين" علي��ه الس��الم، حتى إذا م��ا اقتحمت ف��رق الغواص��ين دفاع��ات الع��دو، هجم��وا هم وواصلوا العمل. كان عمل الغواصين محفوفا ب��الكثير من المخ��اطر والخ��وف.

ووجب عليهم أن ينسقوا تحركهم بناء على حركة المد والجزر.

عند منتصف الليل، وتحت وطأة السكون، وبنداء محمد رسول الله صلى الل��هعليه وآله وسلم صدرت األوامر بالهجوم، فهب الغواصون إلى الماء.

بعد مضي نصف ساعة، ومن سوء الحظ، فإن العراقيين كانوا ملتفتين

Page 445: books.almaaref.orgbooks.almaaref.org/static/documents/zoqaq.doc · Web viewكلّ هذه الذكريات والأصوات، کانت لا تزال تتردّد في زوايا حنجرة

445

تمام��ا وم��تيقظين لم��ا يج��ري، واس��تقبلوا الغواص��ين بواب��ل ن��يران الدوش��كا. فتفرقت كتيبة الغواصين عن بعضها البعض أمام أنظارنا. وحتى الساعة الثالثة��ة، فيم��ا استش�هد ظ��ل عناص��ر منهم يع��ودون متف�رقين إلى الخط�وط الخلفي��ة، أنهم الباقون أو وقعوا في األسر. اتض��ح من طبيع��ة ن��يران الق��وات العراقي��ات ف��أوقفت. قلت ��ات. انكش��ف أم��ر ه��ذه العملي كانوا على علم ب��أمر العملي ألصغر: "كانت مشيئة الله، لو كنا تقدمنا نحن أيضا، لحدثت بنا مجزرة كبرى". عند طلوع الفجر، عدنا إلى الخيم وأخبرنا اإلخوة المستعدين جميعا للعمليات، بتوقفها. استاؤوا وانقلبت أحوالهم. فكانوا كالذي يريد أن يص��ل إلى معش��وقه

فحيل بينه وبينه. خابت آمال الجميع وشعروا بالقلق.

في الي��وم الت��الي، س��رت ش��ائعات تفي��د ب��أن الط��ابور الخ��امس والعمالء���ات وأم���دوا الع���دو المخ���ترقين لص���فوفنا، هم ال���ذين كش���فوا أم���ر العملي بالمعلومات. فقال بعض أهل القلب والذكر: إنه��ا مش��يئة الل��ه. نقلن��ا الق��وات إلى دوكوهه، وقررت وأصغر القيام بزيارة قصيرة إلى طه��ران. فبقي حس��ين

على رأس الكتيبة، وسرنا نحن إلى مقصدنا.

Page 446: books.almaaref.orgbooks.almaaref.org/static/documents/zoqaq.doc · Web viewكلّ هذه الذكريات والأصوات، کانت لا تزال تتردّد في زوايا حنجرة

446

Page 447: books.almaaref.orgbooks.almaaref.org/static/documents/zoqaq.doc · Web viewكلّ هذه الذكريات والأصوات، کانت لا تزال تتردّد في زوايا حنجرة

447

مثلث النار والوفاء والشوق

..ما أخبار أهل الهوس من حرقة المحبة؟

كان ألصغر ابنة تبلغ من العمر سنتين تدعى "إلهه"، وق��د اش��تاق إليه��ا. ذهبت وإياه إلى "أنديمشك"، قمنا بجولة في المدينة، واشترينا بعض الهدايا. بالطبع، لم أكن أهتم للهدايا كثيرا. اشترى أصغر قميصا وس��رواال برتق��الي الل��ون البن أخته. يومذاك تناولنا غداءنا في مطعم "عمو صفر". وفتحت شهية أصغر على الطعام، فراح يتناول الطعام بيديه ويلتهمه ويأك��ل ب��الخبز لقم��ة لقم��ة. وحتى��ة أبي عب��د الل��ه ��وزع على محب األرز أكله ب��الخبز. ك��ان يحب "القيم��ة" ال�تي ت الحسين عليه السالم و"الديزي". وکان يمزح ويمرح عند تناول الطعام ويدخل الس��رور على من حول��ه. يومه��ا ق��ال لي إن ألخت��ه س��بعة أوالد كب��ار وص��غار.

فعلقت بأن إمام الزمان يحتاج إلى الجنود.

��ا ص��غارا نلعب مع��ا من الص��باح إلى المس��اء لعب��ة -أنا وأختي مقربان جدا. كن ]ب��أي إي��د، والزق��ط[ آالف الم��رات. وحين أض��يق ذرع��ا من كتاب��ة فروض��ي��ا من أج��ل أن تكتبه��ا عني. ذات م��رة، ب��الغت المدرس��ية، كنت أعطيه��ا قران��ا عليه��ا، أرعبته��ا بش��دة، وراحت تص��رخ بإزعاجي له��ا فوض��عت صرص��ورا ميت

وتصيح.

Page 448: books.almaaref.orgbooks.almaaref.org/static/documents/zoqaq.doc · Web viewكلّ هذه الذكريات والأصوات، کانت لا تزال تتردّد في زوايا حنجرة

448

ا، وأنف�ق مق��دارا كب��يرا من كان أصغر يحب عائلت��ه كث��يرا، ويس��اعد أخت��ه مالي . ساعد عائلته ماديا، واحترم والديه، فما رف��ع رأس��ه1األموال على "جهيزيتها"

ا جما، في محضرهما، ولم يتكلم بكالم فوق كالمهما. خاصة أمه التي أحبه��ا حبوأنا شاهد على ذلك العشق الحاكم بين الولد وأمه.

ذات يوم، خالل مأذونية، ذهبت وعائلتي لزيارة أصغر في م��نزلهم، كم�ا ج�رت�ة خاص�ة. ك�ان م�نزل وال�د أص�غر من من��ازل العادة. فبين النسوة أنس ومحب طهران القديمة التي تحوي فناء واسعا وحوض مياه في وس��طه. وه��و عب��ارة عن غرفتين سفليتين متداخلتين ببعضهما البعض، وغرفتين علويتين كانت��ا محال

لسكنى أصغر وعائلته.

وقد خط أصغر بالريشة واأللوان على حائط الفناء بخط حسن وجميل عب��ارة:��ا جميال للحم��ام عن��د عتب��ة ال��بيت، في أعلى ي��ا مه��دي أدرك��ني. كم��ا ب��نى بيت المدخل. لقد ك�ان ذا قلب رحيم وش��فوق. وبق�در م�ا ب�دا في الجبه�ة ش�جاعا ومقداما، فاقت محبته ورأفت��ه ذل��ك ب��آالف الم��رات أعج��ز عن وص��فها. وحينون[ ليبقى بيتهم ي الل��ون ]فلوريس�� وضع إلى جانب بيت الحمام مص��باحا فض�� أنيسا ومن�يرا، ق��ال: "ال ينبغي له�ؤالء الحم�ام أن يش��عروا في منزلن��ا بالغرب�ة

والخوف".

كان هذا العشق موهبة إلهية تنبع من قلب أصغر. وقد منحه الله سبحانه ه��ذه الهيبة والقوة لينفذ إلى قلوب الجميع، بدءا من التاجر والواعظ وانتهاء برفقاء الهيئة وأبناء المحلة وعائلته، أمسوا جميع��ا يطلب��ون رض��اه؛ ومن جملتهم أن��ا،

كنت وما زلت حائرا بروحه العالية.

في تلك الف��ترة، اتفقن��ا على الس��فر م��ع عائلتين��ا لزي��ارة اإلم��ام الرض��ا علي��ه الس��الم. حجزن��ا بطاق��ات الس��فر، وفي الي��وم المح��دد ت��وجهت وفاطم��ة إلى

المطار ورحنا

1 . النوم ووسائل المطبخ يكون ما وغالبا المنزل، وأدوات أثاث من مهم قسم

Page 449: books.almaaref.orgbooks.almaaref.org/static/documents/zoqaq.doc · Web viewكلّ هذه الذكريات والأصوات، کانت لا تزال تتردّد في زوايا حنجرة

449

ننتظر أصغر. بعد ساعة أو ساعتين من التأخير، ج��اء أص��غر وحي��دا، واالس��تياءباد على وجهه! قلت: "أخي أصغر، لم أتيت بمفردك؟ أين زوجتك؟".

- هي مريضة، وال تستطيع المجيء.

انزعجت وفكرت في نفسي أنه ال فائدة من سفر كه��ذا. ت��وجهت إلي��ه وقلت: "عزيزي أصغر، كأنه لم يكتب لنا أن نسافر مع��ا. ال يص��ح أن ن��ذهب نحن مع��ا وتذهب أنت بمفردك. إن الله ال يرضى بذلك. إن ش��اء الل��ه، تس��نح الظ��روف

ونسافر معا في فرصة أخرى".

طأطأ رأسه إلى األرض حياء وخجال وقال: "سيد، أريد أن أسافر مع��ك، لربم��الن تتسنى لنا مثل هذه الفرصة".

- ال تغتم يا أخي؛ فبالنهاية سنفترق ويذهب كل منا لسبيله.

تبسم وقال: "نعم، فاألفضل أن ال نتعلق بشيء".

ذهب، ولم تسنح الفرصة بعدها، وما ذهبنا إلى مشهد معا.

عندما عدنا إلى "كرخه" كانت القوات على جاهزية تامة. ومن هن�اك، قص��دت��ات و"أصغر" و"حسين سازور" شباب ل��واء "الح��ر". ت��ردد الح��ديث عن عملي أخرى. لكن األمر ك��ان في ح��د التخمين، ولم يأخ��ذه ش��باب المعلوم��ات على محمل الجد. بقينا يوما أو يومين عند حسين وعناصر معلومات العمليات. قال

(. وبما أنه��ا ق��د ألغيت4أحدهم: "في حوزتي خريطة، خريطة عمليات )كربالءاآلن، فيمكنكم االطالع عليها. فقد بطل مفعولها".

قلت: "إنه ألمر مثير بالنسبة لي أن أطلع على برنامج تلك العمليات".

- لكن ليس من دون ثمن؛ عليكم أن تستضيفوني على السمك باألرز.- موافق.

Page 450: books.almaaref.orgbooks.almaaref.org/static/documents/zoqaq.doc · Web viewكلّ هذه الذكريات والأصوات، کانت لا تزال تتردّد في زوايا حنجرة

450

بعدها ركبت و"أصغر" و"ناصر شريفي"، والسيد "جبار" وباقي اإلخ��وة س��يارة وانطلقنا نحو األهواز. تناولنا هناك وجبات األرز بالكب��اب واألرز بالس��مك. ومن

( وأخبرون��ا أس��باب ع��دم4ثم أطلعنا اإلخوة قليال على منطقة عمليات )كربالءتنفيذها.

��ة بع��د أخ��ذ عدنا بعد الغداء إلى "كرخه" بنية إرسال جميع العناصر في مأذوني اإلذن من المقر. في اللحظة األخيرة، أرسل الحاج محمد بالغا بوج��وب تجه��ز��ات ��ات. ف��اآلن، حيث انكش��ف أم��ر العملي جميع العناص��ر وإلغ��اء ك��ل المأذوني وخطوط دفاع العراقيين رخوة، كونهم أرسلوا جميع العناصر في مأذونية؛ لذا،

فإنها الفرصة األمثل للهجوم وتثبيت موطئ قدم لنا.

بعد إلغاء المأذونيات ذهبت برفق��ة أص��غر إلى الح��اج محم��د فوج��دنا الح��ديث يدور حول العمليات واألعمال تسير قدما. عقدت هناك جلسة توجيهية. ف��رش الحاج محمد خريطة، فرأين�ا األم�اكن نفس�ها ال�تي أطلعن�ا عليه�ا ش��باب ل�واء

��ات )ك��ربالء ( نفس��ها، لكن على4"الحر"، ومنطقة العمليات هي منطق��ة عملينطاق أصغر ومحدود.

بينت على الخريطة المعلومات التي أخذتها قبال من شباب لواء الحر وشرعت بالحديث أكثر عن الموضوع. كان الحاج محمد يس��تمع إلي ويب��دي مالحظات��ه.

كما تم البحث في تلك الجلسة حول زمن التحرك نحو مخيم "كارون".

حين انتهت الجلسة وعدنا إلى الخيم؛ أرسلت "رضا محمدي" العارف والخب��يرباألرض، ليتفقد الخيم في مخيم كارون.

بعد ذهاب رضا، جاء "مرتضى بهزادي" و"حسين بابايي" وقاال: سيد، لقد أتيتبرضا هذا إلى هنا، بحق جدك، ال تسمح له بالتقدم أكثر. فهو

Page 451: books.almaaref.orgbooks.almaaref.org/static/documents/zoqaq.doc · Web viewكلّ هذه الذكريات والأصوات، کانت لا تزال تتردّد في زوايا حنجرة

451

معيل ألربع عائالت: هو نفسه لدي��ه ثالث��ة أوالد؛ وأخت��ه ل��ديها ثالث��ة أوالد، وق��د توفي عنها زوجها؛ ومعه أمه وأخواه. ورضا هو كبير العائلة، عندما يعود أقنع��ه

بالعودة إلى طهران.

عندما عاد رضا من مخيم كارون، ناديت��ه، وم��ا إن فتحت ف��اهي مري��دا الكالم، حتى قال: "سيد، إن أردت قطع رأس��ي فاقطع��ه؛ لكن بح��ق أم��ك فاطم��ة، ال

تأمرني بالعودة إلى طهران..".

ا، واحتمل أن يكون اإلخ��وة ق��د أطلع��وني لقد خمن ما أردت قوله له. كان ذكيعلى وضعه العائلي. فألح علي كثيرا ورجاني حتى رضيت ببقائه.

ا راض��يا بمغادرت��ه. ا لتق��دم العم��ل، ولم أكن قلبي بالطبع، ك��ان وج��وده ض��روري ف�"رضا" من قدامى رجال الثورة والحرب، وصاحب تجربة عالي��ة. التح��ق في�ة فيه�ا. وك�ان ص�احب خ�برة زمن الشاه بالقوات الجوية وخضع ل�دورة تدريبي��ة في قاع��دة اإلم��ام ولياقة عسكرية عالية. فبع��د الث��ورة خض��ع ل��دورة تدريبي��ة. ت��ولى لم��دة مس��ؤول التعليم الحس��ين علي��ه الس��الم ون��ال ش��هادة تقديري والت��دريب في قاع��دتي "حم��زة" و"التوحي��د"، يتحلى بق��وة البي��ان العس��كري وإيصال ما لديه من معلومات للطرف المقابل. ج��رح م��رات ع��دة وذاق طعم

الرصاص والشظايا في بدنه، ويستطيع أن ينوب بسهولة عن قائد الكتيبة.

عن��دما ع��دنا إلى مخيم "كرخ��ه"، لم يكن ق��د بقي س��وى ش��ادرين وبعض العناصر، فيما انتقل الباقون إلى مخيم "كارون". لم أتعجب كثيرا له��ذا األم��ر. فنقل العناصر وانتقالهم كان بيد "حسين" الذي دأب على القيام بك��ل أعم��ال

الكتيبة.

صلينا الظهرين في خيم "كرخه"، وعدنا عصرا إلى مق��ر التكتي��ك. ك��انت ليل��ةالثامن من كانون الثاني، وقد جاء فريق المعلومات ليبحث مع الحاج

Page 452: books.almaaref.orgbooks.almaaref.org/static/documents/zoqaq.doc · Web viewكلّ هذه الذكريات والأصوات، کانت لا تزال تتردّد في زوايا حنجرة

452

��ات. وق��الوا للح��اج محم��د إن محمد كيف سينقلون الق��وات إلى مك��ان العملي القوات العراقية قد ضخت المياه في شرق "قناة السمك" فأصبح عمق الماء هناك ما بين المترين والثالثة أمتار؛ وصار األم�ر بنح�و ال يمكن في�ه للغواص�ين التقدم خالله، وال القوارب؛ فأسفل القارب سيعلق بالطين، كما وضعوا وسط الماء عوائق إسمنتية؛ ويمكنهم بالمناظير التي بحوزتهم رؤية البعوضة ورميه��ا بالدوش��كا. وفي أي وقت من اللي��ل أو النه��ار ذهبت إلى هن��اك، ت��رى ثالث��ة

تجول في المنطقة.bkcقوارب، مجهزة برشاشي دوشكا، و

أخيرا، تقرر القيام بالعمليات من جهة "بنج ضلعي" و"کوت سواري" و"أسفل محمد رس��ول الل��ه ص��لى27كربالء، و25بوييان"؛ أي إن الفرق الثالث: فرقة

ثار الله، ستباش��ر العم��ل من ه��ذه المح��اور الثالث��ة41الله عليه وآله وسلم، و محم��د رس��ول الل��ه، التابع��ة27وتحت إشراف ثالثة مقرات. وكان على فرقة

لمنطقة طهران، أن تعبر "قناة السمك" وتتولى دفاعات مثلث الط��رق؛ ذل��ك��ون على المثلث أن المثلث كان نقطة وصل الفرق الثالث. ولو سيطر العراقي ألبادوا الفرق الثالث بأكملها. يؤدي هذا المثلث من أح��د جوانب��ه إلى "الخن��دق��ة الثن��ائي الج��دار" و"شلمتش��ه"، ومن ج��انب آخ��ر ي��ؤدي إلى الس��واتر الترابي الهاللية وإلى "أروند"؛ ومن جانب ثالث يؤدي إلى ذلك الجسر ال��ذي ي��رد من��ه

اإلخوة إلى "بنج ضلعي" حتى يصلوا إلى طريق "البصرة" - "تنومه".

في تلك الليلة، أي ليل��ة الث��امن من ش��هر ك��انون الث��اني، ذهبت مجموع�ة من ثار الله، لتتفقد الخط مرة أخرى، وع��دنا نحن إلى اإلخ��وة في مخيم41فرقة

"كارون".

��ه ش��هر ك��انون الث��اني، إال أن الطقس لم يكن ب��اردا ج��دا، وعلى الرغم من أن فق��ط حين تمط��ر الس��ماء مط��را يج��ر مع��ه الس��يول، ويخيم الض��باب على

المكان، كان الجو يتحول إلى رطب وقارس. بعض اإلخوة ارتدوا اللباس

Page 453: books.almaaref.orgbooks.almaaref.org/static/documents/zoqaq.doc · Web viewكلّ هذه الذكريات والأصوات، کانت لا تزال تتردّد في زوايا حنجرة

453

الواقي من المطر، وآخرون كانوا يرتدون المعاطف ويجولون دونما خوف منالبرد.

هن��اك، ازداد التش��ديد علين��ا؛ بس��بب قربن��ا من خط��وط دف��اع الع��دو، ورؤيت��هة ت��ردد وإشرافه على المناطق الواقعة على جانبي "أرون��د" و"ك��ارون"، خاص�� العناص��ر وذه��ابهم وإي��ابهم، فك��ان ذل��ك يحت��اج إلى اإلذن المس��بق، وأن يبقى تحت إش��راف ]القي��ادة[. وكم��ا في الس��ابق، كنت هن��اك على تواص��ل م��عالخطوط الخلفية والمقر، وتولى أصغر وحسين مهمة اإلشراف على الكتيبة.

في نهار الثامن من كانون الثاني، استعدت الق��وات المهاجم��ة وانطلقت نح��و خط "تشمران" الخلفي الواقع في جادة الشهيد "ص��فوى" بين ج��ادة األه��واز خرمشهر والجادة التي تبعد ستة كيلومترات عن الحدود. وك��ان هن��اك م��ا بين الثالثين واألربعين حفرة )دش��مة( وض��عت فيه��ا مع��دات الفرق��ة ال��تي تش��مل المؤن والذخائر والحمل والنقل والشاحنات. كما أعدت هناك أماكن لخزان��ات الوقود والماء تحت التراب، وذلك من أجل تسهيل الحمل والنقل. وعلى اسم

��ات بمش��اركة ق��وات فرق��ة ك��ربالء25ث��ار الل��ه، وفرق��ة 41الله كانت العملي التابعة لمحافظة "مازندران". ما بين الساعة التاس��عة والعاش��رة، ركب بعض قادة الكتائب برفقة عناصر المعلومات قاربا، وذهبوا ليفتشوا عن حل وت��دبير. ومن ثم يعودون. رجعوا في منتصف الليل، فرأيتهم جميعا خائفين مض��طربين يتكلمون باس��تمرار عن أح��د ش��باب "كرم��ان" وفريق��ه ال��ذين م��ا رجع��وا من االس��تطالع بع��د وت��أخروا. استوض��حت األم��ر، فق��ال لي اإلخ��وة إن اث��نين من شباب "زرند" الكرمانية انفصال عن فريق االستطالع وتق��دما إلى األم��ام، ولم يعودا حتى اللحظة هذه. بعث تأخرهما االضطراب في الكتيبة. ضج القادة في

الخطوط الخلفية من تأخرهما وتلفت

Page 454: books.almaaref.orgbooks.almaaref.org/static/documents/zoqaq.doc · Web viewكلّ هذه الذكريات والأصوات، کانت لا تزال تتردّد في زوايا حنجرة

454

��ات. ل��ذا، اض��طروا أعصابهم. ظنوا أنهما وقعا في األسر وانكشف أم��ر العملي من أجل هذه المسألة التي هي بسيطة في الظاهر، إلى تأجيل العمليات ليل��ة

واحدة.

وعلى الرغم من هذا كله، وفي ليلة التاسع من كانون الثاني، حيث كان الب��در منيرا، هجمت مجموعة االقتحام التابعة لفرقة "ثار الل�ه"، وال�تي ت�وقعت ب�أن القوات العراقية غير مستعدة في أي موقع من مواقعه��ا، على خط��وط دف��اع

األعداء.

كان نداء العمليات "يا زهراء". وحكت األخب��ار عن تق��دم قواتن��ا وإف��ادتهم من إعياء الجانب العراقي فوصلوا إلى أقرب نقطة من "تنومه" و"البصرة"، وكان ه��دفهم األس��اس ه��و التهدي��د نفس��ه، واحتالل البص��رة وتنوم��ه إذا م��ا واتتهم

الفرصة.

��ة من جمي��ع الج��وانب؛ فق��د حملت م��ا كانت ق��وات كتيب��ة "ميثم" على جاهزي��زت بش��جاعة يلزمها من العدة والعتاد، ومن ناحية قوة القلب والمعنويات تمي ومعنويات عالية. في تل��ك الليل��ة، حين كنت أنظ��ر في وج��ه ك��ل واح��د منهم،

كنت أرى نور الشهادة فيه، وقد أصبحت القلوب إلهية.

خط�وط دف�اع27في منتصف الليل، ه�اجمت كتيب�ة "عم�ار" التابع�ة للفرق�ة األعداء من جه��ة المثلث، وق��اتلت ببس��الة. قراب��ة الس��اعة الخامس��ة ص��باحا، دخلت كتيبت��ا "مال��ك" و"ح��بيب" المعرك��ة، أم��ا كتيب��ة "عم��ار" فش��هدت ذروة المواجهة في ناحية المثلث ما بين السابعة والثامنة صباحا. ولكثرة م��ا س��قط

هناك من الشهداء، عرف ذلك المثلث فيما بعد بمثلث الموت أو الشهادة.

بحلول الي��وم الت��الي، أي الي��وم العاش��ر من ك��انون الث��اني، ذللت ك��ل حق��ول��د ج��دا. فق��د نجحت الخط��ط األلغام وفتحت المعابر، وتق��دم العم��ل بنح��و جي

كربالء( إلى أرض25وسارت األمور قدما. كما نزلت الفرقة )

Page 455: books.almaaref.orgbooks.almaaref.org/static/documents/zoqaq.doc · Web viewكلّ هذه الذكريات والأصوات، کانت لا تزال تتردّد في زوايا حنجرة

455

��ون ق��د نص��بوا المعركة، وخاضت مواجهة على ذلك الجسر الذي ك��ان العراقي فيه عمودا فوق قناة تربية السمك. وصل األمر بالقوات العراقية مع ك��ل تل��ك الموانع والعوائق التي وضعوها، بأن صارت تري��د فق��ط الح��ؤول دون تق��دمنا.

فقد عجزوا تماما أمام قواتنا ولم يستطعوا الوقوف بوجهها.

في صباح ذلك اليوم، كنت في المقر حين قال لي الحاج محم��د: "س��يد، ج��اءدورك، سر بقواتك".

بعد التنسيق مع حسين من أجل تحريك القوات واالنتقال إلى نقطة االنتش��ار، ركبت وأصغر دراجة نارية وذهبنا باتجاه المثلث؛ وحیث کان كل منا يع��رج في مشيته، وال يمكننا الذهاب إلى هناك سيرا على األق��دام، انعطفن��ا إلى اليس��ار��ا. بم��ا أن أص��غر ك��ان خب��يرا عن المثلث، أوقفنا الدراجة النارية وألقيناها جانب بال��دراجات، فق��د تالعب بأش��رطتها لتتعط��ل عن العم��ل، ولكي ال ي��أتي أح��د ويديرها فجأة! دخلنا "بنج ضلعی"، كان "محس��ن دين ش��عاري" يض��ع ص��فارة في فمه، ويقود العناصر. ما إن رآنا حتى أطل��ق ص��افرة وق��ال بص��وت ع��ال:

"جاء شباب جنوب المدينة ليعرجوا إلى الجنان!".

قال مسؤول االتصاالت "حسين بهشتي": "سيد، إنكم اآلن ت�دخلون المعرك��ة. عليك اآلن أن تحدد من منكم أنتم الثالث��ة ه��و قائ��د الكتيب��ة، حتى نس��جله في

رمز العمليات..".

قلت: "حاج حسين، هذه قافلة العشق، ونحن الثالثة الكالب ]الحارس��ة[ له��ذه القافل��ة. ك��ل من ينبح أوال، يك��ون ه��و قائ��د الكتيب��ة". علت أص��وات الجمي��ع بالض��حك، والمس��ت قهقه��اتهم عن��ان الس��ماء. تق��دمنا، فوج��دنا أن الق��وات��ة ق��د أح��دثت مج��ددا، طريق��ا ف��وق الم��اء بين س��اتر "قن��اة الس��مك" العراقي

والجسر. تعجبت كيف استطاعوا إحداث طريق وسط الماء.

بعدها علمت أنهم قبل أن يضخوا الماء إلى هذه الناحية، قد أحدثوا

Page 456: books.almaaref.orgbooks.almaaref.org/static/documents/zoqaq.doc · Web viewكلّ هذه الذكريات والأصوات، کانت لا تزال تتردّد في زوايا حنجرة

456

طريقا على اليابسة بارتفاع أربع��ة إلى ثماني��ة أمت��ار. فج��اؤوا بأن��ابيب طويل��ة وضخمة ووضعوها على األرض، وأهالوا فوقها التراب لتص��بح طريق��ا. ومن ثم ضخوا الماء في جانبيها، لتصبح طريقا وسط الماء. وقد ج��روا إليه��ا الم��اء من نهري "عرايض" و"جاسم". كما صفوا إلى جانب الطريق أحجارا ف��وق بعض��هاا ومحكما. ووضعوا في البعض، ووضعوا فوقها الشباك الفلزية لتصبح سدا قوي وسط المياه المليئة باألسالك الشائكة مفخخات وألغاما، بحيث إذا ما اصطدم أسفل القارب بها انفجرت. وفوق األسالك الشائكة، نصبت كل خمس��ين م��ترا دشمة رشاش "دوشكا". لقد قاموا بكل ه�ذه األش�ياء، ولكن اإلخ�وة تخطوه�ا جميعا وتقدموا، وعبروا القناة "ذات الجدارين"، والتي كانت األهم منها جميعا. سررنا عندما عبرنا الجادة، إذ رأينا عناصر "عمار" و"مالك" ملتصقين بالخندق اإلسمنتي ]أو بالقناة المزدوجة[، وأك��ثرهم في ح��ال تق��دم. ك��ان األم��ر يس��ير على ما يرام بحيث ظننا أننا سنكون في البصرة عما قريب. واقع��ا، لق��د ك��ان

أداء اإلخوة جيدا، وكان الهدف في يدنا تقريبا.

إلى األمام، بعد المثلث بقليل، اشتدت النيران علينا، فكنا مضطرين ك��ل ع��دة دقائق إلى الزح��ف وااللتص��اق بكت��ف الس��اتر ال��ترابي. وهن��اك رأين��ا "نص��رت��ا عن ال��وعي حين ك��انوا يض��عونه أكبري" وقد أصيب وخضب بدمائه. كان غائب

على الحمالة. ظننا أنه استشهد.

فتشنا عن مسؤول المعلومات السيد "مجتبى حسيني"، لنطلع منه على س��ير األمور. فقد كان خبيرا متمرسا، ويمكنه توجيهن��ا وإعط�اء التعليم��ات لن��ا. على

ا هاللي الش��كل* ، ورأيت "قاس��م ص��ادقي"1بعد عدة أمتار، رأيت س��اترا ترابيفي أعاله.

سألته: "أين السيد مجتبى؟".

1 .) ں ) نون شكل على أو

Page 457: books.almaaref.orgbooks.almaaref.org/static/documents/zoqaq.doc · Web viewكلّ هذه الذكريات والأصوات، کانت لا تزال تتردّد في زوايا حنجرة

457

- هناك، وقد أصيب للتو.

أشار إلى ناحية، ت��وجهت إليه��ا، ف��رأيت رصاص��ة ق��د أص��ابت جبه��ة "مجت��بى" مباشرة واستشهد. لم يكن معن��ا جه�از الس��لكي لنخ��بر القي��ادة في الخط�وط

الخلفية باستشهاده. اضطررنا لتركه ريثما يأتي نقلة الجرحى وينقلونه.

على مس��افة ع��دة أمت��ار إلى األم��ام، التقيت بمس��ؤول ال��برامج والتخطي��ط"سعيد سليماني".

سألني: "أين قواتك اآلن؟".- لقد وصلوا إلى الخطوط الخلفية، وعما قليل يدخلون المعركة.

- اصبروا قليال، ريثما أتبين مصير المنطقة هنا.

تقدمت وأصغر قليال إلى األمام من ب��اب الفض��ول. فرأين��ا في قلب الخط��وط األمامية قادة الكتائب. كان قائد كتيبة عمار "رضا يزدي" مس��تلقيا إلى ج��انب الساتر، و"رض��ا بختي��اري" ق��د أص��يب برصاص��ة في فم��ه ف��ارتمى في ناحي��ة ووجهه مخضب بالدماء، فيما كان "أحمد نوزاد" يغير مخ��زن س��الحه وق��د ب��دا

مرهقا، أشعث أغبر.

وهناك، وضعت في فكري مخططا، وهو أين أموضع قواتي. اس��تطلعنا الجه��ة اليمنى واليسرى والمنحدرات والتالل واس��تبنا األم��ر وم��اذا سيحص��ل إن نحن

دافعنا، وماذا سيحصل إن هجمنا.

في هذه المعمعة، اشتدت النيران. وكثفت القوات العراقية ض�غوطها محاول�ة السيطرة على الساتر الترابي. فجأة رأيت شباب كتيبة "ح��بيب" يهرع��ون من فوق الساتر األمامي إلى الخلف. لم أعرف كيف حصل ذلك. ه��ذا ه��و الف��رق

بين التعبئة والجيش: فإذا ما تراجع في وسط المعركة، عشرة

Page 458: books.almaaref.orgbooks.almaaref.org/static/documents/zoqaq.doc · Web viewكلّ هذه الذكريات والأصوات، کانت لا تزال تتردّد في زوايا حنجرة

458

أش��خاص إلى ال��وراء، ص��ار الجمي��ع يري��دون االنس��حاب. ك��ان ق��ادة الس��رايا��ات ك��انت يهرعون خلف العناصر ويصيحون؛ أرادوا جمعهم وتوجيههم؛ فالعملي تش��ارف على تحقي��ق النت��ائج. وال مع��نى لالنس��حاب؛ لكن الن��يران ال تع��رف المعنى والال مع�نى؛ فهي ت�أتي وتح�رق. ك�انت ال�دبابات تالح�ق اإلخ�وة، وق�د س��يطرت على ج��انب من الس��اتر ال��ترابي الن��وني ]الهاللي الش��كل[.وق��د انتشرت خلف الساتر على هيئ��ة نواط��ير الم��زارع ومن ع��دة جه��ات، ووجهت فوهاتها نحو اإلخوة وراحت ترميهم. فكانت كل طلقة موجهة نحو عنصر. الل��ه أكبر! کما وضعوا على الجادة نفسها دشمة للدوشكا. ووض�عوا ق�وات الدرج�ة الثالث��ة فيه��ا، حتى إذا م��ا هجم اإلخ��وة في البداي��ة على الج��ادة، ب��دأ عناص��ر الدرجة الثالثة بالرمي. وفي النقطة التالية وضع عناصر الدرجة الثاني��ة. وك��ان

"، لم يكن ذل��ك لي��ؤثر فيهم؛ وذل��ك لش��دةB7خلفهم سد، ومهم��ا رميتهم بال�"إحكام السد ومتانته.

هناك قلت ألصغر: "ال بد لنا أن نأتي بجراف��ة وبش��خص خب��ير، ليح��دث س��اتراا يحول دون تقدم الدبابات". ترابي

قال أصغر: "ومن ذا الذي يمكنه التقدم وسط هذه الن��يران؟ ه��ذا أم��ر يحت��اجإلى شخص مجنون".

وبينم��ا أتح��دث إلي��ه، أخبرن��ا اإلخ��وة ب��أن الح��اج محم��د أخ��برهم ع��بر الجه��ازالالسلكي بأن كتيبة "ميثم" متوجهة نحو الخطوط األمامية.

ك��انت الس��اعة تق��ارب الحادي��ة عش��رة ص��باحا. وحين عودتن��ا رأيت الق��وات��ة ق��د س��دت الطري��ق خل��ف المثلث، وتش��ارف على ش��ق قواتن��ا من العراقي الخلف. توجهت ألصغر قائال: "عندما جئنا إلى هنا، لم يكن ك��ل ه��ذا الع��دد من

القوات العراقية موجودا. من أين أتوا فجأة؟".

لقد أمطرت الدبابات والجنود العراقيون طريق انسحاب كتيبة"حبيب"

Page 459: books.almaaref.orgbooks.almaaref.org/static/documents/zoqaq.doc · Web viewكلّ هذه الذكريات والأصوات، کانت لا تزال تتردّد في زوايا حنجرة

459

بوابل نيرانهم، بحيث لم يع��د أح��د يس��تطيع التق��دم وال االنس��حاب. ول��و ك��انوا وفقوا ألبادوا الفرق الثالث بأكملها. التقيت ب�"سعيد سليماني" فقلت ل��ه: "إن شاهدت قواتي عناصر كتيبة "حبيب" ينسحبون ستضعف قل��وبهم، ويض��خمون

األمور؛ افعل شيئا"..1- ماذا سنفعل، لقد تعقدت األمور

- لقد جاء "حسين" اآلن بالقوات. ولحس��ين س��جل حاف��ل في قي��ادة الكتيب��ة، ويعرف ماذا سيفعل؛ لكني قل��ق على الق�وات، وأخ�اف أن يتفرق�وا قب�ل ب�دء

العمل...

في الخلف، وعن��د المثلث، ش��اهدت "حس��ين" يق��ود الق��وات في ط��ابور، في حين كانت نيران القوات العراقية تمطر المكان بغزارة. حمل حسين في ي��ده

مكبر صوت، فكان كل دقيقة يأمر اإلخوة باالنبطاح.

فكانت القوات تنبطح أرضا م��ع ك��ل انفج��ار قذيف��ة ومن ثم تنهض. ذهبت إلى حسين وقلت ل��ه: "علي��ك أن تفع��ل ش��يئا، ف��إن التقى ه��ؤالء بكتيب��ة "ح��بيب"

واختلطوا مع عناصرها، يفلت األمر من أيدينا. علينا أن ال ندعهم يجتمعون".

صاح "حسين" باإلخوة بأعلى صوته قائال: "شباب، احفروا بخناجركم في قلب الس��اتر ال��ترابي حف��را كجح��ور الثع��الب ول��وذوا به��ا إلى أن تص��در األوام��ر

بالهجوم".

