كتاب

التوحيد ومضامينه في الفكر والحياة

المؤلف إسماعيل راجي الفاروقي

ترجمة د السيد عمر.أ

عرض حسان عبداهللا حسان.د

جامعة دمياط -مدرس أصول التربية

١

التوحيد ومضامينه يف الفكر واحلياة إمساعيل راجي الفاروقي

حسان عبداهللا.د املؤلف وقلب..ف املؤل عقل ..ما قبل القراءة

، عقـل املؤلـف : قبل الولوج إىل تقدمي قراءة للكتاب يهمنا أن نبحث يف مدخلني أساسيني مها والشك أن بني عقل أي مؤلف وقلب كتابه ارتباط كبري يتضح يف جسـد الكتـاب ، املؤلفوقلب

. ة املؤلف واملؤلفالذي ينمو كالكائن احلي عرب احلرف والكلمة والفقرة الذين يعربون عن فكري

من اآلباء املؤسسني ملدرسة املنظور ) ١٩٨٦-١٩٢١(واملؤلف هو إمساعيل راجي الفاروقي احلضاري التوحيدي اليت تقوم على استدعاء القوة الوجدانية الدافعة األصيلة يف األمـة والشخصـية

شدة يف النظر العقلي والعمل االجتمـاعي اإلسالمية، واستحضار أسس املنهجية املعرفية التوحيدية الرا . واألخالقي واالقتصادي اإلسالمي

حيث التقى ـا ، يف البدء البد من اإلشارة إىل التفاعل الذي مت بني الفاروقي واحلضارة الغربية حيـث درس يف ، يف فترة مبكرة من حياته واهتم باستيعاب النموذج املعريف الغريب يف أصوله وفروعه

وجامعـة ، مث جامعة ماكجل بكندا، مث جامعة هارفارد، مث جامعة إنديانا، جلامعة األمريكية ببريوتاوقضى سنتني يف كلية الالهوت وتعرف .وأخريا جامعة متبل بفالديفيا، مث جامعة سراكيوز، شيكاغو

األخـالق Christian Ethicsوألف كتـاب ، عن قرب على الفكر الديين املسيحي يف الغربهذا باإلضافة إىل دراسته التأصيلية ودرسـه لإلسـالم والعلـوم الشـرعية يف األزهـر ، املسيحيةهذه العوامل جمتمعـة شـكلت فكـر ، واستيعابه لعلوم الشريعة وفقهها) ١٩٥٨-١٩٥٤(الشريف

الفاروقي وعقله العلمي وأثرت بشكل واضح يف تصوره الفكري ورؤيته احلضارية ومنهجيته وقراءته للفكر الغريب وفلسفته وأصوله ومسلماته وجعلته أكثر اتصاال ومعرفة حبقيقة ما حيمله النموذج املعمقة

املعريف الغريب من قضايا وطروحات وتناقضات وإشكاالت متباينة نعرض لبعض منها يف هذه الدراسة .من خالل وقوفنا على أدواته يف التعامل مع النموذج الغريب

ى التكوين العقلي واملنهجي للفاروقي حيث مجع بني بعدين رئيسني وقد أثر ذلك التفاعل عل مـن كليـة ١٩٤١البعد الفلسفي، حيث حصل على درجة البكالوريوس يف الفلسفة عـام : األول

من جامعة ١٩٤٩عام " الفلسفة"اآلداب والعلوم باجلامعة األمريكية ببريوت، مث حصل على ماجستري أما رسالته للـدكتوراه . ١٩٥١ا من جامعة هارفارد عام أيض" الفلسفة" إنديانا مث درجة املاجستري يف

٢

حيث حصل ا على " اجلوانب امليتافيزيقية والقيم االبستمولوجية للقيم، نظرية اخلري"فكانت بعنوان . من جامعة إنديانا ١٩٥٢درجة الدكتوراه عام

متتد جذوره إىل نشأته العائليـة البعد الشرعي والذى: أما املكون الثاين لعقل الفاروقي فهو، مث أراد أن يكون هذا التكوين الشرعي على علم ودراسة، فاجته إىل مصر للحصول )املسجد ووالده(

حيث قام بدراسـة ) ١٩٥٨ –١٩٥٤(على دراسات ما بعد الدكتوراه يف األزهر ملدة أربع سنوات ت بشكل أساسي يف حتديد رؤيته الفكرية العلوم الشرعية بطريقة مكثفة خالل هذه الفترة والىت سامه

. الىت مجعت بني ثالثة رؤى أساسية استوعبها الفاروقي ورسم من خالهلا تصوره الفكري احلضاري

ويف ضوء هذا التكوين املنهجي املتعدد للفاروقي بني درسه املنهج الغريب، واملنهج الفلسفي ية، هذا باإلضافة إىل مترسه يف علم مقارنة األديان التحليل التأملي، ومنهج الدراسات الشرعية اإلسالم

كل هذه العناصر شكلت ما ميكن أن نطلـق عليـه يف . ودراسته وتدريسه للعلوم الالهوتية املسيحية، الذى انشغل باهلم اإلسالمي من خالل أفق يتسم بالرحابة والتأمـل "العقل الفاروقي"لفظه ومعناه

. وس والبصرية احلضاريةالصادق واإلجناز اإلجيايب امللمالتوحيـد ومضـامينه يف الفكـر "فهو كتاب -وهو الكتاب الذي نقرأه هنا -أما قلب املؤلف

إن فكرة التوحيد الـيت .مضامينهو اليت تغذي باقي شرايني الكتاب" التوحيد"وقلبه هو فكرة ، "واحلياةلذين انشغلوا مبسائل الصفات واألمسـاء انشغل ا الكتاب ليست على طريقة علماء الكالم القدامى ا

، أما انشغال الكتاب فهو وظيفية فكرة التوحيد مركزا ومدارا لبناء األمة احلضاري. واإلثبات والنفيقدم التوحيد باعتباره مركزا استقطابيا لكـل عـوامل مث ومن ، واستعادة هويتها وشخصيتها احلضارية

األشـياء ، واملـادة األفكـار ، األخالق والسياسة، الجتماع االقتصاد وا، اإلنسان الغيب والشهوديف ، التوحيد يف هذا التناول الفريد يعيد تنظيم حياة املسلم فردا ومجاعة وأمة من جديد. واألشخاص

.مسار اجتهادي معريف يرى العامل متعددا يف وحدة حتت راية التوحيدتبط عضويا مبوقف اإلنسان املسلم من مركزيـة مراحل تطور احلضارة اإلسالمية وتراجعها يرإن

:واليت ميكن أن نشري هلا يف املراحل التالية" التوحيد"فكرة ومواجهة الشرك اإلنساين والطغيان .التوحيد احلق واإليناع الثقايف واحلضاري للعاملظهور مرحلة .١

.البشري على الكون ..وحتقيق مقاصد احلق يف اخللق. مرحلة نشر التوحيد احلق واالنتشار احلضاري األفقي .٢وعودة الشرك . وعصر االحنطاط والتراجع وتدهور اإلنسانية.. مرحلة التوحيد الغائب أو الكامن .٣

.والطغيان البشري

٣

.مرحلة بعث التوحيد احلق وحبث مشكالت احلضارة الستعادة اإليناع الثقايف واحلضاري لألمة .٤ .اإلصالح املعريف اليت بدأت منذ قرننيوهي املرحلة اليت حتياها األمة وهي مرحلة

وعلى هـذا ، إن موقف األمة من التوحيد فهما وترتيلا إذن هو مؤشر لنهوض األمة أو تراجعها فإن الدورة الثقافية لألمة تبدأ من فهم التوحيد ومضامينه يف جماالت احليـاة والقـيم والتصـورات

أي االنتقال من حيز الصـورية إىل حيـز سيد فكرة التوحيدمث جت، واملفاهيم املشكلة لتلك املضامنيوهذا الكتاب يقوم .مث االنتشار والتطبيق لتلك الفكرة ومتثالا عرب النظم والقوانني والربامج ،الواقعية

.بالتحديد على فكرة جتسيد التوحيد يف واقع األمة نظما وعملا ووجدانااحلديثـة والوسـيطة حيـث للوعي حبركة اإلصالح يف األمـة الكتاب أيضا نتاج معريف هذا و

وحممد بن عبدالوهاب ورشيد رضـا ، استوعب الفاروقي جهود السابقني كابن تيمية والغزايل قدميافالكتاب أيضا ميثل رؤية معرفية إصالحية ضوية لألمـة . وحممد عبده واألفغاين وحسن البنا حديثا

. دواء الشايف من التوحيد مركزا هلذا اإلصالحويطرح ال، يشخص واقعها وعللها رؤية معرفية موجزة :الكتاب

ترمجة األستاذ الدكتور السيد عمـر ٢٠١٦الكتاب هو إصدار املعهد العاملي للفكر اإلسالمي والثالثة عشـرة . صفحة من القطع املتوسط ٤٥٣وحوايل ، يقع يف حوايل ثالثة عشر فصلا، وقدم لهوالتوحيـد لبـاب ، التوحيد جوهر اخلربة الدينية: هي توون على ثالث عشرة مقولة معرفيةفصلا حيوالتوحيـد مبـدأ ، والتوحيد مبدأ الغيـب ، والتوحيد مبدأ املعرفة، والتوحيد مبدأ التاريخ، اإلسالم، اسـي والتوحيد مبدأ النظام السي، والتوحيد مبدأ األمة، والتوحيد مبدأ النظام االجتماعي، األخالق

.والتوحيد مبدأ اجلمال، والتوحيد مبدأ النظام العاملي، والتوحيد مبدأ النظام االقتصاديü م " التوحيد ومضـامينه يف الفكـر واحليـاة "ينطلق كتاب : نطلقات أو أولياتم

: هي ما يليأوليات ثالث اليت يرا لـدورها الرسـايل هذا التناقض بني حال األمة اإلسالمية وما جيب أن تكون عليه، تقـد :األوىل

". اخلريية" "الشاهدة" "الوسط"ما بقوم حتى إن الله ال يغير (اجلهود اإلصالحية يف األمة نتيجة لعدم االعتبار لنية التغيري تعثر :الثانية

ا بأنفسهموا ميرغا ( ،) ييرغم كي لم ة أ بأن اللهمـا نعوا ميـرغـى يتم حلى قوا عهمعنسواء متثلت هذه اجلهود يف احلركات اإلسالمية أو اجلهود احلكوميـة عقـب ، ) بأنفسهم

.التحرروالبقاء يف املاضي، فهو أيضا سر النهضة واإلصـالح سالم كما كان سر النهضة والوجوداإل :الثالثة

: إلسالم يقي املسلم من آفات ثالثوهذا ا، يف احلاضر واإلسالم . إدعاء القدرة على غزو الطبيعة .١

٤

. اإلصابة بالغرور إذا جنح يف ذلك .٢ . اإلصابة باليأس واإلحباط إذا فشل .٣

ü يلي فهي كماوفيما يتعلق : األهداف: تعريف الشباب املسلم برؤية اإلسالم للوجود ليكون ذلك سالحا له يف اإلصالح احلقيقي للنفس، ) أ . متكينهم من القدرة على حتديث م عطيات الرؤى الفكري لإلصالحيني األوائلو

. تسليط الضوء على العالقة الوثقى بني اإلسالم وجماالت احلياة والفكـر والنشـاط اإلنسـاين ) ب . وضرورة تأسيس الربامج اإلصالحية على أساس التوحيد الذي هو جوهر اإلسالم ونواته

ü الكتاب استخدم املنهج الوصفي إلبراز تلك الرؤية الكلية اليت رغم أن :منهجية الكتابإال أنه أيضا استخدم املنهج املقارن بني مفـردات تلـك الرؤيـة ، هدف إىل استخراجها من القرآن

مبينا تفـوق الرؤيـة ) اليهودية واملسيحية(والرؤية الوضعية تارة أو رؤية األديان السابقة تارة أخرى كمـا اسـتخدم املنـهج ، واحنراف تلك الرؤى األخرى، يتها وواقعيتها وربانيتهااإلسالمية وتكامل

التارخيي لبيان التجربة والرصيد الواقعي للرؤية الكلية اإلسالمية وتفاعالا مـع اإلنسـان والكـون .والطبيعة

ضح املقوالت املعرفية للكتابووالشكل التايل ي

٥

رةرؤية خمتص: املقوالت املعرفية األساسية

: مقولة التوحيد جوهر اخلربة الدينية ·املركـز األول يف ) ال إلـه إال اهللا (و. تشري هذه املقولة إىل أن مفهوم الرب هو نواة اخلربة الدينية

ناقش الفاروقي رؤيتني يف مفهـوم . ومركزية املسلم لفهم اهللا وبناء تصوره املعريف والعقدي. اإلسالمرؤية الفالسفة اليت تشري إىل خلق اهللا . م للذات اإلهلية وعالقتها بالكونوحتديدا يف تصوره" التوحيد"

واليت تعين ختلي اهللا عن الكون بعد اخللق، والرؤية الدينية . للعامل وإيداعه أسباب حركته وفعله بداخله). الغائيـة (وارتباط اهللا حبركة الكون اليت تنتهي إليه فيما يسمى مبـدأ ) اإلحداث(اليت تؤكد على

املدبر، صاحب األمر والنهي والعناية لكل ما يف :واليت تعين أنه ) اإلله(تضمني املعيارية يف مفهوم اهللا اجلديد الذي أتى بـه التصـور –أو مولد الدافعية، أو املعيارية . وهو مصدر األمر التكويين. الوجود

اإلسالم بتطهري الوعي الديين من لذا عىن. اإلسالمي ليس وجود إله؛ بل توحيد اهللا ووحدانيته وتفرده . أحد، صمد، فاطر: الشرك فاستخدم ألفاظ

٦

فالتوحيد هو رؤيـة عامـة : عن مجاع ثقافة كاملة وحضارة كاملة: هنا تعرب إن مقولة التوحيد للحقيقة، وللواقع، وللعامل، وللمكان وللزمان ولتاريخ اإلنسانية وملصريها ويف لبـه تكمـن املبـادئ

: ةالتالي . واخللق) اهللا(بني عامل اخللق : الثنائية) أ

وهي العالقة بني نظامي اخلالق واملخلوق فكرة تصورية يف طبيعتها تعتمد يف مرجعيتها : التصورية) بحيث إن كل البشر مؤهلون ملعرفـة املشـيئة اإلهليـة . فطريالأو الفهم ) العقل(عند اإلنسان على

. الوحي، االستنباط من الدالئل الكونية: بواحدة من طريقتني أو كلتامها فالكون له غايـة خلقـه . ]حاشا هللا[ ة أو هلو خلقهتية الكون أو صدفيوائوهي ضد عش: الغائية) ج

. خالقه من أجلهاوهو األمر الذي يقتضي حتقيـق غايـة اهللا يف الزمـان . القدرة اإلنسانية وقابلية الطبيعة للتطويع) د

. واملكان . ولية واحملاسبةاملسئ) هـ

: كجوهر للخربة الدينية اإلسالمية يتمثل يف والتوحيد ü اإدراك املسلم أن وجوده ليس عبثي . ü اعتقاد املسلم أن غايته غري متطابقة مع مسايرة اهلوى . ü النظام املتعايل، النظام الطبيعي: أن احلقيقة النهائية يف نظر املسلم تتشكل من نظامني . ü الذي ال يوجد فيه إال اإللـه (املسلم القيم احلاكمة لوجوده الطبيعي من النظام املتعايل أن يستمد

). الواحد األوحدü أن يستبعد املسلم أي مصدر آخر الستمداد اهلداية منه . ü أن يعتقد املسلم أن مذهب املتعة والسعادة وكل النظريات النابعة من النظام الطبيعي ذاته جمـرد

). عند االعتقاد فيها(باب الشرك هراء بل تدخل يف

التوحيد هو لباب اإلسالم :مقولة · : عدة مقدمات تتسم بالبداهة يف اإلسالم وهيتعتمد هذه املقولة على

ü اإلسالم جوهر احلضارة اإلسالمية . ü التوحيد جوهرا حلضارة اإلسالمية: التوحيد جوهر اإلسالم . ü ن التوحيداحلضارة اإلسالمية تستمد هويتها م . ü ال إسالم بال توحيد.

٧

لذلك فإن أي خلل يف مفهوم التوحيد يؤدي بالطبع إىل خلل وايار يف مفهوم الدين ذاتـه حيـث يترتـب علـى هـذا .بكامله، والتزام اإلنسان بعبادة ربه، وامتثاله أوامره واجتناب نواهيه

وهـذا مـا ".اإلله"أو " اهللا"يد ملفهوم االضطراب ايار مفاهيمي الفردية، الصمدية اليت يعطيها التوح : فإن وجود إهلني أو أكثر يؤدي إىل، حكاه القرآن

. علو بعضهم على اآلخر - . فساد السموات واألرض - .ايار النظام السنين - .ايار املؤسسة النبوية -

امي والتعايل للـذات فكرة التس"و" التوحيد"يف مفهوم احنرافا املسيحية واليهودية ولقد شهدت احنرافات عقدية كبرية ومعرفية أيضا، أطاحت بتفـرد اا شهدتم، وأكد القرآن الكرمي على أ"اإلهلية

: ومفارقة الذات اإلهلية، ومن مظاهر ذلكü م، والذي ال عالقة له بالصورة األصلية املرتلية علـىاخلطأ يف فهم وتأويل ما ترتل عليهم من ر

فويل ا للذين يكتبون الكتاب بأيديهم ثم يقولون هذا من عند الله ليشتروا به ثمنا قليل فويل(رسلهم هبانهم أربابا اتخذوا أحبارهم ور (،] ٧٩البقرة [ )لهم مما كتبت أيديهم وويل لهم مما يكسبون

]. ٣١التوبة [ ) من دون الله والمسيح ابن مريم وما أمروا إلا ليعبدوا إلها واحداü ومن فهمهم املنحرف احلديث عن اهللا بصيغة اجلمع، واألبوة لليهود، وأنسـنة اإللـه أو تأليـه

[ )الله وقالت النصارى المسيح ابـن اللـه ت اليهود عزير ابنوقال(. اإلنسان كما عند املسيحية .]٣٠:التوبة

ومـن ،حي حياة املسلمني وظهر فيها التصور السامي للذات اإلهليةامنمجيع ولقد انعكس على : احلضارة والتاريخ اإلسالمي يف مشاهد ذلك

حيث مل يثبت أن وجـد فيمـا أبدعـه . اإلهلية يف الفن اإلسالمي اتالطابع املتعايل املفارق للذ .١... الفنانون املسلمون يف نقوش وتزيني املساجد أي ربط بني اهللا تعاىل وأية صور أو أشـياء حسـية

عن الترمـز " تعاىل ومفارقه الذات اإلهلية"حيث جاءت كل الفنون اإلسالمية تؤكد على هذا املبدأ . والتمثل أو الشرك؛ بل جاءت تؤكد املبدأ السابق وتعضدهوالتجسيد والتشبه

حيث حافظ املسلمون على اختالف ، الطابع املتعايل املفارق للذات اإلهلية يف اللغة عند املسلمني .٢ألسنتهم وهلجام وأعراقهم وخلفيام الثقافية على مراعاة الطابع املتعايل املفارق للذات اإلهلية كمـا

وكان ذلك واضحا يف اعتبار املسلمني كل املسلمني أن النص العريب للقرآن . ن الكرميعرب عنها القرآ . وما عداه من ترمجات فهي لفهم معانيه. هو وحده القرآن

٨

إال أن احلفظ الكامل للغة العربية بكل ، )قرنا تقريبا ١٥( و رغم امتداد الزمن على نزول القرآن عمال ماليني البشر هلا، أدى إىل إزالة معظم مشكالت التأويل اليت تواجـه قواعدها املتأصلة فيها واست

: وأدى هذا احلفظ إىل . القارئ املعاصر للقرآن على طول فترة ترتلهü ترتيل األحكام القرآنية على الواقع املتجدد واملتغري . ü ترمجة املبادئ القرآنية إىل تشريعات . ü سسة يف عصر النبوة والصحابة إىل اآلناستمرارية ضوابط ومعايري الفهم املؤ .

: ومن ناحية أخرى يقدم التوحيد هنا ثالثة معان قيمية هي الـذي (وال عيب فيها ) كاملة(فحسب بل إا العوامل املمكنة " أفضل"أن اخلليقة ليست هي :أوهلا

لقهء خيكل ش نس( ،]٧ :السجدة[ )أح عبس لقي خلـق الذي خى فرا تاقا مبط اتومسـ إلي ـبقلنن ييتكر رصجع البار فطور ثم نى مرل ته رصجع البفار تفاوت نن ممحالر ك

سريح وهئا واسخ رص٤-٣امللك [ )الب[ . الت واملآزق بنفسه حيث أنه ال حيتاج إىل خملص، بل حيتاج قدرة اإلنسان على مواجهة املشك :ثانيها

ولـيس " الفالح"ومن مث فطريق اإلنسان هو . إىل القيام بواجبه يف أداء رسالته الكونية اإلهلية ". اخلالص"

كموضوع للفعل األخالقي، مبا أن اخلري والبشرللتمييز بني األماكن حيث إنه ال حمل ،املساواة: ثالثهاالتحقيق هو اإلرادة اإلهلية، تلك اإلرادة اإلهلية واحدة لكل املخلوقات، لكوا متعلقة الواجب

.ويتعني عليهم اخلضوع هلا. باخلالق وحده التوحيد مبدأ للتاريخ :مقولة ·

اإلنسان بأخالقية العمل، ويترتب على ذلك أن اإلسالم يتوقع مـن املسـلم أن التوحيد يلزم ، فهذا العامل الدنيوي هو اململكة والفضاء املكاين والزمـاين )التاريخ(ان واملكان يتدخل يف سري الزم

الوحيد الذي ميكن أن حيقق فيه املسلم املشيئة أو اإلرادة اإلهلية، فالتاريخ حيـوي للمسـلم درجـة در إمنا حيويته بالنسبة للشيوعي، باستثناء أن املسلم يعلم أنه هو املسؤول عن صناعة التاريخ، وأن الق

. هو حمصلة عمله وسلوكه سواء كان ذلك على املستوى الفردي أو اتمعي التوحيد مبدأ املعرفة: مقولة ·يف " اإلميـان "التوحيد يف اإلسالم يعين اليقني، واليقني هو بلوغ احلقيقة وهو عكس ما يفهم من

من اإلميان املسيحي جند اإلميـان فعلى العكس. املشهد الفكري الغريب الذي يعين الشك والتشكيكألنه يـرتبط ، اإلميان يف اإلسالم مقولة معرفية. اإلسالمية وحقيقة يصل العقل إليها عن طريق اليقني

للعقـل والتعقـل : باملعرفة وبصحة األخبار اليت يتأسس عليها، السيما مع مصاحبة القيمة اإلميانيـة . الوقت نفسه صادرة عن االعتقاد والوحيوالعقالنية اليت هي أدوات املعرفة وهي يف

٩

. ولباب التوحيد بوصفه مبدأ للمعرفة هو اإلقرار بأن اهللا تعاىل هو احلق، وأنه واحد ال شريك له ويستبطن هذا اإلقرار وجوب رد أمر البت يف كل خالف، ويف كل شك إليه سبحانه وتعاىل، وبأنـه

فالتوحيد إقرار بأن احلقيقة قابلة ألن تعـرف، . اطع فيهاال دعوى تستعصي على املعايرة، والبت الق . وأن بوسع اإلنسان أن يصل إليها

: والتوحيد كمبدأ للمعرفة ينطلق مما يلي ü ما وجهني حلقيقةوحدانية اهللا، ووحدة احلق، فوحدانية اهللا ووحدة احلقيقة أمران متالزمان لكو

. واحدةü رفض كل مـا ال يتمشـى مـع : أوهلا: ة مبادئ معرفيةالتوحيد كمبدأ منهجي يتشكل من ثالث

. االنفتاح على الدليل اجلديد، وعلى دليل املخالفة: والثالث. نفي التناقضات النهائية: احلقيقة، والثاينللعقـل املختلـق –القائم على عبودية كل ما يف الوجود هللا رب العاملني –لقد أتاح التوحيد

كما أتاح الفرصة للعلوم . سري هلا، فرصة للنضج والتبدل، ولتجاوز وضعيته تلكلألساطري الدينية واألالطبيعية واحلضارية، ألن تتطور يف كنف رؤية دينية كونية تنفي أي ربط للمقدس بالطبيعـة مجلـة

وبذا حيقق التوحيد للعلوم الطبيعية، بالضرورة، أهم شرط حتتاجه وتتطلع إليه، وال تستطيع . وتفصيلاأي ختليصها من الكثري من . للطبيعة" العلماين"أو " الدنيوي"تتطور دونه، أال وهو التسليم بالطابع أن

ومن األشباح واألرواح اليت فسر ا املؤمنون باخلرافة واملتاجرون بالكهانة أحـداثا ، األسباب اخلرافية . بالزور واهلتان

التوحيد مبدأ النظام االجتماعي :مقولة ·ضى اإلقرار بأنه ال إله إال اهللا، هو اإلميان به سبحانه وتعاىل خالقا ومالكـا وحكمـا إن مقت

ويترتب على هذه الشهادة اإلقرار بأن اإلنسان خلق لغاية، مبا أن خلـق اهللا . للوجود كله بال شريكالذي تتخـذ منـه تعاىل مرته عن العبث، وأن تلك الغاية هي حتقيق اإلرادة اإلهلية املتعلقة ذا العامل

. احلياة البشرية مسرحا لفعلها احلر املسؤول

ويقتضي ذلك من املسلم النظر إىل احلياة بزماا ومكاا بعني اجلـد، الرتبـاط فالحـه أو وأمر اهللا تعاىل أن يقـوم بتلـك . خسرانه بتمثله للسنن اإلهلية املتصلة بالزمان واملكان الذي حييا فيه

. حتت رقابة توجيهية مستمرة يف ظل التوحيد. إخوانه من البشراملهمة بالتعاون مع :الكتاب

م هذه الدراسة على ثلة من األوليات اليت يعد الوعي ا شرطا لـتفهم الطـرح املقـدم هنـا وتق هي حقيقة أن األمة اإلسالمية العاملية هـي : وأوىل تلك األولويات. والوقوف على مربراتهللتوحيد، . اهن يف عامل اليوم يف وضع تعيس ال حتسد عليه، باملقارنة بغريها من األممبواقعها الر

١٠

ومن املفارقات الغريبة أن هذه األمة جتمع بني كوا األمة األكرب عددا مـن حيـث عـدد املنتمني إليها، واألكثر من حيث العدة املادية، لكوا أغىن األمم يف األراضي واملـوارد، ويف الثـروة

مع الفطرة اليت فطـر اهللا النـاس من مدخلي حيازا أعظم تراث، وتفردها بعقيدة متمشية الفكرية . عليها، مما جيعلها هي األقدر بني نظرياا على احلياة

بيد أن تلك األمة متثل من اجلانب املقابل واحدا من أضعف مقومات النظام العاملي الـراهن، وصورا من هذه الزاوية هي صورة أمة ممزقـة، بـني . لنظاموتقبع يف مكانة متدنية على هرم ذلك ا

تشكيلة متباينة من الدول القومية املنقسمة على نفسها، واملتخاصمة مع األمم األخرى ااورة هلـا، العاجزة عن إنتاج ما تستهلكه وما حتتاج إليه، وغري القادرة على الدفاع عن نفسـها يف مواجهـة

. خصومها وأعدائهاعبري آخر، فإن األمة الوسط الشاهدة على غريها من األمم، كما وصـفها اهللا تعـاىل يف وبت

وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم ( :حمكم الترتيل بقولهاهللا تعاىل، بأن أصبحت أمة يتكالب عليهـا ، غدت على عكس ما كلفها]١٤٣: البقرة [ )شهيدا

وباتت أمة متواضعة اإلسهام يف العصـور . كل من هب ودب من األمم تكالب األكلة على القصعةاحلديثة، وإن كانت ذات ماض عتيد قدمت فيه إسهامات مهمة يف املعركة اليت ختوضـها اإلنسـانية

. والبغضاء والعقوقعلى هذه األرض ضد املرض والفقر واجلهل والرذيلة

أما األولية الثانية، فهي تلك السنة اإلهلية الثابتة اليت ال تعرف التبديل وال التغيري، اليت تكـاد ذلك بأن الله لم يـك ( :متثل القانون احلاكم لتاريخ اإلنسان على األرض، الواردة يف قول اهللا تعاىل

وقولـه ] ٥٣: األنفـال [ )على قوم حتى يغيروا ما بأنفسهم وأن الله سميع عليممغيرا نعمة أنعمها ]. ١١: الرعد [ ) إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم( :تعاىل

سالمية، هو مفتاح تفسري استمرار علتـها، وتطبيق هذه السنة الكونية الربانية على األمة اإل ويف السياق ذاتـه نلمـس . وباب معرفة السر يف فشل كل حماوالت اإلصالح اليت جربتها حىت اآلن

تفسريا للنجاح النسيب حملاوالت اإلصالح اليت قامت ا حركات سلفية يف حلظة تارخيية أقل قربا مـن مية، يف شبه جزيرة العرب، ويف مشال إفريقيا، وغرب إفريقيا، اللحظة الراهنة اليت تعيشها األمة اإلسال

فرواد احلركات اإلصالحية األوىل . ويف شبه القارة اهلندية، باملقارنة مبساعي اإلصالح األحدث عهداا أكثر جذريـة للـداء، عاجلوا إشكالية تدهور مكانة األمة بالتنقيب يف عمق نفسها، وتلمسوا حلول

. ية صفة أساسية هلا، ووضعوا الغلو بذلك يف مكانه الصحيحواستحضروا الوسط

١١

إال أم وقعوا يف خطـأ قاتـل بطـرح . وأصاب أولئك الرواد يف نبذهم للغلو يف التصوف رؤيتهم اإلصالحية على بقية األمة، وعلى العامل اخلارجي، دون جتهيزمها لتمثلها والتعـاطي الـواعي

. لنسيب لتلك املساعي مجيعها، برغم حسن نوايا أصحااا قوكانت النتيجة هي اإلخفا. معها

أما مساعي اإلصالح اليت قامت ا حكومات الدول القومية يف العامل اإلسـالمي، سـواء ما بعد االستعمار التقليـدي، : كانت ملكية أم مجهورية، دكتاتورية أم دستورية يف عصر ما يسمى

ذلك أن قبلة دعاة تلك احملاوالت اإلصالحية، حىت . رمال فكانت يف معظمها مبرتلة بناء صروح علىمع أا هـي املخلصني منهم، أنصبت على املتطلبات املادية لألمة، وتغافلت عن احتياجاا الروحية

وكانت النتيجة أن تلك احلركات زادت اتمع اإلسالمي خباال، بانطالقها من مدخل القومية . األهمقري، يعيد داء الشعوبية القدمي إىل جسد األمة، الذي عانت منه األمة وتصدت اليت هي فريوس غريب ح

. له على مدى تارخيها الطويل

إال أن احلقيقـة تـبني أن ذلـك . جناحا يف أوروبا تورب قائل يقول بأن القومية قد حقق أ يف أوربـا يف ويعود جناح ذلك املبد. فما لبث جنم القومية أن أفل، بكل يقني. النجاح كان عارضا

املدى القصري إىل تقويض حركة اإلصالح الربوتستانيت سلطة الكنيسة، وبث الشك يف العقل والضمري . الغربيني يف تلك املؤسسة السلطوية

ويف املقابل، مل يستطيع املسلم احملرر من مثل تلك املؤسسة الدينية املتسلطة، واملتمتع بعقيـدة ور إلله واحد أحد ليس كمثله شيء، وشـريعة منقطعـة الـنظري، توحيدية راسخة، قائمة على تص

حاكمة لظاهره وباطنه، ولسلوكه احليايت بكل جوانبه، أن يتفاهم مع مفهوم القومية، ناهيك عـن أن . يغدو من مدمنيه والعاكفني عليه

"القوميـة "ويفسر ذلك السبب يف حتمس املسلم يف البداية للزعامات اليت ربطت بني مفهوم ، مث العودة سريعا إىل حالة عدم املباالة ا، مبجرد خفوت توليفة هذا املركـب يف "اهللا أكرب"وشعار

وفشلت كل تلك احلركات اإلصالحية القومية املنبع يف إعادة صنع اإلنسان، الفتقارها . صورة الزعيمقت مشروعات التحديث ألا وأخف. مجيعا للبصرية يف حتديد علة املأزق الراهن الذي يعاين منه املسلم

. تغريبية تصنع جفوة بني املسلم وماضيه، وتستنسخ له صورة ممسوخة من اإلنسان الغريب

وخلت احلركات اإلصالحية األحدث، حىت من ذلك القدر اليسري الذي أولتـه حركـات ـ ة الكليـة اإلصالح األوىل اليت قام ا رواد اإلصالح يف العصر احلديث، على صـعيد تنقيـة الرؤي

بل جتاوزت ذلك إىل حماكاة الغرب يف االسـتهانة . اإلسالمية األساسية من ركامات اخلرافة واجلهل

١٢

بالشرط الذي حدده اهللا تعاىل لتغيري حال هذه األمـة، ومع عدم الوفاء . بالدين، والدعوة إىل جتاوزه . واصلت تلك األمة العاملية ترديها واحنطاطها

املسلمني جتسري الفجوة بني ماضي األمة وحاضرها والبنـاء علـى وحاولت حركة اإلخوان ومع أن البداية . خربة حركات اإلصالح اإلسالمية على مدى قرن من الزمان قبل تشكل تلك احلركة

كانت رائعة وواعدة، فإن احلركة أخفقت يف مواصلة مسريا باملستوى ذاته الذي بدأت به يف عهـد .ستدراج إىل مأساة خوض معارك جانبية، مل يكتب هلا فيها النجاحومسحت لنفسها باال. مؤسسها: أما خطيئتها الكـربى فتمثلـت يف . إال أن ذلك كان مبرتلة اخلطيئة الصغرى لتلك احلركة

أطياف تربز عالقته بكل حلظة من حياة البشر، وبكل "عجزها عن بلورة رؤية كلية كونية لإلسالم، وجتلت مثل تلك الرؤية اجلامعة يف فكر الشيخ حسن البنا، ولكنها تلبست . النشاط اإلنساين املعاصر

ولسوء احلظ انشغل . بقدر من الغموض والتشوش يف فكر من جاءوا من بعده من قيادات اجليل الثاينكبار أولئك املفكرين املسلمني بأمور أخرى غري ترسيخ تلك الرؤية الكونية اإلسالمية، ومل ينهضـوا

تعميم الوعي يف صفوف األمـة مببـادئ : املهمة اليت شرع اإلمام حسن البنا فيها، وهي إمتام بواجب . اإلسالم، وبيان أا صاحلة بوصفها أساسا لوجود اإلنسان يف عصره، وقابلة للبقاء

وخالصة القول، إن تلك احلركة منت من حيث عدد املنتسبني إليها، ولكنها مل تنم من حيث . هو شرط تغيري حال األمة، كما بينه اهللا تعاىل يف القرآن الكرمي عمقها الفكري، الذي

أما األولية الثالثة واألخرية، اليت يتأسس عليها صرح هذه الدراسة، فهي أن األمة اإلسـالمية فلقد كـان هـو . العاملية الواحدة، لن تقوم هلا قائمة، ولن تستعيد وصف األمة الوسط، إال باإلسالم

وبه صنع مصريها . وبه حددت معامل شخصيتها. اته منذ ما يربو على أربعة عشر قرنامربر وجودها ذوحدها رؤية املسلم نفسه خليفة يف األرض بأمر اهللا تعاىل هي اليت تصنع منـه حمركـا . عرب العصور

. لعجلة التاريخ اإلنسايندرة اإلنسان علـى والسري وفق رؤية اإلسالم، وااللتزام الصحيح ا هو الشرط األساسي لق

ويتدخل اإلنسان املسلم بوصفه خليفة . التصرف على حنو مسئول مع جممل مكونات الزمان واملكانالزمانية واملكانية املادية والنفسية بأمر اهللا تعاىل يف األرض، فهو حق له، وواجب عليه، يف املعطيات

ارها على حنو حيقق النموذج اإلهلي ملـا واالجتماعية والروحية احملكومة بسنن كونية، ليعيد توجيه مسومن هذا املنطلق يتجه تدخل املسلم يف إعـادة . ينبغي أن تكون عليه حياة اإلنسان على هذه األرض

واملكان إىل إعادة بنائهما، وليس اهلروب منهما، وال التخلص منهما، على شاكلة مـا صياغة الزمان . تصبو إليه الرتعة اهلندسية والبوذية

١٣

وال يسعى املسلم يف عملية إعادة بناء الزمان واملكان هذه إىل إشباع إرادته اخلالقة، بـل إىل وتأسيسا على ذلك تصري عملية إعادة البناء عبادة هللا وطاعة له، . االستجابة إلرادة اهللا تعاىل يف الكون

نسـان الغـريب هلا، علـى شـاكلة سـلوك اإل وليست عملية غزو للطبيعة، وال قهر هلا، وال حتد ، ويتحصن املسلم بتلك الرؤية الكونية من اإلصابة بآفة من آفات ثالث؛ ادعاء القدرة)١(الربوميثيوسي

. على قهر الطبيعة، اإلصابة بغرور القوة حالة جناحه، اإلصابة باليأس واإلحساس بالعجز حالة فشلهية اإلسالم للوجود، علـى برؤولباب ما يسعى إليه هذا الكتاب هو تعريف الشباب املسلم

أمل التحرك م مسلحني بالوعي بتلك الرؤية على طريق اإلصالح احلقيقي للنفس، ومتكينـهم مـن حممد بـن : املبكرة اليت قدمها رواد احلركة السلفية العظام من أمثال حتديث معطيات الرؤى الفكرية

ي هذه الدراسة إىل تسليط الضوء وترم. عبد الوهاب وحممد إدريس السنوسي وحسن البنا، ونظرائهمعلى العالقة الوثقى بني اإلسالم وكل جماالت الفكر والنشاط اإلنسانيني، مدللة علـى أن التوحيـد

فالتوحيـد . كيزة النواة اليت ينبغي تأسيس أي برنامج إصالحي يف أي جمال كان عليهاروحده هو ال . إصالحية ال تنطلق منهوال جناح يرجتي ألي حركة . ونواته هو جوهر اإلسالم

هللا جبذر العقل الغريب املعاصر إىل األساطري اليونانية القدمية، حيث التعدد يف اآلهلة والصراع بينهما، يعود الفاروقي رمحه ا ١

والصراع بني اإلنسان واإلله، وأسطورة سرقة النار من اآلهلة، اليت ترمز إىل العلم واملعرفة، بغري إرادة اإلله، وتزويد اإلنسان . املترجم –ر حيث يصري لآلهلة العظم وللبشر اللحم ا، والقسمة الضيزى بني اآلهلة والبش

١٤

)جوهر اخلربة الدينية(التوحيد

–) ال إله إال اهللا(األول من أركان اإلسالم ويعين الركن. مفهوم الرب هو نواة اخلربة الدينية مفهوم اهللا بالنسبة للمسلم يف كل مكان ويف كل فعل، ويف كل فكرة، ويف كـل ةمركزي –ببساطة

والسؤال الذي يترتـب . لم ممتلئ بوجود اهللا تعاىل على الدوام، وهو شاغله األمسىفوعي املس. زمان ما معىن تلك املركزية، واستحواذ معية اهللا بكل جالهلا على املسلم؟ : على ذلك هو

ويكمن وراء رؤية رجال الدين اإلسالمي هذه خربة إسالمية ال تنظر إىل الذات اإلهلية علـى وهذا هو . والعلة األوىل النهائية لنشأة اخللق، بل على أا أيضا لب املعيارية يف الكونطلق رد املاأا

البعد من مفهوم اإلله الذي تعرض لقدر كبري من البخس يف النظرية اليت طرحها الفالسفة اليت صورته . وهو جوهر رد املسلم على عوارها. على أنه إله خلق وانتهى من مهمة اخللق

١٥

مني املعيارية يف مفهوم اإلله أنه سبحانه صاحب األمر والنهي واملدبر لكل مـا يف ويعىن تض وسكنات وأفعال حقائق ال يرقـى إليهـا الوجود، وعنايته بالكون وبكل ما يصدر فيه من حركات

وتلـك . إلرادته قدر استطاعته هو أساس قيمة الفعل اإلنسـاين الشك، وأن إتباع اإلنسان ملشيئته وإلهلية هي اليت حتدد لإلنسان ما ينبغي أن يكون عليه كل ما يف الوجود، حىت يف احلاالت اليت اإلرادة ا

وبرغم أن تلك الذات اإلهليـة مطلقـة . ال يترتب على إجنازها بالفعل واجب تكليفي نابع منها عليهللمسـلم أن ولو قدر. وغيبية فإا ليست معزولة عما هو قيمي، وال قابلة للتأكيد عليها على حسابه

لوجدنا لسان حاله يقول إن قيمة الغييب املاورائي هو أنه يقوم بدوره " قيمة املعرفة"يستخدم هنا مقولة . الفاعل بوصفه مصدر األمر التكويين أو مولد الدافعية، أو املعيارية

ويترتب على هذا التصور للذات اإلهلية بوصفها املنتهى األخري املطلق، ومصـدر األسـاس ومـن . قيمي لكل ما يف الوجود، حتمية أن يكون اإلله واحدا أحدا فردا صمدا ليس كمثله شيءال

أول آخر، أو قدمي آخـر يف الواضح أنه يف غيبة هذا الشرط، ينفتح الباب جمددا إلثارة مسألة وجودوهـذا . لـه فجوهر املنتهى أن يكون فريدا وال نظري. الوجود، وأولوية أحدمها أو علوه على اآلخر

. القول ذاته ينطبق على العلة األخرية من سلسلة العلل املترابطة

يأيت البيان القرآين الشايف ويف هذا الصدد. فلباب اآلخرية هو انتفاء اعتماد اآلخر على غريه األنبياء [ )ب العرش عما يصفونلو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا فسبحان الله ر( :يف قوله تعاىل

أما فكـرة . ال إله إال اهللا: وهذا التفرد التوحيدي هو الذي يؤكد عليه املسلم يف شهادته أن ]. ٢٢: ومن بني الشواهد القرآنية على . اجلزم بوجود إله للكون، فإن املسلم ميثل حلقة متأخرة يف تكريسها

)ما أرسلنا من قبلك من رسول إلا نوحي إليه أنه لا إله إلا أنا فاعبـدون و( : هذه احلقيقة ببعديها ، فاجلديد الذي أتى بـه التصـور ]٢٣: فاطر[ )إن أنت إلا نذير(، وقوله سبحانه ]٢٥:األنبياء [

له وتفرده، وإحياء املقاومة للوثنيـة، ولكـل صـور اإلسالمي ليس وجود إله، وإمنا وحدانية هذا اإلاملؤسسات التقليدية احلائدة عن التوحيد اخلالص، يف عصر سادت فيه عقيدة التثليث والثنوية، وتدنت

. فيه عقيدة التوحيد يف الوعي الديين

ومن أجل تطهري الوعي الديين من الشرك على حنو ال رجعة فيه، أكد اإلسالم علـى التـزام بذات إهلية متفردة منقطعة الدقة البالغة يف استعمال املفردات اللغوية على حنو يليق باملدركات املتعلقة

، ]١١: الشـورى [ )ليس كمثله شيء(وبني اهللا تعاىل أنه هو سبحانه . النظري، أو حىت شبه النظريالله الصمد لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفـوا قل هو الله أحد (يقولوا وأمر نبيه والبشرية معه أن

:، وهكذا ختلصت مفردات اللغة الدالة على الذات اإلهلية مـن كلمـات ]٤-١: اإلخالص[ )أحد

١٦

األب، االبن، املخلص، الشفعاء، وما شاكلها، والتأكيد التام على التفرد والتجاوز املطلـق املفـارق هلية عن كل ما عداها بالكون، على حنو ال يستطيع معه أي إنسان أن يدعي عالقة مـع اهللا للذات اإل

وقرر اإلسالم أن كل البشر واملخلوقات سواسـية أمـام اخلـالق . ينفرد ا دون من عداه من البشرلو مبثقال سبحانه، وأن ال إنسان وال خملوق أقرب بذاته، وال بعمله، إال اهللا تعاىل من غريه من نوعه، و

على اخلط الفارق بني الطبيعي وبـني املتعـايل، فكل ما بالكون خملوق يقف . ذرة، من حيث املبدأ . حبكم املبدأ األوىل املتمثل يف كون اهللا تعاىل هو املتفرد مبوضع القيمة العليا، وإليه املنتهى

د فرد صمد ليس كمثله خالصة القول إن بؤرة اخلربة الدينية اإلسالمية مشغولة بإله واحد أح ويعرب القرآن الكـرمي . شيء، إرادته ال معقب عليها، وهادية لكل جوانب حياة اإلنسان على األرض

عن تلك احلقيقة على حنو يأخذ باأللباب، وهو يصور مشهد كشف اهللا تعاىل ملالئكته عـن إرادتـه ة بأن مثل ذلك اخلليفـة احلـر وترد املالئك. خلق األرض، وجعل خليفة فيها يليب مشيئته عن اختيار

ال يعصون اهللا تعاىل ما أمرهم –باملقابل –وهم . اإلرادة قد يقتل ويفسد يف األرض ويسفك الدماءوحول الرد على تلك املقارنة بني املالئكة املستقيمني . ويفعلون ما يؤمرون، ويسبحون اهللا ويقدسونه

تعاىل الفصل بأنه سبحانه يعلم ما ال تعلمـه املالئكـة بيان اهللا جييءوهذا اخلليفة، اعلى اجلادة أبد .وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة قالوا أتجعل فيها مـن يفسـد ( بقول اهللا تعاىل

سقدنو كدمبح بحسن نحناء ومالد كفسيا ويهونفلمعا لا تم لمقال إني أع ٣٠: البقرة [ )لك .[

إال أن امتثال اإلنسـان . قد يقترف السيئات –بوصفه خملوقا حرا –ومن اجللي أن اإلنسان لإلرادة اإلهلية عن اختيار، وهو مستطيع متاما أن ال ميتثل هلا، يشكل حبد ذاته امتثاال ملسـتوى مـن

ومردود حجة املالئكة بأفضليتهم على من قد خيطئ، هو عنـد . ية أمسى وأجدر باإلجاللاإلرادة اإلهلويسلط القرآن الضوء علـى قيمـة . التدقيق فيه، بسبب كوم ال ميتلكون حرية معصية األمر اإلهلي

رض اإلنسانية هذه جبالء، ببيان انفراد اإلنسان حبمل األمانة، يف مقابل إشفاق السـموات واأل احلريةإنا عرضنا الأمانة على السماوات والأرض والجبـال فـأبين أن ( يقول اهللا تعاىل. واجلبال من محلها

]. ٧٢: األحزاب [ )يحملنها وأشفقن منها وحملها الإنسان إنه كان ظلوما جهولا

: سان هو املخلوق الوحيد، الذي يتوفر يف فعله الشرط األخالقي، وهـو ومن هنا، فإن اإلن والقيم األخالقية أرقى من القيم األولية الطبيعية، حيث إا تستبطن قبوهلا هـي والقـيم . الفعل احلر

ومن الواضـح أن القيمـة . النفعية الوسائلية مسبقا وجتاوزها، ومن مث تتبوأ مكانة أمسى من كليهماة للفعل احلر هي الشق األمسى من اإلرادة اإلهلية اليت ألجلها خلق اهللا اإلنسان، وأنعم عيه بأن األخالقي

. جعله خليفة بأمره يف األرض

١٧

من هنا من اهللا تعاىل على اإلنسان بترتيل الوحي اإلهلي على الرسائل والنبيني، ليتعرف بـه وكلمـا احنرفـت . تعاىل منه أن حيققه على األرضعلى املشيئة اإلهلية ببيان مباشر وآين ملا يريد اهللا

البشرية عن مضمونات الوحي اإلهلي جراء التجويف أو النسيان أو اإلفساد فيه أنزل اهللا تعاىل رسـله من جديد الستعادة الوعي اإلنساين الصحيح باإلرادة اإلهلية، على حنو يراعي قدرات اإلنسان النسبية

عليهما من حتوالت، حتقيقا لغاية واحدة، هي أن يظـل يف متنـاول وفق الزمان واملكان، وما يطرأ .اإلنسان على الدوام القدر الكايف من املعرفة الصحيحة باألوامر اإلهلية التكليفية األخالقية

ومن جهة أخرى أنعم اهللا تعاىل على اإلنسان باحلواس والعقل والقدرة على الفهم واحلدس، ألن تلك اإلرادة اإلهلية نفسه على اإلرادة اإلهلية دون معونة من أحد؛ وبكل مقومات فطرة التعرف ب

ويف حني يركز اإلنسان علـى . فطرت عليها العالقات الطبيعية، والعالقات اإلنسانية على حد سواءالعلم الطبيعي يف استكشاف سنن النظام الطبيعي، فإنه يتوجه يف ضبط العالقات اإلنسانية إىل تفعيـل

وعلى صعيد الشق األول يدرك اإلنسان أن اكتشـافاته . القي، وااللتزام بالنظام األخالقياحلس األخواستنتاجاته ليست يقينية، بل هي موضع جتريب متواصل يصوب به اخلطأ، ويعمق بصريته مبزيد من

. التجريب والتحليل والتصحيح

ن إعـادة النظـر يف وعلى ضوء هذا التصور تظل مواصلة البحث ممكنة، وال ييأس العقل م ويعي .الشكوكية والكلبية: اكتشافاته السابقة، وال ميل من تصحيحها، دون أن يقع يف براثن الرتعتني

. اإلنسان املسلم أن معرفة إرادة اهللا تعاىل بالعقل ممكنة، ومعرفة إرادته سبحانه وتعاىل بالوحي يقينيـة فجوهر املعرفة . حدة من حقائق الوعي اإلنساينومبجرد إدراك تلك اإلرادة تصري مقبولية مضموا وا

. بالقيمة هو إدراكها، واعتمال جاذبيتها احملركة يف الوجدان، وقوة العزمية النابعة منـها يف الـنفس ومقتضى معرفة القيمة، هو انتهاء خلود اإلنسان إىل األرض، وفقدانه توازنه الوجودي لصاحل التحرك