انشغل اإلخ��وة بص��نع الحف��ر وتش��تتت حواس��هم. م��رت ق��وات "ح��بيب"، من جانبهم بهدوء وانسحبت. وضع حسين مكبر الصوت في يد "بور أحمد" وس��ط

النيران والرصاص وقال: "إن ذكر الله تعالى هو الحل

1 . الحيثيات أو المعطيات

Page 460: books.almaaref.orgbooks.almaaref.org/static/documents/zoqaq.doc · Web viewكلّ هذه الذكريات والأصوات، کانت لا تزال تتردّد في زوايا حنجرة

460

األنجع في وضع مثل هذا".

عرج رضا إلى ذكر الزهراء عليها الس��الم؛ ف��اتجهت النف��وس إلى الل��ه تع��الىواطمأنت القلوب.

وجدتها أيضا فرصة وأنهضتهم، وتغير الجو. فعن��دما يحض��ر العش��ق، فحتى ل��و كان أحدهم خائفا، فإنه ال يظه��ر ذل��ك. ق��ويت القل��وب ب��ذكر الل��ه. بع��د ذل��ك، أرس��لت س��ريتي "ف��دك" و"البقي��ع" إلى الجه��ة اليس��رى من الس��اتر الن��وني،

وسريتي "نينوى" و"الكوثر" إلى الجهة اليمنى.

وهناك، ك��انت نهاي��ة المعرك��ة. فق��د ذهبن��ا لنص��في حس��ابنا دفع��ة واح��دة م��عالعراقيين. هجمنا من ثالث جهات. وتالطم هناك بحر من النيران والدماء.

أنا نفسي، أظهرت كل تهوري. أخذت المذياع وتقدمت وس��ط اإلخ��وة ألرتج��ز وأمدهم بالمعنويات. ال أعلم إن كان ذل�ك من أج�ل الل�ه أم من أج�ل نفس�ي؛ أخفيت خ��وفي ووقفت منتص��با. ص��حت فيهم: "قوم��وا، ال تقع�دوا، ليس ل�دينا

وقت..". وصرت أذكر أسماء الحق تعالى.

��ر عبرت السواتر الترابية وتقدمت ألتكلم م��ع الح��اج محم��د ك��وثري. كنت أفكفي الساعة التالية، وأي كتيبة ستستلم الدفة، إذا ما أرهق شباب كتيبتنا.

قال الحاج محمد: "عليك أن تدع سرية من سراياك إلى جانب الساتر النوني، وذلك حتى ال يحتل العراقيون المثلث. انتبه، فهذا المثلث مهم جدا. وإن أرواح الف��رق الثالث رهين��ة الحف��اظ على المثلث". ومن هن��اك، اتص��لت ع��بر جه��از الالسلكي ب�"حسين طاهري" ألوصيه وأوكد عليه بالحف��اظ على المثلث. فق��د

كانت تفصلني عنه مسافة خمسمائة متر:...2، سليمان، سليمان 2- سليمان، سليمان

Page 461: books.almaaref.orgbooks.almaaref.org/static/documents/zoqaq.doc · Web viewكلّ هذه الذكريات والأصوات، کانت لا تزال تتردّد في زوايا حنجرة

461

معك، أسمعك.2- سليمان - اجع��ل س��رية "محم��ود جولي��ده" إلى ج��انب الس��اتر الن��وني، ولتكن مهمته��ا

الدفاع عن المثلث.، حاضر، علم.2- سليمان

ارتاح ب��الي عن��دما علمت أين تتموض��ع س��رية "محم��ود جولي��ده". بع�د نص��فساعة اتصلت عبر الجهاز ألستخبر من حسين عن األوضاع:

...2؛ سليمان، سليمان 2- سليمان، سليمان

،2لم يجب أحد!ن��اديت ع��دة م��رات إلى أن أج��ابني أح��دهم ق��ائال: "س��ليمان سليمان أصابه ألم في ضرسه، وضرسه ينزف".

عدت س��ريعا إلى المثلث. الل��ه أك��بر! وج��دت أن قذيف��ة ق��د س��قطت وس��ط اإلخوة؛ فاستشهد حسين في مكانه، وجرح قائد السرية. وقد ارتمى كل واحد في ناحية وكان مخضبا بدمائه. أما "أكبر سر بوشان" فقد أصيب بش��ظية في وجهه، وكان وجهه مخضبا. لقد ساءت حاله بشكل ملحوظ. أظلمت الدنيا فيتي. فحس��ين ك��ان عم��ود الكتيب��ة. عيني، وأص��بحت ال ظه��ر لي. اختنقت بغص�� وكان من المقرر أن يقود هو اإلخوة إلى مكان مهمتهم، وأن أقعد أن��ا وأص��غر وراء الجهاز فقط ونتظاهر باألهمية! ال مصيبة أكبر من هذه المصيبة! تع��اونت واإلخوة ووضعنا جثمان حسين في صندوق سيارة تويوتا، كما وزعن��ا الج��رحى

على صندوق السيارة في المقدمة وأرسلناهم إلى الخطوط الخلفية.

لكن "أك��بر سربوش��ان" أبى أن يرج��ع، فض��مد المس��عف ل��ه جرح��ه، ومهم��األححت عليه بأن يرجع، لم يفعل.

صمد أكبر، وحين رأى اإلخوة ممن كانت جراحهم بسيطة إصراره

Page 462: books.almaaref.orgbooks.almaaref.org/static/documents/zoqaq.doc · Web viewكلّ هذه الذكريات والأصوات، کانت لا تزال تتردّد في زوايا حنجرة

462

واستبساله، اس��تمدوا من��ه الق��وة ونهض��وا. حمل��وا س��الحهم وذهب ك��ل منهملينجز عمال ما.

جمعنا ك��ل من بقي من س��رية محم��ود وانطلقن��ا. ص��فهم "مرتض��ى به��زادي"خلف الساتر الهاللي من أجل الدفاع.

يومذاك ظلت القوات العراقية تصب حمم نيرانها وتكبدنا الخس��ائر إلى قراب��ة الرابعة بعد الظهر. وقرابة الخامسة، انس��حبت ق��وات الع��دو ميال إلى ال��وراء.

.72Tس��حبت عناص��رها واس��تقدمت إلى أرض المعرك��ة عش��رات ال��دبابات ا، بال��دبابات ال أرادت لنا أن نتراجع إلى ال��وراء وأن تخت��بر نفس��ها؛ وذل��ك أيض��

بالعناصر. فشرعت ترمي علينا مباشرة، فتقلب الساتر رأسا على عقب.

قرابة الغروب، اضطر عدد من اإلخوة إلى االحتماء بالحفر ال��تي حفروه��ا في الساتر، وذلك لينتقموا في وضح النهار من العراقيين على النيران ال��تي ك��انوا

م��ترا من الس��اتر ال��ترابي الهاللي150أطلقوها. تقدمت الدبابات إلى مقربة الشكل؛ لكنها لم تلتصق به. كانت تتقدم وتتراجع فقط وترمي بنيرانها.

لم يكد الغروب يحل حتى سقط صاروخ مباشر على الس��اتر ال��ترابي الهاللي؛ فأصيب "محمود جولیده" و"حسين باب��ايي" إص��ابات بالغ��ة، واستش��هد "رض��ا

محمدي" في أرضه.

ولقد أصابت محمود الشظايا في مائة موضع من بدن��ه؛ في بطن��ه، في رجل��ه ووجهه. الجميع قال بأنه استشهد قبل أن ينقل من مكانه. إنها نيران القذائف،ا على ال تميز وال تعرف أحدا؛ س��قطت وأص��ابت الجمي��ع، وقلبت الكتيب��ة رأس��

عقب.ا خل��ف الس��اتر ال��ترابي، عند الغروب، وفي صحراء المحشر تلك، كنت جالس��

وكأنني أرى كربالء أمامي؛ كتيبة األبطال التي كانت تتالشى أمام

Page 463: books.almaaref.orgbooks.almaaref.org/static/documents/zoqaq.doc · Web viewكلّ هذه الذكريات والأصوات، کانت لا تزال تتردّد في زوايا حنجرة

463

عيني. وحولي الكثير من الجرحى واأليدي واألرجل المقطع��ة والش��هداء. كنت أدعي أب��وة الكتيب��ة؛ لكن في بح��ر الن��يران ذاك، ك��انت ي��دي قاص��رة عن ك��ل شيء. أصبح شبابي يستشهدون أمام ناظري، وصرت أنا المتف��رج على حلب��ة

ال�"زورخانه".

وبينما كنت كذلك، إذا بأصغر يأتي إلي، وقد أصابت شظية فكه وخضب وجه��ه بالدماء. كانت عيناه زائغتين. وقد جمع الكفية بيده ووضعها على خده، وجلس

إلى جانبي خائر القوى.

قلت: "لم يكن من المفترض بك أن تصاب، أخي أصغر. انهض، واذهب سريعاإلى الخطوط الخلفية. ال تبق هنا".

- ليست مسألة مهمة، يمكنني متابعة عملي.- إن رآك اإلخوة سينهزمون. ليس من الجيد للقوات أن يروا قائدهم مصابا.

المسكين أصغر، كان يسمع كالمي وال يبدي رأيا فوق رأيي؛ من شدة أص��الته.نهض وانسحب من دون أن ينبس ببنت شفة.

بعد ساعة، نهضت وعبرت من ج��انب اإلخ��وة ألص��ل إلى الناحي��ة األخ��رى من الساتر الترابي، وإذا بشظية تصيب يدي؛ تلك اليد نفسها التي تعرضت م��رتين لإلصابة؛ وقد أصابت الشظية الجهة الخلفية للعضد ومزقت��ه. جلس��ت، ولففت��ل مالبس��ي فج��أة. ال أذك��ر الكفية حول الجرح. لكن الدم فار إلى الخ��ارج وبل الحال التي انتابتني. لم أكن أفكر بنفسي. صرت ملتاعا. فالمرء هن��اك ينس��ى آالمه. رفعت رأسي ونظرت إلى خط دف��اع الع��راقيين ال��ذين ه��دأت ن��يرانهم

قليال مع حلول العتمة.

على أي حال، أطل رجل الميدان "علي زاكاني" من بين النار والدماء. وكم

Page 464: books.almaaref.orgbooks.almaaref.org/static/documents/zoqaq.doc · Web viewكلّ هذه الذكريات والأصوات، کانت لا تزال تتردّد في زوايا حنجرة

464

��ا ج��دا ف��ارتحت عن��د ��ة. كنت منهك لوصول رجل شجاع وقائد مخلص من أهمي رؤيته. سلمته جهاز الالسلكي. كان "علي زاكاني" الرسول اإللهي ال��ذي ألقي على عاتقه عبء عملي، وشهادة "حسين طاهري" و"رضا محم��دي"، وإص��ابة

"أصغر". كان فراق األحبة صعبا، ولكن التوكل على الله سبحانه دواء دائنا.

وبينما أنا جريح ومستند إلى الساتر، رأيت شخصا يتوجه وسط العتمة نح��وي.ظننته من البعيد رجل دين يعتمر عمامة بيضاء.

تقدم وقال بصوت غليظ: "من هو السيد أبو الفضل هذا؟".- ماذا تريد منه، يا أخي؟

- ال، يقال إنه أتى إلى الجبهة من أجل التظاهر!

اعترضت وقلت: "ما هذا الكالم الذي تتشدق به؟".��دعى "أص��غر أرس��نجاني"، علي أص��غر، ل��ه - يقولون إن شخصا واحدا فقط ي

سلطة عليه؟- علي أصغر ليس موجودا اآلن.

- يقولون إنك تلميذه؟

فجأة نهضت من مك��اني، ح��دقت ودققت في وجه��ه، ي��ا إلهي... أص��غر! ك��ان وجهه مضمدا؛ لم أعرفه. كان ضماد وجهه مض��مخا بال��دماء. وعين��اه زائغ��تين،

فاقدتين لرونقهما.

قلت: "إ.... أصغر هذا أنت؟".- نعم، أنا أصغر.

- كيف عدت؟ ولم؟

Page 465: books.almaaref.orgbooks.almaaref.org/static/documents/zoqaq.doc · Web viewكلّ هذه الذكريات والأصوات، کانت لا تزال تتردّد في زوايا حنجرة

465

- استخدمت دراجة الدائرة الصحية. أصلحت شريطها وأتيت. لم أحتمل البقاءفي الخطوط الخلفية.

أثبت أصغر شهامته ومروءته. وحين عاد انتعشت آمالي وعاد إلي نشاطي.

فقد أصبح لي سندا. لم أكن أتوقع منه غير هذا. فقد أصبح ظهيري في أصعباللحظات.

- تعال عزيزي أصغر، اجلس.. منذ ساعات وأنا أتصل عبر الجهاز ليرس��لوا لن��ا جرافة. أظن أن العراقيين سيعودون إلى هن��ا للتث��بيت. فنحن في ه��ذه الجه�ة

"، وفي الجهة المقابلة هناك الحدي��دB7عبارة عن كومة من اللحم مع قبضة "��ون ك�ل مائ��ة م��تر م��ا بين والفوالذ الذي ال يؤثر فيه ش��يء. لق�د ف��رغ العراقي

السواتر لتتمكن دباباتهم من التحرك براحة على امتداد الساتر الترابي....

��دة، بقي إلى ج��انبي في الدش��مة وعلى الرغم من أن أصغر لم يكن بحال جي حتى الص��باح. وس��اعدني في إدارة األم��ور ومتابع��ة أم��ر الجراف��ة والعناص��ر

الواردين للتو.

��ة المتالش��ية في النهاية، جاءت في آخر الليل جراف��ة وس��وت الس��واتر الترابي ووصلتها ببعضها البعض. وما إن وصلت السواتر ببعضها البعض حتى اس��تحكم خط دفاعنا. كما سكتت نيران العراقيين تقريبا. لكن الن��ار والقل��ق في داخلي لم يخمدا. يعلم الله أي قل��ق كنت أعيش��ه؛ القل��ق من الغ��د وهج��وم الع��راق. الهجوم يع��ني أن تص��ب خمس��ون دباب��ة حمم نيرانه��ا، وأن تس��اندها الق��ذائف المدفعية من الخلف. كنت أعلم بأن ال��دبابات أتت لتق��وم ب��الهجوم في الغ��د.

وهي إن سكتت اآلن، فإنما تستعد للغد. كنت

Page 466: books.almaaref.orgbooks.almaaref.org/static/documents/zoqaq.doc · Web viewكلّ هذه الذكريات والأصوات، کانت لا تزال تتردّد في زوايا حنجرة

466

أفكر بهذه األمور وإذا بي فجأة أسمع صوتا يخرج من مكبر الصوت.

نهضت من مكاني ووجهت نظري نحو خطوطنا، كان الصوت ينبعث من هناك. تعجبت حين رأیت سيارة الحاج "بخشي" تتجه وسط صحراء "شلمتشه"، نحو

المثلث من دون اكتراث.

وصلت السيارة إلى مقربة عشرين م��ترا من "قن��اة الس��مك" ال��تي تموض��عنا خلفها في دشمة. وكان من عادة الح��اج "بخش��ي" أن ي��أتي على ه��ذه الح��ال��ات من خالل توزي��ع الحل��وى والطع��ام إلى جمع اإلخوة، فيمد اإلخ��وة بالمعنوي عليهم، وق��راءة الم��راثي واألرج��از وأح��اديث الم��روءة والش��هامة؛ ك��ان رجال

نشيطا، وذا روحية عالية، ووجوده واقعا كان نعمة بالنسبة للبعض.

�ر الص��وت لعله يظن أن "شلمتش�ه" ك�� "الف�او". وبينم�ا ه�و يرتج�ز ع�بر مكب��ة تص��يب س��يارة الالن��دكروزر ويتقدم نحو الخط األم��امي، وإذا بقذيف��ة مدفعي مباشرة وتشعلها في لحظة. طار الحاج "بخشي" خارج السيارة، وشاهدنا بأم أعيننا راكبيها األماميين يشتعالن وهما حيين، ويتفحمان. ك��انت ألس��نة الن��يران تتصاعد من السيارة، وهما يفحصان بأيديهما وأرجلهما وسط النيران. لم يجرؤ أحد على االق��تراب منهم��ا. ح��اول أح��دهما إطف��اء الن��يران بي��ده، لم يس��تطع.��ا تمام��ا فغلبته النيران واستشهدا معا. لم نستطع القيام بشيء لهم��ا. فق��د كن في مرمى نيران العدو، ولو تقدمنا إلى تلك الناحية، لعرضنا الخط كله للخطر

ولوابل نيران العدو.

بقينا تلك الليلة مستيقظين حتى الصباح، في حال دعاء وذكر لله تع��الى. وق��دمر بذاكرتي مشهد احتراق راكبي سيارة ال�"الند كروز" آالف المرات.

عند الصباح، خطر ببالي أن أوزع اإلخوة الش��جعان، وأش��كل ثالث مجموع��ات ريادية ليكونوا فدائيي الكتيبة. ففرزت "حسين إسماعيلي" وخمس��ة أش��خاص آخرين ليلتحقوا بسرية "نينوى"؛ و"محمود عطا" مع خمس��ة أش��خاص لس��رية

"فدك"؛ و"أصغر کودرزي" وخمسة آخرين لسرية

Page 467: books.almaaref.orgbooks.almaaref.org/static/documents/zoqaq.doc · Web viewكلّ هذه الذكريات والأصوات، کانت لا تزال تتردّد في زوايا حنجرة

467

"،B7"، ومس��اعدي رامي "B7"البقيع". وسلمت كال من هذه الف��رق قبض��ة "وعددا من القنابل.

ك��ان من المف��ترض أن يتمترس��وا في دش��مة تبع��د مئ��ة م��تر إلى األم��ام من��ة ويف��دوا الجمي��ع. وحين يطلق��ون الس��رية، وأن يب��دأوا بالمواجه��ة قب��ل البقي

الطلقة األولى، يهب البقية ويدخلون المعركة.

وبينما كنا ننتظر، شغلت الدبابات العراقية قبل الفجر وراحت تطل��ق الن��يران. أصاب "أصغر کودرزي" وفريقه، بادئ األمر دبابتين. وشيئا فشيئا عرفوا كي��ف يتعاملون مع الدبابات. كان عليهم أن يرموها على الج��نزير أو مخ��زن الوق��ود،

ورميها في أي مكان آخر لن يؤثر فيها؛ بل ستصطدم القذيفة بها وترتد.

��ة ويص��ب حمم��ه ظ��ل الع��دو إلى قراب��ة الظه��ر ي��رمي أعلى الس��واتر الترابيباستمرار.

اتصل بي "محم��د جعف��ري" ع��بر جه��از الالس��لكي من الجه��ة األخ��رى، وك��انمسؤول إحدى السرايا، وأخبرني بوجود عناصر كثيرة خلف الدبابات.

قلت: "ليس غريبا. قاوموا أنتم، والله سيأتيكم بالمدد".

نزلت عن الساتر ال��ترابي ال��ذي كنت خلف��ه من��ذ قراب��ة الفج��ر، ألقيت نظ��رة بالمنظار، فرأيت أن األمر واقعي، وأن العراقيين يتقدمون بين ال��دبابات. كم��ا ظلت الق��ذائف تس��قط على الس��اتر بش��كل متت��ال؛ وك��أن الس��اتر يه��تز من الداخل. أما المياه على جانبي الجادة فرك��دت وش��كلت م��ا يش��به المس��تنقع. وعندما كانت تس��قط قذيف��ة وس��ط المس��تنقع، ص��ارت تتن��اثر آالف األس��ماك وسط الجادة. كما سقط جثمانا ك��ل من "مجي��د رمض��ان" والح��اج "عبادي��ان"

وسط األسماك.

Page 468: books.almaaref.orgbooks.almaaref.org/static/documents/zoqaq.doc · Web viewكلّ هذه الذكريات والأصوات، کانت لا تزال تتردّد في زوايا حنجرة

468

��ة الحمص وهناك، أصبحت الشظية بقيم��ة ملي��ار توم��ان. فش��ظية بمق��دار حب��ة وتتخلص من ذل��ك الجحيم. وبعض كانت كافي��ة ل��ترجع إلى الخط��وط الخلفي اإلخوة قد أس��موا تل��ك الش��ظية ش��ظية "آخ طه��ران!" ورددوا ق��ائلين: آه ل��و

تصيبنا شظية فنذهب إلى أمهاتنا!

اتصلت عبر الجهاز بالحاج محمد وأخبرته بأمر جنود المشاة العراقيين.

فقال: سننزل كتيبة "الشهادة" إلى األرض. - حسنا، إن أنزلتهم، فسيسقط مع كل قذيفة بدل الثالث��ة س��تة ش��هداء. يجب

أن يكون معنا مدفعية.- سيأتي ذلك بنتيجة يا عم.

- ل��دينا ق��وات، دع ه��ؤالء يت��ابعون مهمتهم. إن ك��ان من المف��ترض أن نحق��قنتيجة، فذلك ال عالقة له بعدد القوات. المشكلة أن العراق يملك دبابات.

بينما كنا نتكلم، اشتد القصف. تركت جهاز الالس��لكي وت��وجهت نح��و الش��باب ألراهم ملتصقين ب��األرض. ال��دبابات على بع��د مئ��ة م��تر خل��ف الس��اتر تتق��دم وترمي بنيرانه��ا، وقواتن��ا متس��مرة في مكانه��ا. خ��رج جن��ود المش��اة من وراء الدبابات وهجموا على الس��اتر؛ ك��انت قام��ة ك��ل واح��د منهم قراب��ة الم��ترين،

وبنيته ضخمة! فيما شبابنا ال يتجاوزون المتر والنصف.

والتحم الفريقان.

صرخ "مرتضى بهزادي" وأحد اإلخوة كالهم��ا: "س��يد، س��يد، لق��د ج��اؤوا، لق��دجاؤوا، ماذا سنفعل؟".

حرت ماذا سأقول؟ وماذا أفعل؟ تظاهرت بالالمباالة وقلت لمحمد

Page 469: books.almaaref.orgbooks.almaaref.org/static/documents/zoqaq.doc · Web viewكلّ هذه الذكريات والأصوات، کانت لا تزال تتردّد في زوايا حنجرة

469

جعفري: "أولست المدرب؟ أولم ت��أت لتقات��ل؟ حس��نا، ه��ذه هي الح��رب؛ لم أتيت إذا؟ خذ قواتك إلى المقدمة ودعهم يقاتلون. أسرع وق��ف وس��ط قوات��ك

ووجههم وقدهم".

ليسامحني الله؛ رحت أصرخ في وجهه ألحثه وأشجعه.

بعد ذلك، حملت جهاز الالسلكي، وصعدت الس��اتر ال��ترابي إلى ج��انب اإلخ��وة ليروني ويستمدوا القوة مني. فرأيت اإلخ�وة ق�د التحم�وا ب�الجنود الع�راقيين؛ فراحوا يطعنونهم ويرمونهم بالقنابل ويضربونهم بقبضاتهم وكل م��ا ت��وافر في أيديهم. سحب أحد اإلخوة قنبلة وفجر نفس��ه في جن��دي ع��راقي. بع��د رب��ع أو��ون -بفض��ل ثلث ساعة من االلتحام وتقديم قرابة الستة ش��هداء، ولى العراقيالله- هاربين! كما استدارت الدبابات والذت بالفرار. حمل اإلخ��وة ق��ذائف ال�"

B7والحقوهم. كان أمرا أشبه بالمعجزة. ألحقنا بهم خسائر فادحة. ودم��رت " ��ة اثن��تي عش��رة دباب��ة؛ لكن أص��يب اثن��ان أو ثالث��ة منهم المجموع��ات الريادي

بإصابات مباشرة، فارتفعوا شهداء إلى الرفيق األعلى.

حين نزلت كتيبة الش��هادة إلى أرض المعرك��ة، وض��عناهم في الجه��ة اليس��رىمن المثلث، وسحبت شبابنا إلى الجهة اليمنى منه ليلتقطوا أنفاسهم.

كتيبة الشهادة هي كتيبة االحتياط بالنسبة لكتيبتنا؛ لكنها لم تكن تع��رف األرض بالق���در ال���ذي نعرف���ه. أراد ج���واد ص���راف ومع���اونوه المجيء إلي ألوجههم وأعطيهم التعليمات؛ لكن من سوء الدهر، أن قذيفة سقطت منذ البداية بينهم واستش��هدوا جميع��ا. أص��بحت كتيب��ة الش��هادة بال كب��ير وقائ��د، فت��ولى قيادته��ا معاون جواد "أكبر عاطفي". جاء أكبر إلي أيضا، فوجهته ووضعته في األج��واء

وما حدث في اليومين السابقين، وشرحت له

Page 470: books.almaaref.orgbooks.almaaref.org/static/documents/zoqaq.doc · Web viewكلّ هذه الذكريات والأصوات، کانت لا تزال تتردّد في زوايا حنجرة

470

أوضاع الخطوط األمامية وعلى أي رجل تستقر.

عندما نزلت كتيبة الشهادة إلى الميدان، تحسنت األوضاع. فقد كانوا نش��طين واستلموا زمام األمور. لم يواجه شبابنا األسر كثيرا. ففي تلك المواجهة، وق��ع خمسة أو ستة من شباب كتيب��ة الش��هادة في األس��ر، وفق��د بعض ش��بابنا ولم

يعرف ماذا حل بهم؛ لكن العراقيين انسحبوا، وهذا هو أصل الموضوع.

قرابة العصر، نزل شباب لواء "ذي الفقار" إلى المي��دان، وبح��وزتهم ص��واريخ "تاو". وما إن وصلوا حتى انهالوا بها على الدبابات. بع��د نص��ف س��اعة، أبلغن��ا��ة ش��باب الجه��ة اليم��نى، أي س��رية "البقي��ع" و"ف��دك" ب��أن الق��وات العراقي

كربالء".25يضيقون عليهم؛ أي كنا نتعرض لالختراق من ناحية فرقة "

ألقيت نظرة عبر المنظار، فرأيت أربع دبابات تشبه ألعاب األطف��ال، ملتص��قة ببعضها البعض وتصعد من جهة الس��د. وك��أنهم ك��انوا يري��دون أن يش��قونا من الجهة اليمنى. ح��اول اإلخ��وة منعهم من التق��دم. وبینم��ا أن��ا أس��ير من المثلث باتج��اه الس��اتر الهاللي وعين��اي على س��اترنا، س��معت أنين أح��دهم. لحقت الصوت فرأيت "مجتبى جواد زاده" قد سقط في ناحية، وق��د أص��ابت ش��ظية خاصرته اليمنى، وفلقته�ا بمق�دار راح�ة الي�د. وق�د عال ال�تراب والغب�ار رأس��ه ووجهه وتضمخ بدمائه. تق�دمت من��ه، وض�عت ي��دي تحت رأس��ه وقلت: "س��يد

مجتبى، األمر بسيط، عما قليل يأتي المسعف".

لكنه كان يجود بنفسه. كان مغمض العينين يئن من األلم. قال بصوت متقطع:"أريد... أريد أن أكتب بدمي... يا زهراء".

قلت: "مجتبى، ماذا حصل؟ وهل اشترى الله هيئة الحجتية؟!".

فتح عينيه وقال بصوت متقطع: "ال تهتم يا سيد، ... إن قل زادك هناك

Page 471: books.almaaref.orgbooks.almaaref.org/static/documents/zoqaq.doc · Web viewكلّ هذه الذكريات والأصوات، کانت لا تزال تتردّد في زوايا حنجرة

471

]في العالم اآلخر[ سآخذ بيدك!"

بعدها مد يده إلى جانبه، فارتطمت بالجرح.. امتألت دما، نادى: "يا زهراء... يازهراء..". رفع يده، وصاح صيحة واستشهد.

وصل المسعف، فنهضت من مكاني. فيما العدو يصب حممه، واإلخوة يبلغ��ونعبر الجهاز أسماء الشهداء ويقولون: الحمامات رحلت، فالن وفالن حلقوا.

على مقرب�ة من ذل��ك المش�هد، غ�رق "أحم�د ف�يروز ص�مدي" بدمائ��ه. وك�ان حافظا لديوان حافظ عن ظهر قلب. سقى الله تلك األيام، حين كنا نجتمع في

الخيمة حول بعضنا البعض ونتبارى في إلقاء الشعر.

ا بالحاج محمد: "ماذا ح��دث ي��ا ح��اج؟ يك��ادون يس��يطرون على اتصلت السلكي كربالء تقوم بالدفاع هناك؟".25الجانب األيمن. أوليست فرقة

كربالء ".25أجاب: "لقد انقطع االتصال بفرقة

قلت ألصغر: "ماذا سنفعل يا أصغر؟ النيران تقترب منا".

قال: "مثل وتظاهر يا سيد".

وقفت. كانت فوهات الدبابات موجهة إلى الجهة اليم��نى من الس��اتر ال��ترابي.". ناديت يا فاطمة الزهراء وقلت: "إلهي، ال تخيب قواتي".B7حملت ال�"

هدفت ورميت. وبتسديد الله سبحانه، انطلقت القذيفة وأصابت فوهة الدباب��ة " عملهم وأص��ابواB7ودمرتها. هب الشباب وأخذتهم الحماسة. باشر رماة ال�"

ا. ا عراقي الدبابات األربع وأسروا ثمانية عشر جندي

قلت: ماذا سنفعل باألسرى في ه��ذه المعمع��ة؟ لم نس��تطع أن نرس��لهم إلىالخطوط الخلفية؛ ربطنا أيديهم وأوقفنا عليهم حارسا ليحرسهم.

Page 472: books.almaaref.orgbooks.almaaref.org/static/documents/zoqaq.doc · Web viewكلّ هذه الذكريات والأصوات، کانت لا تزال تتردّد في زوايا حنجرة

472

الحقيقة أن اإلخوة تناسوا تعبهم. ك��انوا م��رهقين منهكين؛ لكنهم بق��وا واقفين على أرجلهم. فهم لم يناموا أو يأكلوا منذ ثالثة أيام، لكن يشهد الله أنهم ثبت��وا وأدوا عملهم جيدا. وقد تعاونت جمي��ع الكت��ائب إلى أن وص��ل األم��ر إلى ه��ذا.

ففي الخطوط األمامية كان الجميع قلبا واحدا وهدفا واحدا.

دمرنا الدبابات؛ لكن العراقيين لم يوفرونا من أول النهار إلى آخره؛ بل كثف��وا النيران علينا. وكنا إذ نصيب أربع دبابات، تحضر أرب��ع دباب�ات أخ�رى إلى أرض

المعركة.

" الفدائية بالساتر الترابي، وقد أرهقت وأنهكت.B7الذت مجموعة رماة ال�"

"، تجمد ال��دم ح��ول أذني��هB7ولكثرة ما رمى "حسين إسماعيلي" بقذائف ال�"وعلى عنقه؛ وحتما لقد ثقبت طبلة أذنه.

كان اإلخوة يستمدون الق��وة وينش��طون عن��دما ي��رون "حس��ين"، وق��د لقب��وه "أسد شلمتشه" وهو واقع��ا ج��دير به��ذا اللقب. لم يع��رف الخ��وف وال التعب. وكان لدينا الكثير من أمثال "حسين" في كتيبة "ميثم". وهؤالء، بثباتهم وع��دم

خوفهم، هم الذين أرغموا العراقيين على االنكفاء.

اتصلت عبر جهاز الالسلكي بالخطوط الخلفية ليرس��لوا إلين��ا ن��اقلي الج��رحى والمسعفين. أجابوا: إن الجسر مقطوع والطريق مسدود. فق�د اح�ترقت على��ركت ال��دبابات وص��ناديق ال��ذخائر ��ا وت الجس��ر الكث��ير من س��يارات التويوتواألسلحة على األرض، ويصعب مرور شخص واحد؛ فكيف بسيارة اإلسعاف.

عند الظهر، جاءت جرافة، فجرفت كل م��ا ك��ان موج��ودا على الجس��ر وألقت��هفي القناة. كان عدد الجرحى كبيرا ولربما بلغ المائة.

وصل ناقلو الجرحى، تلقفوهم كالزهور ووضعوهم في سيارة اإلسعاف

Page 473: books.almaaref.orgbooks.almaaref.org/static/documents/zoqaq.doc · Web viewكلّ هذه الذكريات والأصوات، کانت لا تزال تتردّد في زوايا حنجرة

473

ونقل���وهم. غض الل���ه الط���رف عن اس���تحقاقهم للش���هادة أو ال؛ ف���الجميع��ة ن��الت لياق��ة يستش��هدون، والل��ه يفيض على المري��د وغ��ير المري��د، األكثري الش��هادة. للحظ��ة أجلت نظ��ري على الج��رحى، ف��رأيت ابن محلتن��ا "عب��اس

شكوهي"، وقد أصيب بشظية في يده.

وهو من مهرة كتيبة "ميثم"؛ من شباب "باغ فردوس". ك��ان ص��غير البني��ة، إالأنه كثير الشجاعة والمعرفة.

كنت أراقبه، يقاتل جيدا. فعند القتال والرمي ال أحد يق��ف في وجه��ه. لطالم��ا قال ألصغر: "نحن شباب "باغ بيسيم"؛ ش��باب ش��ارع "الطيب"، لس��نا رفق��اء

نصف الدرب".

��اس" في س��يارة اإلس��عاف. تق��دم أص��غر، ط��رق زج��اج س��يارة وض��عوا "عب اإلسعاف وقال: "قال الحكيم الطيب، إن الخميني ابن الزهراء عليها الس��الم. أفتترك هذا السيد وحيدا وتهرب في ليلة عاشوراء هذه؟!". أجاب عباس: "أن�ا

جريح يا حاج أصغر".

قال: "ما هذا الجرح؟ لقد أصبت بشظية صغيرة؛ شظية "آخ طهران"أتريد أنتتهرب وتذهب إلى طهران؟".

لم يتف���وه عب���اس بكلم���ة، واكتفى ب���النظر إلى أص���غر، ثم انطلقت س���يارةاإلسعاف.

بعد دقائق عاد عب��اس. من دون ض��ماد على رجل��ه، وال��دم ي��نزف من رأس��ه؛مرهقا ومنقطع األنفاس.

قلت: "أرأيت يا حاج أصغر، لقد عاد عباس!"

��ني لس��ت رفيق��ا توجه عباس إلى أص��غر وق��ال: "قلت ل��ك ي��ا ح��اج أص��غر، إنلنصف الدرب".

Page 474: books.almaaref.orgbooks.almaaref.org/static/documents/zoqaq.doc · Web viewكلّ هذه الذكريات والأصوات، کانت لا تزال تتردّد في زوايا حنجرة

474

توجه نحو المثلث، بدا خائر القوى. جاء خلفه رج��ل متق��دم في الس��ن وق��ال: "أنا سائق سيارة اإلسعاف تلك، يا أخي ماذا قلت لهذا الصبي حتى طلب مني التوقف في وسط الطريق وتحت نيران المدافع والقذائف؟ لم أتوقف، ظننت أنه صبي وال يعي بأنه مجروح. فجأة ثار غضبه وكسر زج��اج س��يارة اإلس��عاف

برأسه ورمى بنفسه إلى الخارج".

مضت هذه القصة. عن��د أذان المغ��رب، أديت ص��التي خل��ف الس��اتر في بض��عدقائق؛ بالحذاء العسكري ومن جلوس. بعد الصالة طلبني الحاج محمد.

ذهبت إليه، كان الحاج جالسا في الدشمة. كان واض��حا من هيئت��ه أن ال جن��ود كفاية لدي��ه؛ ب��دا مض��طربا وقلق��ا من الوض��ع. فمس��ؤوليته أثق��ل من الجمي��ع،

وعليه قيادة عدة كتائب.

��ه إن أردت التوق��ف هن��ا، فعلين��ا أن نأخ��ذ من ق��ال: "أبلغت من المرك��ز، بأن العراقيين موطئ ق��دم لن��ا. فه��ؤالء، س��يحتلون المثلث ع��اجال أو آجال. وعليكم

القيام بعمل ما..".

��ات، تفتح مجموع��ات - أين ن��ذهب ي��ا ح��اج؟ ففي الليل��ة األولى من العملي المعلومات المعابر، فنقوم نحن بمهاجمة الخط. أما اآلن فنحن في مكاننا منذ ي���ومين، وهي الليل���ة الثالث���ة الش���تباكنا. يري���دون لمجموع���ة من الق���وات المتضعضعة أن تهجم على ع��دو متيق��ظ تمام��ا؟ وذهابن��ا ه��و كمن يخفي طبال

تحت البساط! ال شيء أسوأ بعد من هذا..- إنها األوامر العليا، علينا أن نهجم الليلة.