ابدة التغيري، والشروع يف الوعي مبا تستوجبه كينونته بوصفه خليفـة باجتاهها، مبا يعنيه ذلك من مكوكما اعتاد العـامل . بأمر اهللا تعاىل يف األرض، والقيام مبا جيب عليه القيام به ترتيبا على ذلك الوعي

إدراك القيمة خربة، وهو حبد ذاتـه عمليـة : "أن يقول ) لويس.آي.س(األمريكي اإلمبرييقي الكبري ".تقييم

مـن اخلـالص يف املسـيحية اوخالصة القول إن اخلالص اإلسالمي هو على النقيض متامفليس هناك خملص، ولـيس . يف املفردات الدينية اإلسالمية )املخلص(بل إنه ال نظري ملفهوم . التقليدية

، أو علـى فاإلنسان والعامل مفطوران على اخلريية اإلجيابيـة . هناك ما حيتاج اإلنسان إىل ختليصه منهالذي أحسن كل شيء خلقه وبـدأ ( فاهللا تعاىل يقول يف وصف ما خلق. احلياد، ومها ليسا شريرين

١٨

)والذي قدر فهـدى الذي خلق فسوى( ، ويقول سبحانه]٧: السجدة [ ) خلق الإنسان من طنيعلى الفطرة الصحيحة اليت فطر اهللا الناس عليها، غري حممل بأيـة فكل مولود يولد ]. ٣، ٢األعلى [

. خطيئة أصلية، كبرية كانت أم يسريةأما عن تأثري تلك اخلربة علـى . هذا عن تأثري اخلربة الدينية اإلسالمية على الهوت اخلالص

، مسرح صنع التـاريخ فبنور تلك اخلربة اندفع املسلم بنفسه على. تاريخ العامل فهو اآلخر بالغ األمهيةومل تعد يف حياته قضية . رغبة يف جتسيد النموذج اإلهلي، الذي بلغه إياه رسول اهللا بالوحي املرتل عليه

. أحب إىل نفسه وأغلى عليها من تلك القضية، إىل حد صار معه مستعدا للتضحية بنفسه يف سـبيلها ة األرضية بأسرها على أا ساحة فعلـه، وبرؤية صحيحة ملهمته يف هذه األرض، نظر املسلم إىل الكر

ونظر إىل أمته على أا تشمل البشرية بأسرها عدا حفنة يسرية من املتمردين، ال يتمثلون إىل الكلمـة . السواء معها، إال بقوة السالح

ومل ينظر املسلم إىل سالمه السالم الذي يبنيه بسواعده، على أنه سالم جمتمع أحادي البنيـة فلقد احتضن ذلك اتمع أهل الكتابة من نصارى ويهود، وصائبني، بنص . اإلسالم وحده يسود فيه

وانفتح أمام البوذيني واهلندوس باسـتقراء الفقهـاء . وضم الزرادشتيني بالسنة النبوية. القرآن الكرميفيه هي العليا، ا بعامل كلمة اهللاوظل النموذج على ما هو عليه، متمثل. املسلمني لدالالت السنة النبوية

والكل يسلم بسموها، إال أن ذلك التسليم، ال تكون له أية قيمة ما مل يكن مؤسسا على قرار حـر وهذا هو السر يف أن الدخول يف السالم اإلسالمي، ال يعين أبدا اعتناق . ومدروس من جانب كل فرد

، والبشر أحـرارا يف اإلقنـاع بل يعين الدخول يف عالقة سلمية تغدو األفكار يف ظلها حرة. اإلسالم . واالقتناع

وواقع األمر أن الدولة اإلسالمية وضعت كل مواردها حتت تصرف اتمـع املسـيحي، أو االستعانة بسـلطتها اتمع اليهودي، أو اتمع اهلندوسي أو البوذي، كلما سعت تلك اتمعات إىل

وكانت الدولة اإلسالمية هـي . زام ا، مرجعيتهايف إعادة أي فرد من أتباعها يتحدى موجبات االلتالدولة الوحيدة غري اليهودية، اليت ال يسمح فيها لليهود أن يتنصل مما تفرضه يهوديته عليه من حقوق

وتنطبق ذات القاعـدة علـى املسـيحي والبـوذي . وواجبات، أو أن يتمرد على مرجعيته اليهوديةمناص أمام الفرد اليهودي األوريب، حىت حتريره يف القرن التاسـع ويف املقابل، مل يكن مثة . واهلندوسي

عشر، أن يتحدى تعليمات كنيسة، إال أن حيرم كنسيا، ويعامل كشخص خمالف للشريعة اليهوديـة، أما الدولة . تنتظره خارج أسوار اجليتو، الدولة املسيحية، أو أي شخص غري يهودي، لتقصيه أو تقتله

. يد اليهودي الشرقي الذي يتحدى مرجعيته الدينية، إىل جادته، باسم حاخاماتهاإلسالمية، فكانت تع . اإلسالمي لألمانة اليت محلها اهللا لإلنسان على أا فعل أخالقيوهذا أبلغ دليل على الفهم

١٩

)لباب اإلسالم(التوحيد

أمهية التوحيد: اأول

ومن الثابـت أيضـا أن جـوهر . الميةمما ال ريب فيه أن اإلسالم هو جوهر احلضارة اإلس التوحيد، أي الشهادة بأن اهللا تعاىل هو الواحد األحد، املطلق اخلالق املتعايل رب كل ما : اإلسالم هو

. يف الوجود ومالكهواملقدمتان السابقتان بدهيتان ال يتطرق إليهما أدىن شك سواء لدى من انتموا إىل احلضـارة

ومل حياول التشكيك فيهما غري املستشرقني ومبشـري اإلرسـاليات . فيهااإلسالمية أم من شاركوا وأيا كان األمر، فإن من البدهي بالنسـبة . املسيحية، وغريهم من أعداء اإلسالم من عهد قريب للغاية

وهذا اجلوهر قابل . التوحيد: للمسلمني، أن للثقافة اإلسالمية وللحضارة اإلسالمية جوهرا معرفيا هو وموضوع هذا الفصل هو حتليل التوحيد بوصفه جوهرا لإلسالم، أي بوصفه املبدأ . ف والتحليلللوص

. النواة األمسى احلاكم لإلسالم ولثقافته وحلضارته

٢٠

النقد اإلسالمي لليهودية . نعى اإلسالم على اليهودية يف هذا الصدد حتريف صفة التسامي املفارق املطلق للذات اإلهلية

لك أم حتدثوا عن الرب بصيغة اجلمع يف ثنايا التوراة كلـها، وادعـوا أن أبنـاء اهللا ومن شواهد ذ . تزوجوا من بنات البشر

جناية املسيحية وجـوهر . تفوقت املسيحية على اليهودية يف اجلناية على الصفة املتعالية املفارقة للذات اإلهلية

اليهودي، إىل عيسى لالمتعايل للرب األب للملكما أخذه اإلسالم على املسيحية، أا مدت املفهوم اعليه السالم، وأعطته إىل جانب رمزيته املعنوية املعربة عن االمتثال ألوامر الرب، مضامينه الوجوديـة

والواقع أن الكثلكة املسيحية . املزيلة لصفة التسامي واملفارقة، بالقول بوحدة اجلوهر بني اهللا وعيسىاجلوهري بني عيسى والرب املتميز عـن تعدديـة الـذوات التماهيهذا حددت نفسها من منطلق

. والصفات والوعي

الطابع املتعايل املفارق للذات اإلهلية يف اإلسالم ويعلن اإلسالم . يقف اإلسالم على طرف نقيض مع اليهودية واملسيحية خبصوص هذه املسألة

ل إنسان وتعنيه، وأن اهللا تعاىل خلق كل البشـر أن مسالة التسامي اإلهلي املطلق قائمة يف مواجهة كفتلك هي الفطرة اليت فطر اهللا البشرية عليها، واليت متثل القاسـم . قادرين على معرفته يف علوه املطلق

وهذه الفطرة ملكة يتعرف ا اإلنسان على الـذات اإلهليـة يف مسوهـا . املشترك بني كل بين آدمومن هنا ال يسلم اإلسالم بالتفرق اهلندوسية للبشر . املفارقة للمخلوقاتووحدانيتها وطبيعتها املتعالية

بني أناس بوسعهم التأمل يف الذات اإلهلية يف تساميها املطلق، وأناس ال ميكنهم إدراكها إال عرب آهلـة . أخرى، أو عرب أصنام

ـ ا، وموجـود وملا كان إدراك السمو اإلهلي املفارق باملطلق، مركوز يف فطرة اإلنسان ذابالضرورة، بالتبعية، فإن اإلسالم يعزو كل احنراف إنساين عنه إىل التربية والتاريخ، ويبني أن مثل هذا الزيغ ينتقل من ثقافة إىل أخرى ومن جيل إىل جيل بسبب النسيان والبالدة العقلية واهلوى واملصـاحل

. املكتسبةويفهم املسلم . ال إله إال اهللا: ة هو شهادة أن والركن األول الذي تبين عليه العقيدة اإلسالمي

هذه الشهادة على أا تعين نفي وجود أي شريك هللا تعاىل يف الوجود يف حكمه وقضـائه، ونفـي . إمكانية أن ميثل أي خملوق تلك الذات اإلهلية، أو جيسدها، أو يرمز هلا بأي شكل مـن األشـكال

وإلهكم إله واحد لا إله إلـا هـو الـرحمن ( يف هذا املعىن فلنقرأ من القرآن الكرمي قول اهللا تعاىل،

٢١

يمح٤٢: اإلسـراء [ و، ]١٠٣ – ١٠٠: األنعـام [ و، ]٢: آل عمران[ و،]١٦٣: البقرة[ )الر – ٤٤ .[

لقد ظهر التسامي والتعايل التوحيدي يف جماالت وأنشطة إسالمية حضارية متعـددة ومنـها كل الفنون اإلسالمية على حنو يليب مقتضيات اعتبار السمو اإلهلي املفـارق، حيث منت ،ال الفنونجم

وطورت كل الفنون اإلسالمية أساليب تؤكد نفي حماكاا للطبيعـة، . مبدأ حاكما أعلى لعلم اجلماللها كل قـوى ومتحورت عبقرية كل تلك الفنون يف حتوي. وبعدها عن السمتني التطويرية والتصويرية

االستقطاب والتماسك الطبيعية، وكل العناصر الطبيعية للكتلة والفضاء والضوء والعناصـر الطبيعيـة وباجلملة لكل ما هو طبيعي أو خملوق، للمياه واللون، وللحن واإليقاع، ولتجليات الظاهر واملنظور،

ال يوجـد أي اسـتثناء جـدير وعلى حد علمي . إىل مناذج طافية معلقة يف الفضاء توحي بالالائية . بالذكر، على مراعاة الفنون اجلميلة اإلسالمية ملبدأ تسامي الذات اإلهلية املطلق

والطابع املتعايل املفارق للذات اإلهلية يف اللغة عند املسلمني حافظ املسلمون، على اختالف ألسنتهم وهلجام وخلفيام العرقية والثقافية يف كل أرجـاء

ة بكل دقة وبذات الدرجة، على مراعاة الطابع املتعايل املفارق للذات اإلهلية يف التعبري عنـها املعموروحققوا بذلك مقصود األحكام القرآنية، املبينة يف آيات من قبيـل قـول اهللا . بلسان القرآن الكرمي

]. ٢: سف يو[ )إنا أنزلناه قرآنا عربيا لعلكم تعقلون( :تعاىلوالتزاما بكل هذه النصوص القرآنية اعترب املسلمون النص العريب للقرآن وحده هو القـرآن،

وال يتلـي . وما عداه من ترمجات ملعانيه هو جمرد أدوات معاونة على فهمه، ولكنها ال تعترب نصوصامؤسسيا من أركان اإلسالم، احتفظت الصالة اليت هي عبادة متثل ركنا اوبذ. القرآن إال باللغة العربية

وعالوة على ذلك، شكل القـرآن . بالكيفية نفسها اليت بينها النيب لألمة، باألمر اإلهلي املوحي به إليهالعربية، وزودهم باملقوالت اليت ميكنهم التعـبري يف وعي من اعتنقوا اإلسالم من غري الناطقني باللغة

وبات كل حديث للمسلمني عن اهللا تعاىل حمصورا . يةحدودها عن أمور دينهم، وعن مشاعرهم الدينفيما جاء عنه بالقرآن الكرمي، وملتزما بكل دقة بالتعبريات القرآنية، مبصطلحاا القرآنية، وبتعبرياـا

. وأشكاله األدبية العربيةستوى القيمي، ، عن معان ثالثة، على امل"ال إله إال اهللا: "ويعرب التوحيد، بعبارته البالغة اإلجياز

وكل مقومـات اخلليقـة يف . أن اخلليقة هي املادة اليت ينبغي جتسيد اإلرادة اإلهلية املطلقة فيها: أوهلاواخلليقة ليست هي أفضل العوامل املمكنة فحسب، بل إـا . الوضع الذي فطرها اهللا تعاىل عليه خريه

الذي أحسن كـل شـيء ( :القرآنيني ويكفينا هنا التدبر يف هذين الشاهدين. كاملة وال عيب فيها ]. ٤ - ٣: امللك [و، ]٧: السجدة [ )خلقه وبدأ خلق الإنسان من طني

٢٢

وحقيقة األمر، أن الغاية اإلهلية من خلق هذا الكون هي أن ميأل اإلنسان بالقيمة، عرب الرؤيـة إنا جعلنا ما على الأرض زينة لها لنبلوهم أيهـم (:مصداق ذلك قول اهللا تعاىل. والفعل األخالقيني

]. ٢: امللك[ و، ]٧: الكهف[ )أحسن عملا

فاهللا تعـاىل . وترتيبا على ذلك، فإن استمتاع اإلنسان بالقيم األولية أو النفعية للخليقة مباح م عند كل مسجد وكلوا واشربوا ولا تسرفوا إنه لا يحب المسرفنييا بني آدم خذوا زينتك(: قوليواحلفاظ عليه وإثراؤه . والكون املمتلئ بالقيمة دليل بارز على وجود اهللا]. ٣٢ - ٣١: األعراف[ )

لقيمة كونية أعلـى، وكل شيء يف الوجود متضمن. يدخالن يف إطار محد اإلنسان لربه وعبادته لهيف مقابل ذلك، انتقصت املسيحية من قدر هذا العامل واعتربته سـاحة و .بوصفه أداة لتحقيق املطلق

ا باخلطيئة، ومن املكان والزمان باعتبارمها جمـاال مـن للجسد، ومن قدر اإلنسان بوصفه خملوقا حممل . املستحيل حتقيق املطلق فيه إىل األبد

ين لشهادة التوحيد، فهو أن اإلنسان ال يواجه يف هـذه احليـاة أي مـأزق ال أما املعىن الثا حقيقة أن طريق اإلنسان مملوء بالعقبات، وأن اإلنسـان عرضـة . يستطيع أن خيلص نفسه منه بنفسه

إال أن هـذا . يف الكسل واللذة واللعـب يته، والختيار الطريق األسهل باالنغماسنلتضييع نفسه بأناومن مث فـإن . بأكثر واقعية من اختيار اإلنسان طريق اجلد واإليثار والعمل األخالقي االحتمال ليس

بل كل ما حيتاجه هو تكريس نفسـه . اإلنسان ال حيتاج إىل خملص، وال إىل مسيح، وال إىل خالص . لرسالته الكونية على األرض، وقياس قيمة نفسه بقدر إجنازه هلا مباشرة

ى العكس من املسيحية، يرى أن الرتعة الروحية املتمثلة يف تلمـس ومن هنا، فإن اإلسالم عل دون إعمال اإلنسان يده يف توازنات الواقع الوجودي للخليفة، ودون جتـاوز خيـوط اإلرادة اإلهلية

السببية الطبيعية على كل مستويات الزمان واملكان، ودون عمل سياسي واقتصادي إنساين، هي جمرد فالتوحيد يدعو بين آدم إىل الفالح، ال إىل اخلالص، ويعدهم بـالثواب . مزيفةدعوى مظهرية فارغة و

.يف هذه احلياة الدنيا ويف اآلخرة بقدر يتناسب مباشرة مع أعماهلم

أما املعىن الثالث اجلديد الذي تعرب عنه شهادة التوحيد على املستوى القيمي، فهو أنه مبـا أن إلهلية، ومبا أن تلك اإلرادة اإلهلية واحدة بالنسبة لكل املخلوقات، اخلري الواجب التحقيق هو اإلرادة ا

لكوا متعلقة باخلالق وحده، ويتعني عليهم مجيعا اخلضوع هلا، فإنه ال حمل للتمييـز بـني األمـاكن وأكد عيسى عليه السالم، واآلباء الرسوليون من بعده على هـذا . والبشر كموضوع للفعل األخالقي

. إال أن أتباعهم من املسيحيني غفلوا عنه بالكلية، مما استدعي إعادة تذكريهم به. يه الكفايةاملعىن مبا فأما اليهودية، يف املقابل، فأنكرت هذا املعىن من حيث املبدأ، وعملت ضده بعناد، ودعت إىل نقيضـه

٢٣

را لقـوة طـرد ومن هنا، فإن القول بعدم التمييز بني نقاط الزمان واملكان بوصفها بـؤ . على الدواممركزية للفعل السياسي، وبعدم التمييز بني البشر بوصفهم فاعلني للفعل األخالقي، على حنو جيعـل احلياة األخالقية عاملية وجمتمعية يف الوقت نفسه، كان مبرتلة اكتشاف جديد، غائب عن املمارسـة،

. حينما ولدت احلركة اإلسالمية

)مبدأ التاريخ(التوحيد

فال مناص أمام املسـلم . سالم من املسلم امللتزم، أن يتدخل يف سري الزمان واملكانيتوقع اإل

بعد أن يشهد بعبوديته هللا وحده ويكرس نفسه وحياته وكل طاقاته لعبادته ويسلم بوجوب تفعيـل اإلرادة اإلهلية يف هذه احلياة الدنيا بزماا ومكاا، من أن يدخل يف حومة العمل والتاريخ ليحـدث

وليس مبقدور املسلم أن يعيش حياة اخللوة والرهبنة، إال على سـبيل . التحول املرغوب يف ساحتهماوحىت يف هذه احلالة، فإنه إن مل توصله مثل هـذه . التمرين على ضبط النفس وحتقيق االنضباط الذايت

ـ الزمان، فإا تعترب عم –الرياضة إىل غايته بتحقيق جناح أكرب يف حتويل املكان مـن قبيـل اال حمبطالتمركز الالأخالقي حول النفس؛ ألن اهلدف منها يف تلك احلالة سيكون هو اعتبار التحول الـذايت

.غاية حبد ذاته، وليس جمرد استعداد لتحويل العامل إىل ما يشبه النموذج الرباين

احة الـيت علـى ولقد أفاض القرآن الكرمي يف تربير هذه احلياة الدنيا، ويف وصفها بأا الس وأكد القرآن الكرمي على أن هذا العامل هو اال الـذي . مبهمته الكونية يف نطاقها اإلنسان أن يقوم

والفالح، والتسـابق يف . جيب السعي لتحقيق املطلق فيه، وأن املكلف بأداء تلك املهمة هو اإلنسان

٢٤

صف القرآن ا الغايـة مـن هـذا اخلريات، والسعادة بعمل الصاحلات، وغريها من التعبريات اليت والوجود يف مجلته، ال ميكن أن يكون له غري معىن واحد هو حتويل معطيات اخلليقة من رجال ونساء،

) هو أنشأكم من الأرض واستعمركم فيهـا ( :ولنقرأ يف هذا املقام قول اهللا تعاىل. ومن مدن وبلدانأرأيـت الـذي يكـذب (:املكذبني بالدين، نقرأ قول اهللا تعاىل ويف معرض حتديد]. ٦١: هود[

الذين هم عن صـلاتهم فويل للمصلني ولا يحض على طعام المسكني فذلك الذي يدع اليتيم بالدين ]. ٧ – ١: املاعون[ )نعون الماعونويم الذين هم يراءون ساهون

أما عن التصور اإلسالمي للحياة اآلخرة فلم يتشكل عرب التاريخ، بل ولد كامال يف القرآن، فلقد نظر إليه على أنه ذروة . وال عالقة بينه وبني وضعية أتباعه كما هو احلال يف اليهودية واملسيحية

فـال موضـع يف هـذا . شكلة من منظومة من الثواب والعقابأخالقية للحياة على هذه األرض، متالتصور ملقولة إعادة هذا العامل، ملا كان عليه، حبظوظ ومقادير لبىن اإلنسان، مغايرة ألحواهلم البائسة

وكل ما ينبغي أن . فهذا العامل الدنيوي هو اململكة الوحيدة والفضاء املكاين والزماين الوحيد. الراهنةومبجرد أن يصل هذا العامل إىل ايته، . ن حيدث وميكن أن حيدث، عرب خالفة اإلنسانيكون، جيب أ

يغدو احلدث الوحيد املمكن هو الفصل النهائي الرباين فيما فعله اإلنسـان فيـه، وحتقـق الثـواب مغاير متاما لعمليات احملاسبة والثواب والعقاب يف هـذا العـامل وتتم هذه العملية على حنو . والعقاب

فهو يتم بطريقة متعالية مفارقة، خارج نطاق معرفة البشر باستثناء الوصـف . مبكانه وزمانه الدنيويني . اازي الذي عرفناه بالوحي املرتل

ون هذا العامل الدنيوي، يف منظور اإلسـالم، أمهيـة بالغـة ئوتأسيسا على ذلك تكتسب ش نفس درجة حيويته بالنسبة للشيوعي، باستثناء أن والتاريخ حيوي بالنسبة للمسلم ب. اخلطورة واجلدية

واملسلم واثق من أن مـا قـدره اهللا . املسلم يعلم أنه هو، وليس املطلق، مسئول عن صناعة التاريخللتاريخ يف اية املطاف هو نتيجة مباشرة لسلوكه هو يف التاريخ على املستوى الفردي الشخصـي،

. عيوكذا على املستوى اجلماعي أو اتمويف حني يسرى الشيوعي أن التاريخ هو نفسه املطلق وهو ضروري من مث، فريى املسـيحي

أما بالنسبة للمسلم، فإن التاريخ هـو مسـرحه . أن التاريخ غري ذي موضوع وغري ضروري، وشريرم به وترتيبا على ذلك يعرف اإلسالم امللتز. وموضع اختباره ولب اخلليقة والغاية من وجودهاومادته

بأنه اإلنسان اجلاد يف الوجود الذي يتفكر يف اخلليقة، وينطلق لسانه بالثناء على ربه واإلقرار بأنـه مل الذين يذكرون الله قياما وقعـودا وعلـى جنـوبهم ( :ويكون منخيلق هذا الكون لعبا وال عبثا، اتاوملق السي خون ففكرتيض والأروخيوض غمـار احليـاة احملفوفـة ]١٩١: آل عمران [ )و ،

باملخاطر بالتدخل يف عمليات الطبيعة والتاريخ، بأقصى ما يف استطاعته، ويكون راغبا يف أن حيكم له

٢٥

وهكذا ميكن التوحيد املسلم من النظر إىل نفسه على أنه هـو . أو عليه بإجنازاته وإخفاقاته يف التاريخ . اريخ؛ فهو اخلليفة الوحيد الذي بوسعه تنفيذ إرادة اهللا يف التاريخحمرك الت

ومن فيض تزودهم باهلدى النبوي وبالقدرة بالنيب يف محاسه لرسالته، اندفع املسلمون األوائل على الفور، ودون أي تردد، إىل حلبة صنع التاريخ يف كل ااالت، وغـريوا األعـراف والتقاليـد

. وبدلوا ثقافات جمتمعات بأكملـها . احلياة اليومية ألفراد من كل األعراق والثقافاتالداخلية وأمناط ولننصت هنا إىل مقولة عقبة بـن نـافع . وإمرباطورياتوغريوا خرائط وحدود وآفاق قرى ومدن

أيها احمليط، لو علمت أن وراءك أرضا لعربتك : "الشهرية، وهو على شواطئ احمليط األطلسي باملغربفلقد . كنموذج دال على روح هذا اجليل اجلديد الذي تريب يف أحضان اإلسالم" هوة جواديعلى ص

. آمن املسلم بأن رسالته عاملية، وتوفرت لديه إرادة حتقيق اليقني بأنه قد قام ا على الوجه األكمـل ياسي، منصب سوكانت تلك املهمة ذات طابع أخالقي وديين، ألن الدافع لدى املسلم مل يكن حيازة

فاملهمة اليت ض من أجلها هي إقامة أرض حمكومة بنظام عـاملي جديـد . وال حتقيق ميزة اقتصاديةوتتوفر حرية تداول األفكار، ويتمتع بنو يسعى إلرسائه، ال تفلت فيها أي مظلمة من اجلزاء العادل،

ة اهللا تعاىل، وإىل وحـدة آدم حبرية اإلقناع واالقتناع، ويتمكن اإلسالم من دعوة البشرية إىل وحداني . احلقيقة والقيمة

٢٦

)مبدأ املعرفة(لتوحيد ا

اإلميان اإلسالمي مقولة معرفية

هـو . ن اإلميان ليس جمرد مقولة أخالقية، بل هو يف احلقيقة ويف املقام األول مقولة معرفيةإ كانت طبيعة حمتواه اخلربي وملا . ليهابتعبري آخر مفهوم مرتبط باملعرفة وبصحة األخبار اليت يتأسس ع

مماثلة لطبيعة املبدأ األول للمنطق واملعرفة وملا وراء الطبيعة واألخالق واجلماليـات، فـإن فعلـه يف . املتعرض له يشبه فعل النور الذي يضئ له كل شئ

كشف يضع كل ما عداه من املعطيات واحلقائق –كما وصفه أبو حامد الغزايل –واإلميان فاإلميان هو أسـاس التفسـري العقـالين . يف الوضع املناسب واملطلوب لفهمها على الوجه الصحيح

وهو املبدأ األول للعقل، وال ميكن أن يكون غري منطقي أو ال عقالين، وإال كان متناقضا مع . للوجودعـن الحنطـاط ومن شأن إنكاره أو معارضته ا. املبدأ األول للعقالنية –حبق –فاإلميان هو . نفسه

. مستوى صوابية التفكري، ومن مث عن مستوى اإلنسانيةولباب التوحيد بوصفه مبدأ املعرفة، هو اإلقرار بأن اهللا تعاىل هو احلق، وأنه واحد أحـد ال ويستبطن هذا اإلقرار وجوب رد البت يف كل خالف ويف كل شك، إليه سبحانه وتعاىل، . شريك له

فالتوحيد إقرار بـأن احلقيقـة قابلـة ألن . املعايرة والبت القاطع فيها وبأنه ال دعوى تستعصي على . تعرف، وأن بوسع اإلنسان أن يصل إليها

٢٧

ومنبعها هو التقاعس عن متابعة . والرتعة الشكوكية املنكرة لتلك احلقيقة هي نقيض التوحيد وهـذه الشـكوكية، . قيقةالبحث عن احلقيقة إىل منتهاه، والتسليم املتعجل بعدم إمكانية معرفة احل

إىل اليأس، ومبنية على افتراض مسبق مفاده أن اإلنسان يعـيش يف حلـم داعيةبوصفها مبدأ معرفيا، ذلـك . أبدي ال ميكن يف ظله أبدا متييز احلق من الباطل، وغري قابلة لالنفصال عن العدمية ونفي القيم

وال جمال للتثبـت يف صـحة أيـة . ان حلقيقتهاأن إدراك القيم يقتضي التسليم بإمكانية توصل اإلنسهل ما يدعى أنه قيمة هو قيمة حبق؟ هل تلـك : قيمية دون اإلجابة على تساؤالت من قبيل دعوى

القيمة متحققة أو منتهكة يف حالة بعينها؟ وهل تلك احلالة املعينة موصوفة على ما هي عليه يف واقعها إىل إجابات يقينية على تلك األسئلة، مبعىن معرفة حقيقتـها، احلقيقي؟ وما مل يكن باإلمكان التوصل

فقيمة القيمة، واستحضارها يف موقف بعينه، قد يكونان حمال للشك شأن أي . فإن معرفة القيمة تنهارومن هنا فإنه ما مل يبدأ املرء بافتراض مضاد للشـكوكية، أي بـافتراض إمكانيـة . معطيات أخرى

. تلك املالبسات، فإن العدمية تصري أمرا حتميا التوصل إىل احلقيقة برغم

رفض كل ما ال يتمشى : أوهلا: ويتشكل التوحيد بوصفه مبدأ منهجيا من ثالثة مبادئ معرفية االنفتاح على الدليل اجلديد، وعلـى دليـل : والثالث . نفي التناقضات النهائية: والثاين. مع احلقيقة

. املخالفة

الزيف واخلداع عن اإلسالم، حيث إنه يضع كل شئ يف الدين يف متناول وينفي املبدأ األول فيكفي يف منظور اإلسالم ثبوت مغايرة موضوع ما للحقيقة الواقعة، أو إخفاقه يف . التمحيص والنقد

التوافق معها، للقول بببطالنه، سواء كان قانونا أو مبدأ أخالقيا أو شخصيا أم اجتماعيـا، أم خـربا . بالوجوديتعلق

وحيمي هذا املبدأ املسلم من القول باهلوى، أي من إطالق دعوى املعرفـة بـال دليـل وال ويعلن القرآن أن الدعوى غري املؤسسة على بينة وتثبت هي جمرد ظـن يأمرنـا اهللا تعـاىل . متحيص ]. ١٢: احلجرات[ )ن إثماجتنبوا كثريا من الظن إن بعض الظ(: يقول اهللا تعاىل. باجتنابه

الشخص الذي ال يقول إال احلق، وال ميثل إال احلق، حـىت لـو : وميكن تعريف املسلم بأنه فالنفاق وتلبيس احلق بالباطل ووضع املرء القيمة األخالقيـة يف مرتبـة أدىن يف . عرضه ذلك للخطر

. الم، وجدير باالزدراءمصلحته اخلاصة، أو من مصلحة عشريته، أمر بغيض يف منظور اإلس

أما املبدأ الثاين اخلاص بنفي التناقض املطلق، فيحمي املرء من التناقض البسيط من جهة، ومن وال مهرب بدونه من الوقـوع يف . وهذا املبدأ هو جوهر العقالنية. التناقض الظاهري من جهة أخرى

قيضني يستحيل معرفـة حقيقـة أي ذلك أن مقولة التناقض النهائي تعين وجود ن. الرتعة الشكوكية

٢٨

والسؤال املطروح مـن مث . ومن املقطوع به أن التناقض حيدث يف تفكري البشر ويف خطابتهم. منهماهل ميكن جتنب التناقض؟ وهل ميكن تلمس خمرج منه حالة حدوثه؟ املوقف اإلسالمي من هذه : هو

تناقضات يقة أخرى تنضوي حتتها تلك املاملسألة هو اجلزم بوجود خمرج من التناقض، مببدأ آخر أو حق . ما بينها من تناقض، ويؤلف بني فروقها على حنو يزيل

فاإلسـالم ال . ويصدق هذا املنطق ذاته خبصوص ما قد يبدو من تناقض بني العقل والوحي ينفي وجود إمكانية منطقية حلدوث مثل هذا التناقض فحسب، بل يزود البشرية يف املبدأ الثاين الذي

وال حمل هنـا لطغيـان . حنن بصدد بيانه، بدليل إرشادي ليخرج منه حالة حدوثه يف الفهم اإلنساينذلك أنه لو جعلت األولوية للـوحي، فلـن . العقل وال الوحي على اآلخر يف إزالة التناقض املتصور

قضات التنا ىوستستعص. يكون لدينا مبدأ نفرق به بني وحي ووحي آخر، أو بني دعويت وحي واحدالبسيطة والتباينات، أو أوجه التعارض الظاهرية بني النص احلريف ألي بيانني أو موقفني يدعي أمـا

ولن جند وحيا يرغب يف حرمان نفسه من وسيلة حيقق ا . موحي ما، على احلل يف مثل هذه احلالة . انسجامه مع نفسه، وحتقيق التناغم يف كامل بنيته

ارض الوحي مع العقل، أي مع نتائج التمحيص العقلـي واإلدراك ومن جهة أخرى، قد يتع ويف مثل هذه احلالة يعلن اإلسالم أن التعارض ليس ائيا، ويوجه الفاحص إىل واحد . املعريف العقالين

مراجعة فهمه للوحي، أو مراجعة النتائج العقلية اليت توصل إليها، أو القيام ـاتني : من ثالثة خياراتفالتوحيد بوصفه مبدأ لوحدة احلق ينفي اعتبار التعارض ائيا، ويطالبنا بالتفكر مـرة . معاالعمليتني

أخرى يف املقوالت اليت تبدو متعارضة، منطلقا من التسليم حبتمية وجود بعد مل يضعه الفـاحص يف .اعتباره، وإذا وضعه يف اعتباره سيزول التعارض املتصور

جود تناقض، إىل إعادة قراءة الوحي، وليس ملراجعة الوحي نفسه وباملثل، يدعو من يتصور و غري ظاهر، لـو مرة أخرى، حتسبا إلمكانية أن يكون قد فاته يف قراءته السالفة إدراك معىن خفي أو

ومثل هذه اإلحالة إىل العقل أو الفهم ال تتعلـق . كان قد تنبه إليه لزال ما تومهه من تعارض ظاهري. بتحقيق انسجام الوحي ذاته، بل بتحقيق انسجام تفسرينا أو فهمنا البشـري لـه من قريب أو بعيد

كل ما يف األمر أن تلك املراجعة جتعل فهمنا للوحي متمشـيا . فالوحي أمسى من أن يعبث به اإلنسانأو التناقض ومن جهة أخرى، فإن التسليم بأن التعارض. مع الدليل املتراكم الذي كشف عنه العقل

وعالمة عقالنية املسلم أنه يصر علـى وحـدة . ري ائي، أمر ال يستسيغه إال ضعاف العقولالظاه . الوحي والعقل: مصدري احلقيقة

أما املبدأ الثالث للتوحيد من حيث وحدة احلق، فهو االنفتاح على الدليل اجلديد، أو علـى والتعصب والرتعة احملافظة املفضـية إىل دليل املخالفة، أو عليهما معا، فهو حيمي املسلم من الليربالية

٢٩

ويفرض عليه أن يذيل تأكيداتـه ونفيـه . ويتجه هذا املبدأ باملسلم صوب التواضع الفكري. الركودفـاهللا . اهللا أعلم؛ ألنه على قناعة بأن احلقيقة أكرب من أن حييط هو بكل جوانبها على الدوام: بعبارة

وأن اللـه (: جل شأنه ، ويقول]٨٠:األنعام[)ء علما أفلا تتذكرونوسع ربي كل شي( :تعاىل يقول ]. ١٢: الطالق[ ) علما قد أحاط بكل شيء

فـاهللا . والتوحيد بتأكيده على وحدانية اهللا تعاىل املطلقة، يؤكد على وحدة مصادر احلقيقة .سان معرفته منهاتعاىل هو خالق الطبيعة اليت يستقي اإلن

ومـن . وموضوع املعرفة هو اآليات والسنن الربانية املبثوثة يف الطبيعة اليت هي من صنع اهللا وفي أنفسـكم أفـال وفي الأرض آيات للموقنني (:بني الشواهد القرآنية على ذلك، قول اهللا تعاىل

]. ٦ -٥: يونس [ و، ]٢٠: الذاريات [ ) تبصرون

واهللا تعاىل يف املنظور اإلسالمي ليس باملخادع وال احلاقد الراغب يف تضليل اإلنسان، وال هو فـاهللا . بالذي يغري حكمه على شاكلة ما يفعل البشر حني يصححون معرفتهم أو رغبتهم أو قرارهم

. هو السميع البصريشيء و تعاىل مطلق الكمال والقدرة واملعرفة، هو ذو اجلالل واإلكرام، ليس كمثلهوعند غياب أي من تلك الصفات ال يكون احلديث عن اإلله الواحد األحد . وتعاىل اهللا عن أن خيطئ

. املطلق املتعايل املفارق يف اإلسالمهجيا متضمنا يف جوهر التوحيد، فيعين أن اهللا تعـاىل نأما عن مفهوم التسامح، بوصفه مبدأ م

ا من أنفسهم، ليعلمهم أنه ال إلـه إال اهللا، ويـدعوهم إىل عث فيها رسولمل يدع أمة من األمم إال وب، ]٥٦: الـذاريات [ )وما خلقت الجن والـإنس إلـا ليعبـدون ( :يقول اهللا تعاىل. عبادته وتوقريه

يـف كـان عاقبـة فسريوا في الأرض فـانظروا ك ( :يقول اهللا تعاىل. وحيذرهم من الشر ودواعيهبنيكذ٣٦: النحل[)الم .[

ويعين التسامح يف هذا املضمار، اليقني بأن اهللا تعاىل قد وهب البشر مجيعا فطـرة سـليمة وهو أيضا إقرار بأن مرد تعـدد . متكنهم من معرفة الدين احلق، وإدراك املشيئة اإلهلية والتعاليم الربانية

ل عوامله املؤثرة، أحواله املكانية والزمانية املتنوعة، وبكل ما به مـن حتيـزات األديان هو التاريخ بكووراء هذا التنوع الديين يقف الدين احلنيف املمثل لفطرة اهللا تعاىل الـيت . وعواطف ومصاحل مكتسبة

ويف . فطر الناس عليها، واليت عليها يولد كل مولود، قبل أن يؤدي التثاقف به إىل إتباع دين أو آخـر ". عثت باحلنيفية السمحاء أو على ملة إبراهيمب: "ذلك املقام نقرأ قول النيب صلى اهللا عليه وسلم

اكتشاف : ويتطلب التسامح من املسلم دراسة تاريخ األديان ابتغاء حتقيق مستهدفني، أوهلما يقـول . لبياا للناس ما ا من حنيفية الفطرة األصلية اليت أرسل اهللا تعاىل رسله يف كل زمان ومكان

٣٠

: وثانيهما]. ٣٠: الروم[ ) فأقم وجهك للدين حنيفا فطرت الله التي فطر الناس عليها (:اهللا تعاىل ادع إلى سبيل ( :يقول اهللا تعاىل. التأكيد على الدين احلنيف وجذب الناس إليه بأصح احلجج وأنسها

]. ١٢٥: النحل [ )الحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسنربك بويف منظور الدين يأيت مبدأ التسامح يف موقع الصدارة، بال منازع، من حيث أمهيته وأولويته

ان إىل حبث علمي رصني يف يف العالقات اإلنسانية، ليقوم بتحويل املواجهة واإلدانة املتبادلة بني األدينشأا وتطورها، دف متييز املكون األصلي املرتل من عند اهللا فيها، عما حلق ـا مـن إضـافات

. تارخييةوعلى صعيد البعد األخالقي للتسامح، الذي هو جماله الثاين البالغ األمهية، حيصن اليسر املسلم

قدر األدىن من التفاؤل املطلوب لالحتفـاظ حباسـة ضد كافة التوجهات النافية للحياة، ويكفل له ال. والصحة والتوازن، مهما صادف من حمن ومصائب يف واقع احلياة اإلنسانية علـى األرض االتساق

]. ٦- ٥: الشرح[ )اريس العسر مع إن يسرا العسر فإن مع( :فلقد بني اهللا لنا

٣١

)غيبمبدأ ال(التوحيد

نفي وجود أي قوة فاعلة أخرى مع اهللا تعاىل، الذي فطر الكـون، يعىن التوحيد بالضرورة ويرقى ذلك إىل مصاف اإلقرار بأن كل مبادرة من جانب أي . على سنن أبدية ال تغيري هلا وال تبديل

السحر والشـعوذة وبذا تنتفي أوهام . قوة طبيعية، حمكومة يف اية املطاف بقدرة اهللا تعايل وتصريفهواألرواح الشريرة، وأية تصورات مشعوذة عن تدخل حتكمي من جانب أي خملـوق يف عمليـات

بلغة أخرى، فإنه بالتوحيد تتم املفاصلة بني الطبيعة، وبني اآلهلة واألرواح املزعومة اخلاصـة . الطبيعة . باألديان البدائية، وخرافات السذج واجلهلة

الطبيعة، يف تاريخ العلم، أكثر من ختليصـها مـن " دنيوية"أو " نيةعلما"ومل يقصد مبفهومي الكثري من األسباب اخلرافية ومن األشباح واألرواح اليت فسر ا املؤمنون باخلرافة واملتاجرون بالكهانة

فالعلم ال حيتاج لنفي فعل اهللا يف الطبيعة، بل لتخليصها مـن أسـاطري . أحداثا طبيعية بالزور والبهتانوعلى النقيض من ذلك، . األرواح واألشباح الفاعلة فيها على حنو مزعوم وتعسفي، وال ميكن التنبؤ به

فلـن ( :فاهللا تعاىل يقول. فإن فعل اهللا يف الكون، ليس حتكميا، بل خيضع لسنن ال تتبدل وال تتغري الله ةنسل جدت لنيلا ودبت الله ةنسل جدويلاتح٤٣:فاطر[ )ت .[

. بل إن سننه يف الكون هي الشرط الضروري للعلم الطبيعـي . واهللا تعاىل ليس عدوا للطبيعة ذلك أن العامل إذا مل يقم علمه على افتراض أن نفس األسباب تفضي إىل نفس النتائج على الـدوام،

. يعجز عن تأدية وظيفته وهذا هو مقتضي ثبات ودميومة السنن اإلهلية الكونية، فإن العلمفالتوحيد جيمع كل خيوط عالقة السببية ويعود ا مجيعا إىل اهللا تعاىل، ولـيس إىل قـوى

وهو بصنيعه هذا جيعل قوة السببية الفاعلة يف كل حدث، ويف كل شئ منظمة، تشكل خيطـا . خفيةصل من السببية هذا ينتهي عنـد اهللا وملا كان هذا اخليط املت. متصال من السببية من الوجهة اإلمبرييقية

٣٢

تعاىل، ويظل أمره بيده، فإن ذلك يتطلب عدم وجود قوة خارجه تتدخل يف تصريف قوة السـببية أو ويفترض ذلك بدوره أن تكون العالقات بني أجزائه سببية، وتقبـل الفحـص . الفاعلية املودعة فيه . واإلثبات التجرييب

إهلية ال تتبدل وال تتغري، أن اهللا تعاىل حيرك خيوط السـببية ومعىن كون قوانني الطبيعة سننا وثبـات . والنمط ال ينتج إال عن وجود عالقة سببية ثابتة بني السبب واملسـبب . عرب أسباب منطية

. العالقة بني العلة واملعلول هو، بالضبط، الذي جيعل الفحص واالكتشاف، ومن مث جيعل العلم ممكناونه حبثا عن مثل تلك السببية املتكررة يف الطبيعة، ألن عالقـات السـببية كفالعلم ال يعدو

والربهنة على وجود مثل تلـك . املشكلة خليط سببية ما تتكرر يف خيوط السببية األخرى املناظرة لهالعالقة مناظر الكتشاف قوانني الطبيعة، وهو الشرط املسبق إلخضاع قوى السببية يف الطبيعة للضبط

وهو من مث الفرضية املسبقة لكل مـا . وهو بالتبعية الشرط الضروري النتفاع اإلنسان ا. سةواهلند . يبدعه اإلنسان من تقنيات

ولقد جحد العلماء الغربيون احملدثون وجود اهللا، وفصلوا بينه وبني الطبيعة، كما لـو كـان ادعته لنفسها من سلطة بـال أي ومرد فعلتهم تلك هو كراهيتهم للكنيسة املسيحية، وما. ذلك ممكنا

ومل تستطع العلوم الطبيعية أن تزدهـر يف . وجه استحقاق، على املعرفة كلها، مبا فيها معرفة الطبيعة .الغرب، إال بعد أن أقدموا على تلك اخلطوة

وصادرت . فعلى مدى ألف سنة، مل ينتج املسيحيون علما طبيعيا بسبب هيمنة الكنيسة هذه لتحريك الروح العلمية، نتيجة جها املفـارق، والهوـا التجسـيدي، أية إمكانية الكنيسة على

وعضـدت . وتعاليمها التسلطية اليت خاضت بال سند، من منطلق حتكمي، يف قضايا العلم الطبيعـي ونظرت الكنيسة إىل إزالة األسطورة واخلرافة على أنه مبرتلة ديد . سلطة الكنيسة، األسطورة واخلرافة

ومع ذلك، فـإن . وسعت الكنيسة إىل حراسة أساس وجودها ذاته، بالتخلص من العلماء. سلطتهال . ازمت الكنيسة. العلماء كسبوا معركتهم بالتدريج

الكون الغائي ت، وهو النظام الذي جيليه املكـان الال يقتصر نظام الطبيعة على النظام املادي للعلل واملعلو

. الدرجـة، لغايـات فالطبيعة ساحة، بذات . مقوالت نظرية، ألفهامنا والزمان وما شاكل ذلك منوكل شيء يف الوجـود مـن . فلكل شيء فيها غاية، يساهم بتحقيقها يف إثراء الكل وحتصيل توازنه

أصغر حصاة جامدة يف الوادي، ومن أصغر األحياء املائية العالقة على سطح مياه احمليطـات، ومـن إىل ارات ومشوسها، إىل أشجار الصنوبر العمالقة ائنة يف أحشاء صرصور، السوطيات امليكروبية الك

٣٣

واحليتان والفيلة، وباجلملة كل خملوق بأصل نشأته، ومنوه، وحياته ومماته، حيقـق غايـة خلقـه اهللا . ليحققها، ضرورية لبقية املخلوقات

الطبيعة بوصفها مملوكة هللا تعاىل باألصالة على ركيزتني، األوىل ما ورائية غيبية، قوامها اعتبار كل مـا يف الغيب يقوم املبدأ اإلسالمي

فاإلسـالم . والثانية هي البعد األخالقي يف تعامل اإلنسان مع املوجـودات . بالوجود مملوكا هللا تعاىلا ينمو فيه ويزدهر، ويستمتع بنعم يعلم البشر أن الطبيعة خلقت لتكون مسرحا لعمل اإلنسان، وحقل

أوهلـا، أن : ويرتبط هذا املبدأ بأربعة معطيات. تعاىل، ليربهن بقيامه بذلك على جدارته األخالقية اهللاوحصل اإلنسان من اهللا تعاىل على حق االنتفاع ا، علـى . الطبيعة مملوكة هللا تعاىل، وليس لإلنسان

ت تصـرفه بصـفة وهو مطالب برعاية ما وضعه اهللا تعاىل حت. النحو الذي حدده سبحانه وتعاىل له . أمانة

ومن املقطوع به أن حق االنتفاع ال خيول اإلنسان حق تدمري الطبيعة، وال حق استغالهلا على وحق االنتفاع الذي هو كل ما ميتلكه اإلنسان حق فردي جيـدده . حنو يفسد التوازن البيئي أو يدمرهوال الوراثة، وال خيـول حلـد حـق وهذا احلق ال يقبل اإلنابة، . اهللا تعاىل مع كل فرد لدى مولده

ومن املفترض أن يسلم اإلنسان، بوصفه خليفة بأمر اهللا تعاىل . املصادرة على مستقبل متتع اآلخرين به . يف األرض، بل يف الكون، األمانة لربه لدى موته، يف وضعية أفضل من تلك اليت تسلمها عليها

. تطيع أن يدخل عليه ما يشاء من تغـيري وثانيها، أن نظام الطبيعة مسخر لإلنسان حبيث يس فلقد خلق اهللا تعاىل الطبيعة مطواعة وقابلة لتدخل اإلنسان يف عملياا، فضال عـن إمكانيـة تغـيري

وما من ساحة وال جمال يف الطبيعة، إال وهي وهو داخل . سلسلة عالقة السببية الطبيعية بفعل اإلنسانها، أن اإلنسان مكلف يف انتفاعه بالطبيعـة واسـتمتاعه ـا، وثالث. اإلطار املتاح للسعي اإلنساين

فالسرقة واخلداع واإلكراه واالحتكار واالكتناز واالستغالل واألنانيـة، . بالتصرف على حنو أخالقيوبالدة احلس جتاه احتياجات اآلخرين، كلها خصال ال تليق به كخليفة مؤمتن يف أرض اهللا، وهي من

].٧-١:املاعون[و، ]٤-١:اهلمزة[ و، ]٣٨: املائدة: [رانظ. احملرمات القطعيةواألمر الرابع واألخري، أن اإلسالم يأمر اإلنسان بالتنقيب عن سنن اهللا يف الكون وتفهمهـا،

لك السـنن تليس فقط فيما يتعلق بالسنن اليت تتشكل منها العلوم الطبيعية فقط، بل، بذات الدرجة، بوتضفي حقيقة أن الطبيعة من صنع اهللا تعـاىل، وهـو . ها العام أيضااليت تشكل مجال الطبيعة ونظام

فاطرها ومدبر أمرها، وهي جتسيد ملشيئته، هالة من التكرمي عليها، تستوجب جتنب إساءة استعماهلا، ومقتضي احلساسية جتـاه الطبيعـة . أو سلبها، أو استغالهلا، برغم كوا مسخرة النتفاع اإلنسان ا

٣٤

قيقة هلا كحديقة أو غابة أو ر أو جبل، هو التعامل مع كل شيء فيها وفق الغايـة الـيت والرعاية الر . خلقه اهللا هلا

) مبدأ األخالق(التوحيد

. مربر وجود اإلنسان هو طاعة اهللا وتنفيذ أمره: يقوم مبدأ التوحيد هنا على مقولة مفادها أن

ومبقتضى هذا . ستخالف اهللا تعاىل لإلنسان يف األرضويؤكد التوحيد أيضا أن جوهر هذه الغاية هو ااألمانة الـيت مل تطـق السـموات –فيما بينه القرآن الكرمي –االستخالف محل اهللا تعاىل اإلنسان

إنا عرضنا الأمانة على السماوات والأرض والجبـال ( :يقول اهللا تعاىل. واألرض محلها وأشفقن منها ]. ٧٢: األحزاب [ )فأبين أن يحملنها وأشفقن منها وحملها الإنسان إنه كان ظلوما جهولا

ضي حبكم توفحوى هذه األمانة اإلهلية هي الوفاء بالشق األخالقي من املشيئة اإلهلية، الذي يق فتحقـق . الوحيد املفطور على حنو يؤهله لفعل ذلـك واإلنسان هو الكائن . طبيعته أن يتحقق حبرية