- أنا ال أقدم على خطوة مثل هذه.- إنك إذ تدعي الشطارة، لم تقم بالهجوم إلى اآلن، إنما قمت بالدفاع

Page 475: books.almaaref.orgbooks.almaaref.org/static/documents/zoqaq.doc · Web viewكلّ هذه الذكريات والأصوات، کانت لا تزال تتردّد في زوايا حنجرة

475

فحسب. - ال أريد منك أن تعطيني عالمة. أوال، إن ك��ان م��ا قمن��ا ب��ه دفاع��ا، فق��د قمن��ا��ا؛ ورأين��ا م��اذا فع��ل أبن��اء الن��اس. فلت��ذهب بالدفاع أربع مرات. ولم نكن عمي

الكتائب األخرى إلى خط الدفاع. - ال، فأولئك أيضا لن يذهبوا، لقد أص��بحت س��يرتك على ك��ل لس��ان. فقم أنت

بالهجوم.- لن أفعل.- هذا أمر.

- ماذا ستفعل لي مثال؟ افعل شيئا إن كنت رجال. أنا تعب��وي. يوج�د ك�ل ه�ؤالء العناص��ر من الح��رس، اس��تدعهم لل��نزول إلى األرض، ودعهم يعمل��وا. أن��ا لن

أقدم على هذا األمر.- أترى يا أصغر؟!

قال أصغر: "ينبغي للعمل أن يأتي بنتيجة. ال دخل لألمر بنقاش وجدل الس��يد.هذه األرض ال تستجيب لنا".

تعقدت األمور. ومهما حاول الحاج محمد لم أقبل.

بالنهاية قلت: "فلننزل إلى األرض ولنر ما يجري في تل��ك الناحي��ة. لن أس��مح لقواتي أن ت��نزل الليل��ة إلى المي��دان. أخ��بر الجمي��ع ب��أنني خ��ائف. ال مش��كلة

لدي".

استاء الحاج محمد كثيرا. اتصل عبر الجهاز بقائد كتيبة أنص��ار الرس��ول ص��لى الله عليه وآله وسلم "جعفر محتشم"؛ وذلك لكون كتيبة الشهادة ال��تي ك��انت كتيبة االحتياط بالنسبة لنا، قد تالشت وال يمكنها القتال. جاء جعف��ر، فق��ال ل��ه

الحاج محمد:

Page 476: books.almaaref.orgbooks.almaaref.org/static/documents/zoqaq.doc · Web viewكلّ هذه الذكريات والأصوات، کانت لا تزال تتردّد في زوايا حنجرة

476

"عليك أنت أن تقوم بالهجوم".

قال جعفر: "يوجد من العناص��ر في كتيب��ة "ميثم" س��بعمائة، ونحن كلن��ا مائت��اعنصر..".

أجاب الحاج محمد: "إنهم خافوا وانسحبوا".

بعد عدة دقائق، جاء جعفر وبور أحمد، وكانا من أسود هذا الجمع، وقادة كتيبةأنصار الرسول صلى الله عليه وآله وسلم وجاء الحاج "أميني".

وجرى الحديث نفسه الذي ج��رى بي��ني وبين الح��اج محم��د، بين "ب��ور أحم��د"و"جعفر".

قلت لجعفر: "أنت تعلم أنك أك��ثر مني تجرب��ة ومعرف��ة؛ لكني أنص��حك ب��أن التقدم على هذا األمر".

كان الحاج محمد ومن في المقر م��ا بين العش��رة والعش��رين نف��را، وبالنهاي��ةرجحت كفتهم.

قال الحاج محمد لهم: "استعدوا بسرعة، عليكم أن تهجموا على الخط".

نقل بور أحمد قواته إلى نقط��ة االنتش��ار، خل��ف الس��اتر الن��وني. ص��عدنا نحن الخمسة نحو أعلى الساتر الترابي ووقفنا هناك إلى ج��انب بعض��نا البعض، أن��ا و"محم��د ك��وثري" و"أك��بر ع��اطفي"، و"جعف��ر محتش��م". ك��ان الح��اج محم��دا إلى ممتعضا مني، والغضب باديا على وجهه. رأينا الج��رحى مط��روحين أرض��

الجانب اآلخر من الساتر. لم يكن باإلمكان سحبهم، وال تركهم.

تقدمت قوات "ب��ور أحم��د" في جنح الظالم، به��دوء وب���"مش��ية البط��ة"، وفيلحظة واحدة اتخذوا مواضعهم وانتشروا. وكما توقعت، فجأة أنير

Page 477: books.almaaref.orgbooks.almaaref.org/static/documents/zoqaq.doc · Web viewكلّ هذه الذكريات والأصوات، کانت لا تزال تتردّد في زوايا حنجرة

477

السهل كما ضوء النهار. فالدبابات المصطفة إلى جانب بعضها البعض، شغلت كشافاتها الضوئية، فأصبح السهل المظلم منيرا كوض��ح النه��ار. ثم��ة أك��ثر من

مئتي دبابة؛ تماما كما في األفالم!

يعلم رب محم��د، أنهم ش��غلوا الدوش��كا وش��لوا حرك��ة الجمي��ع! راح اإلخ��وة يتساقطون كورق الخريف، ولم يستطيعوا حتى إطالق رصاص��ة واح��دة. بعضا ليق�وا أنفس�هم ن��يران العناصر الذين كانوا ما زالوا في الخلف، انبطحوا أرض��

الدبابات بالحد األدنى.

بعد عدة دقائق، جاء بور أحمد من خلف الساتر الهاللي نحونا. كان غاضبا جدا إلى الحد الذي لو طعنته بسكين ال تخرج منه قط��رة دم. توج��ه إلي وك��ال لي

ا جدا، أليس كذلك؟". بعض الكلمات القاسية وقال: "تظن نفسك ذكي

قلت: "ال تثر الجلبة يا عم! أنت اآلن منزعج! ماذا يع��ني ال��ذكاء؟ لم ذهبت إن كنت ال تريد ذلك. أنا قلت لجعفر ب��أن ال يق��دم على ه��ذه الخط��ة؛ وليس اآلن

وقت ذلك".

توجه الحاج محمد إلي قائال: "ال تثر جوا معينا". - أي جو؟ كان من الواضح أن العراقيين متربصون بن��ا في الس��هل؛ أنت أخ��بر

بهذا األمر..

امتد الجدال قرابة الساعة؛ لم يفض إلى نتيجة؛ فهذه هي القيادة؛ تعني عالمامن المسؤولية؛ وأعصاب المرء تتلف كل دقيقة.

عند الفجر، انسحب من تبقى من الكتيبة والجرحى وهم يعرجون أو يزحف��ون، فنقل المسعفون من كانت حاله وخيمة من الج��رحى إلى خل��ف الس��اتر حيثة، لم يرس��ل جعف��ر محتش��م غرفة الطوارئ الفورية. بناء على تجربته الخاص��

السرية األخيرة، وهجم على خط دفاع العدو بسريتين

Page 478: books.almaaref.orgbooks.almaaref.org/static/documents/zoqaq.doc · Web viewكلّ هذه الذكريات والأصوات، کانت لا تزال تتردّد في زوايا حنجرة

478

فقط، واستمر األمر حتى الصباح.

في الصباح، غير العراقيون تنظيم دباباتهم، وكان من الواضح ما الذي يريدونفعله. لقد مألوا السهل بالدبابات وجلسوا ينتظروننا.

وصادف ذلك الي�وم ش�هادة الزه�راء عليه�ا الس�الم. ن�اديت "حس�ين س��ازور"وقلت: "حسين، اقرأ لنا زيارة عاشوراء!".

جلس حسين في مكانه خلف الساتر الترابي وشرع بق��راءة زي��ارة عاش��وراء.تحلقنا حوله. عمتنا حال معنوية وبكينا.

في تلك األثناء، كان عناصر كتيبة اإلمام الحسين عليه السالم الذين نزلوا إلى��ا. الميدان للتو، وأرادوا استالم الخط منا، يتموض��عون إلى الج��انب األيس��ر منا وحين س��معوا ص��وت ق��راءة الزي��ارة تس��مروا في أم��اكنهم، جلس��وا أرض��

وشاركونا البكاء.

كان مسؤول كتيبتهم يناديهم ويقول: "لم ال تأتون؟ لم ال تأتون؟".

ة مثلث الش��هادة تختل��ف عن ك��ل اشتهر ذلك المك��ان بمثلث الش��هادة. وقص�� األمكنة؛ كانت مجزرة، بحيث إن ك�ل ش��خص يص��ل إلى تل��ك المنطق��ة وي��رى ذلك المنظر الرهيب، تحصل ل��ه ح��ال غريب��ة ويت��ذكر مص��ائب الزه��راء عليه��ا السالم. فاإلخوة الذين كانت إلى األمس تسمع أصوات أحاديثهم، وض��حكاتهم،

قد سقطوا مظلومين، وتطايرت رؤوسهم وأيديهم بهدوء.

ما بين الساعة العاشرة والحادية عشرة ص��باحا، ج��اء "س��عيد س��ليماني" إلىالخط. سألته: "أين الحاج محمد؟".

قال: "كان متعبا، ذهب إلى الخطوط الخلفية ليستريح. فه��و لم ينم من��ذ ع��دة أيام وقد تلفت أعصابه. ولقد تشاجر م��ع "ب��ور أحم��د" وم��ع "نص��رت غ��ريب"

فاقترحت عليه أن يذهب وينام قليال.

Page 479: books.almaaref.orgbooks.almaaref.org/static/documents/zoqaq.doc · Web viewكلّ هذه الذكريات والأصوات، کانت لا تزال تتردّد في زوايا حنجرة

479

اشتكيت وقلت: "أولسنا بشرا؟ لم ال تبدلوننا؟".

قال: "ليس لدينا قوات".

أشرت إلى كتيبة اإلمام الحسين عليه السالم وقلت: "وما هم هؤالء إذا؟".

قال: "ينبغي أن نحضر هؤالء إلى سهل "شلمتشه" ليقوموا بعمل ما". شهيدا، وما بين المائتين والثالثمائة ج��ريح،170- لدينا سريتان ال أكثر. قدمنا

وعدد ما بقي منهم يتراوح بين المائة والثالثين والمائة واألربعين نف��را، أص��يبنصفهم أيضا بشظايا صغيرة وكبيرة.

- سأرى ما يمكن فعله.

في منتصف الليل، جاء بريد الكتيبة وق��ال: "الس��يد س��عيد يتح��دث م��ع الح��اج��ة. ويق��ول محمد. الظاهر أنهم قرروا س��حب كتيب��ة ميثم إلى الخط�وط الخلفي س���عيد س���ليماني إن أي كتيب���ة س���تحل مك���ان كتيب���ة "ميثم" لن تس���تمر،

وستنسحب".

ا في حف��رة الدش��مة عدت مرة أخرى إلى سعيد س��ليماني ال��ذي ك��ان جالس�� ويتكلم عبر الجهاز. كنت أعرف ماذا أفعل. لم أخج��ل. وقفت خ��ارج الدش��مة، ت��وجهت إلى س��عيد وقلت: "انظ��ر عزي��زي س��عيد، إن ب��دلتنا من اآلن حتى الس��اعة الثاني��ة والنص��ف، ك��ان ب��ه، وإن لم تب��دلنا، س��نخلي الخ��ط في تم��ام الساعة الثانية والنصف. أنت تعرف�ني؛ عن�دما أق�ول س��أخلي، يع�ني س�أخلي.

وتعلم ما سيجري مع العراقيين..".- وهل هناك من خصام بيننا؟

- لست على خالف مع أحد. دعني أقول لك ما هو وضعنا. أخبرني، هل عملتهذه الكتائب الثالث كما ينبغي؟

- من تلك الكتائب الثالث، لم يبد شيئا من كتيبة سلمان واألنصار؛

Page 480: books.almaaref.orgbooks.almaaref.org/static/documents/zoqaq.doc · Web viewكلّ هذه الذكريات والأصوات، کانت لا تزال تتردّد في زوايا حنجرة

480

ا ف�أنت رأيت أنهم�ا كش�فا ك�ل أوراقهم�ا. تبقى كتيب�ة "كمي��ل" ال�تي هي أيض����رق ��ات قبلكم. وق��د اخت ا ق��امت بالعملي خاضت مواجهة. وكتيبة "مق��داد" أيض�� ج��انبهم. واآلن تعق��دت أموره��ا. كت��ائب المق��داد وح��بيب وعم��ار ق��اتلت حتى الص��باح. وعن��دما ن��زلتم أنتم إلى األرض، انس��حبوا. وأنت كنت الش��اهد على

ذلك..

كربالء" بخبرة، ولم تسلم الجهة اليمنى، لما آلت األم��ور25- لو عملت كتيبة "ا. عندما جئت إلى هن��ا لالس��تطالع، إلى ما آلت إليه. رأسمالها كان ساترا ترابي كانت القوات قد الذت بالقن��اة ذات الج��دارين، وأنهت العم��ل. رأيت أن كتيب��ة

"كميل" تنقصها القوات. وما بقي منها لم يكن صلبا وثابتا..

رفع سعيد رأسه ليجيبني، فجأة، قطع كالمه. فقد شرع الع��راق ب��إطالق واب��ل من النيران لم أر مثلها طوال الحرب! لم يكن يحرث األرض؛ بل يزلزلها. كان

الساتر الترابي يهتز ويرتج.

حمى سعيد رأسه بيديه وجلس القرفصاء في حفرة الدشمة، أما أن��ا ف��زحفت ولذت بكتف الساتر. لم تكن المسافة بيني وبين سعيد تتج��اوز الم��تر الواح��د.

لكن مهما صحت مناديا "سعيد، سعيد" لم يسمعني من شدة النيران!

نهض��ت بص��عوبة من مك�اني، وركض��ت وس��ط الن�ار وال�دماء نح��و المثلث. لما. وذهبت يخطر ببالي أن أذهب إلى سعيد وأنظر ماذا حل ب��ه. لق��د نس��يته كلي

إلى المكان الذي يجتمع فيه معظم اإلخوة؛ أي مثلث الموت.

ك�انت الس��اعة تق��ارب الثالث��ة ص�باحا حين وص��لت كتيبت�ا ح��بيب وعم��ار لتحال مكاننا. جاءت س��رية من س��رايا ح��بيب، فجمعت ب��دوري س��رية من عناص��ري

وأرسلتها إلى الخطوط الخلفية.

Page 481: books.almaaref.orgbooks.almaaref.org/static/documents/zoqaq.doc · Web viewكلّ هذه الذكريات والأصوات، کانت لا تزال تتردّد في زوايا حنجرة

481

خفت حدة النيران. وكأن العراقيين أدركوا أن العمل شارف على النهاية. كان اإلخوة يقولون: إن كل من ينجو بنفسه من مثلث الم��وت فلن يم��وت بع��دها.ما، يطل��وه بم��اء ال��ذهب، ويض��عوه في س��احة وينبغي أن يص��نعوا ل��ه مجس��

المدينة! وبينما أنا أجمع اإلخوة، ناداني "رض��ا ف��رجي". ذهبت ف��رأيت قذيف��ة س��قطت وسط الدشمة؛ فاستشهد على أثرها كل من "عباس شكوهي" و"محمود روح اللهي". كان جسد عباس قد تناثر أشالء. لم نعثر على رأسه ويدي��ه. أحض��رتا، رحت أجم��ع أش��الءه وأض��عها في��ه، من ثم أغلقت الكيس ا بالس��تيكي كيس��

وسلمته إلى شخصين لينقلوه إلى الخطوط الخلفية.

كما كانت رؤوس اإلخوة وأبدانهم ملوثة بالدماء والتراب. وقد يبس ال��دم على ثيابهم. وقد احمرت أعينهم من عدم النوم، من البكاء، من فراق الرفاق. بقيا إلى جانب القناة ولم يأت أحد لرفعه. جثمان "رضا محمدي" أربعة أيام مرمي لم يبق مكان من تلك األرض الكربة إال وتلون بدماء اإلخوة. فأينما نظ��رت، أر الدماء والدماء فحسب. وكأن الموت كان لعبة. قال اإلخ��وة إن ش��احنتين أتت��ا إلى خ��ط "بنج ض��لعي" الخلفي، وهم��ا اآلن تنقالن الش��باب. قلت: من ك��ان

منكم يستطيع الذهاب إلى الخطوط الخلفية ماشيا فليذهب.

اس��تغرق تب��ديلنا بك��تيبتي "ح��بيب" و"عم��ار" ح��تى الفج��ر. لم أكن وأص��غر مستعدين لذلك. فقد تورم وجه أصغر واسود، أم��ا أن��ا فلم أع��د أش��عر بي��دي. لكنن��ا انتظرن��ا ريثم��ا يخل��و الخ��ط من ش��باب "ميثم". بع�دها ذهبن��ا مش��يا إلى الخطوط الخلفية. في منتصف الطريق، جاء بريد الكتيبة وراءنا، فركبن��ا خلف�ه وانطلقن��ا نح��و خ��ط "تش��مران" الخلفي. وكالع��ادة، ذهب أص��غر إلى اإلخ��وة،

وذهبت أنا إلى مقر الفرقة. وهناك، كان أحدهم قد أشعل موقدا

Page 482: books.almaaref.orgbooks.almaaref.org/static/documents/zoqaq.doc · Web viewكلّ هذه الذكريات والأصوات، کانت لا تزال تتردّد في زوايا حنجرة

482

��ا إلى درج��ة لم أع فيه��ا على من أس��لم ووضع فوقه إبريق الشاي. كنت منهك ومن يسلم علي. تيممت، وأديت صالتي أس��فل أح��د األخادي��د. ومن ثم ذهبت وجلست إلى جانب النار، وخلعت حذائي العسكري الذي لم يفارق رجلي من��ذ خمسة أيام. كنت أشعر بالخدر واالرتخاء. لم أكن ملتفتا لوجعي. كنت كأب قد فجع بأوالده؛ اجتمعت غموم العالم وهمومه في قلبي، فلم أعد أطي��ق ص��برا. فالمصائب والفجائع ال��تي حلت ب��اإلخوة، ومثلث الم��وت ذاك، جعلت أح��والي

خربة أكثر من الخراب نفسه.

ال أعرف إن تكلمت مع نفسي أم م��ع اإلخ��وة. كنت أه��ذي في ح��ال اليقظ��ة. اعترتني غصة، كادت تخنقني. وإذا بأحدهم يقول: "ما أجمل أن يشرب الم��رء

الشاي مع أحد أبناء الزهراء".

ما إن سمعت باسم الشاي حتى أفقت من هذياني ورأيت مسؤول التجهيزات "شيرازي" يقدم لي فنجانا من الشاي ما زال طعمه في حلقي بعد مرور ك��ل��ام لم أذق طعم الش��اي، ك��ان لذي��ذ الطعم، وق��د أزال تلك السنوات. فمن��ذ أي

بعض التعب عني.

��ات، وانتقلت بع��د الظه��ر إلى بعد ذلك، دخلت المقر ألستخبر عن وضع العملي مخيم "كارون"، فقال لي اإلخوة: إنهم أذاعوا في اإلذاعة بأن غدا سيتم تشييع أجساد كل من "عليرضا نوري"، "جواد صراف"، ج��واد واص��في ف��ر"، "الح��اج

عباديان"، "حسين طاهري" و"مجيد رمضان"، من قاعدة "ولي عصر".

سلمت أم��ر الكتيب��ة إلى "أص��غر"، وركبت و"حس��ين عزي��زي" و"داود ني��ازي"pickو"محمد جعفري" وبعض اإلخ��وة اآلخ��رين ش��احنة " upواتجهن��ا نح��و "

طهران؛ وعلى الرغم من أننا لففنا حولنا كل أكياس النوم

Page 483: books.almaaref.orgbooks.almaaref.org/static/documents/zoqaq.doc · Web viewكلّ هذه الذكريات والأصوات، کانت لا تزال تتردّد في زوايا حنجرة

483

والبطانيات، إال أن برد شهر كانون الثاني لم يكن يعرف المزاح مع أحد.

في وسط الطريق كدنا نتجمد من البرد، فبدلنا أماكننا مع الذين كانوا يركب��ون في مقدمة الشاحنة. حين كانت يدي تتعرض للبرد كان ألمها يزداد. وقد شلت من الكتف ولم أعد أستطيع تحريكها. لم تتسن لي فرصة للذهاب إلى الدائرة

الصحية وتضميدها.

ما بين الس�اعة التاس�عة والعاش�رة ص�باحا، وص�لنا إلى طه�ران. ك�ان مي�دان "شوش" يعج بالمشيعين الذين حملوا جثم��ان "حس��ين ط��اهري" على أكفهم.

]من24فالتحقن��ا بهم وانطلقن��ا نح��و "بهش��ت زه��راء". التقيت في القطع��ة ��اس ه�ادي"، "الش�يخ مه�دي"، "أم�ير بهشت زهراء[ ب��"ناص��ر ش��ريفي"، "عب مخبر" والكثير من الرفاق األعزاء. اشتد الزح��ام وعج المك��ان بالحش��ود. كم�ا سبقنا الكثير من اإلخوة المجاهدين بالمجيء من الخطوط األمامية وال يزالون

يرتدون اللباس الترابي اللون ]اللباس العسكري[.

حملت مكبر الصوت ورحت أتح��دث للن��اس عن محاس��ن "حس��ين ط��اهري":��ام. ك��ان ��ه لم يقم م��ع زوجت��ه خمس��ة أي "لقد تزوج حسين من��ذ ش��هرين، لكن

حسين عماد كتيبة "ميثم"..".

كانت زوجة حسين مصدومة. ال تبكي وال تتكلم، إنما فقط تتف��رج على الن��اسوهي مبهوتة وحيرى.

أكملت: "ما زالت كتيبة ميثم اآلن في الخطوط األمامية تقاتل العدو. وما زالا باإلمام الحس��ين علي��ه الس��الم، لم ي��دعوا الكثير من شباب "ميثم" الذين، حب راية ميثم تسقط أرضا. فقدنا رجاال عظماء. ولقد ردت سرية البقي��ع عش�رات الهجومات. وقاتل ش��باب مق��ر اإلم��ام الحس��ين علي��ه الس��الم قت��ال الرج��ال.

ووقف "يد الله أعاليي" بمجموعة "محمد قزاقي" بشجاعة أمام الهجومات

Page 484: books.almaaref.orgbooks.almaaref.org/static/documents/zoqaq.doc · Web viewكلّ هذه الذكريات والأصوات، کانت لا تزال تتردّد في زوايا حنجرة

484

المتعددة. كما قاتل "مهدوي" بمجموعة الح��اج "س��مندر" الع��دو وجه��ا لوج��ه. وسطر صادقي، طالبي، الحاج رضوي، وإخوان شيرازي، أمير کودرزي، ج��واد

نيا، حسين مجلسي، بور صالح ونجار، المالحم وسط سيل الدماء.

الح��ق أن لي��وث الجبه��ة ق��د خاض��وا معرك��ة اللحم الحي في مقاب��ل الحدي��د.�ا خال�دة م�ع رفاق�ه حس�ين إس�ماعيلي، محس�ن فمحمود جولي�ده خ�اض حرب تقوايي، آشتياني، آذرنوش، شمسيان، نوروزي، فرجي، عب��دي، أمين الرعاي��ا، منفرد، رستمي، حس��ين باش��ي، عب��د الب��اقر أس��تاد آق��ا ومحم��ودي. وأخجلت س��رية "ف��دك" بقي��ادة "أك��بر سربوش��ان" و"علي س��نبله ک��ار" شلمتش��ه. والشجعان المجهولون، حس��ن س��ريري، حس��ين جلي��ل زاده، جعف��ر ك��اظمي، عباس مقدسي، مجتبى توانکر، محمود لطيفيان ورض��ا ب��ور أحم��د، أس��ماؤهم مصدر فخر لنا. هؤالء أصبحوا مصدر فخر لصاحبة فدك. والرج��ال الالم��دعين، محسن قاسمي مسؤول المعدات والذخائر في سرية "الكوثر" كان يض��ع ك�ل ما عنده من السالح الثقيل على طبق اإلخالص ويؤثر على نفس��ه. والح��ق أن الح��اج علي بارس��ا، وأم��ير ت��رابي والس��يد خض��رايي ق��د أدوا وظيفتهم على أحسن وجه. وكذلك علي برادران، رضا هوري��ا، حجت ص��ادقي، الح��اج م�دني،ا. أم��ا والحاج حسين زاكاني، قدموا مساعدة تامة وكب��يرة ولقن��وا الع�دو درس� محمد علي جعفري، حميد مشكي، محمد الله صفت، مجيد باغبان، عباس بور أحمد وأصغر أرسنجاني، فقد استماتوا في القتال وك��انوا مس��تعدين للتض��حية

بأرواحهم.

إننا الليلة وبالنيابة عن جميع ش��باب كتيب��ة "ميثم". س��نقيم مجلس فاتح��ة عنأرواح الشهداء في مسجد المحلة..".

بعد مراسم الدفن، عرجت على البيت. حين دخلت، لم أسمع أي صوت، ك��انالصمت يسود كل أرجاء البيت. صعدت إلى الطبقة العلوية،

Page 485: books.almaaref.orgbooks.almaaref.org/static/documents/zoqaq.doc · Web viewكلّ هذه الذكريات والأصوات، کانت لا تزال تتردّد في زوايا حنجرة

485

فرأيت فاطمة جالسة في الغرفة، وقد أحضرت وعاء ووضعته وس��ط الغرف��ةالتي كان سقفها يرشح ماء ويتقاطر في الوعاء.

بعد التحية والسالم، سألتها: "لم حدث هذا بالسقف؟". - م��ع أن الح��اج "علم��دار" ي��أتي في فص��ل الش��تاء ويج��رف الثلج عن س��طح

المبنى، إال أن هذا البيت أصبح قديما. وليس له مصارف مياه جيدة.- حسنا، لم لم تأتي بأحدهم ليصلحه؟

- لق��د تعم��دت ع�دم إص��الحه. فه�ذا التق��اطر والرش��ح وب��رد الغرف��ة ي��ذكرني بالدشمة والجبهة والمجاه��دين. أش��عر وك��أني في الدش��مة. أحببت أن أعيش

تلك الحال. لذا، لم أصلحه.- قد يسقط، ال قدر الله، على رأسك فجأة!

��ة واألس��باب، رأيت فاطم��ة منزعج��ة وق��د غ��رقت في وبينما أنا أذكر لها األدلالتفكير. كانت سارحة في عالم آخر ولم تستمع إلى كالمي.

علمت أنها ليست منزعجة من قلة المال والمعاش، وأنه��ا حتم��ا منزعج��ة منشيء آخر.

سألتها: "مم أنت منزعجة؟"- لن أذهب إلى المسجد بعد اليوم.

- لم؟ - يشيرون إلي في المسجد بالبنان، ويقولون إن زوج هذه الس��يدة يأخ��ذ أوالد

الناس ]إلى الجبهة[ ويقتلهم...��ه كالم في كالم. - أولئك ال��ذين يجب أن يفهم��وا، يفهم��ون القض��ية... ه��ذا كل

إنهم يفتعلون المشاكل من كالم هراء. ال تلقي باال لكالمهم.

Page 486: books.almaaref.orgbooks.almaaref.org/static/documents/zoqaq.doc · Web viewكلّ هذه الذكريات والأصوات، کانت لا تزال تتردّد في زوايا حنجرة

486

ا حاولت أن أشغلها بمواضيع أخرى وأخرجها من حال االنزعاج تلك. ه��ذه أيض��كانت قصة من قصص الحرب!

في الي��وم الت��الي، ذهبت إلى مستش��فى "باس��تور" الجدي��د لعي��ادة "محم��ود جوليده" الذي نج��ا من الم��وت، وع��اد جس��مه إلى الحي��اة من جدي��د. حين��ذاك كانوا يطلقون عليه اسم "الشهيد الحي". فق��د فرغ��وا إح��دى عيني��ه، وتعطلت رجاله، إذ اخترقت شظية نخاعه الش��وكي فأص��يب بالش��لل الت��ام. كم��ا طحن عظم وركه وتقطعت أمعاؤه. كان غائبا عن الوعي. وبين الفينة واألخرى يفيق

ويئن أنة خفيفة بين النوم واليقظة، ومن ثم يغيب عن الوعي.

سألته: "كيف حالك يا محمود؟".

لم يجبني.

في تلك الغرفة أيضا كان يرقد بريد الكتيبة "حميد مشكي". وقد ت��أذت رئت��اه، فأعطي بالونا، فكان ينفخه على الدوام ويفرغه من الهواء، ويعود ويفعل ذل��ك

من جديد.

كما كان "حسين بابايي" ممددا على سرير في ناحية أخرى من الغرف��ة. وه��وا، إذ لم يبق مك��ان من بدن��ه س��الما، ولم يكن أفض��ل ح�اال أيضا كان شهيدا حي

من محمود.

عدت إلى الجبهة في الصباح الباكر من اليوم التالي. وكان اإلخوة قد استقروا في مخيم "كارون". وجدت أص��غر فق��ال لي: "في غياب��ك، ع��اش المخيم في حال تیه وضیاع. وفي هذين اليومين، تش��اجر ه��ؤالء داخ��ل الخيم م��ع بعض��هم البعض عشرات المرات. لقد تلفت أعصابهم. فمنذ أيام وليال لم يذوقوا طعم النوم. يمزقون قمصانهم، أو يجلسون وينتحبون. هؤالء فقدوا أع�ز أص�دقائهم؛

وتجرعوا غصتهم. والشخص السليم من بينهم، فهو

Page 487: books.almaaref.orgbooks.almaaref.org/static/documents/zoqaq.doc · Web viewكلّ هذه الذكريات والأصوات، کانت لا تزال تتردّد في زوايا حنجرة

487

ق الغ��از الكيمي��ائي* . بق��وا أه��ل الش��هامة1إما مصاب بصدمة نفسية، أو تنش��هؤالء جميعا؛ ومع أنهم أصيبوا بشظايا، إال أنهم رفضوا االنسحاب".

دخلت الخيمة ألطمئن إلى حال اإلخوة، فوجدت أصغر محقا في كالمه. ك��انوا جميعا معصوبي األيدي والرؤوس. وقد أصيب كل واح��د منهم في موض��ع م��ا؛

لكنه لم ينسحب.

ا ال قلت ألص��غر: "لق��د فع��ل ه��ؤالء فع��ل الرج��ال إذ لم ينس��حبوا. لكنهم أيض�� يمكنهم النزول إلى ساحة المعركة والقتال. فأجسادهم خربة، وكذا نفسياتهم.

تعال اليوم لنحييها".

أجاب أص��غر: "أرس��لت بعض اإلخ��وة إلى مق��ر ال��دعم والتجه��يزات ليحض��روا��ات، لكن هن��اك اآلليات حتى نرسل الشباب في إجازة، فقيل: ال يوجد لدينا آلي خمس آليات ستأتي في الساعة الخامسة بعد الظه��ر لتنق��ل كتيب��ة عم��ار إلى الخطوط الخلفية؛ ولوال ذلك لكنت أرسلتهم إلى طه��ران من��ذ األمس". قلت:

"2"سأحتال هذه الحيلة على شباب التجهيزات لترى نفس السيد!

ذهبت واس��تخدمت الفت��ة "كتيب��ة عم��ار". وكتبت عليه��ا "ميثم" ف��وق كلم��ة"عمار".

في الس��اعة الخامس��ة بع��د الظه��ر، أوقفت اإلخ��وة في ص��فوف منتظم��ة��ة من تلق��اء ��ني أرس��لكم في مأذوني وأحص��يت ع��ددهم وقلت: "انظ��روا... إن نفس��ي وباختي��اري. ستص��لون إلى طه��ران في الص��باح الب��اكر من الغ��د.

تستريحون إلى ما بعد الغد، وفي اليوم الذي يليه عليكم أن تكونوا هنا

1 . كيماوية أو نفسية حالة عبر2 . سيفعل ماذا بنفسك لترى

Page 488: books.almaaref.orgbooks.almaaref.org/static/documents/zoqaq.doc · Web viewكلّ هذه الذكريات والأصوات، کانت لا تزال تتردّد في زوايا حنجرة

488

ولو أمطرت السماء حجارة".

أركبنا اإلخوة في الحافالت وأرسلناهم. المس��اکین، ش��باب كتيب��ة عم��ار، بق��وامنتظرين الحافالت إلى الليل ويتساءلون: لم لم تأت الحافالت يا عم؟!

قام "محمد الله صفت" وثالثة أو أربعة من اإلخوة، بعمل رج��ولي ومكث��وا فيالمخيم ليحرسوا الخيام. وذهبت وأصغر إلى مقر الفرقة.

��ة، وتغ��ير على مخيم ك��ارون؛ وقدر في اليوم التالي أن تأتي الطائرات العراقيلكن من حسن حظنا، أن الخيم كانت خالية، ولم تقع أي خسائر في األرواح.

اتصل الحاج محم��د ع��بر الجه�از ب���"محم��د الل��ه ص��فت" ليس��تخبر كم ش��هيدا س��قط؟ فأج��اب "محم��د الل��ه ص��فت": "وال واح��د، فق��د أرس��لنا الجمي��ع في

مأذونية".

غضب الحاج محمد وقال: "لم أرسلتموهم؟ ومن الذي أذن لكم أن ترس��لوهم في مأذونية من تلقاء أنفسكم؟". بعد العودة من المأذونية، ذهبت وأصغر إلى

مقر الفرقة عند الحاج محمد. سلمنا وجلسنا.

لم يرد الحاج محمد علي السالم. كان غاضبا بحيث إن طعنته بسكين ال يخ��رج�دين منه ال�دم. توج�ه إلى أص�غر وق�ال: "لق�د حملت جماع�ة من الن�اس الجي

وجئت بهم معك، .. من الذي أذن لكم بإرسال القوات في مأذونية؟".

قلت: "أنا فعلت؟".

تصاعد األمر، واحتدم الجدال بيننا. في النهاية، توج��ه الح��اج إلى أص��غر وق��الله: "فلتستعد، عليك الذهاب إلى خطوط الدفاع. اجمع قواتك؛

Page 489: books.almaaref.orgbooks.almaaref.org/static/documents/zoqaq.doc · Web viewكلّ هذه الذكريات والأصوات، کانت لا تزال تتردّد في زوايا حنجرة

489

ألن الع��راقيين اس��تعادوا المثلث من كتيب��ة "حم��زة". وكتيب��ة كمي��ل في خ��ط الدفاع، فلتذهبوا أنتم ولتأخذوا مكانها. من اآلن فصاعدا، سيكون حديثي مع��ك

فحسب".

أجابه أصغر: "لقد أتينا مع السيد، وسنذهب معه. إن رحل السيد، فسأرحل أنا أيضا في الغد. ولست أنا وحدي، كل كتيبة ميثم سترحل. ول��و ك��انت العناص��ر انس��حبت بنفس��ها وت��ركت الخ��ط، لقلتم: ليس ل��ديكم الق��درة على جم��ع

قواتكم".قال الحاج محمد: "لقد تحزبتما إلى بعضكما البعض؟".

خرجنا كالنا من المقر.

�ني في ق�رارة نفس�ي، رأيت�ه محقا. كنت أستطيع الرد على الحاج محم�د؛ لكن لقد كان يريد إعمال قيادته، عالما بأنه ال يستطيع القتال بسيف خش��بي. ف��إن فقدت العناصر همتها وطاقتها، فإنها ستتلف من دون سبب؛ ولو ك��ان الجمي��ع مثلي، فلن يبقى حجر على حجر وسيسود اله��رج والم��رج في المق��ر. لم أكن أقصد التمرد وعصيان األوامر. أردت أن أحول دون التسبب بأض��رار؛ لكن، لم

يتفهمني أحد حينها.

ذهبت وأصغر إلى مقر الكتيبة لننظم القوات. فبعد تلك الضربة ال��تي تلقيناه��ا في المثلث، بقي ل��دينا مائت��ان وخمس��ون عنص��را، أص��يب معظمهم بإص��ابات طفيفة. ولم يكن لدينا قوات جديدة. وأنا نفسي كنت مربوط الكتف، ولم أكن

مستعدا كفاية.