املشيئة اإلهلية بالسنن الكونية اليت أودعها اهللا تعاىل يف الطبيعة يقف عند حد القيمة األولية أو النفعية، وحده اإلنسان بقدرته على الفعل أو عدم الفعـل أو اختـاذ . وال يرقي إىل مصاف القيمة األخالقية

فممارسـة . املؤهل لتحقيق تلك اإلرادة يف شـقها األخالقـي الترك، هو موقف وسط بني الفعل و . اإلنسان حلرية اإلرادة يف التعامل مع األمر اإلهلي التكليفي هي اليت جتعل سعيه أخالقيا

٣٥

وقبول اإلنسان حتمل هـذا . والتكليف هو أساس إنسانية اإلنسان، وهو لب معناها وحمتواها من بقية املخلوقات، مبا فيهم املالئكة، لكونه املخلوق الوحيد املؤهـل العبء، يضعه يف مكانة أمسى

وشتان بني إنسانية اإلسالم هذه، وبـني . ومن هذا التكليف تتشكل األمهية الكونية لإلنسان. لذلكوعلى سبيل املثال، أجنبت احلضارة اإلغريقية فلسفة إنسانية قوية، تبناهـا . غريها من الرؤى اإلنسانية

هذه الفلسفة اليت اختذت من الطبيعة أساسـا هلـا . واعتربها منوذجا حيتذى من عصر النهضة الغربوهلذا مل يشعر اإلغريقي بأي غضاضة وهـو ، اختذت اإلنسان إهلا له مبا حيمل من رذائل أو احنرافات

ساناإلنة من جانب آخر فقد أحطت من شأن حيأما املسي. يصور أهلته على شكل خمادعني ومتآمرين ".باخلطيئة األصلية" إياه مبا محلته

وحدها إنسانية التوحيد هي القيمة اليت حتترم اإلنسان بصفته إنسانا خملوقـا، دون تأليـه أو وهي الوحيدة اليت حتدد قيمة اإلنسان مبناقبه، وتبدأ تقييمها له من نقطـة إجيابيـة لتسـليمها . حتقري

وهي الوحيـدة الـيت . شر عليها، إلعدادهم للقيام مبهمتهم النبيلةباستواء الفطرة اليت فطر اهللا كل البحتدد فضائل ومثاليات احلياة اإلنسانية مبحتوى مماثل للحياة الفطرية، وليس بالتنكر هلا، ممـا جيعـل

. إنسانيتها غري زاهدة يف احلياة وأخالقية يف آن واحداألخالق مؤسسة بالكليـة علـى ف. ويستحيل يف نظر اإلسالم الفصل بني األخالق والدين

الـدنيوي / العلمـاين، املقـدس / الديين: وال يعرف العقل املسلم أية ثنائيات متقابلة، مثل . الدينوختلو مفردات اللغة العربية، اليت هي اللغة األم للدين اإلسالمي، من مثـل . الدولة/ املدنس، الكنيسة

. تلك الثنائياتمعرفة اإلسالمية هو وحدة احلق، متاما كما أن مبدأ احلياة البشرية ومن مث فإن املبدأ األول لل

وكل هـذه . يعود إىل نفس واحدة هي آدم عليه السالم، واملبدأ األول للوجود هو وحدانية اهللا تعاىلومثل هذه الوحدة هي املبدأ األمسـى . الوحدات الثالث مترابطة فيما بينها على حنو ال يقبل االنفصام

فلقد انطلق اإلسالم حبق مـن . ومل تكن القضية اليت ض هلا اإلسالم هي إثبات وجود اهللا. للوجودأما دعـوة اإلسـالم إىل . حبضور حيوي لربه على الدواماعتبار اإلنسان كائنا متدينا، مشغوال وعيه

اخلليط بني بالنظر إىل ما وقع فيه معظم البشر على حنو متكرر من توحيد اهللا تعاىل، فكانت جديدة، . اإلله احلق وبني كائنات أو قوى أخرى، أو أهواء بشرية، مما أفسد توحيدهم

الغاية من خلق اإلنسان يبدأ علم األخالق اإلسالمي يف ضوء ما سلف بتحديد الغاية اليت من أجلها خلق اهللا تعـاىل ف من خلق اهللا اإلنسان، ما هو مربر وجود اإلنسان؟ ما اهلد: ويصري السؤال املطروح هو . اإلنسان

ومن مؤازرته املستمرة له يف احلياة والتاريخ؟

٣٦

يف إجابته على هذا السؤال، يستخدم اإلسالم التعبريات الدينية وكذا التعـبريات السـامية ومـا خلقـت (: يقول اهللا تعاىل يف حمكم الترتيل. القدمية، مؤكدا أن اهللا تعاىل خلق اإلنسان لعبادته

الفلسفي، إىل مصاف تقرير ويرقي هذا القول بالتعبري ]. ٥٦: الذاريات [ )ن والإنس إلا ليعبدونالج . أن الغاية من وجود اإلنسان، هي حتقيق اخلري األمسى، أو حتقيق امتالء الوجود بالقيم

وجحد هـذه . هدفية احلياة اإلنسانية: وجوهر ما جيري التأكيد عليه هنا هو بكل وضوح وختتلف تلك القضية عن مسألة اجلدل حول . الغائية هو مبثابة تشكيك يف وجود أي معىن هلذه احلياة

هل هو البطولة أم الورع أم العيش على اهلوى؟ فهذه املسألة ال تثار من األسـاس، : معىن احلياة الدنيا . ليم بأن للحياة اإلنسانية معىن، أو فيها خرياما مل يتم اإلقرار أوال، بأن لتلك احلياة غاية ما، مبعىن التس

وقوام هذا املعىن أو اخلري الذي هو غاية اخلليقة كلها، يف منظور اإلسالم، هو حتقيق املشـيئة وبينما تتحقق تلك اإلرادة اإلهلية على حنو ال إرادي يف غري عامل اإلنسان، باطراد السنن اإلهلية . اإلهلية

ق يف شق من عامل اإلنسان بذات الطريقة، كما هو الشأن يف وظـائف اجلسـد الكونية، فإا تتحقاإلنساين العضوية والنفسية، بينما تتحقق يف الشق اآلخر املتعلق بالوظائف األخالقية على حنـو إرادي

وبالوظائف األخالقية تتحقق القيم األخالقية، اليت هي أمسى مقومات هذا الوجـود، وجـوهر . حر . كليفية اإلهليةاألوامر الت

براءة اإلنسان يقرر اإلسالم أن اإلنسان يولد بريئا، ويرسم طريقة يف احلياة بعد مولده، وليس مـن قبـل

فاإلنسان يولد بريئا أيا كان أبواه أو أعمامه أو أخواله أو أسالفه أو إخوانه أو أخواته أو جريانه . ذلكخطيئة أصلية، أو معصية موروثة، أو مسئولية يتحملها ويدحض اإلسالم متاما فكرة وجود. أو جمتمعه

ومن . أحد باإلنابة عن أحد، أو أن يتحمل أحد جريرة فعل قبلي أو قومي أو دويل حدث قبل مولدهلا يكلف الله نفسا إلا وسعها لها مـا كسـبت (: الشواهد القرآنية الدالة على ذلك، قول اهللا تعاىل

ورا إصنليل عمحلا تا ونبا رطأنأخ ا أوسينا إن نذناخؤا لا تنبر تبسا اكتا مهليلى عع هلتما حا كمنا وارحمنا أنت مولانا فانصـرنا الذين من قبلنا ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به واعف عنا واغفر ل

رينم الكافلى القو٤٢ -٣٦: النجم[و، ]٢٨٦: البقرة [ )ع .[ ويؤكد القرآن الكرمي أن كل إنسان يولد بصفحة بيضاء وسجل نظيف من الذنوب، مؤسسا

إنا أنزلنا عليـك الكتـاب ( :ولنقرأ هنا قول اهللا تعاىل. ذلك على استقاللية وفردية الشخص اآلدمي ) للناس بالحق فمن اهتدى فلنفسه ومن ضل فإنما يضل عليهـا ومـا أنـت علـيهم بوكيـل

]. ٢٩: فالكه[ )فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر ( :، وقوله سبحانه]٤١:الزمر[

٣٧

قل أغير الله أبغـي ﴿ :، قال تعاىلويعلن القرآن الكرمي أن كل إنسان لن حيمل وزر أحد غريه ـ ى ربكـم ربا وهو رب كل شيء ولا تكسب كل نفس إلا عليها ولا تزر وازرة وزر أخرى ثم إل

﴿ ألـا تـزر وازرة وزر :وقوله تعاىل، ]١٦٤: األنعام [﴾ عكم فينبئكم بما كنتم فيه تختلفونمرجفكل نفس حتمل مبا فعلته هي مـن ]. ٤١ – ٣٨: النجم [ثم يجزاه الجزاء الأوفى﴾ ﴿ ، أخرى﴾

إنسان ألزمناه طائره في عنقه ونخرج له يوم القيامة كتابا يلقـاه كل و﴿: ، يقول تعاىلخري ومن شرمن اهتدى فإنما يهتدي لنفسه ومن ضل فإنما اقرأ كتابك كفى بنفسك اليوم عليك حسيبا منشورا ل عضوليسث رعبى نتح ذبنيعا ما كنمى ورأخ رة وزازرو زرلا تا وه١٥ – ١٣: اإلسراء [﴾ الي .[

]. ٤٦: فصـلت [ ﴿من عمل صالحا فلنفسه ومن أساء فعليها وما ربك بظلام للعبيد﴾: وقوله تعاىل﴿قـل لـا : يقول تعـاىل .ولن ميلك أحد ألحد نفعا وال ضرا. اهللا أحدا على فعل غريه فلن حياسب

﴿فاليوم لا يملك بعضـكم : وقوله تعاىل، ]٢٥: سبأ [تسألون عما أجرمنا ولا نسأل عما تعملون﴾ لذقول لنا ورلا ضا وفعض نعبون﴾لكذبا تبه متي كنار التالن ذابوا ذوقوا عظلم ٤٢: سبأ [ ين.[

وحيدد مفهـوم . وخالصة القول، إن اإلسالم يقصر مسئولية اإلنسان على أعماله هو نفسه حيدث الفعل الذي يقدم عليه اإلنسان الراشد العاقل بنفسه بوعي وإرادة حرة، و: العمل اإلنساين بأنه

ومن ثوابت الوعي األخالقي أن اإلمث واملسئولية مقولتان . به بعض التحول يف جمريات الزمان واملكان . أخالقيتان، ال تقومان إال بالنسبة لفعل حر وواع

ويف املقابل، سعي بعض املفكرين املسيحيني املعاصرين إىل إعادة بناء مبدأ اخلطيئة األصـلية، عموا أن ذلك األساس يقوم على اكتشافات علماء األحيـاء وعلمـاء وز. على أساس وصفي جديد

ورأى هؤالء أن مثة شواهد مجة تشكل معا دليال علـى اخلطيئـة . النفس، وحتليالم للطبيعة البشريةاألصلية، تشمل ما يتصف به اإلنسان من إرادة احلياة والبقاء فيها، وإشباع الغرائز، والرغبة يف املتعـة

ا عن احلقيقة الثابتة املتعلقة بعدم عصمة اإلنسان ومغايرة خصاله وإرادة القوة، واألنانية، فضلوالراحة، توجه كل تلك امليول الطبيعيـة أو : وخلصوا من ذلك إىل تعريف اخلطيئة األصلية بأا. لصفات ربه

. النفسية إىل التمركز حول الذات

ية اإلنسانية اإلغريقية، اليت تعتـرف بإنسـانية ا، مع الرؤإال أن اإلسالم خيتلف جذريا، أول وخيتلف اإلسالم ثانيا مع الرؤية . املواطنني األحرار، بينما تصنف العبيد يف فئة أخرى أدىن من سابقتها

اإلنسانية اليهودية بذات الدرجة، اليت تسلم بوجود الصورة اإلهلية يف كل البشر بـالفطرة، ولكنـها وخيتلف اإلسالم ثالثا مع املسيحية اليت متـايز . بع معطية أتباعها وضعية خمتارةتفرق بينهم باملولد والط

بني البشر من حيث امتالكهم مجيعا ناموسا طبيعيا، وتدعي اختصاص أتباعها بناموس إهلـي حبكـم تسـتمد وخيتلف اإلسالم رابعا وأخريا، مع الرؤية اإلنسانية العلمانية األوربية، اليت. إميام وتعميدهم

٣٨

هويتها من الثقافة األوربية على سبيل احلصر، وبط باآلسيويني واألفارقة وغري األوربيني عامة من مث فلم يستطع حىت رائد التنوير املفكر الكبري إميانويل كانط، املنادي . إىل مستوى أدىن من مستوى البشر

. ص وضعية أدىن لآلسيويني واألفارقةبالعقل اخلالص، أن يصل بعقالنيته إىل ايتها املنطقية، وخصيا أيهـا (ويذكر اهللا تعاىل البشرية مرارا يف القرآن. أما اإلسالم فريى أن كل البشر سواسية

:، ويقـول ]١٣: احلجرات [ )الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا ) للعـاملني لآيـات إن يف ذلك ألوانكمو تكمألسن تالفاخض والأرماوات والس لقآياته خ منو ( وبعد أن يقرر القرآن أن كل البشر يعودون إىل آدم وحواء، وأم من تراب، ]. ٢٢ – ٢٠: الروم[

.وأساس التفاضل بينهم هو التقوى

فاخلالص يف منظوره مفهوم ديين غري مناسـب، ال . ص الهويتخالوال يعرف اإلسالم أي نعم ارتكب أول . واإلنسان ال يواجه أي مأزق حيتاج إىل ختليصه منه. نظري له يف املفردات اإلسالمية

إال أنه تاب إىل اهللا وتقبل اهللا توبته وغفر . خطيئة متثلت يف األكل من الشجرة احملرمة –آدم –آدمي وقلنا يا آدم اسكن أنت وزوجك الجنة وكلا منها رغدا حيث شئتما ولا تقربا ( تعاىل يقول اهللا. له

نيمالظال نا مكونة فترجالش هذبطـوا هـا اهقلنو يـها فا كانما ممهجرا فأخهنطان عيا الشملهفأز فتلقى آدم من ربه كلمات فتاب عليه بعضكم لبعض عدو ولكم في الأرض مستقر ومتاع إلى حني

يمحالر ابوالت وه هإن ما جهنبطوا ما اها قلنيع فـوفلـا خ ايده بعن تى فمدي هنكم منيأتا يفإم ]. ٣٨ – ٣٥: البقرة [ )عليهم ولا هم يحزنون

كانت هي أول خطأ يف التقدير األخالقي، وأول إساءة تصرف، . وخطيئة آدم خطيئة عادية كوا األوىل من نوعها من كل هذه اجلوانب، فإا جريرة إال أا برغم. وأول جناية يرتكبها إنسان

وهـذه . وتندرج من مث ضمن مسئوليته الشخصية، وال يتعدى أثرها إىل أحـد غـريه . إنسان واحد. اخلطيئة ليست خالية من أي أثر كوين فحسب، بل هي خالية من أي أثر حىت على أبناء آدم أنفسهم

. حقيقة أا تسببت يف هبوط آدم من اجلنة إىل األرض. حد غريهوهي ال تشكل هبوطا ال آلدم وال ألفاإلنسان مل يسقط، وال داعي من مث . ولكنها مل تغري شيئا يف فطرته وقدراته ووعده ورسالته ومصريه

وقيمتـه . فاإلنسان، باألحرى خماطب بأمر إهلي تكليفي يتعلق مبا ينبغي له فعلـه . لتخليصه أو لفدائهويؤكـد . فاإلسالم ينفي السقوط عن اإلنسان، ويقرر براءتـه . ذا األمر أو معصيته لهرهن بطاعته هل

. على الفالح والسعادة، وليس على مفهوم اخلالصوال . وملا كان كل إنسان رهينا بعمله، فإن فالحه أو خسرانه يتقوم بالكليـة علـى عملـه

رهن بطقوس سـرية مقدسـة، وال على مباركة أحد أو وساطته، وال هو الفالح يتوقف مثل ذلك . فال وساطة يف اإلسالم، وال طقوسا سرية. بعضوية مؤسسة روحية مثل الكنيسة

٣٩

فاألمر األخالقي التكليفي، املخاطب به اإلنسان، ال يلتفت إىل املاضي، وال يتعلق حبدث وقع ومنبع هـذا . آخر يف املاضي، سواء كان هذا احلدث يشري إىل هبوط، أو إىل فداء مت على يد شخص

. األمر ليس مثل تلك األحداث املاضية، بل هو يتعلق مجلة وتفصيال من حدث حاضر أو مسـتقبلي فاملاضي العالقي الوحيد الذي . ومن هنا ال يعرف اإلسالم أي تربير باإلميان، وال أي تاريخ للخالصن يف ماضـيه مـن فـالح أو يعترف اإلسالم به يقتصر على الوحي اإلهلي املرتل، وما حققه اإلنسا

.خسران نتيجة طاعته األوامر التكليفية اإلهلية املتضمنة يف هذا الوحي، أو نتيجة عصيانه هلا

والدليل على ذلك هو ربط القرآن يف مواضـع . أعلن اإلسالم ضرورة الربط بني اإلميان والعمل ، ]٨٨: الكهـف [ و، ]٣٠: الكهف [ و، ]١٧٣: النساء : [انظر. كثرية بني اإلميان والعمل الصاحل

وأوامر اهللا للبشر بالعمل الصاحل تربو على احلصر، وال تدع جمـاال للشـك يف ]. ٣٨، ٣٧: سبأ [و . وجوبه

ويدين اإلسالم . ويف املقابل، يؤكد القرآن، بذات الدرجة، على سخط اهللا تعاىل على القعود حينما يسعى املرء من ورائها إىل تنمية ما بنفسـه مـن العزلة أو اخللوة أو االنقطاع عن العمل، حىت

ورهبانية ابتدعوها مـا (يقول اهللا تعاىل . فضائل أخالقية، كما هو الشأن بالنسبة للرهبانية املسيحيةالله انواء رضغتإلا اب همليا عاهنب٩٥: النساء [و]. ٢٧: احلديد [ )كت .[

ية األمتتبني لنا فيما سلف أن حتويل النية إىل عمل يتطلب من املرء جتاوز مصلحة نفسه إىل مصلحة

ويغدو . ويعىن العمل اإلسالمي حينما يكون ذلك اآلخر هو الطبيعة، حتويل هذا العامل إىل جنة. غريهوحينمـا . سلمحتصيل كل ما يتطلبه العلم والتكنولوجيا لتحقيق هذا التحول فريضة دينية على كل م

يكون اآلخر إنسانا أو أناسا آخرين، فإن العمل اإلسالمي يعين حتويل اجلنس البشـري إىل أبطـال . وقديسني وعباقرة، تتحقق اإلرادة اإلهلية، فيهم، أي يف حيام ونشاطهم

فـالغرية األخالقيـة، أو . بيد أن هذا االنشغال بصاحل بقيمة البشر ليس هو املراد باألمتيـة وتوجد بالفعل مناذج كـثرية . النشغال بصاحل اآلخرين، ميكن أن يكون حمل اهتمام رهبان غري أمتينيا

وجتلت حاجة املسيحية ملثل تلك الغريية اإليثارية، يف بداية عهدها يف مصر، بغلبـة . يف الواقع لذلك ). نطونيوسأ(، يف مقابل النساكة الشخصية اليت مثلها )باخيموس(رؤية رهبانية الشركة عند

وجاء اإلسالم ليضع فكرة األمة يف صميم ما يهم العامل، فارضا عليه أن يشرك اآلخرين يف والغاية اليت سعى اإلسالم إىل حتقيقها من وراء ذلك هـي جعـل . العمل كشركاء، أو كمعاونني له

ة يف العمل بصـفة العمل مجاعيا، وجذب الذات اإلنسانية الفردية أو اجلماعية األخرى، إىل املشارك

٤٠

وإذا كانت الرتعة اإليثارية . فاعلني، ومن مث استحقاق ما يترتب عليه من ثواب أو من عقاب أخالقيال تفلح كسبيل للتهذيب األخالقي لإلنسان آخر، أو لتحقيقه الكمال اإلنساين، من موقع املفعول به،

علني، حبكم العادة أو العـرف، أو فإن اتمع املنظم بشكل صارم، على حنو يعمل معه أعضاؤه كفا . خوفا من طاغية سياسي، ال حيقق تلك الغاية هو اآلخر

وملا كان حتقيق املشيئة اإلهلية مهمة ال ائية، ووثيقة الصلة بكل البشر وبكل األنشطة يف كل ـ ب عـن زمان ومكان، فإن اتمع كما يتصوره اإلسالم، يسعى إىل اإلقناع واإلقتناع، وإىل التنقي

ومثل هذا اتمع هو اتمع القائم على الرشد مبعـىن . القيمة وجتسيدها يف أرض الواقع، على الدوامومثل هذا اتمع هو األمة اليت يسعى . الكلمة، وليس اتمع التقليدي الضيق القائم على آصرة القرابة

أمة أخرجت للناس تـأمرون بـالمعروف كنتم خير( :يقول اهللا تعاىل. اإلسالم إىل إخراجها للناسون باللهنمؤتكر ونن المن عوهنت١١٠: آل عمران[ )و.[

وجيمع بني أعضاء تلك األمة توافق ثالثي األبعاد يف العقل أو الرؤية، يف النيـة أو اإلرادة، يف و األخوة اإلسالمية، وقد انطلقت يف حركة سرمدية، مضـبوطة وقوام تلك األمة ه. اإلجناز أو العمل

وهذه األمة مبرتلة مدرسة مهمتها هي اإلقناع املتواصل للعقل، وساحة لرياضـة القلـب، . بالشريعةختضع اإلرادة فيها لعملية ضبط وذيب مستمرة، وميدان يتقرر فيه املصري بإقدام وشجاعة، وجتـري

. فيه عملية صنع التاريخ

وعلى العكس من النظريات السياسية الليربالية، فإن نظرية األمتية تقوم على حكومة احلـد األكرب، ال األدىن، وتكون احلاكمية يف ظلها هللا تعاىل والسيادة لشـريعته، ولـيس إلرادة األغلبيـة

السعادة كما يتصـورها أعضـاء التحكمية، ويكون اخلري األمسى هو جتسيد النموذج الرباين، وليس وال ينتمي الفرد املسلم لعضوية تلك األمة على شاكلة اند، بل بصفة املتطوع للحياة، املعبأ . اتمع

فاألمة جمتمع العمل الكلي وليس الشمويل، الصادر عـن . على الدوام لتجسيد املطلق يف أرض الواقع .أهل االختصاص، اإلرادي وليس السلطوي

ة العاملي. فالكون كله خاضع هلا. تشمل اإلرادة اإلهلية حبكم كليتها، كل البشر، وكل زمان ومكان

، وفاعل مريد، على صعيد األمـر اإلهلـي التكويينواجلنس البشري مفعول به هلا على صعيد األمر وكـل بـىن آدم مطـالبون . التكليفي األخالقي واألرض من مث موضوعة لسعي املسلم يف مناكبها

وعاملية اإلسالم هذه مطلقة وال تعرف أي استثناء، إذ إن اهللا . خنراط يف تغيريها ويف تغيري أنفسهمباال . تعاىل هو رب العاملني ومالكهم مجيعا

٤١

بغريه، فإن اتمع مطالـب باملثـل االهتمامومتاما كما أن الفرد مكلف بتجاوز نفسه إىل نعزالية بالنسبة لألفراد واتمعات ضرب مـن الالمبـاالة واال. بتجاوز نفسه إىل االهتمام بشأن غريه

بل إن االنعزالية يف مواجهة البغي والعدوان واجلرمية وااعة واجلهل والنكـوص . قاألخالقية والعقووتقـف الرتعـة . عن تفعيل القيم يف أرض الواقع متثل كبرية من الكبائر، واستخفافا بأمر اهللا تعـاىل

الشكوكية على طرف نقيض من التأكيد القرآين على أن الكون خملوق لغاية، وأن لكل الكلبية األنانية . فيه غاية شيء

احلصرية اليت أخذ شـكل الوحدانيـة التخصصيةإال أن النقيض احلقيقي للعاملية هو الرتعة قاليد العربيـة ومل تتحرر الت. الفردية والقبلية يف املاضي، وشكل العنصرية والقومية يف التاريخ املعاصر

اهللا املختار ليس اسـتنادا إىل أي وزعم أدعياؤها أم شعب . اليهودية أبدا من شائبة التخصيصية هذهمن أصـالم مـن ومتسك املنحدرون. سبب عقلي أو أخالقي، وإمنا بدعوى االختيار اإلهلي ارد

ا مل تقرهم عليه األمم األخرى اليهود املعاصرين بدعوى وراثتهم لتلك الوضعية عن أسالفهم، وهو م . حىت اآلن

ويقرر اإلسالم أن كافة اخلصائص وامللكات املشكلة إلنسانية اإلنسان موجودة لدى كل البشر وال موضع يف اإلسالم للتمييز ضد إي إنسان، بـدعوى أن تلـك . بالفطرة اليت فطر اهللا الناس عليها

أو أا كانت متوفرة يف فترة مث فقـدت بسـبب خطيئـة اخلصائص وامللكات مل تكن متوفرة لديه، . ارتكبها الفرد، أو ارتكبها أسالفه، أو ارتكبها رفاقه