قررنا من أجل الحؤول دون وقوع الخسائر، أن نأتي بس��رية من العناص��ر إلى خط الدفاع. فأرسلت في البدء سرية "نينوى" إلحكام ]دفاعات[ الخط، وك��ان

يقودها "أصغر أرس" و"غالم غلياف".

Page 490: books.almaaref.orgbooks.almaaref.org/static/documents/zoqaq.doc · Web viewكلّ هذه الذكريات والأصوات، کانت لا تزال تتردّد في زوايا حنجرة

490

فخط الدفاع كان غير مالئم بعض الشيء. ومقر التكتيك ك��ان عن��د بداي��ة "بنج ضلعي"، فعندما استعادت القوات العراقية المثلث، انسحب اإلخوة إلى مكان

قريب من مقر التكتيك.

بنينا دشمة دفاع إلى األمام قليال من مقر التكتيك.

كانت الدوريات العراقية تجول من وقت آلخ��ر في المنطق��ة، ت��راقب الوض��ع،وإذا ما سنحت لها الفرصة، تكبدنا الخسائر. كنا في مرمى نيرانهم تماما.

��رون كما كانوا هم تحت مرمى نظرنا. فنحن نرى تحركاتهم. وهم كل ي��وم يغي طريقة صف دباباتهم. فيوم��ا يص��فونها إلى ج��انب بعض��ها البعض، وفي الي��وم الثاني يصفونها في ط�ابور، وبع�ده يض�عون واح�دة في المقدم�ة وواح�دة في

الخلف.

أما جرافاتهم، فظلت ترفع السواتر الترابية ليال نه��ارا. فك��انوا يبن��ون الس��واترالعريضة والممتدة، أو يطيلونها من الطرفين.

طلبت من اإلخوة أن يحفروا دشما على حافة الماء، وأن يعلوا أسقفها إذا م��ا��ة عالي��ة كث��يرا كانت منخفضة، وذلك ليكونوا مرتاحين. لم تكن سواترنا الترابي لنحفر في كتفها الدشم. ومن كثرة ما أصاب الساتر من قذائف مباشرة، فقد تالشى، فكان اإلخوة يمرون من خلفه منحني الرؤوس إذا ما اض��طروا ل��ذلك. کان العراقيون يتموضعون في أعلى الجادة الترابية ويشرفون على المنطقة.

ملم؛ فكانت كل ي��وم ته��ز الس��اتر ع��دة60وقد نصبوا منصة قذائف من عيار مرات.

وزعنا القوات ابت��داء من أول المثلث، ونش��رناهم مجموع��ات مجموع��ات إلى الجهة اليسرى، فأحكمنا الخط. كم��ا وزعت وأص��غر و"علي زاك��اني" األعم��ال على بعضنا البعض، فكان واحد منا يبقى في خط الدفاع يدير اإلخوة. اكتس��بنا

شيئا من الخبرة، فبنينا دشمة كبيرة إلى جانب الماء،

Page 491: books.almaaref.orgbooks.almaaref.org/static/documents/zoqaq.doc · Web viewكلّ هذه الذكريات والأصوات، کانت لا تزال تتردّد في زوايا حنجرة

491

ا وغطينا سقفها بالصفيح، ودعمناه بأكياس الرمل. كم��ا بنين��ا إلى جانبه��ا مم��رمن أكياس الرمل حتى ال تسقط القذائف فيه.

ذات يوم، عند الساعة الثانية بعد الظهر، جاءت الدوريات العراقية إلى الجادة وأسرت أحد حراسنا. وفيم��ا ك��انوا يجرون��ه به��دوء، التفت الش��باب من داخ��ل الدشم لذلك، فراحوا يرمونهم بوابل نيرانهم. أصيب أحد الجنود العراقيين منا. كم�ا أص��يب األخ الح��ارس؛ فأس��رع اإلخ�وة وس��حبوه. الخل��ف وس�قط أرض�� تفقدت الدشم عدة مرات. فالقوات تشعر باالطمئنان حين ترى قائ��دها. كنت أدخ�ل الدش��م، أخال�ط الش�باب وأتس�لى معهم، أخ�برهم النك��ات، وأقص لهم القصص والحكايات، وأنشد لهم األشعار، فنمرح ونضحك معا. حين أنظ��ر إلى وجوههم أعرف أي حال يعيشها المرء؛ هل هو مش��تاق لرفيق��ه ]الش��هيد[، أم ألمه. بالنهاية، كان بعضهم صغير السن، قليل التحمل، فأرسلهم إلى الخطوط الخلفية على الفور. شباب طه��ران فحس��ب، ك��انوا ص��بورين؛ وحتى إن ع�انوا حال إسهال واستفراغ ال ينبسون بأي كلمة. أوصيتهم بعدم التردد في المك��ان إال عند الضرورة. ففي الصباح كان شباب الدعم يأتونهم بالطعام، حين يك��ون ن��ور الش��مس يس��طع في أعين الع��راقيين فيمنعهم من الرؤي��ة. ذات م��رة

أحضروا الطعام في الليل وقد أطفأوا مصابيح السيارات.

��ام بتب��ديل مك��ان الق��وات، وذل��ك ليتنفس��وا ه��واء قمت كل أربعة أو خمسة أيجديدا، وال يملوا من ]وضعية[ الدفاع.

وكان اإلخوة يقولون لي: "سيد، تعال كل ليلة إلينا، فقد انقبضت أحوالنا هنا".

��ة الكالم. فق��د امتن��ع أما أصغر فظل يتفقد اإلخوة في كل نقط��ة؛ لكن م��ع قلعنه دائما، تاركا لي الحديث قائال: "أنت تعرف أكثر مني ماذا تقول

Page 492: books.almaaref.orgbooks.almaaref.org/static/documents/zoqaq.doc · Web viewكلّ هذه الذكريات والأصوات، کانت لا تزال تتردّد في زوايا حنجرة

492

وكيف ستقوله".

كان بصمته وروحه المعنوية وهدوئه يمد العناصر بالمعنويات والسكينة. وأك��ثرالعناصر شغبا يهدأ إلى جانب أصغر.

سأل أحد اإلخوة: "سيد، أيمكن لنا أن نصنع الكب��اب من ه��ذه األس��ماك ال��تيسقطت ]ماتت[ في المستنقع ونأكلها؟".

ا حتى يحل أكله". فأجاب أصغر: "ينبغي للسمك أن يخرج من الماء حي

��ا وألن "حس��ين إس��ماعيلي" يحف��ظ بعض أش��عار حاف��ظ عن ظه��ر قلب، فكن نجلس في الدشمة معا ونتبارى في إنشاد الش��عر، وإذا م��ا ص��ادف وأخط��أت في قراءة بيت، يأخذ بمعصم يدي، ويسجل علي نقط��ة. كث��يرا م��ا مزحن��ا م��ع��دا، ويع�رف كي��ف يخت��ار ردوده ا جي بعض��نا البعض وتجادلن��ا. لق�د ك��ان منافس��

ويوجه الكلمات الالسعة.

��ة، وفي ة في الق��وة البحري انضم حسين في السابق إلى عداد القوات الخاص�� كتيبة ميثم كان من أفضل قوات النخبة. في هذه األيام األواخ�ر، أخ�رج نفس�ه من عالم العسكر. وصار قلم�ا يخال�ط أح�دا، وراح يبحث عن الش�عر وص�ناعة الشعر. حينذاك سمعت أن له ابن��ة. وأمكن لخبرت��ه وش��جاعته تل��ك أن تدفع��ها ومتواض��عا. على ه��ذا المن��وال م��رت ليكون من أهل االدعاء، لكنه ظ��ل ترابي األيام. واأليام الخمسة ص��ارت أس��بوعين، ولم يج��ر تب��ديلنا ب��أي كتيب��ة؛ وك��أن

الحاج محمد أراد أن يرد لنا الصاع صاعين!

بقي يومان أو ثالثة لحلول مولد الزهراء عليها السالم، وكان قد مض��ى قراب��ة الثمانية والثالثين يوما على العمليات، ف��ذهبت إلى المق��ر عن��د الح��اج محم��د. فبعد قضية المثلث، مباشرة عدنا نرمي التحية على بعضنا البعض؛ وكان كالن��ا

ممتعضا وغاضبا من اآلخر.

Page 493: books.almaaref.orgbooks.almaaref.org/static/documents/zoqaq.doc · Web viewكلّ هذه الذكريات والأصوات، کانت لا تزال تتردّد في زوايا حنجرة

493

قلت للحاج: "إننا في خط الدفاع منذ خمسة عشر يوما، ولقد قدمنا ش��هيدين وقرابة السبعة أو الثماني��ة ج�رحى. لم ال تق�وم بتب��ديلنا؟ فق��د أجه�د اإلخ�وة".

قال: "يجب عليكم البقاء هذه المدة".

رجعت إلى الخط وقلت ألصغر: "لم أستطع أن أق�ارع الح�اج. اذهب وق�ل ل�ه إننا نريد إقامة احتفال بمناسبة والدة الزهراء عليها الس��الم بع��د الغ��د. وينبغي

للكتيبة أن تنسحب إلى الخطوط الخلفية".

ذهب أصغر ونقل الرس��الة إلى الح��اج محم��د ال��ذي أجاب��ه: "س��أرى م��ا يمكنفعله".

في اليوم التالي، أرسلت أصغر إليه مجددا وقلت: "قل له إن لم تس��حبنا غ��دا إلى الخطوط الخلفية، سنخلي الخط. ها قد رددت الصاع لنا، وأبقيتنا في خط

الدفاع لخمسة عشر يوما، بقي..".

بعدها أرسلت "رضا هوريا" و"حسن أرس��نجاني" و"داوود ني��ازي" إلى األه��واز ليش��تروا الحل��وى. وكلفتهم ب��أن ي��ذهبوا إلى مخيم "ك��ارون" ويص��لوا الخيم ببعضها البعض، لتكون مهيأة لالحتفال. في س��حر الي��وم الت��الي، ج��اءت كتيب��ة

"عمار" لتحل مكاننا.

ا منهم إلى الخ��ط األم��امي لنعطيهم حضر م�ا بين العش�رة والعش�رين شخص��ا عند الخامسة بعد الظهر بكتيب��ة "عم��ار"، فنك��ون التعليمات، وليتم تبديلنا كلي في مخيم "كارون" قبل أذان المغرب بساعة. أقمنا بع��د الص��الة احتف��اال؛ وأي احتفال؟! فكل منشدينا ومداحينا قد استشهدوا أو جرحوا، وكنا نفتقدهم. ق��رأ المولد تلك الليلة كل من "داوود دهقاني"، "الشيخ بايکان"، "حسين س��ازور"،

"يد الله أعاليي" و"أصغر أرسنجاني".

وسط االحتفال، أبلغنا السيد "مهدي شريفي" بأنهم سيبترون رجل

Page 494: books.almaaref.orgbooks.almaaref.org/static/documents/zoqaq.doc · Web viewكلّ هذه الذكريات والأصوات، کانت لا تزال تتردّد في زوايا حنجرة

494

"محمود جوليده" في صباح الغد.

��ون لمحم��ود ومتعلق��ون ب��ه. وه��و عكر هذا الخبر حال المجلس، ف��اإلخوة محبقائد في الكتيبة، وكذا، منشد وقارئ عزاء.

انزعج الجميع، وقرأ الجميع المولد بحرقة. اختلطت الدمعة بالفرحة، وحصلتاق وح��زنهم مص��دره مك��ان حال عجيبة. ولربما هذا ما يقال عن��ه: ف��رح العش�� آخر. تحدثت إلى اإلخوة قرابة العشرين دقيقة، وامت��د االحتف��ال إلى منتص��ف

الليل.

في الصباح الباكر من اليوم التالي، ناداني شخص. خرجت من الخيمة، فرأيتطالب علم يرتدي عباءة ويعتمر العمامة على رأسه.

سأل: "ءأنت مسؤول الكتيبة؟"- ال، الحاج أصغر هو المسؤول.

رد أصغر: "ال، إن السيد نفسه هو مسؤول الكتيبة".

أجاب طالب العلم: "من هو المسؤول بالنهاية؟".

قلت: "مرنا، فكالنا مسؤول الكتيبة".- هل كنت هنا البارحة ورأيت هذه الكتيبة ترقص؟

أجاب أصغر: "إن زعيم الرقاصين هو هذا السيد!".

قال طالب العلم: "عملكم هذا فيه إشكال شرعي".��ا نص��فق وننش��د األش��عار في م��دح األئم��ة األطه��ار - م��ا من إش��كال في��ه. كن

فحسب.- ائتني بدليل على أن ال إشكال في عملكم هذا.

- ولم آتي أنا بالدليل؟ أنت الذي تدعي. وهذه منطقتي، كتيبتي، فأت

Page 495: books.almaaref.orgbooks.almaaref.org/static/documents/zoqaq.doc · Web viewكلّ هذه الذكريات والأصوات، کانت لا تزال تتردّد في زوايا حنجرة

495

أنت بالدليل أن هناك إشكاال.- أنا أقول إن فيه إشكاال.

فجأة ثارت ثائرتي، فقلت: "سواء كان كالم��ك ص��حيحا أم ال، م��ا دخل��ك أنت؟قسما بالله، إن وطئت قدمك مرة أخرى هذا المكان..".

غضب طالب العلم، وذهب في سبيله.

حتما كانت نيته جيدة وكان يقصد اإلرشاد.

في صباح اليوم التالي، آثر "محمد الله صفت" على نفس��ه كم��ا في الس��ابق، وبقي على رأس الكتيب��ة. وع��دت و"حس��ين س��ازور" و"أص��غر" إلى طه��ران.ة، وق��د خض��ع ل��دورة في الت��دريب ومحمد كان قبل ذل��ك في الق��وات الخاص��

العسكري قبل الثورة، ويخبر عمله جيدا.

أردنا الذهاب لعيادة "محمود جوليده". وص��لنا إلى طه��ران في تم��ام الس��اعة الثانية عشرة. كنا في أواخر شهر شباط. والطقس بارد جدا. وقد غطى الثلج

األزقة والطرقات.

أوصلنا أصغر إلى أمام باب بيته في شارع "باغ بيسيم"، وأوصلني حس��ين إلى منزلي وذهب. رأيت أضواء المنزل مطفأة. لم أط��رق الب��اب، قلت ال ب��د أنهم��ة، نائمون. التقطت حصاة صغيرة عن األرض ورميت بها على النافذة الزجاجي

فجاءت فاطمة وفتحت لي الباب.

في اليوم التالي، التقيت بوالدة "أصغر" في مسجد "التوفيق" فقالت: "س��يد، لم أن�زلت أص�غر أم�ام الب��اب وذهبت؟ قمت عن��د أذان الفج��ر ألؤدي ص�التي، فسمعت صوتا قادما من جهة الباب. فتحته، ف��إذا بي أج��د أص��غر يك��اد يتجم��د من ال��برد. أدخلت��ه وأش��علت ل��ه الم��دفأة. س��ألته: "أين كنت؟ ولم لم تط��رق

الباب؟ "جئت مع السيد في منتصف الليل، رأيتكم نائمين، فلم

Page 496: books.almaaref.orgbooks.almaaref.org/static/documents/zoqaq.doc · Web viewكلّ هذه الذكريات والأصوات، کانت لا تزال تتردّد في زوايا حنجرة

496

أطرق الباب، وانتظرت إلى أذان الفجر حيث تستيقظين للص��الة، وتفتحين ليمن تلقاء نفسك..".

ة واح��دة من آالف هكذا ك��ان أص��غر يحف��ظ حرم��ة أم��ه ويبره��ا. وه��ذه القص����ه لوالدي��ه ب��ات على ك��ل الشهامات التي ظهرت فيه. واالحترام الذي كان يكن

لسان.

ذات يوم، ذهبت إلى المستوص��ف وأريت ي��دي للط��بيب. ف��أجريت لي ص��ورة شعاعية، وعقموا جرحي وضمدوه، وحيث كان ظاهر الجرح قد التحم، لم تجر لي عملية، إنما أعطيت أدوية مضادات حيوية إلزالة االلتهاب والورم وتخفي��ف

األلم.

ذهبت في يوم أيضا، إلى منزل رفيقي المحبب القديم "محمد تيموري" ال��ذي تحدثت عنه فيما سبق. ك��ان مجلس دعي إلي��ه جم��ع من المجاه��دين. وهن��اكة التص��فيق وطلبت التقيت بحفيد اإلمام "الحاج حسن الخميني" وأخبرته بقص��

منه أن يسأل اإلمام عن األمر. ففعل، وكان جواب اإلمام: "ال تخبر المدعي بأسرار العشق والسكر

ليموت جاهال في ألم عبادة الهوىقل ألهل الحال من هؤالء األصحاب

أن يدعوا لي عندما يطرقون باب أهل البيت".

وذهبت ذات يوم لعيادة محمود، فقيل لي إنه م��ا زال في المستش��فى وحال��ه��رام، يجلس على كرس��ي متح��رك، وإنهم لم يب��تروا رجل��ه. ليس��ت على م��ا ي عندما عدت إلى الكتيبة قال لي الحاج محمد إنه يمكن��ني أن أرس��ل عناص��ري

في مأذونية.

Page 497: books.almaaref.orgbooks.almaaref.org/static/documents/zoqaq.doc · Web viewكلّ هذه الذكريات والأصوات، کانت لا تزال تتردّد في زوايا حنجرة

497

كنا في أواخر شهر آذار، حين انصرفت كت��ائب "حم��زة"، "الش��هادة" و"ميثم"في مأذونية، ولم يبق من كتيبة "ميثم" في الجبهة سوى "حسين إسماعيلي".

ذهبت إليه وسألته عن علة ذلك فأجاب: "لقد انسلخت عن طهران. ال أريد أنأصبح أسير المدينة".

عندما وصلت إلى طهران، أخبرني أحد اإلخوة بأن الحاج "قاسم" قد استشهدفي "شلمتشه".

صعقت من الدهشة. تعجبت كيف أن الح��اج قاس��م ك�ان في "شلمتش��ه" ولمأعلم بذلك، ولم أره.

كان وقتا عصيبا. فقد رحل شيخي ومرادي من دون أن أودعه. في تلك الليلة، ركبت وشباب هيئة المحلة الحافلة قاصدين م��نزل الح��اج قاس��م في "ك��رج". ونصبت أمام منزله الفتة سوداء ألصقت عليها صور لس��يارة الح��اج "بخش��ي"

المحترقة. وقيل: إن الحاج قاسم كان أيضا في تلك السيارة.

يشهد الله أن ظهري قد يبس حينها! قلت: لقد كنت على بعد مائتي متر منه! وقد شاهدت احتراقه! ولم أعلم أن الذي كان يحترق بنار العشق هو م��رادي،تي، راحت ركبت��اي الح��اج قاس��م! أظلمت ال��دنيا في عي��ني، اختنقت بغص��

ترتجفان ولم يعد بهما من طاقة، فجلست في مكاني.

كان قاسم شيخي. وله حق عظيم في عنقي؛ كل وجوده بركة ورحمة ومحبة. كنت أعلم أن قاسم ال يبيع نفسه بأدنى من الجنة ثمنا، وكان جديرا بنيل مقام

الشهادة.

حينذاك بدا مشهد شهادة قاسم كشاشة السينما أمام عيني. وت��ذكرت أعم��القاسم وأقواله. يعلم الله كم كان قاسم عارفا بأصول المروءة،

Page 498: books.almaaref.orgbooks.almaaref.org/static/documents/zoqaq.doc · Web viewكلّ هذه الذكريات والأصوات، کانت لا تزال تتردّد في زوايا حنجرة

498

وكم ك��ان ذا روح عظيم��ة. لق��د ع��اش ط��اهرا نظي��ف الك��ف، فبع��د ح��روب��ف ��ة، كث ��ه قلم��ا ك��ان ي��أتي إلى الخط��وط األمامي الش��وارع، وب��الرغم من أن

نشاطاته في مقر صالة الجمعة ودعم الجبهة والحرب.

اختبر لمرات من خالل ال�ترغيب وال�ترهيب، فكش�ف بش�جاعته وجرأت�ه ال�تي كانت جزءا من شخصيته المحتكرين والفاسدين في "كرج"، وفض��ح ]مص��ادر[

أموال ناهبي البشر. وأنشأ مركز مكافحة االحتكار الذي خافه الكثيرون.

وقاسم رجل لم يأكل في حيات��ه لقم��ة مش��بوهة، ولم يجح��د ذات ي��وم بنعم��ة ربه، بل كان ذا معدن طيب. واقعا، لقد ظلم كثيرا، ولم يعرف��ه أح��د في تل��ك

الفترة حق المعرفة.

ما أخبار أهل الهوس من حرقة المحبة فنار العشق هذه ال تحرق الجميع

كان فقدان قاسم بالنس��بة لي وألص��دقائه ومريدي��ه واقع��ا ص��عبا. فلم أص��دقرحيله أبدا. يعلم الله أي حمل ثقيل من الحزن والغربة حملته في تلك الفترة.

بعد أربعين يوما من شهادة قاسم، ولد ابنه الثالث؛ كانت زوجته امرأة مؤمن��ةقديرة، استطاعت بيد فارغة أن تربي أوالده الثالثة.

م.، أرسل الحاج محم��د إلي برس��الة1987لكن، أوائل شهر نيسان من العام يستدعيني فيها.

ذهبت إلى المنطقة بمفردي واتجهت نحو مق��ر التكتي��ك. ق��ال الح��اج: "س��يد،��ات خ��ارج س��هل "شلمتش��ه". س��تأتي فرق��ة أريد هذه المرة أن نق��وم بالعملي

"کیالن" بثالث كتائب؛ وسنهجم نحن بكتيبة "الشهادة"، "حمزة"

Page 499: books.almaaref.orgbooks.almaaref.org/static/documents/zoqaq.doc · Web viewكلّ هذه الذكريات والأصوات، کانت لا تزال تتردّد في زوايا حنجرة

499

و"ميثم" على خط الدفاع العراقي".

قلت: "أنا أعرف أرض "شلمتشه" ككف يدي. وأن��ا ق��ائم على العم��ل". ق��ال:��ات في الس��واتر "الليل��ة الماض��ية، هجمت فرق��ة "ث��ار الل��ه"، وق��امت بعملي��ة الش��كل الواقع��ة إلى جن��وب "قن��اة الس��مك"، ��ة أو الهاللي ��ة النوني الترابيا لفرق��ة "س��يد الش��هداء" أن تق��وم واخترقت خ��ط ال��دفاع. ينبغي الليل��ة أيض��

��ات اس��م "ك��ربالء "، وس��نكمل نحن8ب��الهجوم. وق��د أطل��ق على ه��ذه العمليعملهم".

استوضحت والحاج محمد الخط والح�دود، وع�دت إلى طه�ران أللتقي أص��غر، قلت له: "أتيت لتوي من المقر. وهناك عمليات مهمة أمامنا. وقد يرسلون لنا عددا كب��يرا من الق��وات. ف��إن وص��لت الق��وات غ��دا إلى "دوكوه��ه"، س��تكون

بحاجة إلى الطعام. وأنى لنا أن نشبع بطون ثالثمائة عنصر؟".

قال أصغر: علينا أوال أن نجد "رض��ا هوري��ا" و"علي ب��رادران"، ونرس��لهما إلى "دوكوهه" ليحضروا الطعام. فهذان يمكن االعتماد عليهما وهما خب��يران به��ذه

المسائل.

ا وش��جاعا، قصدت وأصغر منزل "رضا هوريا"، بقينا أمام الباب. كان رض��ا قويا، وعضوا في الفريق الوطني للشباب في الكرة الطائرة، معلم��ا لم��ادة ریاضي التربية، ذا مروءة وتربية، ص��احب رأي وش��هما. في ك��ل م��رة يلتقي��ني يطلب مني أن أحدثه عن شهامة إبراهيم هادي. فقد كان من مريدي��ه، ويلعب الك��رة

الطائرة معه، ويأتم به في الصالة.

احتضنني وسررنا جدا لرؤية بعضنا البعض. - س��تتوجه الكتيب��ة إلى الجبه��ة، وليس ل��دينا طع��ام وم��ؤن. وق��د أتيت إلي��ك،

لتذهب معنا وتسوي األمور.- سيد، اقطع رأسي. فرأس رضا تقدمة البن الزهراء؛ لكن األمر متوقف

Page 500: books.almaaref.orgbooks.almaaref.org/static/documents/zoqaq.doc · Web viewكلّ هذه الذكريات والأصوات، کانت لا تزال تتردّد في زوايا حنجرة

500

على شيء.- ما هو؟

- أريد أن أودع والدتي.��ات. ولم - أي والدة يا عم؟ هناك ثالثمائة نف��ر س��يذهبون في الغ��د إلى العملي

يسو أمر الدعم والتجهيزات بعد.- انتظرا أنتما في السيارة حتى أعد لكم فنجانا من الشاي، ومن ثم آتي.

انتظرت وأصغر في السيارة، فج��اء رض��ا إلين��ا بفنج��انين من الش��اي. ومن ثم�ه لم يج�د أم�ه. ج�اء إلين�ا وق�ال: "ال ذهب وراح يطرق هذا الب��اب وذاك؛ إال أن أستطيع المجيء معكم يا سيد. علي أن أجد الوالدة وأودعها. اذهبا أنتما؛ وغدا

في الصباح الباكر أكون في "دوكوهه".- تعال لنذهب، ال شيء سيحدث.

- ال، أنت تعرف حرمة الوالدة..

��ا أن يوف��ق البعض تعجبت من كل ه��ذه الش��هامة. قلت في نفس��ي: ليس عبث للشهادة، وال يوفق البعض اآلخر. وك��أن هن��اك عائق��ا أم��امهم. ال أدري م��ا ه��و

العائق الموجود أمامي حتى بقيت.

".1قلت ألصغر: لنعرج في طريقنا على قم، ونأخذ معنا حسن

فرح أصغر، فهو لم ير أخاه منذ مدة. ذهبنا إلى قم؛ لكننا وصلنا متأخرين. كانحسن قد ذهب للتو إلى طهران.

مزايا 1 وله سنوات، بعدة أرسنجاني أصغر يكبر وهو ميثم، كتيبة إلى كثيرا يتردد أرسنجاني حسن كان . نصر عمليات في استشهد مختلفة .7وأخالقيات

Page 501: books.almaaref.orgbooks.almaaref.org/static/documents/zoqaq.doc · Web viewكلّ هذه الذكريات والأصوات، کانت لا تزال تتردّد في زوايا حنجرة

501

أظلم الليل، وفي تلك الفترة، بدأ صدام بقصف المدن. فكان كل ليلة يقص��فمدينة.

وكانت عائلة حسن قد أعدت ال�"كتلت"، فاستبقونا للعشاء. بقينا نصف ساعة هناك، وأكلنا القليل من الخبز وال�"كتلت". وأطلقت صفارات اإلن��ذار وس��كتت

ثالث مرات حين كنا نأكل طعامنا.

وقد ألقت الطائرات العراقية ثالث قنابل وذهبت، ولم نع كيف أكلنا!

انطلقت تلك الليلة وأصغر، ووصلنا في اليوم التالي إلى "دوكوهه".

في البداية، ذهبنا إلى مقر التجهيزات لننسق معهم بأن يرسلوا طع��ام الغ��داء إلى مخيم "كارون"؛ إذ لم أكن أريد لإلخوة أن يتأخروا في دوكوهه، وأردت أن

أنقلهم مباشرة إلى مخيم "كارون".

مع وصولنا إلى "كارون"، وصلت أيضا حافلتان تقالن اإلخوة. اتصل "مصطفى كاشاني" -أحد قياديي الفرقة- عبر جهاز الالس��لكي، وق��ال: "س��يد، تع��ال إلى

هنا، فالحاج محمد يريدك".

ذهبت إلى خيمة قيادة الفرقة، وتكلمت مع الحاج محمد عبر الجهاز.

قال الحاج محمد من الجهة األخرى: "أوليس من المف��ترض بقوات��ك أن تص��لاليوم؟".

- لقد وصلت كتيبتان، والباقون في الطريق. - إن الع��راقيين يثبت��ون م��واطئ أق��دام لهم. ويك��ادون يس��يطرون على خ��ط الدفاع الذي جهد اإلخوة للحفاظ عليه. لقد تقدموا من جهة "بنج ضلعي"، وها

هم اآلن يتقدمون إلى هذه الناحية. نريد قوات جديدة.

- بعد ساعة أخرى، إن شاء الله، يكون الجميع حاضرا.

Page 502: books.almaaref.orgbooks.almaaref.org/static/documents/zoqaq.doc · Web viewكلّ هذه الذكريات والأصوات، کانت لا تزال تتردّد في زوايا حنجرة

502

- أحضر اآلن سرية، فلقد أنهك هؤالء؛ وال يمكنهم المتابعة.

كانت الحافالت تصل الواحدة وراء األخرى، وتنزل اإلخوة. ومهما انتظ��رت، لمتصل حافلة طاقم الكتيبة!

جهزنا القوات، إال أن مسؤولي السرايا والفصائل لم يحضروا بعد. كيف يمكن لنا إعطاؤهم التعليمات وتنظيمهم؟ وبعد جه�د جهي��د، اس�تطعنا تجه�يز س�رية، وإرسالها إلى خط الدفاع مع "علي زاكاني". وكان من المفترض بقواتن��ا ه��ذه المرة، أن تدخل من نهر "دوعيجي" الجادة التي تق��ع إلى الجه�ة اليس�رى من

"بنج ضلعي".

مألنا أربع شاحنات تويوتا بالقوات، وأرسلناهم إلى الخط األمامي.

��دعى "فالح" هلع��ا. ك��ان عند الساعة الخامسة بعد الظهر، جاء أحد اإلخ��وة ويرأسه مزرقا وداميا. وكان هو أيضا في حافلة طاقم الكتيبة. ألقى السالم.

- ما الذي حدث يا فالح؟- لقد وقع لنا حادث سير.

- بماذا اصطدمتم؟ وكيف؟ - كان طاقم الكتيبة كله موجودا؛ حسين س��ازور، رض��ا هوري��ا، علي ش��هبازي، جواد مجلسي، فالن وفالن... اجتزنا "دوكوهه"، وعلى مقربة من األه��واز، ب��دأ "حسين سازور" يقرأ زيارة الخمسة عشر. فغفت عينا السائق، وفجأة انقلبت

السيارة إلى اليسار.

هذا ما ينقصنا لتكتمل المصيبة.

وثبت وأصغر وأكبر سربوشان داخل سيارة تويوتا، دس��نا على دواس��ة الوق��ودوانطلقنا نحو األهواز، وتوجهنا مباشرة إلى المستشفى. وهناك

Page 503: books.almaaref.orgbooks.almaaref.org/static/documents/zoqaq.doc · Web viewكلّ هذه الذكريات والأصوات، کانت لا تزال تتردّد في زوايا حنجرة

503

رأيت حمي�د ت�رابي، إخ�وان ش�هبازي، الح�اج ج�واد مجلس�ي، والح��اج حس�ينسازور، ممددين على األرض، وقد كسرت أيديهم وأرجلهم.

ذهبن��ا إلى مرك��ز ش��رطة الم��رور، فق��الوا لن��ا: لق��د استش��هد م��ا بين الس��تةوالثمانية أشخاص من شبابكم.

- أين هم اآلن؟- في البراد.

كانت هذه المصيبة أسوأ من العمليات. إلى أي نقطة وصل اإلخ��وة، وإلى أينذهبوا؟

توجهنا نحو البراد، لم أعد أفهم نفسي. ال أعلم كيف أصف حالي ذل��ك الي��وم. كانوا نخبة قواتي. فتحوا لن��ا أدراج ال��براد. وج��دت حس��ين مجلس��ي، وخس��رو شادماني والسيد حجت فيها، وصادقي رفيق الجهاد في حرب الشوارع، ال��ذي��رت كان ماهرا في إطالق صاروخ ال�"دراغون". لم أتعرف إليه في البداية، فك

للحظة، ثم تعرفت إليه.

بعدها عدنا وتفقدنا المصابين. في هذه األثناء فقد رضا هوريا! كان من المقرر أيضا أن يأتي بهذه الحافلة، مع طاقم الكتيبة. ويستبعد أن يك��ون ق��د بقي في

طهران.

م��رة أخ��رى، قمت وأص��غر بإحص��اء اإلخ��وة. لم يكن بين المص��ابين، وال بينالشهداء. إلهي، ما الذي حصل، وما حل به؟

قال أصغر: "ال بد أنه بقي تحت الحافلة، ولم يرفعوه". ركبنا الس��يارة، وس��رنا كيلومترا حتى وصلنا إلى مكان وقوع الحادث. فتشنا تحت الحافلة35مسافة

وحولها؛ لم نجد لرضا أثرا. بقينا نفتش عنه من مستشفى

Page 504: books.almaaref.orgbooks.almaaref.org/static/documents/zoqaq.doc · Web viewكلّ هذه الذكريات والأصوات، کانت لا تزال تتردّد في زوايا حنجرة

504

إلى آخر، حتى صباح اليوم الت��الي. في النهاي��ة، ت��بين أن رض��ا ك��ان في ع��دادالمصابين؛ وقد نقل إلى المستشفى وقضى هناك.

قال أصغر: "أنا ذاهب إلى الخ��ط. اذهب أنت إن أحببت إلى طه��ران وش��اركفي مراسم دفنهم".

- ال مجال لذلك أخي ي��ا أص��غر. وال وقت ل��دي ألجلس في زاوي��ة وأتح��رر من��ات، وك��ذا أجس��اد ه��ؤالء عقدي النفسية وأذرف ال��دموع. ف��الوقت وقت عملي

اإلخوة هي اآلن في أيدينا ]ال في أيدي غيرنا[.

من "بهش��ت26في صباح اليوم التالي، دفنت أجس��اد الش��هداء في القطع��ة زهراء". وأثيرت بلبلة. ففي البداية، لم يعد السادة اإلخوة في عداد الش��هداء.

وبعد جهد جهيد، وافقوا على دفنهم في القسم الخاص بالشهداء.

بعد الظهر، عدت مسرعا إلى الجبهة، وذهبت مباشرة إلى الحاج محمد.

قال الحاج: "أين كنت؟ استعدوا، عليكم أن تهجموا على الخط".- لن أذهب.

- وهل السبب تلك القصة نفسها؟ - ال يا عم... فمسؤولو السرايا تعرضوا لحادث سير، واستشهدوا. غ��دا ص��باحا

تصل قواتي. - حس��نا، إن ق��وات "س��يد الش��هداء" اآلن تخ��وض مواجه��ة. دع��ني أر م��اذا

سيفعلون.

عند الساعة الحادية عشرة ليال، ذهبت و"س��عيد س��ليماني"، "محم��ود أمي��ني"وأحد شباب المعلومات إلى "توك مدادي" لنلقي نظرة على

Page 505: books.almaaref.orgbooks.almaaref.org/static/documents/zoqaq.doc · Web viewكلّ هذه الذكريات والأصوات، کانت لا تزال تتردّد في زوايا حنجرة

505

المنطقة، ونستطلع األرض عن قرب.

تقدمنا إلى األمام قليال من "توك مدادي"، إلى المكان حيث من المف��ترض أن��ا. ك��ان الخ��ط قوات "سيد الشهداء" تخوض مواجهة فيه، فرأينا مش��هدا عجيب��ا وال أح��د في��ه، والدش��م خالي��ة. ف��إلى ه��ذه الناحي��ة ك��ان ش��باب "س��يد خالي��ون الشهداء" مستندين بنحو متفرق إلى الدشم؛ وفي تلك الناحية كان العراقي

یروحون عن أنفسهم.

قلت: "ماذا يحصل هنا؟".

قالوا: "هجمنا الليلة الماضية على الخ��ط. س��يطرنا علي��ه ولم نس��يطر، ق��دمناعددا من الشهداء، ورجعنا. لم يعد لدينا من قوات. ومن تبقى منهم انسحب".

بع��د االس��تطالع، ع��دنا إلى المق��ر. وتم الت��داول في أن نهجم عليهم من أح��د��ة. أب��دى ك��ل واح��د رأي��ه: يمكن، وال الجوانب بدل الهجوم من الناحي��ة األمامي

يمكن؛ احتدم الجدال إلى أن توصلنا إلى نتيجة!

تقرر أن يهجم "محمود أميني" ال��ذي وص��ل قبلن��ا بقوات��ه وتمرك��زوا في خ��ط"تشمران" الخلفي، على خط دفاع األعداء، وذلك حتى ال تنام األمور.

��ة ��ة الهاللي وكان الهدف من ه��ذا الهج��وم ه��و المحافظ��ة على الس��واتر الترابي الملتصقة ب�"قناة السمك". أردنا من خالل السيطرة على السواتر الترابية أن

نصل إلى طريق فرعي، ونهجم من هناك على قلب جادة "البصرة".

بقيت تلك الليلة في المقر إلى الصباح.

عند الخامسة صباحا، حرك "محم��ود" كتيبت��ه، وانطلق��وا م��ع انش��قاق الض��وء.ترك إحدى سراياه في خط "فاطمة الزهراء عليها السالم الخلفي، وسار

Page 506: books.almaaref.orgbooks.almaaref.org/static/documents/zoqaq.doc · Web viewكلّ هذه الذكريات والأصوات، کانت لا تزال تتردّد في زوايا حنجرة

506

بالبقية إلى الخط.

عند الساعة التاسعة صباحا، سمعنا محمود ينادي عبر الجهاز الالسلكي: "لق��دشن العراقيون هجوما".

ابقوا على استعداد.

ا إلى س��احة عصر ذلك الي��وم، ن��زلت الس��رية الثالث��ة من س��رايا محم��ود أيض��المعركة، وخاضت مواجهة شرسة.

��دا، لكنه��ا فعلت ك��ل م��ا لم تكن ق��وات كتيب��ة "حم��زة" تع��رف المنطق��ة جي بوسعها. بالنهاية، ليست "شلمتشه" أرضنا، وال نعرف التفاصيل الدقيقة فيه��ا.

فكنا نهجم عليها، ويصيبنا االرتباك والحيرة.

في البداية، كانت كل قوات "حمزة" نائمة، فقد أصابهم أذى في أعينهم؛ لكن الحاج محمود نفسه، امتلك ميزة حسنة لم يمتلكها غ��يره. فل��و انهم��رت أثن��اء��ا في مي��دان العمليات، مليونا قذيفة، لم يكن يحني رأسه. بل يظ��ل دوم��ا ثابت الحرب. اختص بشجاعة وجرأة هما حقا من مميزاته. وللحقيق��ة، ينبغي تق��دير

دور الحاج محمود، والسيد "مجتهدي" وكل الشجعان في كتيبة حمزة.

قرابة الس��اعة العاش��رة، وص��لت ق��وات "ميثم" إلى خ��ط "فاطم��ة الزه��راء" الخلفي. أحضرنا ست ناقالت جند مدرعة، أركبنا الق��وات ونقلن��اهم إلى غ��رب

"توك مدادي".

منا الق��وات، ووض��عناهم في الطريق، تقطعت جنازير ثالث ناقالت جن��د. فقس�� بص���عوبة في ن���اقلتي الجن���د الب���اقيتين. وبقي ع���دد منهم لننقلهم إلى أرض المعرك��ة في الدفع��ة الثاني��ة. غ��رب "ت��وك م��دادي" يق��ع إلى جن��وب س��هل

"شلمتشه" باتجاه السواتر الهاللية الشكل. وكانت المسافة من

Page 507: books.almaaref.orgbooks.almaaref.org/static/documents/zoqaq.doc · Web viewكلّ هذه الذكريات والأصوات، کانت لا تزال تتردّد في زوايا حنجرة

507

��ة الش��كل خط "فاطم��ة الزه��راء" عليه��ا الس��الم الخلفي إلى الس��واتر الهاللي المحاذي��ة لقن��اة الس��مك م��ا بين الكيلوم��ترين والثالث��ة؛ وهي مس��افة ال يمكن

طيها سيرا على األقدام.

إلى أن وصلنا إلى نقطة االنتشار، صارت الساعة الثانية والربع. كما تناقش��تربع ساعة أخرى مع سعيد، هل من الجيد أن نهجم أم ال.

قال سعيد: "لقد تأخرنا، كان من المفترض ب��ك أن تص��ل إلى نقط��ة االنتش��ارعند الساعة الثانية عشرة ليال".

- قل للجميع إننا وصلنا ... - لقد أفلت األمر من يدي. أمامن�ا س�هل، والس�يطرة علي��ه ش�اقة ج�دا! ك�ان

عليك أن تكون في خط الدفاع مع انشقاق الضوء.- دعك يا عم من هذا الكالم!

- أتأخذ األمر على عاتقك؟ - ال عاتق لي آلخذه عليه. وأين كان عاتقي؟ أساسا، أنا لم أع��د البارح��ة آلخ��ذ

شيئا على عاتقي.- أنت أعلم.

صففت القوات في طوابير، ووض��عت الش��جعان على رأس ك��ل ط��ابور؛ وهمحسين إسماعيلي وأربعة من أمثاله.

جمعت س��رية "نين��وى" بقي��ادة "محم��د قاس��مي" و"علي زاك��اني"، وس��رية "البقيع" بقيادة "محمد جعف��ري ت��ك ب��ا"، و"أم��ير تش��يذري"، وس��رية "ف��دك"حت لهم العم��ل عن طري��ق بقيادة "إبراهيم كاشاني" في مك��ان واح��د، ووض�� الخريطة. جلسنا في الظالم حول بعضنا البعض. المصباح في يد أص��غر، وه��و

ساكت كعادته، يستمع إلى كالمي، ويضيف إليه أشياء عند

Page 508: books.almaaref.orgbooks.almaaref.org/static/documents/zoqaq.doc · Web viewكلّ هذه الذكريات والأصوات، کانت لا تزال تتردّد في زوايا حنجرة

508

اقتضاء الحاجة. كان يجيل المصباح على الخريط��ة، فوق��ع الن��ور للحظ��ة على صدر "عباس بور أحمد"، الذي كان و"محمد باغبان" بريدي الكتيبة، وقد وص�ال

للتو من مشهد.

قال أصغر: "سيد، انظر إلى صدر عباس".

نظرت، فرأيت علم��ا ص��غيرا مخاط��ا على جيب قميص��ه األيس��ر؛ تمام��ا ف��وق قلبه. وقد كتب عليه: "أنا فداء لك ي�ا إم�ام رض��ا". ت�وجهت إلى عب��اس وقلت

له: "ما هذا الذي وضعته على قميصك؟".

قال: "هذا علم اإلمام الرضا المبارك؟".

أنشد أصغر حينها، في قلب الليل وعلى مقربة من العمليات، أبياتا من الشعرة ب��ذاكر أه��ل ال��بيت )عليهم الس��الم( في اإلم��ام الرض��ا علي��ه الس��الم خاص��

والمداح المخلص "غالمعلي رجبي":أنا فداء لحمام حرمك

فداء لكل لطفك وكرمكمنذ أن تعرفت إليك

أصبحت محط الرحمة اإللهيةقلت كل من يأتي لزيارتي

سأكون مدده عند الشدائد والصعاب...

للحظات، حملنا صوت أصغر الحن��ون إلى أج��واء ح��رم "اإلم��ام الرض��ا" علي��هالسالم، وحلقت القلوب حول قبته...

ثم بعد ذلك، أرسلت سرية "نينوى" من أسفل "توك مدادي"؛ وسرية

Page 509: books.almaaref.orgbooks.almaaref.org/static/documents/zoqaq.doc · Web viewكلّ هذه الذكريات والأصوات، کانت لا تزال تتردّد في زوايا حنجرة

509

"فدك" من أعاله، وت��ركت س��رية "البقي��ع" كق��وات احتي��اط. وقفت أن��ا العب��د��ا الفقير، و"سعيد سليماني" و"حسين بهشتي" خلف الساتر الترابي؛ بحيث كن نشاهد الجانب اآلخر بشكل جيد. انطلق اإلخوة بهدوء ومن دون جلبة وضجيج. وأمرتهم بأن يتقدموا ب�"مشية البطة"، بحيث ال يس��مع ص��وت وق��ع أق��دامهم. وهناك التقيت ب�"رضا مير كمالي"، من شباب ميثم المخلصين. كان في ع��دادا للرف��اق وللص��فاء وال��ود ��ه التح��ق ب���"ميثم" حب الح��رس الرس��ميين؛ لكن الموجودين فيها. كان له ولدان: "ربابه" و"علي أص��غر". ك��ان "رض��ا" عاش��قاا. أتعلم يا أخي... تختلف قصة العاش��ق ألهل البيت عليهم السالم؛ شهما ومحب عن قصص الناس العاديين! فالعاشق يقوم بكل ما يقوم به في سبيل عشقه؛ مشيه، لباسه، وحتى تنفسه. ارتدى رضا في تلك الليلة زي الحرس. وقد طرز على جيب قميص��ه عب��ارة "ي��ا فاطم��ة الزه��راء". ك��ان حس��ن البني��ة والقام��ة ويمش��ي بثب��ات، وق��د ص��بغ ح��ذاءه العس��كري بحيث ب��دا المع��ا من النظاف��ة. تعجبت، كيف تسنت له الفرصة في معمع��ة نق��ل الق��وات وانتقاله��ا تل��ك، ألن

يلمع حذاءه.

هذا وقد ربط قطعة قماش خضراء حريرية حول عنق��ه. فج��اء إلي بوج��ه بشوابتسامة لطيفة وسلم بهدوء.

- سالم يا أخي رضا، كيف الحال؟ أأنت ذاهب في موعد؟- سيد، ادع لي لقضاء حاجة.

- ومن أنا ألدعو لك؟- أنت سيد، دعاؤك مستجاب.

- ما هي حاجتك؟- إما أن أستشهد، أو أعود سالما. ال أحب أن أؤسر أو أعود معوقا وجريحا.

Page 510: books.almaaref.orgbooks.almaaref.org/static/documents/zoqaq.doc · Web viewكلّ هذه الذكريات والأصوات، کانت لا تزال تتردّد في زوايا حنجرة

510

- لم؟��ة االث��نين والس��بعين ��ة على محب - لقد تشارطت هذا العام مع أحد أبناء المحلا ألطير حماماتي. وقد سحبت ريش شهيدا من شهداء كربالء. أريد أن أرجع حي

]سباق الحمام[. إن شاء الل�ه س�تأتي أنت1 حمامة تحضيرا ليوم المسابقة72أيضا إلى سطح منزلنا.

- لقد كنت منذ زمن أسير هذه األمور، وكنت أتعاطاها قبل الثورة. أم��ا عن��دما��ني م��ا زلت إلى اآلن ��ر ه�واي، وس��لكت طريق��ا آخ�ر؛ لكن انتصرت الثورة، تغي

أحب طيوري. لدي حمامة أعشقها، وأقسم بها قسم صدق.- أنت أيضا كنت تراهن؟

- كنت أتشارط وأخي السيد "باقر". في شهر حزيران، كنا نذهب إلى المقهى وراء أحدهم لمتابعة أمر ما. حينذاك، امتلك "محمود آهنکر" أربعمائ��ة حمام��ة. وكان صاحب خبرة في هذا المجال. ال أحد يتفوق عليه. بل ويتشارط مع ثالثة أشخاص في وقت واحد، ويربح الشرط مقابلهم جميعا. كما ك��ان يه��زم جمي��ع مربي الحمام المقتدرين في المحلة. والمنافس الوحيد ل�ه ه��و "إي�رج زاغي"؛ واحد من بين أل��ف، اس��تطاع أن يه��زم محم��ود. حين��ذاك، كان��ا يتنازع��ان على

حمامة، وكان من الممكن ألحدهما أن يقتل اآلخر. - نعم... لقد ربح أحدهما العام الفائت، وهذا العام، يريد الجمي��ع توجي��ه ض��ربة إليه. لكن المحسوبيات قليلة؛ ذلك أن الحكم ذو خ��برة. ف��إذا م��ا وض��ع م��ربي الحمام دواء في طعامها، يدرك ذلك من خالل ك��ثرة تحليقه��ا. فينظ��ر أوال في��ه ق��د وض��ع فمها؛ ومن ثم في صدرها. فإن كان صدرها مليئا بالحب، يتضح أن

الدواء في طعامها.

1 . أكثر التحليق على يساعدها جديد ريش مكانها لينبت أجنحتها ريش يسحبون وكانوا

Page 511: books.almaaref.orgbooks.almaaref.org/static/documents/zoqaq.doc · Web viewكلّ هذه الذكريات والأصوات، کانت لا تزال تتردّد في زوايا حنجرة

511

��ر 110- كنت في كل مرة أشارط على نية األئم��ة االث��ني عش��ر، أو كنت أطي��ة أه��ل ا على محب ��ة اإلم��ام علي علي��ه الس��الم، أو خمس�� حمام��ات على محب الكساء الخمسة. أما األثرياء، فكانوا يرسلون خمسة أشخاص إلى كربالء على محبة أهل الكساء الخمسة؛ أو يوزعون العمالت المعدنية إذا ما ربحوا. الكلمة

األخيرة هي للحمامة المتسابقة.. - سيد، أنا ال أستبدل بحمام��اتي الط��ائرة ال��دنيا وم��ا فيه��ا. وإني متحمس له��ا حماسة خاصة. العام الفائت، في الليلة ال�تي س��بقت المس�ابقة، ص�عد الحكم إلى الس��طح وختم على الحمام��ات، وس��جل أس��ماءها ومواص��فاتها: "م��اه بیشوني" -ذكر، قلمكار- أن��ثى، سوس��كي، بلن��ک، ي��ك ك��تي، ل��ك دوش، س��ينهطالئي، ماه رخ، غاره وطوقي وإلى آخره. هذه أسماء الحمامات التي أربيها.

- عادتنا في تربية الحمام هي عين عادتك. فكنت وأخي السيد باقر ندعو ي��وم المسابقة ما بين العشرة والعش��رين نف��را من أص��دقائنا على الغ��داء. فنجه��ز

المنقل ونشوي الكباب. ويحضر هذا الغداء كل مربي الحمام واألصدقاء.

عند الساعة الخامسة صباحا، يصعد الحكم إلى السطح ويطلق الحمامات في الهواء. فإذا م��ا حلقت حمام��ة ثالث دورات في الفض��اء، ومن ثم يبس كتفه��ا، وحطت بسرعة، لم يكن الحكم ليقبل بذلك، بل يخرجها من المس��ابقة، لنض��ع��رى ��ا، إلى درج��ة ال ي ��ق عالي مكانها واحدة أخرى. كان على الحمام��ات أن تحل

منها في السماء سوى نقاط بيضاء".��ة، ورأى حمام��ة ا للجمهوري - إنه ألمر عجيب، فمربي الحمام، لو أص��بح رئيس��

تحلق في الفضاء، فإن روحه سترتد إليه.

Page 512: books.almaaref.orgbooks.almaaref.org/static/documents/zoqaq.doc · Web viewكلّ هذه الذكريات والأصوات، کانت لا تزال تتردّد في زوايا حنجرة

512

قلت: "ليت البشر يتمتعون بوفاء الحيوانات. حينذاك ستتبدل األرض إلى جنة. قصتنا نحن البشر كقصة الحمام الطهراني الذي ينفص��ل عن الجماع��ة. يط��ير��ره، يح��ط على شكل فريق، ويف��ترق عن بعض��ه البعض في األعلى. حين نطي عند الساعة الثامن��ة ص��باحا. وي��ا ل��ه من منظ��ر ج��دير بالمش��اهدة، إذ يتع��رف��ر الجميع إلى العش الموج�ود على س��طحك. ي�أتي ويح��ط بش�كل جمي�ل. يعيمها على الحمام��ات. الحكم س��اعته. وفي النهاي��ة، يجم��ع الس��اعات ويقس����ا مثلي فالحمام��ة ال��تي لم تط��ر لثالث أو أرب��ع س��اعات، يص��بح وض��عها مزري

ومثلك".

ضحك رضا؛ ضحكة نشوان!

حان موعد االفتراق. ضممته إلى صدري. طبعت قبلة على جبينه وقلت: "إنن��اراضون بما يرضاه الله ويقدره لنا".

قاربت الساعة الثالثة ليال. وكان خط الدفاع العراقي هادئا. ظنوا بأننا سنوقف العمليات بعد كل تلك النيران التي أطلقوها على كتيبة "حمزة"؛ وقد أحض��روا قوات نعسانة، صفوها على حافة ال�"ب��د"، وأرادوا الهج��وم ص��باحا والس��يطرة

على خط دفاعنا كما تصوروا.

لم تكد تمض��ي نص�ف س�اعة على وص�ول الس�رايا إلى نقط�ة االنتش�ار، حتى سقطت قذيفة وبدأت المواجهة. بقيت في دشمة من الدشم مش��غوال بقي��ادة

ا ب�"أمير تشیذري" وقلت: "إسماعيل، إسماعيل ...1العمليات. اتصلت السلكيلماذا بدأتم بالمواجهة؟ كان من المفترض أن تهجموا حينما نناديكم".

قال: لقد ذهبت واحدة من حماماتنا إلى سطح الخصم".

أرسلت البريد ليستوضح األمر. وهناك، كان البريد هو القائد المتحرك للكتيبة،حيث يوصل كل الرسائل ويقوم بالقيادة نوعا ما. جاء البريد

Page 513: books.almaaref.orgbooks.almaaref.org/static/documents/zoqaq.doc · Web viewكلّ هذه الذكريات والأصوات، کانت لا تزال تتردّد في زوايا حنجرة

513

بخبر مفاده أن حسين إسماعيلي ق��د دخ��ل في حق��ل ألغ��ام. ت��بين أن ش��باب المعلومات أعطوه معلومات خاطئة. وحسين ال��ذي ك��ان على رأس الط��ابور، وكان عليه أن يتقدم الباقين بمائة متر، دخل في حقل ألغام. وتقتضي المهم�ة أن يطلق حسين الطلقة األولى وهو الخبير الشجاع. فسار في المقدم��ة. وإذا��ترت به يدخل بغتة في حقل األلغام فلم يع�د يس�تطيع التق�دم وال ال��تراجع، وب��ون ال��ذين ك��انوا إلى حينه��ا رجل��ه فظلت متص��لة بالجل��د فق��ط. أم��ا العراقي مجتمعين في الدشم مطمئني البال، فق��د هرع��وا إلى الخ��ارج وص��عدوا ف��وق الساتر الترابي؛ إال أن ظلمة الليل حالت دون رؤية الطرفين لبعضهما البعض.��ا ارتطم ب��العوائق ��ا ب��أن غراب حبس الطرف��ان أنفاس��هما في ص��دروهما، وظن فانفجر اللغم. أشعلوا المكان بعدد من القنابل المضيئة، فرأوا بعضهم البعض، في تلك األثناء، استل حسين خنجره وقطع رجله ورماه��ا في ناحي��ة. ف��وقعت

على لغم وانفجر. صاح حسين باإلخوة:- قوموا، لم أنتم جالسون تتفرجون؟

كانت القنابل المضيئة تطلق فيستنير المكان كضوء النهار. هب اإلخوة ونزل��وا في القناة. وهناك، أصابت طلقة يد "علي زاك��اني" للم��رة الثالث��ة أو الرابع��ة. استشهد العناصر الخمسة عشر الذين كانوا في الصفوف األولى، فتقدم باقي��رون المعرك��ة اإلخوة إلى األمام وسقطوا أيضا. ك��انوا يهجم��ون برجول��ة ويجي إلى مصلحتهم. بهت العراقيون، وتلقوا الض��ربة. ليتكم ش��هدتم ه��ؤالء فم��ا إن ي��روا أنهم علق��وا وس��ط المعرك��ة، حتى يرفع��وا أي��ديهم ف��وق رؤوس��هم ويستسلموا. حين طلع الصباح، وجدنا أنهم أسروا مائتي جندي ع��راقي، بينهم

أربعة ضخام الجثة، وكانوا يرتدون السراويل القصيرة فقط.

ا يمش���ي كالقط���ة على رجلي���ه في س���اعات الص���باح األولى، رأيت شخص��� ويديه.توجهت إليه، فوجدت أنه "حسين إسماعيلي". كان كجب��ل راس��خ. وم��ع

كل

Page 514: books.almaaref.orgbooks.almaaref.org/static/documents/zoqaq.doc · Web viewكلّ هذه الذكريات والأصوات، کانت لا تزال تتردّد في زوايا حنجرة

514

تلك الدماء التي نزفت منه، لم يسقط. فقد كان يمتلك جسما وروحا قويين.

أرسلت "حسين" إلى الخطوط الخلفية.

كان الح��اج محم��د ي��ذكرنا من وقت آلخ��ر: "ال يغيبن نظ��ركم عن الس��اتر، لئال يأخذوه منكم، فهم يستطيعون التقدم من الجهة الجانبية". صباح ذل��ك الي��وم، ج��اء مراس��ل التلفزي��ون وأج��رى مقابل��ة معي وم��ع أص��غر. س��أل المراس��ل:

"برأيك، ما الشيء الذي تعده عامل االنتصار؟".- برأيي، إن عامل انتصارنا هو ذلك العلم األخضر الموجود فوق جيب عباس..

-cut cutيا حاج، هذا الح��وار يبث مباش�رة على التلف�از. ي��ا أخي، العلم ال ، يمكن أن يكون عامل االنتصار!

- كما تريد.

عاد وسأل من جديد: "ما هو عامل انتصار المجاهدين؟".- العلم..

ما إن سمع اسم العلم حتى قطع الحوار. وقد قطع كالمي ثالث مرات. - إن كنت تسألني، أقول لك كان هذا؛ وإن كنت تري��د أن تجيب بنفس��ك، فم��ا دخلي أنا بالموضوع؟ تفضل، بسم الله. لم أكذب عبثا؟ هذا النصر ك��ان لطف��اا، لم يكن أح��د يعلم أين ي��ذهب. لم يكن يعلم إن ومددا من الله تعالى. أساس����ة. ولم يكن يعلم لم خ��ربت ��ة أم األمامي كان عليه أن يهجم من الجه��ة الجانبي

ناقلة الجند.

المراسل المسكين، علق بين يدي شخص متعب ثقيل ال��دم. وكلم��اتي لذعت��هبشكل جيد.

Page 515: books.almaaref.orgbooks.almaaref.org/static/documents/zoqaq.doc · Web viewكلّ هذه الذكريات والأصوات، کانت لا تزال تتردّد في زوايا حنجرة

515

انقضت هذه المس��ألة. ج��اء حمل��ة الج��رحى إلخالء الش��هداء والج��رحى. ك��انا من��ذ س��اعات على الج��ادة جثمان رج��ل الحماس��ة "رض��ا م��ير كم��الي" مرمي بمحاذاة "قناة السمك". وقد نام نومة هادئة، والمنديل الحريري ملفوف حول عنقه. عاشق حقيقي التحق بمعشوقه. و في قمار العشق من الذي ن��دم أيه��ا

القلب؟

استش��هد ك��ل من داود دهق��اني، الح��اج س��مندر، عب��اس ب��ور أحم��د، حجت شمسيان، محمود بهرامي، حسين رضا بور ومهدي قن��اعتي. وج��رح ع��دد من اإلخوة من أمثال محمد قاسمي، إبراهيم كاشاني، رضا فرجي، مجي��د باغب��ان، محم��ود ط��اهر أفش��ار، مه��دي زم��ام، وعلي فيلس��وف، وروت دم��اؤهم أرض

شلمتشه.

بعد إخالء الشهداء، خفت حدة الن��يران. ف��وجهت س��رية "البقي��ع" ال��تي ك��انتسرية احتياط إلى الدفاع.

بعد الظهر، أعلنت اإلذاعة ما يلي: "أعزائي المستمعين، تمكن مجاهدو كتائب��ات الك��برى في27"حمزة" و"ميثم" و"الشهادة" التابع��ة للفرق��ة ، في العملي

جنوب شرق البصرة، من أسر الجنرال الفالني والفالني، والعقيد الفالني. قلنافي أنفسنا: أي عقيد؟

سألنا عن الموضوع، وعلمنا بأنهم هم أولئك األشخاص األربعة الض��خام الجثث الذين كانوا يرتدون السراويل القصيرة. وأن قنبلة انفجرت بالقرب منهم حال االنسحاب، فأصيبوا، وعرفوا عن أنفسهم في المستش��فى. واتض��ح فيم��ا بع��د��ون، وأنهم عن��دما يخس��رون المعرك��ة، يخلع��ون أنهم ج��نراالت وعق��داء عراقي

بزاتهم العسكرية ويرمون أنفسهم في الوحل لكي ال يعرفوا.

قرابة الساعة الثالثة بعد الظهر، قلت للحاج محم��د: "لق��د قات��ل ش��بابي حتىالصباح؛ وال يستطيعون فتح أعينهم من التعب، أوال ترسل كتيبة

Page 516: books.almaaref.orgbooks.almaaref.org/static/documents/zoqaq.doc · Web viewكلّ هذه الذكريات والأصوات، کانت لا تزال تتردّد في زوايا حنجرة

516

الشهادة؟".

أجاب الحاج محمد: "اصبر حتى الغروب".

ارتمت قواتي إلى جانب الساتر الترابي. فنام بعضهم وهو ج��الس في مكان��ه، وبعضهم كان يقوم بالحراسة. كانت القذائف تسقط الواحدة تلو األخ��رى على

الساتر، فأوصيتهم بعدم الخروج من الدشم.

والساتر الذي احتمينا به كان للع��راقيين. لفت��ني ش��كله الهاللي وتص��ميمه؛ ل��ه مقدمة عميقة وطويل��ة. وعن��دما تطل��ق علي��ه الق��ذائف تس��قط خل�ف الس��اتر الترابي في الحفرة ]المحيطة[ وال تتسبب بأضرار. استقرت قواتنا في الساتر الهاللي، والذت في عمق��ه، فقلم��ا أص��ابها ض��رر. وك��ان طرف��اه بنح��و يمكنن��ا الحفاظ عليهما، واالستفادة منهما. هذا بخالف س��واترنا المس��طحة والممت��دة التي ينخفض فيها خط الرأس، فكنا نضطر إلى خفض رؤوسنا حينم��ا نم��ر من

خلفها.

عند الغروب، ومع حلول العتمة، جاء شباب كتيبة الشهادة ومألوا الخ��ط. ق��ام��ه لم يثبت ل��ه م��وطئ ق��دم وانس��حب. ولكم ك��انت العراق بنصف هجوم؛ لكن

من ش��باب1جميلة هناك قصة أصحاب المروءة والش��هامة وحمل��ة المنادي��ل*ميثم.

حين تبديل قواتنا بكتيبة الشهادة، قلت لسعيد سليماني: "اتصل بالحاج محم��دواطلب منه أن يأتي، فلي عمل معه".

- لم؟- إن العراقيين يخططون ألمر ما.

1 . الثقيلة باالعمال قيامهم عند العرق مسح في بها يستعينون التي المناديل بحمل اشتهروا

Page 517: books.almaaref.orgbooks.almaaref.org/static/documents/zoqaq.doc · Web viewكلّ هذه الذكريات والأصوات، کانت لا تزال تتردّد في زوايا حنجرة

517

- قل لي ما هو، أنا أنقله إليه.- ال، لن أقول لك.

اتصل سعيد عبر الجهاز، وقال للحاج محمد:"هناك وضعية معينة، عليك أن تأتي وتراها بنفسك".

بعد ساعة، جاء الحاج محمد برفقة رجل آخر هلعين إلى الخط األمامي. وبع��دالتحية والسالم قال: "ما الخبر؟".

- لم تكن الليلة الماضية هنا يا حاج؟- أحسنت.

- ماذا تعني بكلمة أحسنت؟ إنها تقال لمن يحرز ه��دفا في لعب��ة ك��رة الق��دم.لهذا نقول أحسنت يا أخي!

- ال تخجلني يا سيد!

فكرت أن األمر ال يستحق أن أؤذيه أكثر من هذا. فكالنا كان تعبا ومرهقا. منذ أيام ونحن نركض ونجري؛ بال نوم وال طع��ام إلى ه��ذه الناحي��ة وتل��ك. ونع��اني

الوجع نفسه. تقدمت، تبسمت ومازحت الحاج، وسادت حال من الوئام بيننا.قال الحاج محمد: "اسحب قواتك إلى الخلف".

في منتصف الليل، وألن الخط كان هادئا، قررت وأص��غر إخالء الش��هداء، أوال،�ا، لكي ال تك��ون جثث ��ة، وثاني لكي ال يبقى جثمان ش��هيد في الخط�وط األمامي الشهداء غدا عائقا أمام مرور القوات واآلليات. لذا، اتصلت ب�"علي ب��رادران"

وطلبت منه إرسال شاحنتين صغيرتين وعنصري دعم وتجهيزات.

Page 518: books.almaaref.orgbooks.almaaref.org/static/documents/zoqaq.doc · Web viewكلّ هذه الذكريات والأصوات، کانت لا تزال تتردّد في زوايا حنجرة

518

�ة ال�تي ت�رمي والس�بب أن الخ�ط ال ي�زال في م�رمى ن�يران الق�وات العراقي اإلخوة برصاص القناصة. ولم تكن "قوات التع��اون" ق��ادرة على القي��ام بمث��ل هذه المهمة. بعد نصف ساعة، جاء "علي برادران" وأش��خاص آخ�رون، فنقلن��ا الشهداء إلى خلف الساتر الترابي بمساعدة باقي اإلخوة الذين قاتلوا وأنهك��وا كثيرا، . كان معظم الشهداء ت��ابعين لس��ريتي "ف��دك" و"البقي��ع"، وق��د ق��ارب ع��ددهم العش��رين ش��هيدا. وم��ع االعت��ذار من محض��ر الش��هداء كاف��ة، وض��عنا أجساد الشهداء فوق بعضها البعض في مؤخرة الشاحنة، وربطناها بحب��ل لكي ال يقع أي منها. في تلك األثناء، جاء والد الشهيد "محسن مدني"، وكان س��ائق سيارة إسعاف، إلى الخط األمامي لنقل الجرحى. صف سيارته خل��ف الس��اتر

الترابي واتجه نحونا.

قال أصغر: "انظر يا سيد، واخجلتاه".

ألقيت نظرة، فوجدته محقا. فالحاج مدني ك��ان متجه��ا نح��و الس��اتر ال��ترابي. فورا، ألقيت الكوفية على وجه محسن ولده، ال��ذي س��قطت جثت��ه في القن��اة الثاني��ة. فس��رية "نين��وى" ال��تي ك��ان محس��ن في ع��دادها، ق��اتلت في القن��اة��ة محس��ن، لس��نوات الثانية، وبقيت أجساد عدد من شهداء تلك القن��اة م��ع جث في أماكنها، بعد هجوم القوات العراقية على المنطقة. قلت للحاج مدني: "لم

أتيت يا حاج إلى الخط األمامي؟".

أجاب: "جئت لنقل الجرحى".- اترك المكان فورا، فقد يشن العراقيون هجوما في أي لحظة.

بعد ذلك، وبمس��اعدة أص��غر، وض��عنا أربع��ة من الج��رحى في س��يارة إس��عاف الحاج، ومع شاحنتين صغيرتين محمل�تين بالش�هداء ال�ذين ك�انوا ش�هادة فخ�ر

لكتيبة "ميثم"، وأرسلناهم إلى خط "فاطمة الزهراء" الخلفي.

Page 519: books.almaaref.orgbooks.almaaref.org/static/documents/zoqaq.doc · Web viewكلّ هذه الذكريات والأصوات، کانت لا تزال تتردّد في زوايا حنجرة

519

ا لشهداء عمليات "ك��ربالء "، في8 وك��ربالء5بعدها بفترة، أقمنا احتفاال تكريمي نادي السجادية لرياضة الزورخان��ه، الواق��ع في "مي��دان غ��ار". ف��وقفت داخ��ل الحلبة، ورحت أتحدث للجمع عن حاالت عشق كل واحد من الش��هداء، وأث��نية "محس���ن م���دني" وتل���ك ا أخ���برهم عن قص��� على والدي���ه، وإذا بي ال إرادي الكوفية. لم أكن أعرف بأن الحاج مدني ال يعلم القصة، ف��زادت رواي��تي ه��ذه

القصة هناك على المأل، من خجلتي.

بع��د إخالء الش��هداء، رجعت برفق��ة ع��دد من اإلخ��وة إلى خ��ط "بنج ض��لعي" )تشمران( الخلفي. عن��د الفج��ر، انخفض منس��وب الم��اء. ذهب أص��غر برفق��ة اإلخوة إلى خط "فاطم��ة الزه��راء" الخلفي. وبقيت أن��ا في مك��ان االس��تراحة الذي أحدثوه ب��القرب من مق��ر التكتي��ك وج��ادة "خرمش��هر" اإلس��فلتية. أديت

صالة الصبح، وتمددت قليال فغلبني النوم من شدة التعب.

فجأة، استفقت على صوت "محمد الله صفت" يق��ول: "س��يد، انهض، واذهبإلى المقر، فالحاج محمد يريدك في أمر".

نهضت وذهبت مسرعا إلى مقر التكتيك. ك�ان "أك�بر ع�اطفي" يتكلم بس��رعة��ون... ج��اؤوا... يك��ادون يس��يطرون على الس��اتر ويق��ول: "لق��د هجم العراقي

الترابي، ويأخذون اإلخوة أسرى..".

توجهت إلى الحاج محمد قائال: "ماذا عن قوات الدعم، يا حاج؟".

قال: "اتصلت ب�"رضا يزدي"؛ إنه يفتش في كتيبة عمار عن الق�وات ليجمعه�ا،��ة. ول��دينا نقص ويتوجه بها نحو الخط األمامي. لق��د ذهبت الق��وات في مأذوني

في العديد".

قلت: "وما هو تكليفنا في هذه الحال؟".- "ال شيء... فقواتك قاتلت للتو".

Page 520: books.almaaref.orgbooks.almaaref.org/static/documents/zoqaq.doc · Web viewكلّ هذه الذكريات والأصوات، کانت لا تزال تتردّد في زوايا حنجرة

520

��ة، ورحت أفتش عن خرجت من عنده، ركبت دراجة "محمد الله صفت" الناريأصغر و"أمير تشيذري".

قراب�ة الس�اعة الحادي�ة عش�رة ص�باحا وص�لت إلى خيم الخ�ط الخلفي. ك�ان اإلخوة نياما. أيقظتهم وأمرتهم بالنهوض. جمعتهم حولي وشرحت الوض��ع لهم قائال: "ال مسؤولية اآلن على أي فرد منكم. يمكن لكل واح��د أن يبقى هن��ا، أو��ون هجوم��ا، وبقي اإلخ��وة يذهب إلى طهران. لكن هذا ما حصل. شن العراقي

هناك وحيدين. أنا وأصغر وأمير ذاهبون".

بعد ساعة، وصل عدد من شاحنات التويوتا، وامتألت إلى آخرها.

��ا، وبينما كان األش��اوس يس��تعدون لالنطالق، ذهبت إلى ج��انب س��يارة التويوت�ة على رأس�ه ويجلس س��اكتا. م�ددت ي�دي نح�وه ا يض��ع الكوفي فرأيت شخص���ني ألنظر من هو. فإذا ب��ه يمس��ك بمعص��مي ويق��ول بص��وت أجش: "س��يد، إن

مصاب بالزكام...".

��ا. في تلك األثناء، ناداني أصغر، وك��ان واقف��ا على مس��افة من ش��احنة التويوت ذهبت إليه. نظر إلي أصغر نظرة فيه��ا غص��ة وق��ال: "أت��ذكر ذل��ك الي��وم حين أتيت إلي في مستش��فى الش��فاء وقلت تع��ال لنش��كل مع��ا كتيب��ة "ميثم"،

فوافقت بكل سرور؟!".

قلت: "نعم، أذكر".- أتذكر أنني اشترطت عليك شرطا؟

- نعم، كان شرطك...

��ني قطع حديثي وتابع: "كان شرطي أن ال يعلم أبدا أي منا هو القائد. أتذكر أنكنت دوما طوع أمرك؟".

- أويمكن للمرء أن ينسى هذه األمور؟

Page 521: books.almaaref.orgbooks.almaaref.org/static/documents/zoqaq.doc · Web viewكلّ هذه الذكريات والأصوات، کانت لا تزال تتردّد في زوايا حنجرة

521

- لقد تكلمت لمئات المرات، وأنا استمعت؛ دعني لمرة واح��دة أتكلم واس��معأنت.