فاملبـادئ األخالقيـة التكوينيـة . ومل يربط اإلسالم مبدأ املساواة بثقافة أو حضارة بعينها يا إىل دين غري اإلسـالم، لإلنسانية يف املنظور اإلسالمي ثابتة ومسلم ا ألي إنسان حىت لو كان منتمعبدا، نتيجة تبعات فعـل أو إىل ثقافة أو إىل حضارة أو إىل عصر آخر، أو حىت لو كان، أو ال يزال

كل مولود يولد علـى : "ففي صحيح البخاري، نقرأ قول النيب صلى اهللا عليه وسلم. قومه يف التاريخ ". الفطرة، وأبواه يهودانه أو ينصرانه أو ميجسانه

الصة القول إن عاملية اإلسالم تسمو على كل الفوارق بني البشر، وتعود م مجيعـا إىل وخ وهناك حتديد تلك العاملية ما حصل عليه اإلنسان بفطرتـه، . الفطرة األوىل اليت يولد عليها كل مولود

ا فطرت الله التي فطـر فأقم وجهك للدين حنيف (:يقول اهللا تعاىل. أو ما هو مؤهل له حبكم مولده ]. ٣٠: الروم [ )الناس عليها

ومما ال ريب فيه أن اإلسالم يفاضل بني البشر على أساس العلم واحلكمة والتقوى والفضيلة لا يسـتوي ( تعاىليقول اهللا . واالستقامة واألعمال الصاحلة، والتوجه بالباطن والظاهر إىل مرضاة اهللا

فضـل اللـه لقاعدون من المؤمنني غير أولي الضرر والمجاهدون في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم ا

٤٢

فضل الله المجاهدين و ه الحسنى المجاهدين بأموالهم وأنفسهم على القاعدين درجة وكلا وعد الليمظا عرأج يندلى القاع٩٥: النساء [ ) اع .[

إجيابية احلياة الدنيايستفاد من جوهر اخلربة الدينية يف اإلسالم أن اهللا تعاىل قد مكن لإلنسان يف األرض، ليجعل

سان، وال حاقدا عليه، فإن عبادة اإلنسـان وما دام اهللا تعاىل ليس خمادعا لإلن. منها مسرحا لعبادته لهوتتطلب تلك االستطاعة أن تكون مكونات عامل احلياة . له البد أن تكون داخلة يف حدود استطاعته

. الدنيا مطواعة، وقادرة على تقبل الفعل اإلنساين، وقابلة للتحول إىل النموذج املوحي به من عند اهللا . كل من اإلنسان واملوجودات مالئما وجوديا لآلخر متاما ومقتضى هذا التدبري اإلهلي هو جعل

وعلى العكس من الفكر اهلندوسي الظين، وعلى النقيض من البوذية واليانية، فإن اإلسالم ال ويقرر وجـوب عـدم التنكـر لـه، أو . يرى أن هذا العامل الدنيوي مضاد للصالح والفالح الديىن

عكس من ذلك، برئ وخري، وخملوق بإحكام علـى حنـو ييسـر فالكون، على ال. مناهضته يف ذاتهوالشر ليس من مقوماته التكوينية، بل هو نتـاج إسـاءة اسـتعمال . لإلنسان استخدامه والتمتع به

والرذيلة الوحيدة اجلديرة باإلنكار واحملاربة، هي استعمال معطيات الوجود على حنو . اإلنسان ملعطياته . يف كون أخالقية اإلسالم ليست قائمة على الزهد يف احلياة الدنيا وهذا هو السبب. غري أخالقي

ومن اهلدى النبوية للصحابة، يه هلم عن املغاالة يف العبادات، وعن االمتناع عن الـزواج، وأمرهم بالتعجيل بالفطور يف رمضـان وتقدميـه . وعن املبالغة يف الصيام، وعن الطرية، وعن التجهم

وباحملافظة على نظافة أجسادهم وأسنام، وبالتجمل ومس الطيـب، وارتـداء على صالة املغرب، أحسن املالبس، لدى ذهام لصالة اجلماعة باملساجد، وبالزواج، وإعطاء أجسادهم حقها من الراحة

. والنوم، والترويح عن أنفسهم بالرياضة والفن

بل إنه . سده، أو يف إشباع غرائزهوترتيبا على ذلك، فإن املسلم ال جيد غضاضة يف العناية جب يرى كمسلم واع، أن هذا اإلشباع هو بالنسبة له جمرد نزر يسري مما ينتظره من نعيم اجلنة، فيما لـو

قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات ( :يقول اهللا تعاىل. ثابر على القيام بواجبه جتاه ربهق مالرز (أن ويأمرنا القرآن مرارا]. ٣٢: األعراف [ )ن جدسكل م ندع كمتذوا زينخ مني آدا بي

]. ٣١: األعراف[ )وكلوا واشربوا ولا تسرفوا

٤٣

) مبدأ النظام االجتماعي(التوحيد

ما يتعلق بالتاريخ ن، وهو يسعى لضبط كل اإلسالم وثيق الصلة بكل معطيات الزمان واملكا

وبكل املخلوقات مبا فيها اجلنس البشري، ويعترب كل ما هو من الطبيعة بريئا وخريا ومرغوبـا فيـه ويريد اإلسالم مـن البشـر أن يسـعوا يف . بذاته، وال ميكن تأسيس التقوى وال الفضيلة على إدانته

ب ومأوى وراحة، وأن حيولوا العامل الدنيوي إىل جنة، األرض للحصول على طيباا من مأكل ومشروأن يتمتعوا باملعاشرة الزوجية وبالصداقة وبطيبات احلياة، وأن يطوروا العلوم، وأن يتعلموا، وينتفعوا بالطبيعة، وأن يترابطوا ويؤسسوا بنية اجتماعية سياسية، ويقوموا بكل تلك األمور على الوجه الـذي

ون كذب وال غش، ودون سرقة واستغالل، ودون ظلـم للـنفس وللجـار، يرضاه اهللا فحسب، دوالسبب الدقيق لتسمية اإلسالم اإلنسان خليفة هو أنه حيقق إرادة اهللا تعاىل، بقيامه . وللطبيعة والتاريخ

. بكل هذه األمور على الوجه الصحيح. نظـام االجتمـاعي ومعىن ذلك، أن الشطر األعظم من أحكامه الشريعة اإلسالمية يتعلق بال

فإن اجلوانب الشخصية من الشريعة اخلاصة بشعائر العبادات، وبالشعائر ذاـا، وعالوة على ذلك، تكتسب يف اإلسالم بعدا اجتماعيا من اخلطورة مبكان، إىل حد أن إضعافه أو إنكاره، ميثل تعطيال هلا

ج والزكاة، حبكم طبيعة تلك الشعائر والبعد االجتماعي جلي يف بعض الشعائر مثل احل. حبكم طبيعتهاويف حني قد يكون البعد االجتماعي أقل وضوحا يف شعائر أخرى، مثل الصالة والصوم، فإن . وأثرها

املسلمني جممعون على التسليم بأن الصالة اليت ال تؤدي بصاحبها إىل هجر الشر، صالة غري مقبولـة . ة للحاج غري كاملعند اهللا، واحلج الذي ال حيقق منافع اجتماعي

إال أن اإلسالم يرى أن كل تلك القيم تظل عقيمة هي والسعي إليها، ما مل حيقق من يتحلون :وتتفرع عن تلك الرؤية املعطيات التالية. ا زيادة فعلية يف خري اآلخرين وصاحلهم يف اتمع

٤٤

ة إىل احلياة الدنيا على أـا تنظر بعض الديانات خاصة اهلندوسية والبوذي :املغايرة ألديان اهلند .١وعالوة على ذلـك، . وتنظر إىل نقيضها، أي إىل التحرر منها، على أنه هو الفالح أو اخلالص. شر

ترى تلك األديان أن اخلالص شأن شخصي فردي، حيث إا تعرف اخلالص بأنه حالة اسـتنارة ال دف إثرائها وزيادا، وتكثيف عملية أما التفاعل مع معطيات احلياة الدنيا . ميكن أن تكون شخصية

. التشيؤ يف إطارها، فهي شر

مـن على الطرف املقابل من طيف األديان، وعلى نقطة تكاد متثل الضد متاما :املغايرة لليهودية .٢سجلت رؤيتهم تلـك بكتـام فهم كما يرون أنفسهم، وكما. األديان اهلندية، جند حالة العربيني

وتقتضي العالقة اخلاصة " أبناء الرب وبناته"فهم . شعب خمتلف عن اجلنس البشري، التوراةاملقدس، والنظام . املرتلة من اهللا تنطبق عليهم دون سواهم والشريعة. بينهم وبني اخلالق، متييزهم عن بقية البشر

قبلية وديانتهم تلك ديانة . االجتماعي الذي تقيمه تلك الشريعة بأوامرها ونواهيها خاص م وحدهم . يتحدد مفهوم اخلري والشر فيها بالنفع والضرر القبلي

وينبغي تثبيط غري . فاليهود هم فقط من يولدون يهودا. وهلذا النظام االجتماعي أساس بيولوجي وهذه صـورة . عن التحول إىل اليهودية، وجعل مسألة التهود عند أدىن حد ممكن اليهود بكل جدية

مع خلوها من تقديس قيم املروءة والشجاعة والشهامة والكرم، املخففـة مـن من عنصرية اجلاهلية، والتاريخ العربي كما رمست صورته املثالية، أو كما مت إضفاء القداسة ببساطة عليـه . شرها التكويين

بالتوراة، ويف النبوءات وغريها من األدبيات اليت تشكلت منها أسفار العهد القدمي، مليء كما هـو . أضداد تلك القيممعروف ب

مثلت املسيحية يف مستهل عهدها بالوجود رد فعل علـى هـذا التمركـز : املغايرة للمسيحية .٣اليهودي الرهيب حول الذات، الذي كان قد تيبس، لدى جمئ السيد املسيح عليه السالم، يف شـكل

ى عليه السـالم ومن هنا كان لزاما أن تكون دعوة عيس. تقيد حريف بالنصوص، ال عالقة له بروحهاوبلغت حساسية املسيح جتاه شـرور العنصـرية . موجهة إىل داخل اإلنسان: عاملية، وشخصية، أي

اليهودية حد الغضب جتاه أي اقتراح يشتم منه أدىن قدر من استحقاق أقاربه ألدىن قدر من التفضيل . بسبب تلك القرابة

واضحة عن احلياة االجتماعيـة فإدانتـها أي نظرية ومن ناحية أخرى فإن املسيحية ال متتلك وحتفظها بكل األنشطة الدنيوية واعتبارها النظام االجتماعي نفسه ، للزمان واملكان والعمل السياسي

حيول بينها وبني أن تكون هلا نظرية ذا الصدد باستثناء ، أمرا ثانويا عدمي اجلدوى يف عملية اخلالص .الضرورةاعتبارها النظام االجتماعي شرا ب

٤٥

ميثل النظام االجتماعي يف اإلسالم نقيضا تاما للعلمانية احلديثة، بكـل : املغايرة للعلمانية احلديثة .٤. فالعلمانية احلديثة تسعى إىل نفي أي دور للدين يف تقرير كل ماله عالقـة بالشـأن العـام . جالء

يصب يف مصـلحة قطـاع وحجتها يف ذلك كما جتسدت يف التاريخ العلماين يف الغرب، أن الدينوملا كانت البنية الداخلية للكنيسـة، وكـذا . واحد يف اتمع هو الكنيسة، على حساب ما عداها

عملية صنع القرارات فيها، سلطوية، وملا مل يكن اتمع كله ممثال فيها، فإن تقرير الشـئون العامـة شكال االستغالل واالضطهاد للشـعب بواسطة الكنيسة، يرقى إىل مرتبة الطغيان، وميثل شكال من أ

. من جانب إحدى مجاعاته

التوحيد واتمعية مقتضى اإلقرار بأنه ال إله إال اهللا، هو اإلميان به سبحانه وتعاىل خالقـا ومالكـا وحكمـا

مبا أن خلـق اهللا ويترتب على هذه الشهادة اإلقرار بأن اإلنسان خلق لغاية، . للوجود كله بال شريك مرته عن العبث، وأن تلك الغاية هي حتقيق اإلرادة اإلهلية املتعلقة ذا العامل الذي تتخـذ منـه تعاىل

ويقتضي ذلك من املسلم النظر إىل احلياة بزماا ومكاـا . احلياة البشرية مسرحا لفعلها احلر املسئول. زمان واملكان الذي حييـا فيـه بعني اجلد، الرتباط فالحه أو خسرانه بتمثله للسنن اإلهلية املتصلة بال

وختضع حيـاة املسـلم لرقابـة . وأمره اهللا تعاىل أن يقوم بتلك املهمة بالتعاون مع إخوانه من البشروكل مـا . فاهللا تعاىل ال خيفي عليه شئ يف األرض وال يف السماء. توجيهية مستمرة يف ظل التوحيد

وإرادة اهللا وثيقة الصلة بذلك، واإلنسان . ن شرايفعله اإلنسان يسجل له إن كان خريا أو عليه إن كابل إن غاية حياة اإلنسان على األرض هي جتسيد تلك السنن اإلهليـة يف . مأمور مبراعاة السنن اإلهلية

. كل أرجاء املعمورة

: ترتب على هذا املبدأ نتيجتان، بالنسبة للمجتمع اإلسالمييو صر مطلقا على أعضاء من أي قبيلـة أو أمـة أو عـرق، أو ال يستطيع اتمع اإلسالمي أن يقت .١

وبوسعه أن . ومن املمكن، بل من احملتم بالقطع، أن يبدأ ذلك اتمع يف مكان ما بشخص ما. مجاعةإال أنـه ال . يفرض يف فترة حمدودة، ويف منطقة حمددة، ما يتراءى له من قيود العتبارات استراتيجية

ه أمام أحد من حيث املبدأ، وال أن خيلـد إىل الراحـة إىل أن يشـمل يستطيع أن يغلق باب عضويتخان سبب وجوده ذاته، إن هو منع أي إنسـان مـن بل إن ذلك اتمع يكون قد . البشرية برمتها

فكل إنسان مؤهل لتلك العضوية وله احلق فيها حبكم خلقـه ومولـده علـى . االنضمام إىل صفوفه . الفطرة

٤٦

ال يهدأ هلذا اتمع بـال إال : اإلسالمي إىل أن يشمل اجلنس اإلنساين كلهضرورة توسع اتمع .٢ذلك أن دعوى اتمع إسالميته واستقاءه شـرعيته مـن . إذا سعى إىل ذلك، وجنح يف حتقيق مراده

ـ (:ولنقرأ هنا قول اهللا تعاىل. اإلسالم، مرهونة بإجيابيته يف االستجابة ملا يدعوه اهللا إليه سالر نول آمكل آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله لا نفرق بين أحد من رسـله بما أنزل إليه من ربه والمؤمنون بر كانا غفرنأطعا ونعمقالوا سوريصالم كإليا و٢٨٥: البقرة [ )ن .[

ولقد استوعب املسلمون النتيجتني سالفيت الذكر، ومتثلومها بكل معـىن الكلمـة، طيلـة ويؤكد على أـم . فالقرآن الكرمي يقرر بال مواربة أن كل البشر منحدرون من آدم وحواء. تارخيهم

مـن ويطالبهم بالتعاون فيما بينهم، وبأن يثري كل منهم اآلخر ويشد. تكاثروا مشكلني شعوبا وأمماوبالقرآن الكرمي آيات تفوق احلصر تؤكد على . وعلى لسان كل مسلم تتردد هذه اآلية وأمثاهلا. أزره

فالح الذين آمنوا وعملوا الصاحلات، أو املتقني والصاحلني، واستثنائهم من سوء املصري، ومن الخسر أيها الناس كلكم آلدم، ": وباملثل يقول رسول اهللا صلى اهللا عليه وسلم. الذي يلحق بغريهم من البشر

". ال فضل لعريب على أعجمي، إال بالتقوى والعمل الصاحل. وآدم من تراب. وتتعارض القبلية والقومية، جبالء مع هذه املبادئ الضمنية اليت يقوم عليها اتمع اإلسالمي

حمدودية من مفهوم ومها متماثلتان يف أسهامها، وإن كل مفهوم القبيلة قد يشري إىل كيان أصغر وأكثروتدعي كل من القبلية والقومية، أن القيمة قاصرة على أعضاء مجاعة واحدة فحسب، لكوـا . القوم

وخيول منطق مثـل هـذا . بزعمهما، هي اليت أضفت عليها هذا الوصف، وهي صانعها ومصدرها، يف ضوء حقيقة الزعم، كل مجاعة أخرى احلق يف وضع معيار خاص ا، وقيمة خاصة ا، لو أرادت

–وملا كان معيار القيم األمسى من صنع اجلماعـة . أن أي جتمع إنساين ال يقتصر على مجاعة واحدةومن مث، . فإن بوسع أي عدد من البشر االنتظام يف مجاعة، وادعاء مثل هذا احلق –وفق هذا التصور

فرق حتمي، دون توفر ناظم ويترتب على ذلك اختالف وت. فإن النسبية تستدعي التعددية بالضرورةوحني ال تسوي اخلصومات بالتماثل العرضي . عام دائم ملزم ملختلف اجلماعات املتخاصمة املتصارعة

بني وجهات نظر أطرافها، أو بقبول مجاعة باالمتثال الطوعي إلرادة مجاعة أخرى، يصـري الصـراع .حتميا بكل ما حتمله الكلمة من معىن

يها القبلية والقومية هي أن اجلماعة هي املصدر األمسى للقيم اخلاصـة والفرضية اليت تقوم علا، وال يوجد معيار متجاوز للجماعة ملزم هلا، يتم االستناد إليه يف تسوية ما يطـرأ مـن قضـايا

وتأسيسا على ذلك يصري الصراع بني تلك اجلماعـات . وخالفات بينها وبني اجلماعات املناهضة هلافإذا رأى كل طرف استنادا إىل مرجعيته اخلاصة أن الصراع جوهري، فإنه . ية بطبيعتهغري قابل للتسو

ال يكون هناك سبيل ملعاجلته غري املغالبة بني أطرافه بالقوة، مع كل ما يترتب على ذلك مـن إحلـاق . أحدمها اهلزمية باآلخر، أو تدمريه

٤٧

لتوحيد بالنسبة للمجتمع بتطبيـق الثاين ل يميكن حتديد املتضمن العمل: عالقية كل شيء .أفـإرادة اهللا أو القيمـة . عزمية اتمع اإلسالمي على احلياة اإلنسانية بكل دوائرها وجوانبها ومهومها

ومن املؤكد أن اخلري كلى الوجود، وهو كائن، أو ميكن إجياده يف كل . تستوعب اخلري كله أين وجدب سعي اتمع إىل جتسيد اإلرادة اإلهليـة يف الواقـع ويترتب على ذلكن وجو. مناحي احلياة اآلدمية

ويف هذا السياق نفهم . املعيش يف كل ااالت، اليت يستطيع الوصول إليها، للتأثري عليها حنو األفضلبالمعروف ونهوا عن الذين إن مكناهم في الأرض أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وأمروا (:قول اهللا تعاىل

]. ٤١:احلج [ )المنكر

فالكلية . مبدأ املسئولية: املتضمن العملي الثالث للتوحيد بالنسبة للمجتمع هو :املسئولية .بمعرضة على الدوام ألن تنقلب إىل مشولية بسلب نزعة االنضباط الصارم واجلماعية جهـد اتمـع

وتتولد من مث احلاجة إىل مبدأ أخر حلماية اتمع من التردي يف مثـل . قيةالرامي إىل حتقيق قيمة أخالمكلف، أي مطالب بالسـعي لتحقيـق : ويف هذا الصدد يعلمنا اإلسالم أن كل إنسان. هذا احملظور

وهذا التكليف مبىن على الفطرة اليت خلق اهللا اإلنسان عليها، واليت متثل القاسم املشترك . املشيئة اإلهلية . ينه وبني أي إنسان آخرب

ومن هنا ال يقف اإلسالم عند حد تقرير أن كل إنسان مكلف مسئول، بل ينفـي بشـكل وينتظـر . قاطع سقوط التكليف عن أي إنسان، ما دام ليس طفال أو عاجزا بشهادة أهل االختصاص

وفائـه اإلسالم من كل فرد مكلف أن يتحمل محله الشخصي بوعي كامل، ويقدر مكانتـه بقـدر . مبسئوليته

وتنتفي القيمة األخالقية ألي فعل يف غياا، وال يتحقق . وهذه املسئولية هي جوهر األخالقيةواإللـه الـيت . ومن مث فإن غياا يعين إبطال اإلرادة اإلهليـة . الشق األمسى من اإلرادة اإلهلية بدوا

ألحد الفرد الصمد الذي يعرفه التوحيـد يتسامح مع مثل هذا اإلهدار إلرادته ليس هو الرب الواحد ا . اإلسالمي

ـ أن يوتنبع املسئولية من رؤية أخالقية، أي من إدراك القيم، وما توجبه على صعيد ما ينبغوملا كان من املمكن إكراه شـخص . فعله، وفق سلم أولوياا الصحيح ييكون وعلى صعيد ما ينبغ

على إدراك شيء ما، فإن املسئولية األخالقية تقدم على فعل شيء ما، يف حني ال ميكن إكراه شخص فعندما يتعرض اإلنسان لإلكراه تنتفي مسئوليته، وتكون األخالقية قـد . لإلنسان الضمانة اخلاصة ا

ومع التسليم باستحالة اإلكراه يف دائرة إدراك القيم، فإنه ميكن احلض علـى . انتهكت يف واقع األمرويف ضوء ذلك . مات أو مبدركات أو عرب املنطق، أو بواسطة القدوة احلسنةالفضيلة عرب تعليمها مبفهو

٤٨

تتحدد وظيفة اتمع اإلسالمي مبساعدة اجلنس البشري كله على إدراك القيم، مث على جتسيد القـيم . وهذه هي التربية يف أنبل وأعظم معانيها. التأسيسية لإلرادة اإلهلي يف أرض الواقع، بعد إدراكها

) مبدأ األمة(التوحيد

ومـن الصـعب . الشـعب والقـوم : مثة مفهومان يف اإلسالم يشاان مفهوم اجلماعة، مها

استخدام هذين املفهومني يف اإلشارة إىل اتمع دون يل عنق معنيهما، أي دون تشويه وعي من تطلق ن شعبا أو قوما فيما لو كان قصدنا من فكل من العرب واألتراك والفرس يعتربو. عليهم تلك التسمية

تلك التسمية احلديث عنهم بوصفهم مجاعات خيتلف كل منها عن اآلخر، وإذا كـان هـدفنا هـو ولكنـهم ليسـوا . التركيز على االختالف بينهم يف اللغة واجلغرافيا واألنساب، وما شاكل ذلـك

طاملا أن اتمع ليس حصرا علـيهم، سواء بالنسبة لكل منهم على حدة أو يف جمموعهم،" جمتمعات" . ماليني وهنودا وسالف وهوسا وغريهم:بل يتسع ليشمل

فما دامت كل تلك اجلماعات وغريها تشترك معا يف اإلسالم ويف ثقافته وحضارته، فإن كال عـاملي، فاألمة جمتمـع . منها يعترب جزءا ال يتجزأ من أمته الواحدة، أو من اتمع اإلسالمي الواحد

تتسع العضوية فيه لتشمل أقصى درجة متصورة من التنوع يف األعراف واجلماعات، ولكن التـزامهم إن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكـم ( :يقول اهللا تعاىل. باإلسالم يربط بينهم بنظام اجتماعي معني

٤٩

وندب( :ويقول سبحانه] ٩٢: األنبياء[ ) فاع قونفـات كـمبـا رأنة وداحة وأم كمتأم هذإن هو ( ]. ٥٢: املؤمنون [

. أعمق مما سلف حيث إن كل فرد من اجلماعات املسلمة يعد أمة حبد ذاتـه " األمة"ومفهوم لنيابة عنـها، ذلك أن كل فرد مسئول بالضرورة وبالشرع عن احلديث باسم األمة العاملية والعمل با

حالة عدم وجود حكومة أو مؤسسة مقامة بشكل شرعي قادرة على تطبيق الشريعة اإلسالمية، وعلى ومربر ذلـك . التمثيل الفعال لتلك األمة العاملية اجلامعة، أو على حتمل مسئولية العمل يف هذا االجتاه

ملهمة، وكل معايري التفاضـل هو حقيقة، أم يستمدون من اإلسالم كل مقومات الثقافة واحلضارة اوالتصنيف االجتماعي، والتقومي فيما يتعلق بكل الشئون الشخصية، ومبعظم الشئون االجتماعية أو بني

. اتمعية

فهذا املفهوم ليس . وال يقبل مفهوم األمة الترمجة، وجيب احلفاظ عليه بأصله العريب اإلسالمي ، اليت هي مفاهيم تتحدد دائمـا، إمـا بـالعرق أو "الدولة" وال" القوم"وال " الشعب"دفا ملفاهيم امر

ومن جهة أخرى، فإن مفهـوم األمـة . باجلغرافيا أو باللغة أو بالتاريخ، أو بتوليفة من هذه احملدداتوال ميكن حتديده بناء على اعتبارات جغرافية، فإقليم مفهوم األمة ليس الكرة . مفهوم عابر ملا هو حملي