- ولم ال؟ فلطالما استمعت لقولك، وكل عمل قمت به، كان بمش��ورتك. فق��دكنت دوما موضع ثقتي.

- أقسم بالله.

- أقسم بالله. - إن نزلنا اآلن إلى المعركة معا، وأص��ابنا مك��روه، س��يختل أم��ر الكتيب��ة. لق��د استشهد حسين، وذوو الخبرة الباقون قد جرح��وا. ستتش��تت الكتيب��ة. ال ت��نزل

اليوم إلى الميدان يا أخي.- لم يكن من المفترض أن تضغط علي بهذا الشكل.

- لقد أقسمت بالله.- حاضر، سأبقى احتراما لرفقتنا.

ذهب أص��غر، وركب الجمي��ع في ش��احنات التويوت��ا وانطلق��وا. وبينم��ا ك��انت��ا تبتع��د، ق��ال لي أح��دهم: "س��يد، أتعلم من ه��و ذاك ال��ذي ك��ان يض��ع التويوت

الكوفية على رأسه؟".- ال.

- إنه ابن الشيخ "قناعتي". لم يرد أن يتعرف إليه أحد.- ولم فعل ذلك يا عم؟ إنه وحيد ألبويه. ما كان ينبغي له أن يذهب.

��ة وت��وجهت نح��و الخ��ط األم��امي، بعد نصف ساعة، ركبت أنا أيضا دراج��ة ناريعلى مقربة من ذلك الساتر الهاللي الذي سيطر عليه اإلخوة

Page 522: books.almaaref.orgbooks.almaaref.org/static/documents/zoqaq.doc · Web viewكلّ هذه الذكريات والأصوات، کانت لا تزال تتردّد في زوايا حنجرة

522

معت أص��وات مواجه��ات عنيف��ة. باألمس واستعادوه. ألقيت الدراجة جانبا. س����ون قليال إلى ال��وراء، فع��اد اإلخ��وة قات��ل اإلخ��وة ببس��الة، ف��تراجع العراقي واسترجعوا الساتر. كانوا قرابة العشرين نفرا من شباب كتيبتنا، وال��رقم ذات��ه

من شباب كتيبة "الشهادة".

تق��دمت إلى األم��ام، ف��رأيت أص��غر يج��ري ويق��ود الق��وات بكف��اءة عالي��ة:"اذهبوا... ارموا.. التصقوا بالساتر..".

كان منهمكا بشدة، ما إن رآني حتى وقف وقال: "ألم تعدني يا سيد؟".- وعدي بعدم المجيء كان حینذاك.

بقينا لساعتين أو ثالث في حال كر وفر. سيطر اإلخ��وة على الس��اتر، وع�ززوا��ا، ولم ا. أما أنا فوصلت عند نهاية األمر تقريب خط دفاعهم، وأحدثوا خطا دفاعي

أنشغل كثيرا. كانت النيران تسقط علينا، لكنها لم تكن شديدة وضاغطة.

قال شباب كتيب��ة الش��هادة: إن "أص��غر أرس��نجاني" ك��ان أول من هجم. وق��د قاتل بنحو جيد. وإذا ما ثبتنا واس��تمررنا إلى الغ��د، س��تنزل كتيب��ة "عم��ار" إلى

الخط األمامي.

كنا قد سيطرنا على الساتر، وكان الخط هادئا. تمدد اإلخ�وة بغي��ة االس��تراحة،يت وأص��غر إلى حاف��ة فيم��ا بقيت عين بعض��هم على حش��ود الع��راقيين. تمش�� القناة، تحت السماء السوداء المليئ��ة ب�النجوم. توقفن�ا في مك�ان. كنت أرقب

السماء وإذا بأصغر يمد يده إلى عنقه، يخلع البالك خاصته ويأخذه في يده.

تعجبت وقلت: "إ... ما هذا الذي تفعله يا أصغر؟".

قال بحال عجيبة لم أشهدها منه يوما: "الشهادة أيضا هي شكل من

Page 523: books.almaaref.orgbooks.almaaref.org/static/documents/zoqaq.doc · Web viewكلّ هذه الذكريات والأصوات، کانت لا تزال تتردّد في زوايا حنجرة

523

أشكال الشهوة، أريد أن أموت مجهوال حتى ال أكون أسيرا لهذه الشهوة".

��ا ظننت في البداية أنه ليس جادا في كالمه. هذا الكالم العرفاني لم يكن غريب من أصغر. فأصغر كان قد سلك الطريق؛ لكنني لم أظن أنه انسلخ عن ال��دنيا

إلى هذه الدرجة!

وبينما أنا أنظر إليه، رمى البالك خاصته في قناة الس��مك. قلت باس��تياء: "م��ا هذا الذي فعلته يا عم؟ إذا ما حدث لك مكروه، يتعرف��ون إلي��ك من خالل ه��ذا

البالك. لم رميته؟".

قال: "ال أريد أن أتعلق حتى به".

ثم قال: "سيد، بالله عليك، قم بعمل ما. إن هؤالء الشباب قد تعب��وا، وخ��ارت��ون هجوم��ا في الغ��د، فلن يس��تطيعوا الوق��وف ق��واهم، وإذا م��ا ش��ن العراقي

بوجههم. اذهب إلى الحاج محمد وتحدث معه في األمر".

ا. رجعن��ا كان يريد أن يصرف انتباهي نحو شيء آخر. أصبح وج��ه أص��غر نورانيمعا إلى الساتر. أنار العراقيون سماء المنطقة بالقنابل المضيئة.

ما بين الساعة الثالثة والرابعة، ركبت دراجة "محمد الله صفت" وتوجهت نحو مقر الخط الخلفي. وجدت الحاج محمد نائما. توضأت تحت الس��ماء، ون��اجيت الله ببضع كلمات، قبيل أذان الفجر، وقفت ألؤدي الص��الة، وإذا بالح��اج محم��د

قد استيقظ. فشرحت له وضعية الخط وحال اإلخوة.

قال: "لقد اتصلت عبر الجهاز والق��وات في الطري��ق". وفيم��ا أن��ا أتح��دث إلىالحاج محمد، اشتد صوت الرصاص ودوي القذائف.

قلت له: "حاج، لقد بدأت قواتي بالمواجهة، علي أن أذهب".

��ة وراح يض��غط على دواس��ة الب��نزين، شغل "محمد الله صفت" دراجت��ه الناريقفزت خلفه وعدنا إلى الخط األمامي.

Page 524: books.almaaref.orgbooks.almaaref.org/static/documents/zoqaq.doc · Web viewكلّ هذه الذكريات والأصوات، کانت لا تزال تتردّد في زوايا حنجرة

524

ك��ان ن��ور الص��باح ينش��ق، حين رأيت بعض اإلخ��وة يتجه��ون نح��و الخط��وطالخلفية، وهم خائرو القوى، ممرغون بالدم والتراب.

- ماذا حصل؟ - العراقيون، عديمو الم��روءة، هجم��وا علين��ا في الظلم��ة. وك��أنهم من ق��وات

الحرس الجمهوري.

أشار أحد اإلخوة إلى موضع في الساتر الترابي وقال: "الحاج أصغر هناك. هونفسه أمرنا باالنسحاب وقال: "اذهبوا أنتم، فأنا أتصدى للعراقيين..".

��تي ألص��غر، لم أدع المس��كين يتم كالم��ه. ه��رعت مس��رعا نح��و من شدة محب الساتر الذي كان أصغر مرتميا علي��ه بش��كل ج��انبي، وي��رمي بن��يران رشاش��ه على العراقيين. جلست إلى جانبه والتصقت بالس��اتر، ورحت أرمي برشاش��ي نحوهم. نظر إلي أصغر بطرف عينه وتابع عمله. وقفت على ركب��تي وه��دفت. كان الصبح يسفر عن وجه��ه، وب��دأت أرى أطي��اف الع��راقيين. انح��نيت للم��رة الثانية مريدا اإلطالق، وإذا برصاصة تصيب يدي؛ اليد نفسها التي أصيبت ع��دة مرات من قبل. أحسست بنصف بدني قد شل. تركت الرشاش، تراجعت إلى

الخلف واستندت إلى الساتر الترابي.

بدأ الدم يتقاطر من يدي. عن��دها ج��اء "محم��د ق��زاقي" وك��ان طوي��ل القام��ةعریض المنكبين، يرتدي بزة مرقطة.- "سيد، منذ ساعة وأنا أبحث عنك".

- "اذهب يا أخي... اذهب إلى أصغر وساعده. فالعراقيون يحيطون به".

ا الح��ق أن "محم��د ق��زاقي" ك��ان يقات��ل لوح��ده رجال بعش��رة، وك��ان منافس��لمجموعة من العراقيين.

Page 525: books.almaaref.orgbooks.almaaref.org/static/documents/zoqaq.doc · Web viewكلّ هذه الذكريات والأصوات، کانت لا تزال تتردّد في زوايا حنجرة

525

وقف برشاشه أمام األعداء، فذكرتني قامته الرشيقة ب�"حسين طاهري". فقدكانا يشبهان بعضهما البعض في الطول، وفي القلب، وفي الهدف.

نهضت منحنيا وألقيت نظرة على المكان الذي تموضع فيه أص��غر، فلم أج��ده. وقفت وصعدت خط�وتين على كت��ف الس��اتر، فرأيت��ه ق��د أص��يب وس��قط إلى

الجهة األخرى من الساتر.

ازدادت غزارة النيران إلى درجة لم أتمكن فيها من الوث��وب إلى تل��ك الناحي��ة ومس��اعدته. س��قط أص��غر خ��ائر الق��وى وس��الحه إلى جانب��ه. فيم��ا س��يطر العراقيون على الساتر األم��امي، فك��انوا يعتلون��ه وي��نزلون عن��ه، وهم يهلل��ون

مسرورين.

ال أعلم ما ال��ذي ح��دث. كنت على مس��افة ثالثين م��ترا عن أص��غر؛ لكن ه��ذه الثالثين مترا كأنها ألف فرسخ بيننا. لم أس��تطع النه�وض والتوج��ه إلي��ه. لربم��ا

صارت نفسي أعز علي في تلك اللحظة!

أغمضت عيني للحظة وفقدت الوعي. اس��تفقت بع��د دق��ائق. ت��ذكرت أص��غر. نهضت وألقيت نظرة، لم أجده. لم يكن في المكان الذي س��قط في��ه، ومهم��ا

جلت بناظري لم أره. لربما أسره العراقيون، حتى رشاشه لم يكن موجودا.

��ا وتن��اثرت خطر ببالي أنه قد يكون أسر، أو أصابته قذيفة مباشرة فتقط��ع إربأشالؤه.. ألف فكرة وفكرة خطرت ببالي.

ع��دت ونهض��ت ونظ��رت خلفي، فج��أة حفت ش��ظية بجل��د رأس��ي واقتلعت��ه.أحسست بوخز وألم كبيرين، وشعرت بدوار في رأسي وسقطت أرضا.

اختلطت أصوات الناس من حولي ببعض��ها البعض. ك��انت جماع��ة منهم تتكلمالعربية بصوت عال وتصيح. شعرت بثقل في رأسي، وصارت

Page 526: books.almaaref.orgbooks.almaaref.org/static/documents/zoqaq.doc · Web viewكلّ هذه الذكريات والأصوات، کانت لا تزال تتردّد في زوايا حنجرة

526

األصوات غير واضحة.

بعد دقائق، استعدت وعيي، فوجدت نفسي إلى جانب القناة.

كان العراقيون يمرون من جانبي؛ لكنهم لم يكترثوا لي. فالمواجه��ات ال ت��زال قائمة. وهم يحاولون الضغط علينا لنتراجع. أرادوا أخذ بقية الساتر الهاللي بعد أن سيطروا عليه. رحت أزحف ش��يئا فش��يئا إلى أن وص��لت إلى حاف��ة القن��اة ونزلت فيها. كانت القناة خالية من المياه، وق��د انخفض منس��وب المي��اه فيه��ا وبقي الطين الذي غرقت رجالي فيه إلى الركبتين. جلست هناك، كان ال��دم ال

يزال ينزف من رأسي، وقد لطخ وجهي ورقبتي.

ألقيت نظ��رة على المك��ان من ح��ولي، وأث��نيت على عملي في قل��بي، فلن��ا.في يخطر على بال الجن حتى، بأن أحدا داخل القناة. لق��د وج��دت مالذا آمن تلك األثناء، التفت إلى وجود ش��خص ج��الس في الطين على بع��د ثالثين م��تراا، ��ه ق��د يك��ون عراقي مني، ولم تكن معالمه واضحة. أردت أن أناديه، فكرت أن وحينذاك سنضطر للعراك في الطين. رفعت يدي السالمة وسحبت بع��د جه��د جهيد منديلي، ووضعته على جرح رأسي. كنت أنظر إلى ذلك الشخص مترددا

هل أناديه أم ال.

من سوء الحظ أنني كلما تحركت غرقت في الطين أك��ثر. وق��د التص��ق بي��دي ورجلي كم��ادة الص��قة. في النهاي��ة، خ��اطرت وناديت��ه: "ه��اي... من أنت؟

إيراني؟".

توجه إلي ونادى: "أنا أمير... أمير رحيمي..".

فرحت وناديته من جديد: "تعال يا أمير... أنا السيد".

راح كالنا يصارع في الطين. كنت أرفع رجلي، فتنغ��رز في الطين أك��ثر. ب��دأتأصلي على محمد وآل محمد، وطلبت المدد من المولى. وشيئا فشيئا

Page 527: books.almaaref.orgbooks.almaaref.org/static/documents/zoqaq.doc · Web viewكلّ هذه الذكريات والأصوات، کانت لا تزال تتردّد في زوايا حنجرة

527

اقتربت من أمير.

عن��دما وص��لنا إلى بعض��نا البعض، قلت: "أم��ير، لق�د أص��بت... كي��ف الطري��قللخروج من هنا؟ ماذا سنفعل.

��ا. إن أجاب أمير: "سيد، لقد أصبت برجلي أيضا. وأنت أنحف مني وأخ��ف وزنخلعت سروالك يمكنك الخروج من الطين".

- إننا غارقون في الوحل إلى صدورنا، أنى لي أن أخلع سروالي؟- يمكن ذلك، عليك بفك الحزام واألزرار، فينخلع.

استمعت لكالم أمير ونفذته.

ق��ال أم��ير: "اس��تند بي��دك الس��المة على كتفي واص��عد. اس��حب نفس��ك إلىاألعلى".

انحنى أمير وأدنى كتفه، اتك��أت إلى كتف��ه، ض��غطت بك��ل م��ا أوتيت من ق��وةوسحبت نفسي إلى األعلى.

عمق القناة حوالي المترين. اتكأت على أمير، وأوصلت أط��راف أص��ابعي إلى حافة القناة، فسحب أمير سروالي، ونزعه عني. أمسكت الحافة بي��د واح��دة،

سحبت نفسي إلى األعلى، وارتميت أرضا، غبت لحظات عن الوعي.

ا، إال أني كنت واثق��ا كانت أصوات العراقيين تتناهى إلى سمعي. كنت مشوش��من أنهم احتلوا الساتر وأجبرونا على التراجع.

تذكرت أمير العالق في الطين. نهض��ت وجلس��ت. إلهي، كي��ف لي أن أس��حب أمير ببدنه الضخم ذاك؟ لقد تعاطى أم��ير معي بش��هامة وأخرج��ني من الطين

قبل نفسه.

Page 528: books.almaaref.orgbooks.almaaref.org/static/documents/zoqaq.doc · Web viewكلّ هذه الذكريات والأصوات، کانت لا تزال تتردّد في زوايا حنجرة

528

ذكرت الله سبحانه وأطلقت صلوات محمدية صلى الله عليه وآله وسلم. وقع ناظري على مالبس ممزقة مرمية في المكان. ال أعلم إن ك��انت لع��راقيين أو إي��رانيين. مهم��ا يكن، ص��ففتها على ط��ول بعض��ها البعض وربطته��ا بإحك��ام، وصنعت منها حبال قصيرا وعريضا. وبيدي المصابة التي يسري ألمها في تم��ام ب��دني ك��ل بض��ع دق��ائق ربطت ط��رف ذل��ك الحب��ل بمعص��م رجلي، وألقيت

بالطرف اآلخر في القناة وقلت ألمير: "أمير، خذ وتمسك به".- أنى لك أن تسحبني إلى األعلى بيد واحدة؟

- ال تخف. ربك هو المساعد.

تمددت على األرض بالقرب من حافة القناة، وتشبثت بكل قوتي بالتراب.

ا. وراح يسحب نفسه شيئا فش��يئا إلى خلع أمير أيضا سرواله فخف وزنه نسبي األعلى. كنت أنزلق بجسدي الممدد على التراب وأشعر بألم كبير. ك��ان أم��ير ثقيل الوزن، فسحبني باتجاه القناة، وكدت أسقط فيها من جدي��د؛ إال أن أم��ير بالنهاية، أوصل نفسه إلى حافة القناة. تم�ددنا على حاف��ة القن��اة، وك�ان كالن��ا

مصابا ملطخا بالدماء والتراب.

وعلى ما يبدو أننا غبنا عن الوعي لدقائق ولم نع ما يجري حولنا.

شيئا فشيئا استعدنا أنفاسنا. نهضنا بظهرين منحنيين. ال أعلم كم س��اعة بقين��افي القناة.

خمنا بأن "توك مدادي" خلفنا وأننا نقع إلى ناحية خط دفاعنا؛ أي أنن��ا بعي��دونعن الساتر الهاللي. شكرنا الله أننا لم نكن في مرمى النيران.

كانت حولنا بعض الجثث المتساقطة. حينما استعدت تركيزي، ت��ذكرت أص��غر.��ني لم رجعت ورحت أفتش عن المكان ال��ذي رأيت��ه في��ه للم��رة األخ��يرة، لكن

أستطع تحديد الجهة. كان قلبي عنده. تمنيت لو أن ذرة طاقة

Page 529: books.almaaref.orgbooks.almaaref.org/static/documents/zoqaq.doc · Web viewكلّ هذه الذكريات والأصوات، کانت لا تزال تتردّد في زوايا حنجرة

529

وقوة بقيت في، ألفتش عنه وأعثر على جثمانه بالح��د األدنى؛ لكن وا أس��فاه،وألف وا أسفاه...

لم ت��ؤات العراق��يين الفرص��ة لس��حب جثث قتالهم. فبقي أك��ثرهم في أرض المعركة. وكذا شهداؤنا، لكن األمر قد أفلت من أي�دينا، ولم يب��ق أح�د لينقلهم

إلى الخطوط الخلفية.

قال أمير: "لن أستطيع المشي".

جثا على ركبتيه وزحف عليهما بضع خطوات وراح يتقدم بهذه الطريقة.

قلت: "أمامن��ا م��ا بين الكيلوم��ترين والثالث��ة كيلوم��ترات للوص��ول إلى الخ��طالخلفي. ال يمكنك الذهاب بهذه الطريقة".

وضعت يدي تحت إبطيه وساعدته على النهوض.

استند كل واحد منا على اآلخر. اتكأ هو على يدي الس��المة وس��اعدته، وس��رناونحن نعرج نحو الخطوط الخلفية.

مع طلوع النهار، وجدنا أنفسنا على مقربة من خط "فاطمة الزهراء" الخلفي.

لم يعد بنا طاقة على المشي. ألقينا بأنفسنا إلى األرض، وكنا كإنسان مشرفعلى الموت نذكر الله تعالى ونئن.

ظهرت من البعيد سيارة تويوتا. كانت تسير بسرعة فتثير الغب��ار وال��تراب منحولها. ما إن رآنا حتى كبس على المكابح.

قفز السائق من السيارة، وتناول جعبة الماء وراح يسقينا.

قال: أنا من فرقة "ثار الله". وأركبنا في صندوق الشاحنة وانطلق بنا نحو

Page 530: books.almaaref.orgbooks.almaaref.org/static/documents/zoqaq.doc · Web viewكلّ هذه الذكريات والأصوات، کانت لا تزال تتردّد في زوايا حنجرة

530

المستش��فى المي��داني. وهن��اك على س��رير المستش��فى غلب��ني النع��اس ولم��ني أرت�دي س��رواال أستيقظ إال على صوت المؤذن يؤذن ألذان المغ�رب. فرأيت

ا ال غير. كان كل جزء من أجزاء بدني منهكا، وما زلت متعبا. داخلي

سألت أحدهم: "أين أنا؟".

قال: "في مستشفى اإلمام الحسين عليه الس��الم، على بع��د أربعين كيلوم��ترامن األهواز".

بت تلك الليلة في المستشفى الميداني.

في الصباح جاء أمير وقال: "أنا عائد إلى الخطوط األمامية".

أما أنا فضمدوا جراحي، وخاطوا لي شق رأسي. كما ضمدوا لي يدي وق��الوا: "علي��ك أن ت��ذهب إلى األه��واز وتخض��ع هن��اك لص��ورة ش��عاعية، ليتض��ح أين

استقرت الشظية أو الرصاصة.

وقد تورمت يدي فأصبحت مثل المخدة.

قلت: "أنا المسؤول؛ وال وقت لدي للدواء والعالج. وكتيبتي مض��طربة وح��يرىفي الخطوط األمامية. علي أن أعود".

استعرنا لباسين رماديين من المستشفى وارتديناهما.

جاءت سيارة إسعاف ونقلتني وأمير إلى المقر، عند الحاج محمد.

��ا إلى أح��وال بعض��نا البعض، ��ة، واطمأنن التقيناه، فساد ج��و من الف��رح والمحبوقدم لنا عصير الفاكهة.

قصصت للحاج محمد حكاية شهادة أصغر. فحزن كثيرا؛ إال أن فكره ك��ان في العمليات. قال: "لقد وصلت كتيبة "عمار"، وقامت بمهمة الدفاع. وقد خسرنا

ساترا أو ساترين هالليين. إال أن كتيبة "عمار" قد أحكمت

Page 531: books.almaaref.orgbooks.almaaref.org/static/documents/zoqaq.doc · Web viewكلّ هذه الذكريات والأصوات، کانت لا تزال تتردّد في زوايا حنجرة

531

الخط خلفهما. فطلبت ممن تبقى منها أن ينسحبوا".

��ا إلى خ��ط "تش��مران" ��ات بس��يارة تويوت أوص��لنا أح��د ش��باب تخطي��ط العملي الخلفي. وك��ان هن��اك ع��دد من ش��باب كتيب��ة ميثم، ح��ائرين ال يعرف��ون م��ا

يصنعون.

��ات ��ا إلى مخيم "كرخ��ه". بقين��ا بع��د العملي جمعتهم ونقلتهم في س��يارة تويوت عشرة أشخاص من طاقم الكتيب��ة، وبعض عناص��ر الح��رس الرس��ميين ال��ذين

أظهروا شهامة عالية وبقوا.

وهناك قمت بتسوية حساب بعض الشباب وأرس��لتهم إلى دي��ارهم. بقين��ا نحن العشرة أشخاص في خيمة خالية. ومن جديد ع��دت للوح��دة ول��بيت األح��زان!

تذكرت شباب زقاقنا. وكم من الخطط رسمت ليبقى ذلك الزقاق زقاقا.

ابن السيدة "أقدس"، وابن السيدة "زهراء". ماذا س��أجيب ه��اتين الس��يدتين؟��ة أص��غر كان الجميع يأملون بي. تذكرت أصغر رفي��ق روحي. كي��ف س��أجد جث ال��تي بقيت في مكانه��ا؟ وكي��ف سأص��نع في غم ف��راق أص��غر؟ م��اذا س��أقول لعائلته وأمه؟ فأصغر صديقي الحميم والمكم��ل لي. وق��د تركت��ه في منتص��ف

الطريق، ومع كل ذلك الذكاء لم أعثر على أثر له.

كنت أتحطم تحت ثقل ه��ذا الض��غط، وأتلظى بلوع��تي. لم أع��د أحتم��ل. كنت كأب أضاع أوالده. أصبحت كالمجنون، ضربت رأسي بعمود الخيمة. وددت ل��و أني استشهدت أو أسرت ولم أر هذه الخيم الخالية. الله أك��بر على ه��ذا الغم

والهجر!

��ا نجتم��ع ��رثى له��ا، وفي ذروة الجن��ون. كن بقينا أسبوعا في الخيم وفي ح��ال يونبكي لذكرى الرفاق. نبكي ونبكي ليس إال..

ا لم أشعر بمثله في حياتي. فحين عينت يعلم الله كم أحببت هؤالء الشباب حب قائدا، تعلقت باإلخوة بشكل عجيب. وكمن فق��د ش��يئا، رحت أبحث في الخيم

خيمة خيمة وأفتش عن شباب "ميثم". لم أكن عارفا،

Page 532: books.almaaref.orgbooks.almaaref.org/static/documents/zoqaq.doc · Web viewكلّ هذه الذكريات والأصوات، کانت لا تزال تتردّد في زوايا حنجرة

532

لكنني كنت عاشقا. كانت أجواء "ميثم" تأخذني معها، وصفاؤها يغرق��ني في��ه؛ ساد جو من العشق والمعنوية. لقد ش��كلنا الكتيب��ة وأردن��ا أن ال تنقص ش��عرة

من شعر أحد العناصر.��ز بين "ميثم" وغيره��ا. لكن الحرب ال تعرف المزاح مع أحد، وحين تقع، ال تميا هن��اك، كنت أتذكر اإلخوة واحدا واحدا، فيش��تعل قل��بي ن��ارا. ك��ل من بقي حي كان يحترق بغمه. لقد أتينا إلى الجبهة لنقطع تعلقنا بالدنيا، فتعلقنا باألص��دقاء

والرفاق!

تذكرت أصغر حين كان يقول: "أترى هؤالء الشباب؟ هؤالء إما أن يستش��هدوا أو يبقوا أحياء. فال نق��ومن بعم��ل ي��ؤدي فيم��ا بع��د، إذا م��ا انتهت الح��رب، إلى اإلعراض بوجوههم عنا إذا ما صادف والتقينا بهم في أحد شوارع طهران. فإن لم نح��ل لهم مش��اكلهم، فلنس��ع بالح��د األدنى إلى أن ال نض��يف مش��اكل إلى

مشاكلهم ".

وتذكرته حين قال يوما: "أنا ال أس�تبدل بعش�ق االم�ام الحس�ين علي��ه الس�المزعامة العالم كله".

ولم يفعل، وحقق أمنيته التي لطالما تمناها، وكان الئقا بها.

تحسرت لم لم أستطع أن أكون كأصغر. لقد تخلى عن كل شيء. ولم يأسرهشيء. من أجل ذلك اشتراه الله سبحانه، فكانت الشهادة من نصيبه.

بعد أيام، أبلغنا بأن الشيخ هاشمي ق��د حض��ر إلى مب��نى الغول��ف به��دف لق��اءالقادة.

ا، ذهبت إلى ذل��ك اللق��اء. حض��ر حينه��ا ك��ل من بقي من اإلخ��وة الق��ادة حي��ة ح��ول الش��يخ هاش��مي ال��ذي جلس ا وتحلق��وا في حلق��ة دائري فجلسوا أرض��

بدوره على األرض.

Page 533: books.almaaref.orgbooks.almaaref.org/static/documents/zoqaq.doc · Web viewكلّ هذه الذكريات والأصوات، کانت لا تزال تتردّد في زوايا حنجرة

533

بدأنا بالتعريف عن أنفسنا بالدور؛

رضا يزدي، قائد كتيبة عمار؛ نصرت غريب، كتيبة سلمان؛ محمود أميني، كتيبة حمزة؛ حسن محقق، حبيب؛ صالحي، مالك؛ جعف��ر محتش��م، أنص��ار الرس��ول و... حين تم التع��ارف، نظ��ر الش��يخ هاش��مي إلى اإلخ��وة، ومن ثم توج��ه إلى الحاج محمد قائال: "اتركن��ا قليال... لربم��ا يري��د ه�ؤالء أن يقول�وا لن��ا ش��يئا، وال

يستطيعون البوح به في وجودكم".

قام الحاج كوثري من مكانه وخ��رج من دون أن ينبس ببنت ش��فة. بع��دها راح الشيخ هاشمي يخاطب اإلخوة وقد حفظ أسماءهم: "حسنا، سيد يزدي، قائ��دكتيبة عمار، قل ما عندك؟ .... وأنت يا سيد، قائد كتيبة ميثم، ماذا عندك؟ ...

ذكر جميع أسماء اإلخوة والكتائب التي يقودونها بنحو صحيح. فقد كان متوق��دالذكاء.

تحدثت بدوري عن عمليات كتيبة ميثم، وما كان ينقصها. عن الال عدل، وع��دمالتنظيم والتقصير.

قال: "أنا أعلم عما تتكلم؛ صحيح ما تقول، لكن ال سبيل أمامنا س��وى القت��ال.��ه يق��ف إما أن نستسلم، أو نقاتل ونأخذ من العدو موطئ ق��دم. إن الع��الم كل إلى ج��انب الع��دو. وق��د حظ��روا علين��ا ش��راء الس��الح. كالم��ك ص��حيح؛ لكن

معلوماتك ناقصة. يجب أن تكون لدينا ورقة رابحة في هذه المعادلة..".

��رت ب��أن اللق��اء بالش��يخ ك��ان ل��دي الكث��ير من الكالم ال��ذي أردت قول��ه. فك هاشمي يختلف عن لق��اء الب��اقين. فه��و يع��رف عمل��ه، ومنفتح الفك��ر، ويتفهم

المجاهدين وما يقولونه.

Page 534: books.almaaref.orgbooks.almaaref.org/static/documents/zoqaq.doc · Web viewكلّ هذه الذكريات والأصوات، کانت لا تزال تتردّد في زوايا حنجرة

534

أردت أن أطلب من��ه أن ي��أتي ول��و لم��رة واح��دة ويس��تمع لكالم المجاه��دين مباشرة. أن أسأله: لم ال تقدمون اإلمكانات للمجاهدين؟ لم��اذا في ك��ل م��رة

نأتي لنتكلم، ال تسمحون بذلك؟

كان لدي الكثير؛ لكنني لم أستطع اإلفصاح عنه، وبقي كله في قلبي.

نقلنا الخيم والمتاع إلى "دوكوهه"، ومن ثم عدنا إلى طهران.

Page 535: books.almaaref.orgbooks.almaaref.org/static/documents/zoqaq.doc · Web viewكلّ هذه الذكريات والأصوات، کانت لا تزال تتردّد في زوايا حنجرة

535

قعر القدر لذيذ

"يا جليس الروح الذي نسيت رفاقك.."

انشغلت ما بين العشرة واالثني عشر يوما في متابع��ة العالج. في البداي��ة، لم��ة. ف��إن أردت ال��ذهاب إلى أي مك��ان، كنت أكن أستطيع ركوب الدراجة الناري إم��ا أذهب ماش��يا، أو ك��ان الرف��اق ي��أتون وينقل��وني بالس��يارة. ش��يئا فش��يئا تحسنت أحوالي، والتأمت جراحي، فتمكنت من متابعة أمور شهداء ميثم على الدراجة النارية. أجريت إحصاء للشهداء والجرحى، ولمن تركت أجسادهم في

أرض المعركة.

بحثت عن حسين إسماعيلي، فعلمت أنه يرقد في مستشفى "بقية الله". في تلك الفترة، ذهبت مرتين لعيادته برفقة علي ب��رادران. بع��دها لم أره إال قليال.��اب والمس��افرين. سمعت فيما بعد أنه كان يس��عى وراء عمل��ه في نق��ل الرك ومرة سمعت أنه يمضي أيامه في بيع السجائر. فكرت دوما فيه. لكن الزمان لم يسمح لنا بالمقابلة. كان هذا مصير أسد "شلمتشه"، وبطل معركة "كربالء

".5 و8

ق��ررت أن أقيم بمس��اعدة الرف��اق مجلس فاتح��ة عن أرواح ش��هداء كتيب��ة"ميثم". دعونا عوائل الشهداء وأقمنا مجلسا مهيبا في مسجد "صدرية".

Page 536: books.almaaref.orgbooks.almaaref.org/static/documents/zoqaq.doc · Web viewكلّ هذه الذكريات والأصوات، کانت لا تزال تتردّد في زوايا حنجرة

536

كان قد مضى خمسة وعشرون يوما على العمليات، ولم تزل المصائب حديثة العهد. وقد التأمت جراح بدني، إال أن ج��راح القلب لم تل��تئم. ب��ل غ��دت تنفتح من جديد كلم��ا التقيت بأح��د الرف��اق. لم تكن تغيب عن ب��الي تل��ك البط��والت والتضحيات. كانت حرب الحق والباطل. وقد جسدت جمي��ع الكت��ائب ش��جاعة

كبيرة، حين صمدت بوجه ذلك الجحيم الذي صنعه العراقيون.

��ات بقي جثم��ان علي أص��غر في "شلمتش��ه". وبااللتف��ات إلى وض��عية العمليا من س��ابع المس��تحيالت. له��ذا، أقمن��ا حينه��ا مجلس والمنطقة، كان بقاؤه حي عزاء عن روحه في مسجد محمدية، تحدث فيه الس��يد علي. وأقمن��ا ل���"رض��ا��ا مس��جد مير كمالي" مجلس فاتحة أيضا في "باغ بيس��يم". كم��ا التح��ق تعبوي محلتنا "رضا بور" و"دهقاني" بجوار الحق. ولم يعد من أجساد الشهداء س��وىا وغي��ورا، وبن��اء ا قوي جسد "السيد حسين ك��اظمي" ابن أخي ال��ذي ك��ان ش��اب على التكليف، انسلخ عن الحياة المرفهة، وسلم القلب لله؛ مع أن الكث��ير في ذلك الزمان كانوا من قساة القلوب، ولم ت��ترك ش��هادته أي أث��ر في قل��وبهم. ولقد سلبتنا "شلمتشه" اثنين من األقارب هما، السيد "مصطفى هادي��ان" من كتيب��ة "عم��ار"، والس��يد "إب��راهيم ش��اه م��رادي" من كتيب��ة "مال��ك"، ومنحت

ا. العائلة فخرا أبدي

على أي حال، كنت كلما التقيت بواحد من قوات ميثم، س��ألني: م��تى س��نعودإلى الجبهة؟

كانوا يظهرون لطفا ومحبة، ويقولون: نحن جاهزون، في أي وقت تأمر.

��ه بعد انتهاء مراسم التعزي�ة بالش��هداء، علمت عن طري�ق ش��باب الفرق��ة، بأنتقرر أن تقوم الفرقة بالعمليات في المناطق الغربية. كانت ليلة

Page 537: books.almaaref.orgbooks.almaaref.org/static/documents/zoqaq.doc · Web viewكلّ هذه الذكريات والأصوات، کانت لا تزال تتردّد في زوايا حنجرة

537

الذكرى السنوية لش��هادة الش��هيد "جعف��ر جن��ك روي"، فحض��ر معظم ش��باب كتيبة ميثم. وهناك بلغتهم بأن كل من يريد ال��ذهاب إلى الجبه��ة، ف��إن الفرق��ة

تستقر في مخيم "كوزران".

ا إلى مخيم1987في أواس��ط ش��هر تم��وز من الع��ام م، مض��يت أن��ا أيض�� "كوزران"، وجمعت قوات ميثم التي أصبحت سريتين؛ سرية "البقيع" وس��ريةا ازداد عدد القوات. فأعيد تشكيل سرية "نينوى".ووص��ل ع��دد "فدك". تدريجي القوات إلى مائتي عنصر. أقيمت في "كوزران" دورة في التدريب العسكري. فكان يقوم بتدريب القوات كل من "أمير تشیذري" و"قاسم كارکر" و"محم��د جعفري". وغالبا ما كان التدريب يشمل األفراد الملتحقين بالجبهة ح��ديثا. أم��ا أنا فكنت صلة الوصل بينهم وبين الفرقة، وال دخ�ل لي في ال�برامج الص��باحية

وال في التدريب.

ا هذا وقد أقيم مقر التكتيك على سفح جبل. وكان مس�ؤولي ه�ذه الم�رة أيض�الحاج محمد كوثري.

ذات يوم ذهبت إلى الحاج محمد، وبعد التحية والسالم والسؤال عن األح��وال،قال: "ما األخبار؟".

قلت: "جاء ذلك اليوم الذي وعدتك به، فقد حض��رت س��ريتان؛ يبل��غ ع��دد ك��لمنهما مائة عنصر..".

نهض الحاج محمد من مكانه وتوجه نحو جهاز الالسلكي، قال أش��ياء، ثم رج��عوجلس إلي.

تابعت قائال: "وسرية نينوى أصبحت مستعدة أيضا..".

وم��رة أخ��رى، نهض وتوج��ه نح��و الجه��از، ومن ثم ع��اد بع��د ع��دة دق��ائقوقال:"سيد، جهز كتيبتك؛ عليكم أن تذهبوا للدفاع".

Page 538: books.almaaref.orgbooks.almaaref.org/static/documents/zoqaq.doc · Web viewكلّ هذه الذكريات والأصوات، کانت لا تزال تتردّد في زوايا حنجرة

538

- أين؟- شلمتشه.

��ات في غ��رب - يا حاجي العزيز، أين سنذهب؟ أولم تقل إننا نريد القيام بعملي البالد؟ لقد ذهبت وجهزت القوات. وهؤالء أيضا عملوا على أنفس��هم، وت��دربوا��ات. الكث��يرون منهم لم يكون��وا يري��دون المجيء، فج��راحهم لم تل��تئم للعملي

كفاية. واآلن حين أتوا أراك تتشدد في معاملتنا؟- عدنا إلى المشاكسة مجددا.

- أولم تعدني، ينبغي أن تبقى عند كالم��ك. لن يمض��ي أح��د من ه��ؤالء األف��راد الذين جمعتهم إلى الدفاع. إن كنت جادا فيما تقول��ه، اجم��ع ع��ددا من عناص��ر

الحرس الرسميين، وشكل منهم كتيبة وأرسلها للدفاع. - أنا مرة أقول هناك عمليات، ومرة أقول ليس هناك عمليات، هل عدت لتثير

تلك المشاكل من جديد؟ عجبا!�دا، وال - ال عجبا وال شيء آخر يا أخي! فقواتي قوات صلبة، خبرت الح��رب جي��ات. أين أذهب يسعون لفرض أنفسهم على أحد، لق��د ج��اؤوا من أج��ل العملي بعناصري التعبوية المتالشية في هذا الجو الحار؟ وأين آخذهم عن��دما ال يك��ون��ام خط��وط هن��اك مواجه��ات ويك��ون الوض��ع هادئا في ]خط��وط[ ال��دفاع؟ فأي الدفاع مثل الس��جن، ونهاراته��ا اللعين��ة طويل��ة ج��دا، تش��عر اإلنس��ان بالمل��ل. ويتحتم علينا أثناء وجود الشمس والنه��ارات الطويل��ة التك��وم في الدش��م إلى الليل. إنه ألمر متعب، يتلف أعصاب العناص��ر. والكث��ير من ق��واتي، ك��انوا في

عداد عناصر معلومات العمليات. في لواء الحر..".

سكت الحاج محمد لبرهة ثم قال: "سيد، لم طباعك مختلفة عن اآلخرين؟ أمامن ضوابط تحكمك يا رجل؟".

Page 539: books.almaaref.orgbooks.almaaref.org/static/documents/zoqaq.doc · Web viewكلّ هذه الذكريات والأصوات، کانت لا تزال تتردّد في زوايا حنجرة

539

��ق بثي��اب بعض��نا وحتى ال نبتعد كثيرا عن أص��ل الموض��وع! لم يب��ق إال أن نتعل البعض! بقين��ا نتج��ادل لس��اعة أو س��اعتين، إلى أن خ��رجت من المق��ر متل��ف

األعصاب ومن دون وداع.

��ا وتوجهن��ا نح��و "ك��وزران" لنتن��اول تبعني ثالثة من اإلخوة، فركبنا سيارة تويوت وجبة من الطعام. اجتمع الشباب حولي، وراحوا يمزح��ون ويمرح��ون ليخفف��وا

عني.

وجدنا محال يشوي الكبد، فدخلنا وطلبنا أربعة عش��ر س��يخا من الكب��د، وأربع��ةعشر سيخا من القلب، وأربعة عشر سيخا من الكلية.

أعد لنا الطاهي حوالي الثالثين سيخا، وتوجه إلينا قائال: "أين ت��ذهبون به��ذه ي��اعم؟

قلت: "إنه إلفحام أحدهم، نتشارط لنرى من هو األسرع واألمهر في األكل".

بعد ذلك، سبحنا في النهر وعدنا مع غروب الشمس إلى الكتيبة.

في اليوم التالي، جاء إلي مسؤول مقر الفرقة "ج��واد حكمي"، وك��ان إنس��انا هادئا حسن التعاطي، فأخذني جانبا وقال: "أن�ا أتفهم�ك ي�ا س�يد، كم�ا أع�رف هؤالء. لكن الحاج محمد مصر على رأيه ويقول: ها هو السيد يق��ف في وجهي من جدي��د؛ وال ي��دعني أق��وم بعملي. ينبغي أن يرح��ل من الفرق��ة. ال يص��ح أنيعارضني في كل شيء أقوله. أمام السيد خياران: إما أن يطيع األوامر، أو..".

قلت: "تلك األخيرة أفضل يا أخي... على بركة الله! لقد أتيت إلى الجبه��ة منأجل الحق، وال أستسيغ الكالم غير المحق؛ ألنني لم ولن أخضع يوما ألحد".

جمعت العناصر وقلت لهم: "أنا ذاهب أيها اإلخوة إلى طهران".

Page 540: books.almaaref.orgbooks.almaaref.org/static/documents/zoqaq.doc · Web viewكلّ هذه الذكريات والأصوات، کانت لا تزال تتردّد في زوايا حنجرة

540

عدت فعال إلى طهران مع عدد من اإلخوة. أثناء الطريق، رحت أمازح اإلخ��وة وأضحك، لكنها كانت ضحكات ظاهرية. غرقت في التفكير. من ناحية قلت إن

".. من غ��ير5الحاج محمد مح��ق، ولربم��ا ك��ان موض��ع مس��اءلة بع��د "ك��ربالء الصحيح أن أعارضه في كل م��ا يقول��ه! من جه��تي كنت أح��ترم الح��اج محم��د كثيرا؛ فهو كان رجل الميدان، ولم يعرف طعم االستراحة واالسترخاء في بيته وطعم الح��ديث م��ع عائلت��ه. ك��ان دائم��ا في العم��ل. ومن ناحي��ة أخ��رى، فمن المؤسف لهؤالء العناصر أن نستهلكهم في ]خط[ الدفاع. وهذا مثل��ه مث��ل أن تأتي بجرافة وتضعها في قرية غير صالحة للزراع��ة. لربم��ا ك��ان الس��بب وراء إصرار الحاج على رأيه، هو أنه لو وق��ف الجمي��ع بوجه��ه كم��ا فعلت، لخ��رجت

األمور عن السيطرة، ولم تسر األعمال قدما...

وبينما كنت كذلك، قطع علي أحد اإلخوة تفكيري قائال: "سيد، ال تغتم".

قلت: "خيرا إن شاء الله... المهم أن تبقى راية ديننا مرفوعة. وهذه هي س��نة رفاقنا. فعندما تطلب األمر الوقوف بصدورنا العارية أمام الرصاص، فعلنا ك��ل

شيء؛ أما اآلن...

عدت إلى طهران. وبعد مدة سمعت من اإلخوة بأن كتيب��ة "ميثم" ق��د دمجت بكتيبة "المقداد". وصار بعض العناصر الشجعان الذين كانوا في كتيب��ة "ميثم"

قادة كتائب أو سرايا.

في تلك الفترة، حدث أيضا حادث مهم آخر لشباب "طهران": فقد اختل وضع فرقتهم كث��يرا، فعم��د الكث�ير من العناص��ر إلى تص��فية حس��اباتهم وع�ادوا إلى

طهران.

ذات يوم، جاء إلي "حسين الله كرم" وقال: "لقد طلب منا السيد "شمخاني"ا مهما من شباب طه��ران. م��ا رأي��ك؟ وم��اذا سنس��مي بأن نشكل لواء عملياتي

هذا اللواء؟".

Page 541: books.almaaref.orgbooks.almaaref.org/static/documents/zoqaq.doc · Web viewكلّ هذه الذكريات والأصوات، کانت لا تزال تتردّد في زوايا حنجرة

541

- لقد راقتني الفكرة. حسنا، فلنسمه لواء "الزهراء". بفضل الله، تأمن المكان. أحضرنا السيد علي إلى قاعدة "ولي عصر" وأقمن��ا�ام. فأب��دع الس�يد علي حين��ذاك. وق�د حض�رت ك�ل مجالس العزاء لخمس�ة أي الوجوه القديم��ة في كتيب�ة "ميثم" ول�واء "الح��ر". ف�أقيم مجلس العش��ق من

جديد.

أمضت القوات الجديدة تدريباتها في غابات ومرتفعات "سرخه حصار".وكانت��ا يم��ارس في��ه الش��اه هواي��ة الص��يد؛ ل��ذا امتألت المنطق��ة في الس��ابق مكان بحيوانات كالغزالن، والنعاج والظباء. وكانت هناك بركة ماء، ترد إليها الغ��زالنا، وعن��دما يطل��ق في س��اعة الخل��وة لتش��رب الم��اء. فص��رنا نحن نكمن أيض����ون الن��ار على الغ�زالن، نس�ارع في ال�ذهاب إليه�ا بس�يارات الصيادون القروي

التدريب، فنحضرها، ونذبحها، نقيم حفل شواء عليها.

رأى الس��يد ش��مخاني أن المص��لحة تقتض��ي دمج ل��واء "الزه��راء" بفرق��ة "الرسول" صلى الله عليه وآله وسلم. لذا وض��ع ي��د "حس��ين الل��ه ك��رم" بي��د

الحاج "محمد كوثري" وقال: "اذهبا واجلسا ورتبا األمر فيما بينكما".

بعد أيام عدة، جاء الحاج حسين من أجل تشكيل الفرقة، وأخبر اإلخوة بأنه تم".27، وأنه أصبح هو نائب مسؤول "الفرقة 27دمجهم بالفرقة

وقد وعدني الحاج حسين بأنه سيمكننا إعادة تشكيل كتيبة "ميثم"، بعد القي��امبالعمليات األولى.

( ال�تي أقيمت في مرتفع��ات "م��اووت"، وال��تي2بعد عمليات )بيت المق�دس كنت فيها من المخططين، عدت إلى طهران. وقلما ذهبت بعدها إلى الجبه��ة،

ذلك أن األعمال كانت جامدة وغير فعالة.

وقد ترك حسين الفرقة ألسباب محددة، ولم أتواءم مع اآلخرين، ولم أس��تطعقبول مسؤولية ما؛ لكنني بقيت أتواصل دوما مع أصدقائي

Page 542: books.almaaref.orgbooks.almaaref.org/static/documents/zoqaq.doc · Web viewكلّ هذه الذكريات والأصوات، کانت لا تزال تتردّد في زوايا حنجرة

542

المجاهدين. وقد أصبح رفاقي القدامى قادة، فصاروا ينقلون لي األخبار.

ا في الم��نزل، س��معت1988في أواسط تموز من العام م، وبينما كنت جالس�� ، وب��أن الح��رب س��تتوقف نوع��ا598عبر اإلذاعة بأن اإلمام وافق على القرار

دمت كث��يرا ما. وعلى ما يبدو كانوا يريدون التوصل إلى تفاهم مع الع��راق. ص�� له��ذا الخ��بر، وتس��مرت في مك��اني. لم أكن أتوق��ع س��ماعه أب��دا. ذهبت إلى

مسجد المحلة فرأيت الشباب جالسين هناك يبكون.

وعلى الرغم من انزعاجي الكب��ير قلت: "إنكم ال تعرف��ون القض��ية من جانبه��ااآلخر. لربما كان السبب هو الوضع االقتصادي وما شابهه!".

قال اإلخوة: "كان يمكنهم القيام بالصلح قبل هذا..".

�ام الح�رب القاس�ية، ذك�رى جمي�ع في تلك اللحظة، مرت أمام ناظري ك�ل أيا ه��ذا ال��بيت من رف��اقي ال��ذين فق��دتهم، كش��ريط مص��ور، ف��رددت ال ش��عوري

الشعر:أال يا جليس الروح الذي نسيت رفاقك

ال قدر الله أن يأتي يوم أنساك فيه

أحسست بأوجاع وآالم المجاه�دين، الج��رحى، ج�رحى الب��دن وال�روح، عوائ�ل الشهداء ومفقودي األثر. جلست إلى جانب رف��اقي الخ��ائبين ورحت أف��رغ م��ا

يعتمل من أسى في قلبي. كانت تلك أياما عصيبة...

نت ح��الي النفس��ية قليال. ذات ي��وم، ذهبت إلى قاع��دة مضت م��دة حتى تحس����ة. أردت أن أع��ود مالك األشتر حامال رسالة معي إلى مكتب رئاسة الجمهوري

إلى العمل وأتابع حياتي.

استلموا الرسالة مني، وقالوا: نرد عليك فيما بعد.

Page 543: books.almaaref.orgbooks.almaaref.org/static/documents/zoqaq.doc · Web viewكلّ هذه الذكريات والأصوات، کانت لا تزال تتردّد في زوايا حنجرة

543

بعد أيام، وردني اتصال ه��اتفي يس��تدعونني في��ه. ذهبت إلى مكتب التوظي��ف��بين؛ من والقبول. كان يجلس هن��اك اثن��ان أو ثالث��ة من الس��ادة األنيقين المرت

أولئك األشخاص الذين لم تطأ أرجلهم حتى األهواز.

وعلى اسم الله بدأوا بسيل من األسئلة:"في أي منطقة خدمت؟ وما كانت مهمتك؟".

وشرعت بدوري بالحديث فقلت: "لم أكن في أي مكان. طعنت بسكين. وق��دحصلت على هذه الرسالة بواسطة أحد المعارف".

قالوا: "لم تغمز من قناتنا؟".

��ا في ملفي ب��أنني خ�دمت ش��هرا في78قلت: "ي��ا أخي، عن��دما يك��ون مكتوب الجبهة، فهذا يعني أنني كنت هناك حتما. فإن قلت ل��ك اآلن ب��أني خ��دمت في

"بند بیر علي" فهل ستعرف أين هي؟".- ال.

- وهل تعلم أين تقع "كاني سخت"، و"شلمتشه" و"علي کره زد"؟- ال، ال، ال أعرف.

بهتوا، ورضخوا بشكل ما وقالوا: "تعال في الغد وباشر العمل".

كان الحصول على عمل مهما بالنسبة لي؛ لكن األهم من الشغل كان حريتي. وألني كنت عنص���ر احتي���اط، لم أحص���ل على حكم بتس���ريحي من الخدم���ة، واجهت مشاكل كثيرة، إال أني لم أكن أستطيع العيش ض��من أط��ر وقي��ود. لم أكن أستطيع الذهاب في الصباح الب��اكر والجل��وس ك��المؤدبين خل��ف المكتب، وأعود في آخر الوقت إلى البيت. سعيت إلى فرض نفسي في عم��ل م��ا، في

مكان أحصل فيه رزقي، وأنصرف من ثم إلى نشاطات

Page 544: books.almaaref.orgbooks.almaaref.org/static/documents/zoqaq.doc · Web viewكلّ هذه الذكريات والأصوات، کانت لا تزال تتردّد في زوايا حنجرة

544

الهيئة ورياضة "الزورخانه" وزيارة عوائ��ل الش��هداء وااللتق��اء بالرف��اق. ك��انت��ة له��ذه األم��ور بالنس��بة لي. ل��ذا طلبت منهم أن يرس��لوني إلى قس��م األولوي

النقل في رئاسة الوزراء.

، في شارع الحرس. 2قالوا: اذهب إلى مركز رئاسة الجمهورية رقم

صباح اليوم األول، ارتديت مالبسي ألذهب إلى العمل، وك��ان ذل��ك في أواخ��ر شهر تموز. فإذا بأحد الرفاق يتص��ل بي ويق��ول إن المن��افقين ق��د هجم��وا من��وا "إس��الم آب��اد" و"كرن��د"، وهم ��ة للبالد، وق��د احتل ��ة والغربي الناحي��ة الجنوبي يتجهون اآلن نحو "كرمانشاه". فإن كنت راغبا بالمجيء، فالحق بنا. بعد ظه��ر ذلك اليوم نفسه، أخذت "محمود ط��اهر أفش��ار" و"علي ب��رادران" و"محم��ود عطايي" بلباسهم المدني من أمام المسجد، وانطلقن��ا بواس��طة س��يارة "الن��دروفر"، نحو "إسالم آباد" فوصلنا بعد ظهر اليوم التالي إلى مقر الكتائب فيها.

��ات الث��الث من م��رداد ]��� تم��وز[، فاحت��ل25ق��ال اإلخ��وة: لق��د ب��دأت عملي المن��افقون "إس��الم آب��اد"، وك��انوا واثقين من عملهم بحيث إنهم عم��دوا إلى

إرسال قواتهم إلى المدينة ليال بغية االستطالع.

��ا. ك��انت كت��ائب "حم��زة" و"المق��داد" وصلنا في الليلة الرابعة للعمليات تقريبو"مسلم" تقوم باإلنزال.

قال اإلخوة: اصبروا، فعند الخامسة بعد الظهر ستنطلق طائرتا هليكوب��تر إلىهناك، فتذهبوا فيهما.

في تلك المدة، قمن��ا بجول��ة، والتقين��ا بش��باب كتيب��ة "ميثم" الق��دامى، ال��ذينأصبح معظمهم مسؤولي سرايا.

عند الغروب، نفد صبرنا لم تصل الطائرة المروحية، فمضينا بسيارة

Page 545: books.almaaref.orgbooks.almaaref.org/static/documents/zoqaq.doc · Web viewكلّ هذه الذكريات والأصوات، کانت لا تزال تتردّد في زوايا حنجرة

545

ال�"الند روفر" ومن خالل السؤال واالستدالل وصلنا إلى مثلث "إسالم آباد".

التقيت في تلك الليلة "سراج" وكان قد أصبح قائ��د كتيب��ة "المق��داد"، وأص��بح"أمير تشیذري" معاونه.

��ات. كم��ا رأيت من أما "محمود أميني" فكان قائد اللواء، ويدير بنفس��ه العملي البعيد الحاج "محمد كوثري"، لكنني لم أذهب إليه ألنه كان مش��غوال بالح��ديث

مع أحدهم.

استقررت ورفاقي في كتيبة "مسلم"، وكان قائدها "قاس��م ك��ارکر" ومعاون��ها بسيطا ذا معرفة، يعم��ل بص��مت ومن دون كالم "منصور بور" الذي كان شاب عما يجري من حوله. ومن بين األص��دقاء ال��ذين ك��ان لي ش��رف العم��ل تحت��ات يمكن أن أذك��ر مس��ؤول الس��رية عب��اس مقدس��ي، لوائهم في تلك العمليا مس��ؤول س��رية. ك�اظم مقص��ودي، حجت عالي، علي فخ��ار ال�ذي ك�ان أيض����اس غف��اري، س��عيد ص��فاري، رض��ا جمش��يدي، مجي��د طال، زج��اجي، عط��ا عب

بحيرايي، علي عبد الملكي، وعباس خورشيدي.

أثناء المسير في الطابور، رأيت أحدهم يعتمر خوذة ويدير ظه��ره لي. س��ألنيأحد اإلخوة: "سيد، أتعلم من هو ذاك الذي يعتمر خوذة؟".

- ال.- إنه غالم علي رجبي.

سررت كثيرا. فق��د ك��ان غالم علي رج��بي م��داحا أله��ل ال��بيت عليهم الس��الم وشاعرا، وأكن له مودة خاصة. كان صوته الجذاب وأشعاره التي ق��ل نظيره��ا ال يزاالن يترددان في سمعي، وما زلت أذكرهم��ا إلى اآلن. ناديت��ه. التفت إلي ولوح لي بيده وضحك. قلت بصوت عال: "أهال وسهال بك، لكن لم تأخرت في

الوصول؟".

Page 546: books.almaaref.orgbooks.almaaref.org/static/documents/zoqaq.doc · Web viewكلّ هذه الذكريات والأصوات، کانت لا تزال تتردّد في زوايا حنجرة

546

أجاب : "نفسي فداء لك ولجدتك الزهراء. فقعر القدر لذيذ؛ وقد أتيت مت��أخراآلكل من قعر القدر".

أخيرا، سرنا في الطابور. فانطلقنا من مثلث "إسالم آباد" نح��و الش��رق، ومن��ة، وش��كلنا نحن خ��ط ثم وصلنا إلى تلة قليلة االرتفاع. أرس��لنا فص��يال إلى التل دفاع هناك. في تلك الناحية، يقع جبل "قالجه" الوعر، والس��هل الواس��ع ال��ذي تقع إلى الجنوب منه "حسن آباد" و"تش��ارزبر"، وك��انت ذروة المواجه��ات م��ع

المنافقين إلى حينها، في مضيق "تشارزبر".

وخالفا للعمليات السابقة، ففي هذه العمليات ال حقول ألغام وموان��ع وأس��الك شائكة، وال سواتر ترابية وعمليات استطالع. إنما سهل واس��ع ممت��د، وع��دو ال نعلم في أي ناحية هو. وجل ما كنا نعلمه ب��أنهم إن هجم��وا فمن المحتم��ل أن يكون هجومهم من ناحية "إس�الم آب�اد". وإن تفك�يرهم لن يبل��غ أك�ثر من ه�ذا أيضا. وأطلق��وا على ه��ذا التكتي��ك اس��م "الهج��وم المط��اطي"؛ أي بمع��نى أن يسيروا على الج��ادة بش��كل مس��تقيم ومباش��ر، ويص��لوا خالل خمس مراح��ل متتالي��ة ومنتظم��ة إلى طه��ران. أي لم يكن في عملهم تش��كيل وال حراس��ة

للسهل، وال تموضع وانتشار.

في تلك الليلة، ت��وجب علين��ا التخلص أوال من العتم��ة ال��تي تواجهن��ا من أج��ل البدء بالعمليات. وكانت قد تمركزت على بعد مائة متر منا ناقلة جند، بدا أنه��ا خالية؛ لكن توجب علينا مراعاة الحيطة والحذر. كان اإلخوة يحترمونني لسني وتجرب��تي وللحي��تي ال��تي دب فيه��ا الش��يب، وس��ألوا عن رأيي في الموض��وع. استأذنني أحمد شعباني في التق��دم واس��تطالع ناقل��ة الجن��د تل��ك، ف��أذنت ل��ه

قائال: اذهب، على بركة الله..".

حين تقدم في قلب العتمة نحو ناقلة الجند، ارتجفت قلوبنا من الخوف. فمثلهذه اللحظات في الحرب ال تصبح مألوفة وعادية لإلنسان

Page 547: books.almaaref.orgbooks.almaaref.org/static/documents/zoqaq.doc · Web viewكلّ هذه الذكريات والأصوات، کانت لا تزال تتردّد في زوايا حنجرة

547

أبدا. ولو شاركت في الهجومات مئة مرة، فإن الخوف والهلع سيصيبانك.

فتحنا مغاليق أس��لحتنا، وحبس��نا أنفاس��نا في الص��دور. لم نعلم م��ا يج��ري في ذلك السهل المترامي األطراف. وكان من المحتمل في كل لحظة أن يرمون��ا

بوابل نيرانهم من داخل ناقلة الجند!

ومراعاة للحيطة، نشرت اإلخوة على هيئ��ة ح�راس للس�هل لمراقب��ة الجه�اتالثالث.

تقدم "أحمد شعباني" نح��و ناقل��ة الجن��د، وحين وص��ل إلى مقرب��ة منه��ا ص��احباطمئنان: "سيد أبا الفضل، إنها خالية".

فانفجر الشباب ضحكا. قلت: "عزيزي أحم��د، لق��د ارتكبت خط��أ فادح��ا! ك��انعليك أن تخبرنا عن طريق اإلشارة".

�ا وفق�ا أردنا أن نراقب السهل ونهجم عليهم بهدوء؛ لكن الهجوم ب�دأ رغم�ا عنلسجية أحمد الصافية.

��ا تس��يران م��ا إن اس��تدرنا، حتى انتبهن��ا فج��أة إلى ناقل��ة جن��د وس��يارة تويوت الواحدة خلف األخرى على الجادة وتتجهان نحونا. اتضح بأن الكت��ائب األخ��رى في المقدمة قد شنت هجوما على المن��افقين، فس��دت عليهم طري��ق مض��يق "تشارزبر"، ما اضطرهم إلى االنس��حاب نح��و ج�ادة إس�الم آب��اد - كرمانش�اه،

واصطدموا بموقعنا.

طون كانت قد نصبت على سيارة التويوتا خاصتهم، آلية دوشكا، وراح��وا يمش��الطريق أمامهم ويتقدمون.

كانت الساعة قرابة الثانية عش��رة ليال، حين ب��دأ االش��تباك الج��دي، ول��و ك��ان لدينا دوشكا على رأس الهضبة لكنا أبدناهم. ذلك أننا أقمنا خ��ط دف��اع محكم،

وكنا منظمين بشكل ممتاز، إال أنه لم تتوافر لدينا إمكانيات.

Page 548: books.almaaref.orgbooks.almaaref.org/static/documents/zoqaq.doc · Web viewكلّ هذه الذكريات والأصوات، کانت لا تزال تتردّد في زوايا حنجرة

548

��ه كان الطريق يعلو عن سطح األرض الترابية قرابة النصف متر؛ فأص��بح وكأنساتر ترابي بعلو نصف متر وشكل المالذ والملجأ لنا.

وما إن بدأت المواجهات، حتى أصيب "منصور بور" برصاصة في كتف��ه. رب��طجرحه وجاء إلي. طلب من عامل اإلشارة لديه أن يبقى بجانبي.

��ات كتيب��ة "مس��لم". حملت الجه��از ومن حينه��ا، أوكلت إلي مس��ؤولية عملي الالسلكي ورحت أقود العمليات. فكنت على اتصال دائم بقادة السرايا. يشهد

الله أن الشباب تألقوا في تلك المواجهات.

كان وزن "عباس مقدسي" على بعضه ال يتجاوز الثالثين كيلوغراما؛ لكنه ك��ان غاية في القوة والشجاعة. ولقد شدد الضغط بعشرة عناصر وتقدم إلى الجهة األخ��رى من الج��ادة. فأس��ر ش��بابه في منتص��ف اللي��ل بعض العناص��ر من

المنافقين.

بع��د س��اعة أو س��اعتين من ب��دء االش��تباكات، وبينم��ا كنت أتكلم ع��بر الجه��از الالسلكي، وأكبس على "بدال الس��ماعة" وأش��جع اإلخ��وة ق��ائال: "أحس��نتم... اضربوا... يا علي م��دد..".، ج��اء أم��ير ب��رادران إلي وق��ال: "س��يد، لق��د جلبت

األسرى. ماذا سأفعل بهم؟".

قلت: "من تقصد؟".- لقد أسرنا منهم مجموعة.

رفعت رأسي، وإذا بي أرى وسط العتمة امرأة شابة تتقدم الجميع وتنظر إلي بج��رأة من دون خ��وف. وم��ا إن تق��دمت ألتكلم بش��يء حتى فتحت قنبل��ة

وأمسكت بعتلتها، وهي تنظر إلي بتحد. قلت ألمير: "انبطح".

وانفجرت القنبلة. رحت أزحف على األرض؛ لكنني سرعان ما لملمت نفس��يونهضت. هرعت بين التراب والغبار المنبعث نحو اإلخوة.

Page 549: books.almaaref.orgbooks.almaaref.org/static/documents/zoqaq.doc · Web viewكلّ هذه الذكريات والأصوات، کانت لا تزال تتردّد في زوايا حنجرة

549

ا ويمش��ي مترنح��ا. فيم��ا دفع عصف االنفجار بأمير إلى ناحية. فأص��بح مشوش�� أصيب أحد شبابنا واثنان من األسرى بش��ظايا. أم��ا الفت��اة ففص��ل رأس��ها عن

بدنها وتناثر كل منهما في ناحية.

تقدمت منها، كانت ترتدي بزة كبزة فرقة المشاة التي تتقدم مواكب الرؤساء والملوك. وقد وضعت كما أبيض اللون على يدها كتب عليه: "جيش التحرير". ومهم��ا فتش��نا في تل��ك الناحي��ة عن رأس��ها، لم نج��ده. ك��ان اإلخ��وة يع��املون األسرى بلطف. هذا ما تعلموه من اإلمام الخمي��ني وأخالق��ه؛ لكن، ي��ا له��ا من

مكافأة جيدة حصلوا عليها!

في منتصف الليل، تحولت المعركة إلى مواجهات مباشرة ووجها لوج��ه. ص��ار المنافقون يقصفوننا بشدة. وال عجب في ذلك، فقد كانوا مجه��زين بتجه��يزات��ا، ودباب��اتهم ك��انت جدي��دة وعالي��ة عالية. فن��اقالت جن��دهم، وس��يارات التويوت الجودة. قراب��ة الفج��ر، امتأل الطري��ق ب��الجثث من الط��رفين؛ إال أنن��ا س��يطرنا

ا على الجادة وآلت األمور إلى مصلحتنا. تدريجي

أم��ا هم فق��د انس��حبوا إلى ال��وراء، واتخ��ذوا ألنفس��هم خ��ط دف��اع إلى ج��انب الطريق خلف مصنع السكر، فراحوا يمشطون الطري��ق بالدوش��كا حتى ظه��ر اليوم التالي؛ وقد شددوا الضغط علينا إلى أن أنهكنا عند الظهر، وشلوا حركة اإلخوة على الطريق. فلم يبق لدينا من ملجأ وال تجه��يزات. إنم��ا فق��ط س��هل

وكتف طريق، ليس إال.

إلى األمام من موقعنا، بين الطريق ومصنع السكر، كانت توج��د بعض ال��بيوت القروية، فأرسلت اإلخوة المصابين وذوي اإلصابات البليغة إليها، ليحتموا فيه��ا

ريثما تصل قوات الدعم.

بعد الظهر، تم اإلعالن عبر جهاز الالسلكي بأن: ق��وات "الن��بي األك��رم" ص��لىون على المن��افقين من الخل��ف الل��ه علي��ه وآل��ه وس��لم و"إس��الم آب��اد" ينقض��

ويحاصرونهم. قضي

Page 550: books.almaaref.orgbooks.almaaref.org/static/documents/zoqaq.doc · Web viewكلّ هذه الذكريات والأصوات، کانت لا تزال تتردّد في زوايا حنجرة

550

��وا ه��اربين، وهم اآلن األم��ر. وق��د ت��رك المن��افقون مع��داتهم وس��ياراتهم ووليتوجهون نحوكم...

ا؛ فليس أمامهم طري��ق آخ��ر للف��رار. وق��د أطب��ق الط��وق كان هذا أمرا طبيعي عليهم، فكانوا حينها يتقدمون نحونا راجلين ويرموننا بوابل نيرانهم، ما اض��طر الجرحى الذين الذوا إلى تلك البيوت لالحتم��اء، إلى الخ��روج منه��ا وهم خ��ائرو القوى، والبقاء في مرمى نيران المنافقين. وقد سقط كل من "محمود طاهر

أفشار"، و"حجت عالي" و"محمد روح اللهي" و"طوسي زاده" أمام عيني.

رمى المنافقون بعض القنابل على البيت ودمروه. بع��د الظه��ر، ج��اء "محم��ود أميني"، و"جعفر محتشم"، و"أحمد كوتش��كى" ليتفق��دوا الخ��ط. وق��د ص��ارت

ا للكتيبة. القرية خطا خلفي

عقدوا جلسة ليجدوا طريق حل. فقرروا االنتظ��ار حتى حل��ول اللي��ل، فيش��نوا هجوما ويثبتوا موطئ ق��دم لهم؛ إال أنن��ا أبلغن�ا عن��د الغ�روب، ب�أن اإلخ�وة في إس��الم آب��اد ق��د س��يطروا على المك��ان بنح��و كام��ل، وأن المن��افقين ق��د الذوا

بالفرار من الجهة الشمالية للطريق، وأووا إلى الجبال.

في ص���باح الي���وم الت���الي، لم يكن ط���ائر يج���رؤ على التحلي���ق في مواق���عا. وف�ر "رج�وي" وأعوان�ه المن��افقين. وق�د اع�ترفت قي�ادتهم بالهزيم�ة رس�مي األساسيون إلى خارج الحدود. ك�ان يوج�د بين جثث المن��افقين ع�دد كب��ير من جثث الشابات. ومعظم الرجال أيضا شبان. وحين فتشنا في جي��وبهم لنتع�رف إلى أسمائهم وهوياتهم، وجدنا جوازات وتذاكر س��فر إلى "فنلن�دا" و"هوالن�دا" "بلجيك��ا". وق��د جمعهم ق��ادة المن��افقين من جمي��ع أنح��اء الع��الم على أم��لا ب��أمتهم، السيطرة على إيران والبقاء فيها. وق��د ج��اء ك��ل ه��ؤالء الش��باب حب

فحل بهم ما حل. لقد غرر بهم وضللوا مائة في المائة، وذهبوا هدرا.

ذات يوم، جاء الحاج محمد إلى الموقع. سلمت عليه. فقال: "كنت

Page 551: books.almaaref.orgbooks.almaaref.org/static/documents/zoqaq.doc · Web viewكلّ هذه الذكريات والأصوات، کانت لا تزال تتردّد في زوايا حنجرة

551

��ك هن��ا، ��ني ع��رفت من خل��ف الجه��از بأن أظن أنك تنعم بالراحة في بيتك. لكنوذلك من كثرة ما تنادي أمير المؤمنين".

ضحكت وقلت: "أنا ال أقول ألحد إنك وصلت صباح اليوم..".

ضحك الحاج، تقدم نحوي واحتضنني وأمطرني بوابل من القبالت. حينه��ا تكلم الحاج محمد بكلمات ينبغي أن تكتب بحروف من الذهب. قال: "سيد، نزاعاتنا

أيضا كانت من أجل الله".

�ات، ع�دت وبعض اإلخ�وة إلى "دوكوه�ه". لم نكن نس��تطيع حين انتهت العملي��ه لم يع��د ل��دينا أي تكلي��ف بش��أنها. التصديق بأن الحرب قد انتهت تمام��ا، وأن اس��ترحنا في "دوكوه��ه" لي��ومين. ف��ذهبنا يوم��ا للس�باحة في س��د "دز" وليل��ة

، إلى أن وردن��ا خ��بر تش��ييع الش��هداء محم��ود1لزيارة "السيد محمد سبز قب��ا" طاهر أفشار، مجيد طال، علي زجاجي، وغالم علي رج��بي، فع��دنا إلى طه��ران

للمشاركة في تشييعهم، وبقينا هناك.

من "بهشت زهراء" وأرى صور26منذ ذلك الحين، صرت كلما أقصد القطعة الشهداء، تتفتح ج��راح قل��بي القديم��ة. ف��أفكر م��ع أي رف��اق كنت؟ وأي ف��ترة

وما زالت ذك��رى لي من أفض��ل26أمضيت؟ وأي أعزة رحلوا؟ كانت القطعة رفاقي، فكنت أقضي تلك الفترة مع ذكرى الحرب والرفاق.

أحيانا، كانت تضطرب أوضاعي الجسمية والروحية. وأصاب باألوج��اع فأض��طر لالش��تغال لم��دة ب��العالج واالستش��فاء، فك��انت تلتهب رئت��اي بس��بب الغ��ازاتجل وآالم شديدة الكيميائية التي تنشقتها. وأصبت أيضا بأوجاع في الرأس والر في البطن. حين���ذاك تتحتم علي البق���اء لم���دة أس���بوعين في مستش���فى

"ساسان"، الذي بات ملتقى للجرحى المصابين باألسلحة الكيميائية.