. ومن جهة أخرى، فإن األمة غري قاصرة على عرق بعينـه . ها، فحسب بل الكون كلهاألرضة بكاملومـن . فهي عابرة لألعراق، وتنظر إىل كل البشر على أن كال منهم إما عضو فعلي، أو حمتمل فيها

. فهي كيان عاملي عابر للدول قد يضمن عدة دول. جهة ثالثة، ال تعترب األمة مرادفة للدولة

م األمة كل أعضائها، حىت لو مل يكونوا خاضعني لسيادة دولة واحدة، أو حـىت وباملثل، تض ذات أيديولوجيـة " األمم املتحـدة "واألمة ذا التحديد متثل نوعية من ". الدولة اإلسالمية"لسيادة

واألمة هي النظام االجتمـاعي . واحدة قوية وشاملة، وحكومة عاملية، وجيش عاملي، إلنفاذ قراراا . هي احلركة اليت تناضل يف سبيله، أو تسعى إىل جتسيد أهدافه يف أرض الواقع" األمتية"و. الملإلس

طبيعة األمةالنظام االجتماعي لإلسالم عاملي، حيتضـن اجلـنس : أمة مناهضة للتمركز حول العرق .أ

ال ثالـث وهو واحد من أثنني . وكل إنسان هو حبكم مولده عضو فيه. البشري كله دون أي استثناءهلما، إما عضو فعلي أو عضو حمتمل من واجب كل األعضاء اآلخرين السعي يف إقناعه بـالتحول إىل

ويعترف اإلسالم بتجمع البشر بالفطرة يف أسر وقبائل وأقوام، ويعترب تلك األنساق من . عضو فعليإنا خلقناكم مـن ذكـر وأنثـى يا أيها الناس( :يقول اهللا تعاىل. خلق اهللا تعاىل ومن جعله وتقديره

قاكمأت الله ندع كممفوا إن أكرارعتل لائقبا ووبعش اكملنعجإال أن اإلسالم ]١٣: احلجرات[ )و ،

٥٠

األخري للخـري يرفض اعتبار تلك األنساق اجلمعية سقفا ائيا يتحدد به اإلنسان، ويتشكل به املعيار وبينما ميدد اإلسالم الداللة الشرعية ملفهوم العائلة لتشمل كل أوىل األرحام الـذين تثبـت . والشر

عالقة قرابة فيما بينهم مهما بعدت، وينظم عالقات املرياث والتكافل فيما بينهم بأحكام الشـريعة، يق التكامل والتعاون فيما بينـها فإنه يسند للتجمعات األعلى كالقبائل واألقوام والشعوب مهمة حتق

. ملصلحة اجلميع

إنمـا ( :يقـول اهللا تعـاىل . النظام االجتماعي اإلسالمي عاملي التوجـه :أمة العاملية .ب إن هذه أمتكم أمة واحـدة وأنـا ربكـم ( :، ويقول سبحانه]١٠: احلجرات[ ) المؤمنون إخوة

فاعوندا يف شعب أو يف آخر، ]٩٢: األنبياء[ ) بوبرغم أن ذلك النظام االجتماعي قد يتجسد حالي ،أو يف جمموعة من الشعوب، أو يف جمرد جمموعة من األفراد، فإنه يعترب نظاما واحدا من حيـث إنـه

. يسعى إىل أن يشمل اجلنس البشري كله

سالم، للقول بوجود نظام اجتمـاعي عـريب وال ومن هنا فإنه ال جمال عند احلديث بلغة اإل بل يوجد نظام اجتماعي واحد هو النظـام االجتمـاعي . تركي وال فارسي وال باكستاين وال مايل

نعم ميكن أن يبدأ ذلك النظام يف دولة معينة أو يف مجاعة معينة، ولكنه يفسد ويفقد هويته . اإلسالميفنموذج اتمـع . ام جلمع اجلنس البشري كله حتت مظلتهاإلسالمية إذا على ماض مل يسع على الدو

. العاملي هو النموذج اإلسالمي املعرب عنه بلفظ األمة العاملية اجلامعةالنظام االجتماعي اإلسالمي كلي، من حيث إنه يقوم على اعتبار اإلسـالم :أمة الكلية .ج

الجتماعي هو اإلرادة اإلهلية اليت هي وثيقة فأساس هذا النظام ا. متعلقا بكل جماالت النشاط اإلنساينتبارك الذي نزل ( :يقول اهللا تعاىل. الصلة بكل خملوق، من حيث إنعام اهللا عليه بناموس وبنية ووظيفة

ولم يتخذ ولدا ولم يكن الذي له ملك السماوات والأرض، الفرقان على عبده ليكون للعالمني نذيراويف حـني تبـدو عامليـة ]. ٢ -١:الفرقان[ )له شريك في الملك وخلق كل شيء فقدره تقديرا

موجهة لكل البشر حبكم إنسانيتهم، فإن كلية اإلسالم جلية هـي اإلسالم جلية يف حقيقة أن تعاليمهاإلسالم يضع على كاهل املسلم، بالنسبة ألي جمال من جماالت السلوك اإلنسـاين األخرى حبقيقة أن

املتروكة دون تشريع معني خاص ا، عبء التشريع املنظم هلا على حنو جيعله موافقا للشرع، وجيعـل . فاالجتهاد فريضة عامة على كل املسلمني. تطبيق الشرع شامال لكل ما يواجهه من مشكالت يومية

ختتص كلية النظام االجتماعي اإلسالمي باألنشطة اإلنسانية وغاياا يف احلاضر فحسب، وال بل تشمل كافة األنشطة يف كل مكان ويف كل زمان، فضال عن كل البشر القائمني بتلك األنشـطة،

جنـد ويف حني ينظر ذلك النظام إىل املسلمني كافة على أم . الذين تعتربهم أعضاء فيه ال غىن عنهملرباجمه ومشروعاته، فإنه ينظر إىل غري املسلمني على أم أعضاء كامنون يتعني السـعي إىل إقنـاعهم

٥١

وترتيبا على ذلك، فإن النظام االجتماعي اإلسالمي ال ائي، لكون احلياة والنشـاط . باالنضمام إليهل يف كل ما هو كـائن، ومهمة النظام االجتماعي اإلسالمي هي التدخ. على هذه األرض ال ائيني

وكل ما هو ساكن أو متحرك، سواء كان من اجلمادات واملخلوقات األخرى، أو كان إنسانا ذكـرا وما (:يقول اهللا تعاىل. أو أنثى، فردا أو مجاعة، أفضل وأقدر على حتقيق الغاية اليت خلقه اهللا تعاىل هلا

نم ةابي دض فلا الأرر وطائ ريطي هياحنإلا بج ما أمم ثالكما أمطني فرـاب فتالك ـنم ء ثـمـيشوهذا هو (هو التحويل احلقيقي لألرض إىل جنة اهللا والفالح]. ٣٨: األنعام [ )يحشرون ربهم إلى

، وحتويـل البشـر إىل أبطـال )هااستعمار األرض، أي إعادة تشييد: املعىن احلقيقي للمفهوم القرآينوعلينا أن نعي هنا أن حتقيق ذلك على حنو ال أخالقي، ال . وعباقرة وقديسني مطبقني لسنن اهللا تعاىل

فالفالح يتطلب موافقة أفعال التحويل هذه للشريعة اإلهلية، وأن تكون بواعثها راجعـة . ميثل فالحا . لتطبقها

فالنظام االجتماعي يفقد صفة اإلسـالمية، . الم نظام حراالجتماعي يف اإلس :أمة احلرية .د وقد تكون هناك حاجة إىل الضـبط . إن هو تأسس بالقوة، أو استند يف تنفيذ براجمه على إكراه البشر

أما قبـل ذلـك، فـإن . والربط، ولكن شرعيتهما تقف عند حد قصرمها على قضاء مرحلة التنفيذرض قواعد انضباطية، مع اعتبارها، أيا كان مستواها، مؤقتة اإلسالم يأمر بالشورى خبصوص مسألة ف

فحيثما يكون االنضباط هو القاعدة، فإن احملصلة قد تكون تفعيال ناجحا . ومرتبطة مبشروعات بعينهافشرط اكتساب . إال أن قيمة هذا التفعيل تكون يف هذه احلالة نفعية وليست أخالقية. للنموذج اإلهليالقية هو إقدام فاعلة عليه بإرادته بقرار حر نابع من التزامه الشخصـي بالقيمـة أو التفعيل قيمة أخ

إنا أنزلنا عليك الكتاب للناس بالحق فمن اهتـدى ( :يقول اهللا تعاىل. بالنموذج اإلهلي املراد جتسيده ].٤١: الزمر[ )وما أنت عليهم بوكيلفلنفسه ومن ضل فإنما يضل عليها

ومما ال ريب فيه أن اإلسالم يسعى إىل حتقيق كلتا القيمتني النفعية واألخالقية، إال أنه ال جييز حتقيق األوىل على حساب الثانية، وال يويل أدىن احترام للقيمة النفعية حال عـدم اقتراـا بالقيمـة

ولقد علمنـا . ترب يف نظر اإلسالم هو املتضمن للقيمتني األخالقية والنفعية معافالتفعيل املع. األخالقيةففي معرض إعالم اهللا تعاىل سبحانه املالئكة بأنه . الدرس على حنو بليغ يف القرآن الكرمياهللا تعاىل هذا

لائكة إني جاعل في وإذ قال ربك للم( :سيخلق اإلنسان ويستخلفه يف األرض، املبني بقوله سبحانهقدنو كدمبح بحسن نحناء ومالد كفسيا ويهف فسدن يا ميهل فعجيفة قالوا أتلض خقال الأر لك س

تعاىل مـا أمـرهم، ، تعجب املالئكة، وهم من ال يعصون اهللا]٣٠: البقرة[ )إني أعلم ما لا تعلمونإنا عرضنا الأمانة على السماوات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن ( :ويفعلون ما يؤمرون

]. ٧٢: األحزاب[ )منها وحملها الإنسان إنه كان ظلوما جهولا

٥٢

ألمةالديناميات الداخلية لولتكن منكم أمة يدعون إلى الخيـر ويـأمرون (: يقول اهللا تعاىل :ال إسالم دون األمة .أ

وتبني هذه اآلية الكرمية . ]١٠٤:آل عمران[ )وأولئك هم المفلحون المنكر عن بالمعروف وينهون. يشكلوا من أنفسهم أمة، أي بنية اجتماعية منظمة علـى حنـو خـاص أن املسلمني مأمورون بأن

الدعوة إىل اخلري، واألمر بـاملعروف : وتضمن هذا النص القرآين علة األمر بتشكل تلك األمة، وهي ومثـة . بيد أن هذه العلة هي السبب أو اهلدف النهائي املفترض أن تفي األمة بـه . والنهي عن املنكر

ائي بالتايل لوجود األمة، وهو حقيقة أن وجودها هـو الـذي جيعـل األمـر سبب وسائلي، غريا ممكنفاألمة هي مصدر حقوق املسلم وواجباته، وهي البنية الـيت . اباملعروف والنهي عن املنكر أمر

. ميكن يف سياقها ممارسة تلك احلقوق والواجبات

كة لقيصر، وفق الفهم التقليـدي للمسـيحية أما يف املسيحية فإن اتمع والدولة يعتربان ممل وعرف العامل املسيحي جهودا ترمي إىل ربـط .املؤسس على نصوص من أناجيل مىت ومرقس ولوقا

األخالق املسيحية باتمع، وجعلها قابلة للتطبيق فيه، على حنو جدي عقب حركة اإلصالح، متخذة هود قوبلت بالرفض من األغلبية، ومل تصبح أبدا جزءا إال أن تلك اجل. منوذجا رياديا هلا) كالفن(من

. من العقيدة األرثوذكسية، اللهم إال يف منظور أشياعها

أما يف اإلسالم، فإن كل شيء له عالقة باهللا تعاىل، ويقع يف نطاق األوامر الدينيـة اإلهليـة لة وصـف اهللا تعـاىل وهذا هو ع. واألمة شرط ضروري، حبق، لكل تقوى، ولكل فضيلة. التكليفية

يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض( :للمؤمنني بقولهولهسرو ون اللهيعطيكاة وون الزتؤيلاة وون الصيمقيح القرآن الكرمي هـذا ، ويوض]٧١: التوبة[ ) و

. األمر بوضوح أكرب بنصوص جتمع بني األمر والنهي، والوعظ واإلرشاد عرب خربة أمة أخرى

إذا رأت املنكـر ومل "وهذا هو السب وراء حتذير النيب صلى اهللا عليه وسلم، األمة من أـا املنكر يف السـر فإنـه ال وفسر حكمه هذا مبنطق أنه حينما يقع ". تغريه، أصاا اهللا بعذاب من عنده

. أما حينما جياهر به فاعله، وال مينع من ذلك، فإن ضرره يصـل إىل اجلميـع . يؤذي إال الواقعني فيهوالذي نفسي بيده، لتأمرن باملعروف ولتنهون : "يقول النيب صلى اهللا عليه وسلم، فيما رواه الترمذي

".نده، مث لتدعونه فال يستجاب لكمعن املنكر، أو ليوشكن اهللا أن يبعث عليكم عذابا من ع

، ]١٠: احلجـرات [ )إنما المؤمنون إخـوة ( :يقول اهللا تعاىل :أمة واحدة ال تتعدد .ب ،ومعىن هذا األمـر ]٩٢: األنبياء[ ) إن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاعبدون( :ويقول سبحانه

ن على املؤمنني أن جيعلوا ألنفسهم نقطة ارتكاز وحيدة يلتفون حوهلا، على هدف واحد يعلو اإلهلي أ

٥٣

: على ما عداه، وقيمة مفتاحية تأسيسية جتمع كل أنشطتهم حتت معىن واحد شامل هلا مجيعـا هـي ـ . عبادة اهللا تعاىل د، فاألمة واحدة يف كينونتها، ويتعني أن تظل واحدة علـى الـدوام؛ ألن اهللا واح

وعبادته واحدة، وإرادته املتعلقة باجلنس البشري كله وبكل مكان وزمان املبينة يف القـرآن الكـرمي والبشر مجيعا سواسية أمامه، وإرادته بالنسبة هلم أفـرادا . والسنة النبوية واملتبلورة يف الشريعة واحدة

أو أقل مما يكلف بـه فهو سبحانه ال يكلف أي شعب أو عرق أكثر. وشعوبا واحدة بشكل مطلق . كل شعب أو جنس آخر

: طبيعة وحدة األمة .جü ال حيتاج أحد، فيما نأمل، إىل دليل على أن اإلسالم نظام حيـاة شـامل :وحدة األمة شاملة .

وال . وال يقسم احلياة إىل ديين وعلمـاين . فاإلسالم ال يقسم احلياة الدنيا إىل مقدس ودنيوي مدنسوعدميـة بل يرى أن كل تلك التقسيمات مصطنعة وغري طبيعية. دين وعوام يقسم البشر إىل رجال

فكل هذه التقسيمات نشأت تارخييا ضمن تقاليد غري إسالمية، مرتبطة باملسـيحية يف املقـام . املنطقاألول، بسبب العداء املستحكم بني السيد والعبد يف التقاليد الرومانية اإلمرباطوريـة، الـيت ولـدت

.وتشكلت، يف ظلها املسيحية،ü ا :أمة ذات مضمون ملموسا وجمردواحلق . من املمكن أن يكون الطابع العام ألي وحدة شكلي

ومن املمكن دمج ديانة أو . أنه كلما تعاظمت درجة الشمول غلب الطابع الشكلي والتجريدي عليهاعدمية املعىن، لكوا تعين كل رؤية كونية، أو أخالقية بكاملها يف كلمات قليلة جمردة قابلة ألن تصري

ويف املقابل، مل تقم صفة الشمول يف اإلسالم على التضحية باحملتوى امللموس، بل على العكس . شيءوحينما يتعلـق النشـاط . تناغمت معه بوجود تشريعات إرشادية حمددة لكل املرغوبات األخالقية

ورة تعمل كموجهات له بكل أبعاده وأدق اإلنساين مبجاالت يصعب حكمها بالقانون، جند أقواال مأث .جوانبهü النظام القائم على وحدة متراصة وتناغم كلي، حصري ومغلق، حبكم تعريفه، جتاه :أمة دينامية

. املواد الغريبة عنهü األمة وحدة عضوية، مبعىن أن األمة شبيهة باجلسد العضوي الواحد الذي تتـرابط :أمة عضوية

فقيام العضو بوظيفته خيدم كـل . متبادل فيما بينها من جهة، ومع اجلسد كلهأعضاؤه بعالقة اعتماد ومن . ويف املقابل، فإن عمل اجلسد كله يصب يف صاحل كل جزء فيه. جزء آخر فيه، خيدمه يف كليته

: الذاريات[ )وموفي أموالهم حق للسائل والمحر(: املفلحني أمبني ما وصف اهللا تعاىل به املتقني أشداء على الكفار رحماء بينهم تراهم ركعا سجدا يبتغـون ( :، ووصف أصحاب النيب بأم]١٩

كالبنيان "، وأصاب النيب كبد احلقيقة، حني وصف األمة بأا ]٢٩: الفتح [ )فضلا من الله ورضوانا

٥٤

الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى لـه سـائر باجلسد"وحني شبهها " بعضا املرصوص يشد بعضه ".األعضاء باحلمى والسهر

إجياد أمة على الشاكلة اليت سبق بياا ليس أمرا ممكنا وحسب، بـل هـو :إمكانية إقامة األمة .د تمع أو ديـن أو فلم حيدث على مدى التاريخ أن أقيم جم. الشرط الوحيد للنجاح، بل لصناعة التاريخ

قبيلة أو دولة أو إمرباطورية، أو صنع تاريخ، أو مت إحراز جناحات، إال يف ظل حتقق روح األمة بدرجة وكلما تدنت درجتها كان . وكلما تعاظمت درجة اإلحساس ا تعاظم اإلجناز وكان أكثر دواما. ما

. النجاح عابرا أو الفشل أعظم

روح األمة جمددا بني املسلمني، بالسؤال عن كيفية إحـداث ويتعلق السؤال عن كيفية توليد عالقة كيميائية بينهما، تسفر عن التحاب والتواصي والتناهي والتآخي والتعاون والـتعلم والتـزاوج والتصادق والتآنس بينهما، وبالسؤال عن أنواع الفعل أو الالفعل، الواقعية أو الالواقعية، والنشاط أو

كن أن ينتج مالط األمة، الذي ما إن يوجد حىت تصدر عنه كل تلك القيم، ومـن مث السلبية، الذي ميويدور هذا السؤال باختصار حول الكيفية اليت ميكن ا حتقيق احلب املتبادل بني شخصني . تنشأ األمة

ما وإحداث مثل هذا التحول يف اإلنسان ال ميكن أن حيققه إنسان، وإمنا هو من عند اهللا، ك. أو أكثر . تصرح بذلك أكثر من مائة آية قرآنية

وكل ما . فبيد اهللا تعاىل وحده اهلداية وتأليف القلوب وشرح الصدور وتوليد امليل إىل األمتية نية توفري السياق املادي الذي قد تفعل فيه اإلرادة اإلهلية يف : يستطيع اإلنسان فعله يف هذا الصدد هو

سفر هذا االستعداد اإلنساين لتلقي الفعل اإلهلي عن حتقـق ذلـك، ومن املمكن أن ال ي. هذا االجتاهأما حني متتـزج بالتسـليم املتواضـع . حينما تكون تلك املبادرة اإلنسانية متحدية ومغرورة بنفسها

والقول بغري ذلك يستبطن إسقاط السلطة اإلهلية على . بالقدرة اإلهلية، فإن النجاح حيالفها بالضرورة . والتجرؤ عليها على حد سواء أي فعل إنساين،

ما الفعل أو املوقف املعني الذي قـد يعمـل : وبوسعنا يف ضوء ما سبق إعادة صياغة سؤالنا سياقا ماديا للمبادرة اإلهلية املنشئة لروح األمتية؟ اإلجابة الوحيدة املمكنة هنا أن يلتقي البشر املعنيون

ويبحثوا عن احلكمة واملعرفة معا، ويعملـوا وحيققـوا ببعضهم البعض، ويعرفوا رم ويعبدونه معا،وإذا مت الدخول يف كل تلك . النتائج امللموسة معا، وأخريا، يأكلوا، وحيتفلوا ويتمتعوا ويتصاهروا معا

وال سبيل . األنشطة بإخالص، ال هلدف غري ابتغاء وجه اهللا، فإا تؤدي باليقني إىل توليد مالط األمتية . تلك الرابطةآخر لتحصيل

٥٥

ومن املفترض أن تكون اجتماعات اتمع اإلسالمي على املسـتويات احملليـة واإلقليميـة والقومية، وكذا اللقاءات اجلامعة يف االحتادات واملراكز اإلسالمية يف شىت أرجاء العامل، خطوات على

غري كاملة، وتفتقـر إىل إال أن كل تلك االجتماعات ال تزال مبتورة، وغري منضبطة، و. هذا الطريقواألمر الذي حنن حباجة إليه ويفوق يف أمهيته كل ما أجنزناه . عنصر املواظبة عليها، وتشوا العشوائية

. مأسسة االجتماع األميت: حىت األن هو

ولتحقيق هذا الغرض، نقترح أن خيلق كل مسلم يف نفسه إمكانية كامنة للقيـادة، والتزامـا لحته الشخصية ومصلحة أسرته ويتوىل كل مسلم عامل، تأسيس عـروة وثقـى باإلسالم يفوق مص

ومتثل كل عروة وثقى بدورها رابطة بني عشرة من املسلمني الراشدين وأسـرهم، . وتنظيمها وقياداويسمى املسلم العامل هؤالء األعضـاء العشـرة . اإلسالم: هلا هدف واحد ومربر واحد للوجود هو

ولية استمرار التواصل معهم، وفيما بينهم من جهـة، وفيمـا بينـهم وبـني ويدعوهم، ويتوىل مسئوينظم املسلم العامل لقاء مساء اجلمعـة لعروتـه، . مؤسسات األمة األوسع نطاقا، من جهة أخرى

بدعوة أعضائها وأسرهم إىل مرتله مساء كل يوم مجعة للقاء أخوة إسالمية يـدوم ثـالث أو أربـع لة اجلمعة هذا صالة العشاء، وتالوة جزء من القرآن الكرمي، وتداول بعـض ويتضمن لقاء لي. ساعات

ولكل . األمور املتعلقة باإلسالم، مث االلتقاء على شيء من الطعام دف التعارف والتنشئة االجتماعية. عنصر من هذه العناصر األربعة أمهية كبرية، إال أنه جيب ترتيبها حبيث ختلو من املشـقة والرتابـة

تالوة القرآن وطلب املعرفة –أما العناصر الثالثة األخرى . لعنصر الثابت يف هذه املربع هو الصالةواوينبغـي . فهي أمور حتتمل التنويع بال حـدود –اإلسالمية، والتعارف االجتماعي على طعام مشترك

ضو لعقـد عقد لقاء اجلمعة يف بيت عضو آخر مبجرد توفر إمكانية ذلك، حبيث تتاح الفرصة لكل ع . والوضع األمثل هو عقد ذلك اللقاء بشكل دوري يف بيت كل عضو بالعروة. اللقاء مبرتله

وال . وينبغي للمسلم العامل أن يراعي يف اختياره ألعضاء العروة املسافة بني بيتـه وبيـوم اس للتمييز بني تشكل األواصر اللغوية والثقافية واخللفيات القومية والعرقية، ومستويات الثقافة أي أس

فلقد كان لب قوة اتمع اإلسالمي، وسيظل على الدوام، كونـه جمتمعـا . البشر يف منظور اإلسالممفتوحا ومتعدد األعراق، ومتنوع الثقافات، وال يعبأ بلون اإلنسان، ومتحررا من الفجـوات بـني

ور األعضاء األساسـيني يف وينبغي أن يكون حضور األطفال واجلدود واجلدات مماثال حلض. األجيالواملعول عليه يف مواجهة ما قد يظهر من ال مباالة أو بالدة أو مجـوح أو شـقاق . لقاء ليلة اجلمعة

ومعارضة، سواء فيما خيص لقاء ليلة اجلمعة أو غريه من األنشطة اإلسالمية على مستوى املدينـة أو صاف والتشجيع واملواساة واملبادرة والقيـادة القرية أو الدولة، هو ممارسة املسلم العامل لواجب اإلن

وحينما تتكاثر الرابطات الوثقى، ستكون هناك حاجة . واملسئولية الشخصية، كمالذ وحيد ملعاجلتها

٥٦

وسـيتعني . لتنظيمها وختطيط احتياجاا وتلبيتها، وتقاسم كل منها ما لديها من خربة مع نظرياـا ادات املوهوبة ومن املعلومات والنفوذ والتمويل، إنشاء مقـر عاجال أو آجال مع تشكل جممع من القي

. عام لقيادة احلركة اإلسالمية مجعاء، تضطلع منه احلركة بعبء القيادة الثقيلوينبغي عقد حلقات علمية دورية للمسلمني العاملني، لتمكينهم من تبادل ما لـديهم مـن