1 - . المترجم دزفول مدينة في مقام وله السالم عليه الكاظم اإلمام أبناء أحد

Page 552: books.almaaref.orgbooks.almaaref.org/static/documents/zoqaq.doc · Web viewكلّ هذه الذكريات والأصوات، کانت لا تزال تتردّد في زوايا حنجرة

552

وبس��بب تعرض��ي م��رات لعص��ف االنفج��ارات، تن��اولت لف��ترة طويل��ة األدوي��ة المهدئة لألعص��اب، وذل��ك ألتمكن بالح��د األدنى من التكلم م��ع اآلخ��رين بنح��و جيد. ولوال قوة وفعالية أدوية األعصاب، لكنت أغضب وأخرج عن ط��وري عن��د أدنى مشكلة. لم أكن أحتمل أحاديث المدينة والعيش فيها. وقد حطت ملحمة

��ا،5"كربالء ��ات األخ��رى. أحيان " من معنوياتي وأمرضتني أكثر من باقي العملي كنت أتفقد طيوري استذكارا للماضي. فالحمامات الطائرة المسرة لقلبي ق��د��ة فال تس��مح ألي كبرت وتعبت، وهي التي س��يطرت س��ابقا على س��ماء المحل

حمامة بالدخول في نطاقها ولم تستطع أي حمامة منافستها.

وق��د نتفت ريش أجنحته��ا، وتجم��ع اللحم ح��ول عينيه��ا، ولم تع��د ق��ادرة على الطيران. لربما ملت وتعبت مثلي؛ بفارق واحد وهو أن الشيء الذي كان يبث في األم��ل اس��تمر من خالل الحف��اظ على مجلس المجاه��دين قائم��ا، وعلى رسالة الش��هداء وذك��راهم. كنت أفتش عن س��بيل لكي ال يف��ترق الرف��اق عن

بعضهم البعض، ولكي ال تغيب ذكرى رفاقنا الشهداء عن البال.

على أي حال، مضت تلك األيام بكل عذوبتها وعذاباتها على هذا النحو، إلى أن "، ع��اش محم��ود5ذهبت يوما لعيادة "محمود جوليده". فبعد عمليات "كربالء

تسعة أشهر وهو يعاني حاال ص��حية مزري��ة. ك��ان يعيش بين الس��ماء واألرض، ومن ثم أقعد على كرسي متحرك، ولم يعد يستطيع ال��ذهاب إلى الجبه��ة. في

ذلك اليوم عندما زرته رأيته منقبض الحال ومحزونا.

��ا لش��يء لم يكن يئن من جراح جسده، إنم��ا من ش��يء آخ��ر. كالن��ا ك��ان طالب واحد. تحادثنا وتباحثنا في األمر لساعة أو ساعتين، ولما كنا في محرم الحرام قررنا دعوة المجاهدين إلى جلسة نتداول فيها أمر شهر محرم ونشاط الهيئة.

وفي الغد، عقدنا جلسة في منزل "محمود جوليده" وذلك لتنظيم برنامج

Page 553: books.almaaref.orgbooks.almaaref.org/static/documents/zoqaq.doc · Web viewكلّ هذه الذكريات والأصوات، کانت لا تزال تتردّد في زوايا حنجرة

553

ليوم األربعين. حينها ما ع��دت قائ��د الكتيب��ة، ب��ل الج��امع للمجاه��دين، ف��رحت و"أكبر سربوشان" الذي كان حامل لواء هيئة "نارم��ك"، و"محم��د عس��كري"، "شيخ وند"، "مرتضى طهراني"، "الحاج محمد تيموري" الذي كان حامل ل��واء هيئة "شميران"، و"الحاج رضا ب��ور أحم��د"، "ج��واد ش��يرازي"، و"الح��اج أك��بر

نوجوان" نتابع تشكيل هيئة المجاهدين.

في البداي��ة، ذهبن��ا واس��تطلعنا المك��ان، والتقيت ب��اثنين أو ثالث��ة من ش��باب محمود ونظمنا األمور. بعدها جلست مع محمود لنؤلف مرثية طهرانية جدي��دة النمط؛ ال هي على الطرز الناظمي، وال نمط محبي الوالية، وال الزه��رائي، وال��ة خ��اص بأه��ل نم��ط ص��احب الزم��ان، وال الص��الحي. ش��عر باللهج��ة الطهراني

طهران.

كان يوم األربعين هو اليوم الموعود. اجتمعنا في بازار طهران الكبير.

وكما في زمن الحرب اصطففنا في صفوف، ارتدينا جميعا المالبس الس��وداء،لطخنا رؤوسنا بالتراب، وسرنا حفاة، فكنا تراثيين تماما.

وقفت و"أكبر سربوشان" في الوسط، ورحنا نطلق الصرخات وسط اللطميةونردد يا حسين، يا مظلوم.

في الصف األول اصطف عش��رون جريح��ا ممن أص��يبوا في النخ��اع الش��وكي وك��انوا مقع��دين على الكراس��ي المتحرك��ة، وك��ان على رأس��هم "محم��ود

جوليده".

وقد ذكرت الشباب بأن يدندنوا مع قارئ العزاء. الدور األول كان للس��يد علي ال��ذي أداه بش��كل رائ��ع، فتكلم عن العش��ق، فض��ج المجلس وعم��ر! وص��ار

ا. األربعون أربعين حقيقي

رشف جميع الطهرانيين رشفة من هذه الكأس وثملوا. بكى

Page 554: books.almaaref.orgbooks.almaaref.org/static/documents/zoqaq.doc · Web viewكلّ هذه الذكريات والأصوات، کانت لا تزال تتردّد في زوايا حنجرة

554

الجميع. ك��ان ش��يئا فري��دا من نوع��ه، وليس من الممكن بع��د، جم��ع ك��ل ه��ذاالعشق في مكان ما.

دت الط��رق وتعط��ل جاء حاملو الرايات من جميع األحياء. وفي ك��ل مك��ان س��.1العمل كنت أقول: "انصبوا منصة..."

ة على الت��والي "مجي��د س��يب س��رخي" و"علي ك��رمي" ورددن��ا ص��عد المنص��معهما:

"يا رفيق سفر زينب ها قد عادت أختك من السفر..".

أدينا هذا الشعر بالنمط الطهراني، وكان جذابا والفتا جدا.

فإلى حينها لم يكن أي شخص قد قرأ لطمية بذلك النمط.

عندما اختلطنا بالن��اس في وس��ط الب��ازار، ت��رك الن��اس المجموع��ات والتف��وا حولنا. أراد الجميع أن يرى م��ا ش��كل ه��ذه المجموع��ة ال��تي ك��ل أفراده��ا من

المجاهدين، ومن هم هؤالء الذين جاؤوا.

لقد جئنا لنقول إننا شباب الجبهة كلنا شباب هيئات دينية ومحبون ألهل البيت. " ثانية. أمام س��وق الس��جاد، ص��عد "محم��د ط��اهري"5أقيمت ملحمة "كربالء

على المنصة. سيطر على الوضع! جلس الجميع، بكت النساء الموجودات عند تقاطع الطرق! رجعت المجموع��ات المتقدم��ة والتحقت بن��ا وط��اب المجلس. قرأ اللطمية األخيرة "رضا بور أحمد". بع�دها ص�عدت المن��بر وب��دأت ب�الكالم: "إن كل ما لدينا هو من اإلمام الحسين علي��ه الس��الم. ولق��د تتلم��ذنا لس��نوات على أيدي رجال أمثال أكبر ن��اظم، حس��ن ذو الفق��اري، أحم��د ص��الح، مرش��د باقر، مرشد أسمال، شيخ رضا سراج و"كافي". إننا نح��ترمهم جميع��ا. فه��ؤالء

% من90... وقد أتين��ا لنق��ول إن 2كانوا من الرواد والسباقين في هذا المجالالشهداء والمجاهدين هم من أبناء الهيئات.

1 . إيران في اللطميات من معروف طرز2 . السالم عليهم المعصومين بمواليد واالحتفاالت العزاء مجالس تقيم التي الدينية الهيئات تشكيل

Page 555: books.almaaref.orgbooks.almaaref.org/static/documents/zoqaq.doc · Web viewكلّ هذه الذكريات والأصوات، کانت لا تزال تتردّد في زوايا حنجرة

555

��ة هي ال��تي أدارت الجبه��ة. وإن واح��دا في المائ��ة من وه��ذه الهيئ��ات المحلي السياس��يين حتى، لم يش��اهد في الجبه��ة. وإذا م��ا ك��ان بين مجاه��دي الجبه��ة جامعي، أو دكتور أو مهندس، فإنما كان من أبناء الهيئات والتحق بالجبه��ة عندها أبن��اء الهيئ��ات، لم��ا طريق هيئة محلته. ولوال الغ��يرة والش��هامة ال��تي جس��

كانت هذه المدينة مدينة، ولما كنا اآلن موجودين هنا...".

��ة "حاف��ظ" وتناولن��ا طع��ام الغ��داء هن��اك، بعد انتهاء المراسم، ذهبن��ا إلى ثانوي حيث جهد الحاج أكبر نوجوان في إع��داد الطع��ام، وأع��د ك��ل من الح��اج داوود نيازي وقاسم نوري والرفاق اآلخرون، وبنفس "جواد آقا كبيري"، األرز بالفول��ا، م��ا زال طعم��ه في فمي إلى اآلن. ا ومبارك مع قطع اللحم. كان غذاء معنوي

لكن بعد ذلك، سلبنا السياسيون ذلك الجمع المعنوي.

ا بع��دها، ص��رنا نعق��د الجلس��ات في مس��جد الش��هداء. وأص��بح المس��جد مق��ركلت "هيئ��ة مجاه�دي طه�ران". للقاءاتنا وعناقنا وتذكر الشهداء والحرب. وش�� فكانت أمهات الشهداء يأتين إلى هن��اك ش��وقا إلى أبن��ائهن ويقلن: إنن��ا نش��تم

رائحة أبنائنا في هذا المسجد.

��ا واح��دا. وق��د ج�اؤوا بص��فاء الجبه��ة ونقائه��ا معهم، ولم ك�ان المجاه��دون قلب يتلوثوا بعد بظلمات المدينة. ولم تكن أرواحهم قد ابتليت بآفة السياس��ة بع��د.

فكان العشق والحب ما زال هو المسيطر.

ليلة الرابع من حزيران، كنت جالسا في مس��جد الش��هداء، حين س��معت خ��برارتحال اإلمام الخميني قدس سره عبر مكبر الصوت في المسجد.

سادت حال من اإلرباك واالضطراب في المسجد. رحنا جميع��ا نبكي، ونكت��وي بنار العشق ذاك. لم يكن اإلمام يخص أحدا بعين��ه، ب��ل ك��ان محب��وب الجمي��ع، والمسيطر على القلوب. ولقد شهدنا حياته المتواضعة، إذ لم يكن يملك شيئا؛

سوى ثوب ونعلين. ولقد وهب كل ما كان يملك من هذه الدنيا، ورحل.

Page 556: books.almaaref.orgbooks.almaaref.org/static/documents/zoqaq.doc · Web viewكلّ هذه الذكريات والأصوات، کانت لا تزال تتردّد في زوايا حنجرة

556

في اليوم الذي جيء فيه بجثمان اإلمام إلى المصلى وأودع في تابوت زجاجي ليودعه الناس، كنت أنا وفاطمة وسعيد بين الحاضرين. بقينا مس��تيقظين حتى

أذان الفجر ننظر إلى جسد اإلمام المسجى هناك.

��ام من ارتح��ال اإلم��ام، أقمن��ا مجلس ع��زاء في مس��جد الش��هداء بعد ع��دة أي حضره بضعة آالف، وقد أحضرنا التابوت الذي سجي عليه اإلمام ووضعناه في فناء المسجد، وبقي هناك كذكرى من اإلم�ام الراح�ل لهيئ�ة المجاه�دين. أح�د البرامج التي ظلت مفيدة للغاية، واستمرت تق��رب بين عوائ��ل الش��هداء، ه��و اللقاءات الدورية للمجاه��دين م��ع عوائ��ل الش��هداء وآب��ائهم وأمه��اتهم. حملت

�ة ) س��يليندر(2مهمة تنسيق هذه اللقاءات على عاتقي. كان ل��دي دراج�ة ناريعريضة، تصدر صوتا عاليا. استخدمتها للذهاب واإلياب وتنسيق اللقاءات بها.

في كل شهر، كنا نتواعد في مكان ما ونذهب بشكل جماعي لزيارة عائلة من عوائل الشهداء؛ زيارة توددية نحيي فيه��ا ذك��رى الش��هداء، وتلقي أثره��ا علين��ا

نحن الذين خضنا الحرب بعمق أكبر.

، ك��ان من1990في آخ��ر ليل��ة من لي��الي ش��هر رمض��ان المب��ارك من الع��ام المقرر أن نجتمع في منزل الشهيد السعيد، والمفكر الذي ال نظير له، "حسن

بهمني".

صباح ذلك اليوم، أرسل إلي "الشيخ قن��اعتي" أن ائت أوال إلى مجلس الع��زاء من "بهش��ت زه��راء"، ومن ثم ن��ذهب آخ��ر اللي��ل26الذي نقيمه في القطعة

إلى منزل الشهيد "حسن بهمني".

��ة، وانطلقن��ا بعد الظهر، أردفت "فاطمة" و"حمزة" ورائي على الدراجة النارينحو "بهشت زهراء"، وصلنا إليها قبيل الغروب. كانت هناك

Page 557: books.almaaref.orgbooks.almaaref.org/static/documents/zoqaq.doc · Web viewكلّ هذه الذكريات والأصوات، کانت لا تزال تتردّد في زوايا حنجرة

557

قاعتان، واحدة مخصصة للرجال وأخ�رى للنس��اء. أفطرن��ا يوم��ذاك على بعض الخبز والشاي. ومن ثم خرجت من القاعة لتجديد الوضوء. رأيت سيدة تجلس عن��د ص��نبور الم��اء. ت��رددت وقلت في نفس��ي: أتق��دم أو ال أتق��دم؟ وكي��ف

سأتقدم؟ من غير الالئق أن أتقدم نحو الصنبور وتلك السيدة جالسة هناك.

في النهاية، تنحنحت وقلت: "يا الل��ه"، لعله��ا تنتب��ه. تق��دمت وإذا بي أرى أنه��ازوجتي "فاطمة".

- إ.... لم تجلسين هنا؟- أشعر باضطراب في قلبي.

- لربما أكلت طعاما رديئا؟- أشعر بالقلق، تعال نرجع إلى البيت.

إلى حينها، لم أكن قد رأيت فاطمة قلقة ومضطربة إلى هذا الحد. قلت: "أين سنذهب؟ لقد قطعنا ك��ل ه��ذه المس��افة، ولم يبت��دئ المجلس بع��د". أص��رتعلي وألحت حتى بدا علي االرباك والحيرة. غضبت وقلت: "ما بالك الليلة؟".

ركبنا الدراجة النارية. أجلست حمزة أمامي، فقد كان يحب دوما الجلوس فيالمقدمة واإلمساك بالمقود.

في أثناء الطريق أطلقت فاطم��ة بعض النك��ات لتخرج��ني من ح��ال االنزع��اجالتي كنت أشعر بها.

قالت: "ماذا حصل اآلن؟ سنصل إلى البيت قبل ساعة فقط".

وصلنا إلى مقربة من محطة حافالت الجنوب، كانوا يبنون جسرا.

Page 558: books.almaaref.orgbooks.almaaref.org/static/documents/zoqaq.doc · Web viewكلّ هذه الذكريات والأصوات، کانت لا تزال تتردّد في زوايا حنجرة

558

فالشارع مزدحم والسيارات متداخلة بعضها ببعض، وكل واحدة منها تتجه نحووجهة ما. وكانوا قد نصبوا أعمدة الجسر، وبقيت الطبقة العليا منه.

خففت من س��رعة الدراج��ة ألع��بر اإلش��ارة وزحم��ة الطري��ق. وص��لت إلى العواميد الحديدية المنصوبة إلى جانب الطريق. خففت س��رعتي أك��ثر ورحت��ا بقص��د أسير بهدوء إلى جانبها. في تلك اللحظة، اقتربت شاحنة مزمج��رة من المس��ارعة من الناحي��ة اليم��نى لي. ولم تك��د تتخط��اني تمام��ا وإذا بعجلته��ا الخلفية تصطدم بعجلة دراجتي، ففقدت السيطرة على الدراجة، وتعثرت. في البداي��ة، اعتم��دت ب��رجلي على األرض واس��تجمعت ك��ل ق��واي لكي ال تق��ع���ا وش���ماال، إلى أن الدراج���ة على األرض؛ لكن الدراج���ة راحت تت���أرجح يمين سقطت في النهاية على األرض بقوة من الجهة اليس��رى، فوقعن��ا ثالثتن��ا على األرض. نهضت س��ريعا واس��تجمعت ولملمت نفس��ي. ك��ان حم��زة يبكي. فق��د جرحت يده، كما جرح كفي أيضا وكان ي��نزف. أم��ا فاطم��ة فق��د س��قطت في ناحية. ذهبت إليها، وضعت يدي تحت رأسها. كان رأسها مصدعا وال��دم ي��نزف منه. ناديتها ألكثر من مرة؛ لم تجبني، وإنما كانت فقط تنظر إلي بعينين نصف

مفتوحتين.

��ا. حملت فاطم��ة انه��ال الن��اس علين��ا. ت��وقفت س��يارة "بیك��ان" ب��القرب منووضعتها داخل السيارة بمساعدة الناس. جلست بجانبها.

كان حمزة ال يزال يبكي. رحت أمرر بيدي على رأسه حتى أخفف من خوف��ه. في أثناء الطريق، رفعت فاطمة رأسها وبدنها قليال؛ وكأنها استفاقت من ن��وم

عميق، وقالت: "السالم عليك يا فاطمة الزهراء..".

فرحت لذلك، ظننت أن حالها تحسنت واستعادت وعيها.

��ا، ا لم أس��مع جواب قلت: "إ... سيدة فاطمة، هل أصبحت أحسن حاال؟". وأيض��وكأنها ما كانت تراني، وال تسمع صوتي أبدا.

عندما وصلنا إلى مستشفى "كاشاني"، كانت قد رحلت.

Page 559: books.almaaref.orgbooks.almaaref.org/static/documents/zoqaq.doc · Web viewكلّ هذه الذكريات والأصوات، کانت لا تزال تتردّد في زوايا حنجرة

559

التقيت في المستش��فى بأح��د الرف��اق، "مص��طفى تق��وايي"، وقصص��ت ل��ه الحكاية. فاشترى لي عصير الفاكهة وراح يواسيني، ومن ثم أوصلني إلى أمام ب��اب الم��نزل. أدخلت حم��زة إلى ال��بيت، وذهبت إلى مس��جد الش��هداء. ك��ان الرف��اق ينتظ��رون أم��ام ب��اب المس��جد. وق��د ع��ادوا للت��و من م��نزل الش��هيد

"بهمني".

قال الجميع: "انتظرناك كثيرا... تأخرت... ذهبنا ورجعنا". لم أستطع أن أق��ولا. ك��ان شيئا. كنت مضطربا، استندت هناك على حائط المسجد وجلست أرض�� قلبي مضطربا بنحو، حتى البكاء لم يكن ليهدئه. لم أكن أعي نفس��ي. ه��ل أن��ا موجود؟ أم غير موجود؟ وكأن كل ما جرى ك��ان منام��ا وخي��اال. دائم��ا م��ا كنت أسأل نفسي: "لم فاطمة؟ ولم اآلن؟ ولماذا ينبغي أن ترحل هي من بين ك��ل

هؤالء الناس؟".

كنت أريد أن أعوض ك�ل ذاك الف�راق، والبع�د والهج�ران. كنت أري�د أن أرف�عالحمل عن كاهلها...

أخذني "رضا ف��رجي" إلى حض��نه وق��ال: "س��يد، أين كنت؟ لق��د ت��أخرت! أينالسيدة فاطمة؟".

قلت: "لقد رحلت".- ماذا يعني هذا؟ هل تعي ما أقول لك؟ ماذا يعني أنها ماتت؟

��ه ك��ان عليه��ا - كان عليها أن ترحل الليلة. هناك صوت في داخلي يقول لي إنالليلة أن ترحل.

اجتمع اإلخوة حولي، وشيئا فشيئا عرفوا ب�األمر. في تل��ك الليل��ة، ك�ان الس�يد علي ص�احب منبرن�ا. ج�اء الس�يد علي إلى أم�ام ب�اب المس�جد، وعن�دما أراد

صعود المنبر، أخبره الشباب بما حصل.

Page 560: books.almaaref.orgbooks.almaaref.org/static/documents/zoqaq.doc · Web viewكلّ هذه الذكريات والأصوات، کانت لا تزال تتردّد في زوايا حنجرة

560

نظر السيد إلي وأنشد هذا البيت من الشعر:"نعم، ال ينبغي الفرار من القسمة

فكل ما يصبه الساقي هو عين اللطف

هذا من ألطاف الله الخفية.

لقد أخذت منك وأعطيت بدال منها دمع العين.

إن الله إذا أحب عبدا، كسر قلب��ه ومأله ب��الحزن... وإال لك��ان مأل كأس��ك كم��اكؤوس البقية. كل من كان مقربا في هذا المحفل يزداد بالء.

في اليوم التالي، شيعنا جنازة السيدة فاطمة، ودفناه��ا في "بهش��ت زه��راء". وق��د أحض��رت حينه�ا أجس��اد ش��هداء ع��دة، فعجت "بهش��ت زه��راء" بالن��اس،

وحضر جميع المجاهدين وعوائل الشهداء.

بعد عدة أيام، أخبرنا بأنه تم القبض على سائق الشاحنة وأودع السجن.

أقيمت مراسم الثالث وذكرى األسبوع بنحو جيد والئق، وحيث صادف ذلك معذكرى عدد من الشهداء احتشدت جموع غفيرة في "بهشت زهراء".

لطالما أحبت فاطمة أن تكون بين المجاهدين، وقد جهدت في تربي��ة وته��ذيب��ة، وك��انت نفسها. كانت فاطم��ة مث��اال لألم المض��حية المؤمن��ة والزوج��ة الوفي��ه ��ق. ومهم��ا تكلمت عن أخالق ه��ذه الم��رأة الحمي��دة، فإن حسنة الخلق والخل

قليل. تذكرت مرارا تلك الليلة التي عبرت فيها عن إجاللي واحترامي لها.

كان الجميع يقولون إن السيدة فاطمة كانت لوحدها لبوة لبوات المحلة. وق��د��ات"، وأحيت ذك�ر أه�ل ��أت آالف "الجهيزي �رة، وهي قامت ب��آالف األعم��ال الخي

البيت آالف المرات.

لحظاتها األخيرة كانت لحظات رائعة. فقد حضرت سيدتها ]الزهراء[

Page 561: books.almaaref.orgbooks.almaaref.org/static/documents/zoqaq.doc · Web viewكلّ هذه الذكريات والأصوات، کانت لا تزال تتردّد في زوايا حنجرة

561

عند موتها، وبقيت -كما تمنت- إلى آخر لحظة بين المجاه��دين. حض��ر الرف��اق والمجاهدون وواس��وني، وطالم��ا بق��وا مجتمعين ح��ولي كنت كمن أص��يب في المعركة للتو، ال أعي شيئا؛ إنما فقط أشعر بلوعة كب��يرة. بع��د انته��اء مراس��م العزاء وذهاب الجميع، شعرت بالغربة، وأدركت للتو ما حل بي. وجدت نفسي وحيدا. لقد باع��دت الح��رب بي��ني وبين فاطم��ة، إال أن روحين��ا كانت��ا قريب��تين،

وأدركت بعد رحيلها كم كنت وما زلت أحبها.

بعد مراسم ذكرى مرور أس��بوع على وفاته��ا، ع��دت إلى ال��بيت مت��أخرا. ك��ان ولداي نائمين في الفناء إلى جانب حوض الم��اء. وك��انت وال��دتي تجلس ف��وق

رأسيهما حزينة ومغمومة.

قالت: "كيف حالك بني أبا الفضل؟".- ال أدري ما أقول.

- ماذا تريد أن تفعل بهذين الصبيين؟- عادت قصة بابا وتكررت من جديد. ليس لي أحد سواك.

- هناك رباعية ال أعلم لمن تعود، لكنها تقول:لو كنت رأيت في المنام غم يوم الفراق

لما سمحت للقلب أبدا بتصور الوصالفالفراق عندما يقع يعرف الحبيب قدر محبوبه

وكسير العظم يعرف قيمة المرهم والدواء

تكما تختل��ف عن ب��اقي - أعلم أي رابطة كانت تربط بينك وبين فاطم��ة. فقص��القصص. لكن إن أردت أن أعتني بأوالدك، فلي شرط.

- ما هو؟

Page 562: books.almaaref.orgbooks.almaaref.org/static/documents/zoqaq.doc · Web viewكلّ هذه الذكريات والأصوات، کانت لا تزال تتردّد في زوايا حنجرة

562

- أن تذهب في صباح الغد إلى المحكمة وتتنازل عن ال��دعوى وتطل��ق س��راحالسائق.

- فليكن، سمعا وطاعة.

���ني أتيت ألتن���ازل عن في الي���وم الت���الي، ذهبت إلى المحكم���ة وقلت لهم إنالدعوى وأصفح عن القاتل.

كتب القاضي شيئا ما على ورقة وسلمها للمأمور.

فكبل المأمور يدي مباشرة وأودعني السجن.

قلت: "لماذا؟".

قال: "قد تكون متواطئا مع القاتل، أي مع سائق الشاحنة، في قتل زوجتك".

يا له من دهر، أمضيت ليلة في سجن "القصر"، وفي صباح اليوم التالي، ج��اءاألهل واألصدقاء والمعارف وأخرجوني.

قلت للقاضي: "ما هذا الذي فعلته ي��ا عم؟ أال يمكن لإلنس��ان أن يق��وم بعم��لجيد؟".

- ال تب��تئس... ي��ا أخي، ففي ظ��رف أس��بوع أتيت وتن��ازلت عن ال��دعوى. لق��دشككنا فيك بعض الشيء.- كانت تلك رغبة الوالدة.

- السجن غير مفيد لمثل هذا الشخص. لديه ثالثة أوالد، وزوجته تأتي ك��ل ي��ومإلينا وتنتحب...

منذ ذلك الحين، صرت أذهب ك��ل ليل��ة جمع��ة وح��دي ومن دون الول��دين إلى وقبر فاطمة، كانا ذكرى ألصدقائي الذين26"بهشت زهراء". فالقطعة

Page 563: books.almaaref.orgbooks.almaaref.org/static/documents/zoqaq.doc · Web viewكلّ هذه الذكريات والأصوات، کانت لا تزال تتردّد في زوايا حنجرة

563

فقدتهم، والمواسيين لروحي ونفسي المتعبتين. وكأن هذا الغم أص��بح أنيس��ي الدائم، فصرت آنس به. في كل مرة أرى فيها صور الرف��اق ف��وق أض��رحتهم، كنت أذكر تلك األيام المألى باألحداث، لكن السعيدة، وتلك الصميمية العميق��ة والصداقات المتجذرة واألصيلة. فطوال عمري، لم أشعر في أي مكان بصفاء

كصفاء الجبهة والدشمة.

حقا، سقى الله تلك األيام! مع أي أشخاص كنت! وأي أيام عش��ناها مع��ا! ولم يبق اآلن منهم سوى الذكريات. إن الحرب تحدث تحوال في شخصية اإلنسان. تجع��ل البعض قليلي ص��بر وتحم��ل، والبعض اآلخ��ر ص��بورا وجل��ودا. والح��رب شكلت للكثيرين مكانا لالمتحان اإللهي. مكانا ليختبروا في��ه أنفس��هم. على أيا، حال، كل من تحلى بالشجاعة في ميدان الحرب، سواء استش��هد أم بقي حي

فهو المنتصر في تلك الحرب.

ه��ذا م��ا ق��دره لي الق��در، ب��أن ي��تربى أوالدي في كن��ف وال��دتي. في الع��امم، تزوجت للمرة الثانية؛ لكنني لم أنس عشقي ومرامي.1999

الحف��اظ على مجلس المجاه��دين، وتش��كيل هيئ��ة "محبي الوالي��ة" ال��تي هي ذكرى من شيخي ومرادي الحاج قاسم، ومواساة عوائل الشهداء، واألخ��ذ بي��د رفاقي القدامى والمحبة لهم، كل ذل��ك ه��و عش��قي وه��دفي. وطالم��ا أن في صدري نفسا، س��تبقى ه��ذه البهج��ة والمش��قة؛ وذل��ك كي ال أخج��ل كث��يرا فيا محضر الحق تعالى. هذا المسلك تعلمته من المرحوم والدي؛ حين كنت ص��بي

أذهب معه إلى الخان.

Page 564: books.almaaref.orgbooks.almaaref.org/static/documents/zoqaq.doc · Web viewكلّ هذه الذكريات والأصوات، کانت لا تزال تتردّد في زوايا حنجرة

564

Page 565: books.almaaref.orgbooks.almaaref.org/static/documents/zoqaq.doc · Web viewكلّ هذه الذكريات والأصوات، کانت لا تزال تتردّد في زوايا حنجرة

565

Page 566: books.almaaref.orgbooks.almaaref.org/static/documents/zoqaq.doc · Web viewكلّ هذه الذكريات والأصوات، کانت لا تزال تتردّد في زوايا حنجرة

566

Page 567: books.almaaref.orgbooks.almaaref.org/static/documents/zoqaq.doc · Web viewكلّ هذه الذكريات والأصوات، کانت لا تزال تتردّد في زوايا حنجرة

567

Page 568: books.almaaref.orgbooks.almaaref.org/static/documents/zoqaq.doc · Web viewكلّ هذه الذكريات والأصوات، کانت لا تزال تتردّد في زوايا حنجرة

568

Page 569: books.almaaref.orgbooks.almaaref.org/static/documents/zoqaq.doc · Web viewكلّ هذه الذكريات والأصوات، کانت لا تزال تتردّد في زوايا حنجرة

569

Page 570: books.almaaref.orgbooks.almaaref.org/static/documents/zoqaq.doc · Web viewكلّ هذه الذكريات والأصوات، کانت لا تزال تتردّد في زوايا حنجرة

570

Page 571: books.almaaref.orgbooks.almaaref.org/static/documents/zoqaq.doc · Web viewكلّ هذه الذكريات والأصوات، کانت لا تزال تتردّد في زوايا حنجرة

571

Page 572: books.almaaref.orgbooks.almaaref.org/static/documents/zoqaq.doc · Web viewكلّ هذه الذكريات والأصوات، کانت لا تزال تتردّد في زوايا حنجرة

572

Page 573: books.almaaref.orgbooks.almaaref.org/static/documents/zoqaq.doc · Web viewكلّ هذه الذكريات والأصوات، کانت لا تزال تتردّد في زوايا حنجرة

573

Page 574: books.almaaref.orgbooks.almaaref.org/static/documents/zoqaq.doc · Web viewكلّ هذه الذكريات والأصوات، کانت لا تزال تتردّد في زوايا حنجرة

574

Page 575: books.almaaref.orgbooks.almaaref.org/static/documents/zoqaq.doc · Web viewكلّ هذه الذكريات والأصوات، کانت لا تزال تتردّد في زوايا حنجرة

575

Page 576: books.almaaref.orgbooks.almaaref.org/static/documents/zoqaq.doc · Web viewكلّ هذه الذكريات والأصوات، کانت لا تزال تتردّد في زوايا حنجرة

576

Page 577: books.almaaref.orgbooks.almaaref.org/static/documents/zoqaq.doc · Web viewكلّ هذه الذكريات والأصوات، کانت لا تزال تتردّد في زوايا حنجرة

577

Page 578: books.almaaref.orgbooks.almaaref.org/static/documents/zoqaq.doc · Web viewكلّ هذه الذكريات والأصوات، کانت لا تزال تتردّد في زوايا حنجرة

578

Page 579: books.almaaref.orgbooks.almaaref.org/static/documents/zoqaq.doc · Web viewكلّ هذه الذكريات والأصوات، کانت لا تزال تتردّد في زوايا حنجرة

579

Page 580: books.almaaref.orgbooks.almaaref.org/static/documents/zoqaq.doc · Web viewكلّ هذه الذكريات والأصوات، کانت لا تزال تتردّد في زوايا حنجرة

580

Page 581: books.almaaref.orgbooks.almaaref.org/static/documents/zoqaq.doc · Web viewكلّ هذه الذكريات والأصوات، کانت لا تزال تتردّد في زوايا حنجرة

581

Page 582: books.almaaref.orgbooks.almaaref.org/static/documents/zoqaq.doc · Web viewكلّ هذه الذكريات والأصوات، کانت لا تزال تتردّد في زوايا حنجرة

582

Page 583: books.almaaref.orgbooks.almaaref.org/static/documents/zoqaq.doc · Web viewكلّ هذه الذكريات والأصوات، کانت لا تزال تتردّد في زوايا حنجرة

583

Page 584: books.almaaref.orgbooks.almaaref.org/static/documents/zoqaq.doc · Web viewكلّ هذه الذكريات والأصوات، کانت لا تزال تتردّد في زوايا حنجرة

584

Page 585: books.almaaref.orgbooks.almaaref.org/static/documents/zoqaq.doc · Web viewكلّ هذه الذكريات والأصوات، کانت لا تزال تتردّد في زوايا حنجرة

585

Page 586: books.almaaref.orgbooks.almaaref.org/static/documents/zoqaq.doc · Web viewكلّ هذه الذكريات والأصوات، کانت لا تزال تتردّد في زوايا حنجرة

586

Page 587: books.almaaref.orgbooks.almaaref.org/static/documents/zoqaq.doc · Web viewكلّ هذه الذكريات والأصوات، کانت لا تزال تتردّد في زوايا حنجرة

587

Page 588: books.almaaref.orgbooks.almaaref.org/static/documents/zoqaq.doc · Web viewكلّ هذه الذكريات والأصوات، کانت لا تزال تتردّد في زوايا حنجرة

588

Page 589: books.almaaref.orgbooks.almaaref.org/static/documents/zoqaq.doc · Web viewكلّ هذه الذكريات والأصوات، کانت لا تزال تتردّد في زوايا حنجرة

589

Page 590: books.almaaref.orgbooks.almaaref.org/static/documents/zoqaq.doc · Web viewكلّ هذه الذكريات والأصوات، کانت لا تزال تتردّد في زوايا حنجرة

590

Page 591: books.almaaref.orgbooks.almaaref.org/static/documents/zoqaq.doc · Web viewكلّ هذه الذكريات والأصوات، کانت لا تزال تتردّد في زوايا حنجرة

591

Page 592: books.almaaref.orgbooks.almaaref.org/static/documents/zoqaq.doc · Web viewكلّ هذه الذكريات والأصوات، کانت لا تزال تتردّد في زوايا حنجرة

592

Page 593: books.almaaref.orgbooks.almaaref.org/static/documents/zoqaq.doc · Web viewكلّ هذه الذكريات والأصوات، کانت لا تزال تتردّد في زوايا حنجرة

593

Page 594: books.almaaref.orgbooks.almaaref.org/static/documents/zoqaq.doc · Web viewكلّ هذه الذكريات والأصوات، کانت لا تزال تتردّد في زوايا حنجرة

594

Page 595: books.almaaref.orgbooks.almaaref.org/static/documents/zoqaq.doc · Web viewكلّ هذه الذكريات والأصوات، کانت لا تزال تتردّد في زوايا حنجرة

595

Page 596: books.almaaref.orgbooks.almaaref.org/static/documents/zoqaq.doc · Web viewكلّ هذه الذكريات والأصوات، کانت لا تزال تتردّد في زوايا حنجرة

596

Page 597: books.almaaref.orgbooks.almaaref.org/static/documents/zoqaq.doc · Web viewكلّ هذه الذكريات والأصوات، کانت لا تزال تتردّد في زوايا حنجرة

597

Page 598: books.almaaref.orgbooks.almaaref.org/static/documents/zoqaq.doc · Web viewكلّ هذه الذكريات والأصوات، کانت لا تزال تتردّد في زوايا حنجرة

598

Page 599: books.almaaref.orgbooks.almaaref.org/static/documents/zoqaq.doc · Web viewكلّ هذه الذكريات والأصوات، کانت لا تزال تتردّد في زوايا حنجرة

599

Page 600: books.almaaref.orgbooks.almaaref.org/static/documents/zoqaq.doc · Web viewكلّ هذه الذكريات والأصوات، کانت لا تزال تتردّد في زوايا حنجرة

600