وميكـن أن تـزود . فاءة ومدعاة للفالحخربات، وتدريبهم على تصريف مهامهم على حنو أكثر كالقيادة اإلسالمية يف كل وحدة جغرافية، ما ا من عروات بدرس األسبوع مطبوعا، وحتدد ما يتلـي يف اللقاء من القرآن، حىت تكتسب االختيارات مستا نظاميا، وتواكب األحـداث املهمـة بالنسـبة

. للمسلمني يف كل مكانفتشـكل . يتم الشروع يف تأسيس املزيد من اهلياكل التنظيمية ومع تضاعف أعداد العروات

ويف كـل . وتشكل كل عشر زوايا مجعيـة . وتشكل كل عشر أسر زاوية. كل عشر عروات أسرةمستوى من هذه املستويات يتم إنشاء جهاز إداري يرعى احتياجات العروات املوجـودة يف نطاقـه

. فدعونا ال نبين هياكل يف فراغ، ال طائل منها. الواقع ويطور التنظيم واهليكل حسب حاجة. اجلغرايف . بل نركز على التمكني هلياكل تنبع من رحم حقائق متنامية واقعية

. والسؤال الذي جيب علينا طرحه يف كل األحوال هو كيف نوجد تلك احلقائق على األرض سلمني، وأن يتشارك املسلمون واإلجابة، مرة أخرى، هي بأن يفعل املسلم كل املباحات مع إخوانه امل

. يف أنشطة العبادة، ويف التربية اإلسالمية املستمرة، ويف األمر باملعروف والنهي عن املنكر

٥٧

) مبدأ األسرة(التوحيد

أفول جنم مؤسسة األسرة يف العامل

ل سامهت عوامل عديدة يف تآكل الرابطة األسرية يف أوربا الغربية وأمريكا الشمالية، تشـم الرتوح إىل التجمعات احلضرية الكربى اليت ال يعرف أحد فيها أحدا، للبحث عن عمل، واالخـتالط بني اجلنسني، والتسيب اخللقي، واالستقالل االقتصادي للمرأة، وروح الفردية اجلاحمـة، واسـتبطان

فجور والفاحشة وينطبق ما عرفه النصف الثاين من القرن العشرين من شيوع ال. فكرة إطالقية الطبيعةفأكثر من نصف مواليد املدن حاليـا أطفـال غـري . باحلالة احملزنة اليت تردت إليها مؤسسة األسرة

وأصبحت األسرة حيوانية، من حيث إا تدوم فقط طاملا كان األطفال عـاجزين ماديـا، . شرعينيحلاجة املادية تنفك عري ومبجرد بلوغهم سن الرشد، وزوال تلك ا. وحباجة إىل رعاية أبويهم الدائمة

واألدهى واألمر من ذلك أن انشغال األبوين بالعمل خارج املرتل، وما يعانيانه من إرهـاق . األسرةبدين، وما يتعرضان له من ضغوط تدفعهما إىل تلمس اإلشباع العاطفي خارج البيت أضعف رابطـة

. األسرة حىت يف فترة شدة حاجة الصغار إليها

يسية األسرة كوحدة تأسويـوقروا بـذلك . يقتضي مراد اهللا تعاىل بالنسبة للبشر أن يتناكحوا ويتكاثروا ويعيشوا معا

وميكـن أن . مسرح العالقات الذي حيقق الشق األخالقي من اإلرادة اإلهلية عليه بقرار وفعل إنسانينيالعرق، واألمة العامليـة النفس، واألسرة، والقبيلة أو القوم أو : يتكون هذا املسرح من أربعة مستويات

. اجلامعة

٥٨

فأي حتقيق ألية أخالقية يتطلب فاعال إنسـانيا فـردا يف . واحلاجة إىل املستوى األول بدهية عالقة أخالقية مع نفسه ومعرفة اإلنسان لنفسه، واحملافظة عليها وتعزيزها، وإخضاعها ملقتضيات القيم

. األخالقية، شروط ال قوام للخليقة بدوا

فهو من ذات طبيعة األمة، من . فغري ضروري) القبيلة أو العرق أو القوم(أما املستوى الثالث حيث أنه يقيم عالقات بني بشر ال تربطهم عالقة نسب مباشرة، أو تربطهم عالقة قرابة بعيد إىل حد

جمرد –ر من هذا املنظو –ومستوى القبيلة . تصري معه متصورة أكثر من كوا حمسوسة بشكل مباشرفوظيفته حمددة يف قصر . مستوى حصري ال يضيف شيئا إىل العالقة اليت ميكن قيامها بني الفرد واألمة

. تلك العالقة على أبناء القبيلة أو القوم أو العرق، ومنع امتدادها إىل أناس آخرين

مشكالت معاصرة ه تعاىل جعل املـرأة والرجـل مما ال يرقى إليه الشك أن ال :املساواة بني املرأة والرجل .١

من (:يقول سبحانه وتعاىل. متساويني يف احلقوق والواجبات واملسؤوليات الدينية واألخالقية واملدنيةبدأ العام ، إال أن هذا امل]٩٧: النحل[ )عمل صالحا من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فلنحيينه حياة طيبة

. د عليه استثناءات جد حمدودة تقتضيها وظيفيت األبوة واألمومةتر

ومن بني الشواهد . كما أثبت القرآن املساواة بني الرجل واملرأة على مستوى احلقوق املدنية لـى أن ع يبايعنـك المؤمنـات جـاءك إذا النبـي يا أيهـا ( :القرآنية على ذلك، قول اهللا تعاىل

يقـــتلن ولـــا يـــزنني ولـــا يســـرقن ولـــا شـــيئا باللـــه يشـــركن لـــانهلادلا أوو نيأتي انتهبب هرينفتي نيب يهندأي هنلجأرلا وو كينصعي يف وفرعم نهـايعفب رفغـتاسو

نله إن الله الله غفور يمح١٢: املمتحنة [ ) ر.[

يرى اإلسالم أن املرأة والرجل خلقا لتحقيـق : التمايز والتكامل بني دور املرأة والرجل .٢ ـ (:يقول اهللا تعاىل . وظيفتني خمتلفتني ولكنهما متكاملتني ى ولا تتمنوا ما فضل الله به بعضـكم عل

النساء [ ) واسألوا الله من فضله وللنساء نصيب مما اكتسبن للرجال نصيب مما اكتسبوا بعض ، فوظائف األمومة املتمثلة يف الرعاية املرتلية وتربية األطفال، ووظائف األبوة املتمثلة يف محايـة ]٣٢ :

ه مبتطلبات املعيشة والقوامة العامة، استدعت اختالف الرجل عن املرأة يف البنية اجلسدية البيت وتزويد . والنفسية والعاطفية

يقـول اهللا . ويبارك اإلسالم هذا التمايز ويعتربه ضروريا لتحقيق كل من املرأة والرجل لذاته آل [ )عامل منكم من ذكر أو أنثى بعضكم من بعض فاستجاب لهم ربهم أني لا أضيع عمل( :تعاىل

]. ١٩٥: عمران

٥٩

مما ال ريب فيه أن اإلسالم ال يريد من املرأة أن تعزل نفسها عن اتمع : السفور والعزلة .٣ ة يف والدليل على ذلك هو اعتراف اإلسالم حبق املـرأ . بنقاب أو داخل جدران البيت بقاعات احلرمي

علـى أن يبايعنـك المؤمنـات جـاءك إذا النبـي يا أيهـا ( املشاركة يف احلكم، يقول اهللا تعاىل يقـــتلن ولـــا يـــزنني ولـــا يســـرقن ولـــا شـــيئا باللـــه يشـــركن لـــا

نهلادلا أوو نيأتي انتهبب رينفتيه نيب يهندأي هنلجأرلا وو كينصعي يف وفرعم نهـايعفب رفغـتاسو نله إن الله الله غفور يمحوحقها يف املشاركة يف احلياة العامة، يقول اهللا تعاىل]١٢: املمتحنة[ ) ر ،:

)ب اتنمؤالمون ونمؤالملاة وون الصيمقيكر ونن المن عوهنيو وفرعون بالمرأمض يعاء بيلأو مهضعيمكح زيزع إن الله الله مهمحريس كأولئ ولهسرو ون اللهيعطيكاة وون الزتؤي٧٢-٧١: التوبة[ )و[ ،

]. ١٩٥: آل عمران[املشاركة يف احلرب بل حقها يف

يقول اهللا تعـاىل . الزواج واجب ديين وأخالقي على الرجال والنساء :الزواج والطالق .٤

)نمو هاتأن آي لقخ نم لكم فسكما أناجووا أزكنستا لهل إليعجو كمنية بدوة ممحرالـروم [ ) و :وينبغي مراعاة عدم تعويق زواج الرجال والنساء باملغاالة يف املهور وبعدم توفر السكن والتعليم ]. ٢١

ولقد أصبحت هذه العوامل موانع للزواج يف الغرب، بسبب القيمة العالية اليت يوليهـا . وفرص العملة األسرة إىل منط األسـرة ومع حتول مؤسس. الغرب لإلجناز املادي، مقابل عدم اكتراثه بالعفة اجلنسية

. النووية، بات لزاما على من يعتزمون الزواج حتقيق االستقالل االقتصادي قبل اإلقدام عليه

مبعدالت منذرة باخلطر؛ حيث بـات –لألسف –إال أن آفة التغريب تطول الشباب املسلم . لزواج إىل ما بعد إجناز ذلكمن الشائع بينهم السعي إىل حتقيق االستقالل االقتصادي أوال، وإرجاء ا

.االستقالل االقتصادي الشخصي: وهذا التطور مؤسف بل مأسوي، العتبارات عديدة

الشـريعة اإلسـالمية وإحاطتها. شرع اهللا تعاىل األسرة بنمطها املمتد :األسرة املمتدة .٥ يف اإلعالة يصل إىل بتشريع حيدد أصحاب الفرائض، ونظام النفقة، واملواريث، وعامة القول، أن احلق

أي قريب مهما بعدت درجة قرابته شريطة أن يكون حمتاجا، وال يوجد رجل راشد قادر أقرب إليـه . واألولوية يف النفقة للجدود واألحفاد واألعمام وذريام. من الذي جتب عليه نفقته

التـدريب لتغـدو ومن هنا فإن املهمة األوىل اليت ينبغي للمرأة املسلمة أن تركز عليها، هي مسلمة عاملة، من أجل إيقاظ عقلها وتغذيته باحلكمة اإلسالمية، وإكساا انضباطا ومرانا ذاتيا يفي العمل اإلسالمي، وحتقيق تأهلها النفسي، ملا قد تستنده إليها، والواقع أن كل جماالت النشاط اإلنساين

. ة مهنا ميكن أن تكون حكرا على املرأة بكاملـها بل إن مث. مفتوحة أمام املرأة املسلمة، وحباجة إليها

٦٠

واتمع اإلسالمي يف أمس احلاجة إىل املرأة اإلسالمية العاملة، وبدرجة تفوق كل مـا يتصـوره أي . جهد تعبوي معاصر

) مبدأ النظام السياسي(التوحيد

، ]٩٢: األنبيـاء [ ) ربكم فاعبـدون إن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا(يؤكد التوحيد على قامة والتشاوروعلى أن املسلمني جتمعهم األخوة الواحدة يف اإلسالم، والتحاب فيما بينهم هللا تعاىل،

.] ٣، ٢: العصر[العدل، والتحلي بالصرب

التوحيد واخلالفة و هي واسطة إصالح العامل تنفيذا األمة كما رمسنا معاملها آنفا هي أداة إعادة تشكيل العامل، أ

إا هي اخلالفة بأمر اهللا تعاىل يف األرض، حيث إن هذه الصفة املسندة من اهللا تعـاىل . لإلرادة اإلهلية . يف األصل لإلنسان

ومفهوم األمة مـرادف . ومفهوم األمة مرادف ملفهوم اخلالفة فيما يتعلق خبالفتها يف األرض . هي إحدى مقومات خالفتـها لة فيما يتعلق مبمارسة األمة للسيادة اليتمن جهة أخرى ملفهوم الدو

. ونقترح الدخول لتحليل اخلالفة من مدخل حتليل مضمونات التوحيد بالنسبة للنظريـة السياسـية : واخلالفة من هذا املنحى إمجاع ثالثي للرؤية واإلرادة والعمل، على التفصيل التايل

: وله ثالثة مقومات ،رؤية هو إمجاع العقل أو الوعيإمجاع ال: إمجاع الرؤية .١. من الواضح أن هذه املعرفة نظاميـة وتارخييـة :معرفة القيم التأسيسية لإلرادة اإلهلية -أ

أما ما ميكن ويتعني فهمه . ومن هنا ال يتعني الفهم الكامل هلا. وحمتويات تلك الرؤية ال ائية بطبيعتها

٦١

ومـا إن . وهذه النواة بنية ومنهاجية للربط وحتديد سلم األولويات. و نواامتاما منها فهو جوهرها أحيكم املرء فهم تلك النواة ذا املعىن حىت يغدو قادرا على اكتشاف وحتديد ما مل يكـن يدركـه يف

ويصدق ذلك على وجه اخلصوص على املعرفة النظامية للقيمة . األصل من مضموا الشامل الالائي، والعقل عرب فهمه لعملياا املنطقية واملعرفيـة )القرآن والسنة النبوية(تمثل مصادرها يف الوحي اليت ت

علم اإلنسان، علم النفس، (، واإلنسان )العلوم الطبيعية(ما وراء الطبيعة : من جهة، وللواقع بوجه عام ). العلوم االجتماعية(، واتمع )علم األخالق

: قيق القيم التأسيسية لإلرادة اإلهلية بالنسبة ملسـرية التـاريخ معرفة ما أسفر عنه حت -ب املعرفة باألثر املترتب على حتقيق القيم اإلسالمية يف أرض الواقع بالنسبة ملسرية التارخيي مسألة جتريبية

وهذا هو السبب يف تزود املسلمني األوائل خبربة السرية النبوية، ومبواقف منتقاة مـن . يف املقام األولوال غىن ألي جمتمع متدين عن تلك النماذج التطبيقية، ملا هلا مـن قيمـة حيويـة يف . حياة الصحابة

. التحرك باملتدينني من الفهم التأملي لقيم دينهم إىل رحاب املعرفة ا جمسـدة يف صـورة ملموسـة يف أنفس املقتدين ا، ومتارس تلك النماذج اسدة لألسوة يف جمال القيم تأثريا تربويا مهما ومرغوبا

وتفوق قدرا على التغلغل يف وجدام، ويف ذاكرم قدرة احملتوى احملصل من دراسة نظامية منهجية وخالصة القول أن احلدس والتجريب مهمان على قدم املساواة لتحصـيل الرؤيـة الالزمـة . نظرية

. للخالفة

وله مقومان أساسـيان؛ العصـبية واحلـس . إمجاع اإلرادة هو إمجاع القدرة : إمجاع اإلرادة .٢املشترك، الذي يتعاهد املسلمون بناء عليه بوحدة استجابتهم لألحداث واملواقف اليت تواجههم، وبأن يكونوا يدا واحدة يف طاعة أمر اهللا تعاىل، ويف إقامة نظام مؤسسي قادر على بلورة قرارام، وعلـى

مبقتضيات الدعوة اإلسالمية، وترمجة ما جيب أن تكون عليـه الوصول لكل املسلمني وتعبئتهم للوفاء . القيم، إىل خطة عمل لألفراد واجلماعات ولقادم

وال تتساوى العصبية أو التماسك االجتماعي مع إمجاع الرأي، وال متثل نتيجة مترتبة عليـه، كم املستحيلة دون وجود واحلق أا يف ح. وإن كان من املمكن، بل من الواجب تعزيزها وتعميقها به

إال أن العصبية حتتاج ملقومـات . فالتماسك االجتماعي مرهون بوجود قاسم مشترك. ذلك اإلمجاعفهي تعرب عن نفسها بقرار التماهي مع احلركة، وبربط املرء مصـريه . أخرى إىل جانب إمجاع الرؤية

ويتأسس هذا القـرار . اا وفعلا، قولكله بسفينة األمة، مث االستجابة اإلجيابية للدعوة، ولكل متطلباذاته على سلسلة طويلة من تغيريات ما بالنفس، يتحول ا املرء إىل حتديد هويته باألمـة، والتوجـه بوعيه يف اية املطاف إىل دائرة وضع هذه اإلرادة موضع التنفيذ، بربط هويته باخلالفة، بوصفها رأس

٦٢

ومن املمكن أن تكون عملية التحول النفسي هذه عند . التاريخ احلربة، وقاطرة حركة األمة يف صناعةوميكن أن تنبت تلك القابليـة . توفر االستعداد هلا، حمال للتنقية واإلثراء عرب التربية والتعليم والتنشئة

بشكل فطري باملولد، وتتم رعايتها يف دوائر قبلية منغلقة، فتنمو مولدة تطلعات متعصـبة وعميـاء وهذا هو املعىن الذي اعتربها به عبد الرمحن ابن خلدون أساسا . رء هويته بالقبيلة أو بالعرقلتحديد امل

. للتماسك االجتماعي

ويف املقابل، فإن العصبية اإلسالمية تتسم بالعمدية وميكن تفسريها جبالء أا عمل أخالقـي ، يف النور الساطع ملنظومـة فهي كعهد يقطعه اإلنسان على نفسه باالخنراط يف شأن األمة. ومسئول

وهي تتمثل يف أنقى صورها يف ليلة احلجيج مبكة وهم يطوفون بالكعبة املشـرفة، أو . معاين التوحيدإن احلمد والنعمة لك . لبيك اللهم لبيك، لبيك ال شريك لك لبيك: "وهم ينفرون إىل عرفات داعني

عصبية التخصيصية املتمحورة حـول األرض ، وهي عصبية متثل النقيض التام لل"وامللك ال شريك لك . أو العرق أو الثقافة، على غرار ما قامت عليه القومية الغربية على مدى قرون

ويصل هذا االتصال والتواصل بني املرء وإخوانه ذروته يف صالة اجلمعة، اليت تعـد خطبـة ة والسياسـية الـيت تواجـه وتعاجل تلك اخلطبة الوضع الراهن واملشكالت االجتماعي. اإلمام عمادها . اتمع املسلم

فالغاية اليت ترتل القرآن ذاتـه . ويدخل هذا كله، من املنظور اإلسالمي، يف مفهوم العبادات . من أجلها هيا لتحويل الفعلي لألرض وللبشر

يف إمجاع العمل هو الذروة اليت تتبلور فيها كل االستعدادات سـالفة الـذكر :إمجاع العمل .٣ ويدور هذا اإلمجاع حول تطبيق اخليار العملي الذي استقر اإلمجاع يف الرؤيـة واإلرادة . حدث فعلي

وهو عملية مماثلة للدينامية األبدية جلدلية اإلمجاع واالجتهاد، من حيـث . على وضعه موضع التنفيذ . احلات، للفوز باجلنةوغايتها هي تأهيل اإلنسان العامل للص. استحالة القول بالوصول إىل اية هلا

ومعىن ذلك أن حتويل اإلرادة اإلهلية إىل واقع فعلي معاش على األرض بزماا ومكاا، مهمة ومضمون هذه املهمة هو إشباع االحتياجات املادية لألمة، وتوفري . لإلنسان ال تنتهي إال بقيام الساعة

ه ذاته قدر استطاعته، وتوفري كـل الوسـائل قدر من التعليم لكل فرد فيها يف حدود قابلياته، حيقق باملادية واملعنوية الالزمة للدفاع عن األمة يف مواجهة أعدائها األجانب، وجتسيد اإلرادة اإلهلية يف كل

. أرجاء املعمورةومع أن مهمة اخلالفة هي بذل كل ما هو يف حدود االستطاعة لتمكني كل فرد باألمة مـن

ة يف األرض والتمتع ا، فإن هذا اهلدف مهما كان نبله وضرورته، سرعان ما اكتساب نعم اهللا املبثوث

٦٣

ينحدر باتمع اإلنساين إىل درك احليوانية واالحنطاط واالحنراف عن الشخصية اإلنسـانية وخيانـة . اإلرادة اإلهلية بكاملها، مبجرد أن يصري هو اهلدف الوحيد والنهائي حلياة اإلنسان على األرض

هة أخرى، ال يصح النظر إىل البعد الروحي على أنه احلياة اخلاوية من انعكـاس مـا ومن ج بالنفس على الواقع وجتسده فيه، واستبدال احلياة بالسعي املادي فيها، بالسعي لتغـيري مـا بـالنفس

فللحياة الروحية يف منظور اإلسالم ثالث درجات ينبغي السعي إىل حتقيقهـا . بالشعائر والروحانياتواملهمة املالقاة على عاتقه يف . اخنراط الفرد يف الشئون املادية العامة لألمة: أوالها. يعا يف آن واحدمج

وثانيتها . هذه املرحلة هي إخضاع احتياجاته املادية الفردية ملتطلبات العمل املتعلق باألمة يف جمموعهاما التعمق يف معرفة السنن احلاكمـة السعي لتحصيل العلم للنفس وللغري على مستوى ثنائي البعد أوهل

ملا هو طبيعي فهو سبيل لتوسيع دائرة االنتفاع اإلنساين باملاديات وجعله أكثر يسرا، وثانيهما السعي جلعل العالقة بني اإلمجاع واالجتهاد أكثر دينامية وإبداعا من أجل الوصول إىل مستوى أرقـى غـري

إنتاج أعمال مجاليـة مبلـورة : ما الدرجة الثالثة واألخرية، فهي أ. مسبوق يف االمتثال لإلرادة اإلهليةحلنني األمة وتطلعاا ورسالتها، وهي تواصل القيام بتجسيد القـيم، أو اإلرادة اإلهليـة وتفعلـها يف

. التاريخأما املقوم الثاين إلمجاع العمل، أو إمجاع اإلنتاج، فهو توفري فرصة التعليم لكل فرد باألمـة

اقرأ باسم ربـك ( :يقول اهللا تعاىل. در الذي ميكنه من حتقيق أوسع، وأقصى حتقيق ذايت مستطاعبالقلقي خلق* الذع نان مالإنس لقخ*مالأكر كبرأ وبالقلم*اقر لمي عالذ* لـمعي ا لـمان مالإنس لمع(

مـن نفـر فلولـا كافـة لينفـروا المؤمنون وما كان ( :ول سبحانه وتعاىلويق ]٥-١: العلق[: التوبة[ ) إليهم لعلهم يحذرون رجعوا إذا قومهم ولينذروا الدين في ليتفقهوا طائفة منهم فرقة كل

١٢٢ .[ خلالفة يقتضي حتقيق أمرين يف آن واحد؛ خلق اإلحساس باحلاجة للـتعلم، مبعـىن فواجب ا

وإن فشلت األمة يف حتقيق أول . حتريك القابليات الكامنة يف أفرادها، وإمدادهم بوسائل حتقيق ذوام وإن هي أخفقت يف األمر الثـاين . هذين األمرين فإا تصري أمة من اجلهلة السذج الغارقني يف سبام

فإا تفتح الباب أمام التفريغ الذايت من الكفاءات وتبديدها باهلجرة، أو التدمري الـذايت مـن بوابـة . التخريب من الداخل واحلرب واالستغالل األجنيب من اخلارج

: التوحيد والقوة السياسية احلقائق احملزنة : اإلسالم والعامل اإلسالمي .١

ين يتجاوز عددهم مليار نسمة، يقيمون يف بقعـة مـن يشكل العامل اإلسالمي بسكانه الذ املعمورة متتد من احمليط األطلسي باجتاه الشرق إىل احمليط اهلادي، وبدأت جذورهم تترسخ وتنتشر يف

. أوربا واألمريكتني، إمكانية كامنة عظيمة جلعل كلمة اهللا هي العليا يف األرض

٦٤

تعبئة وجهوزية دائمة كتلك اليت اتسم ـا وال يوجد بلد إسالمي واحد يضع نفسه يف حالة ورمبا تكون السمة األسوأ للعامل اإلسالمي املعاصر هي إفالسـه . جمتمع املدينة املنورة يف العهد النبوي

فال توجد يف أي بلد إسالمي مؤسسة واحدة حتتضن الطفل املسلم من سـن . يف حقل التربية والتعليم . مة وقد استوت قابلياته الكامنة على سوقهااخلامسة وترعاه إىل أن تسلمه لأل

وليس لدى أمتنا مؤسسة تدريب تتوىل تدريب املسلم على كيفية حتويل العـامل والعمـران اإلنساين من أملك اإلنساين املادي العضوض، إىل صورة شبيهة بالنموذج اإلهلي، بتجذير الوعي بـأن

ويعـاين عاملنـا . وجود اإلنسان يف هذه احلياة الـدنيا جتسيد هذا النموذج الرباين هو الغاية األخرية لاإلسالمي على متصل التعلم من ارتفاع مؤذن باخلطر يف النسبة املئوية للمتعلمني املهاجرين وللبـاقني

ويعاين على النهايـة األخـرى . فيه احملبطني، منب ين محلة درجيت الدكتوراه واملاجستري، من جهة . عب يف نسبة األميني مقارنة بنسبة املتعلمنيلذلك املتصل من ارتفاع مر

ومكمن اخلطورة يف وضعية عاملنا اإلسالمي الراهنة، ليس أن املسلمني يستيقظون من سبات طويل فيجدون جمتمعام ضعيفة مبؤشرات الزخم االقتصادي واالجتماع والسياسي، ودوهلم مترحنـة

فمكمن اخلطر احلقيقي هـو . إال على حنو متقطع من جراء إصابتها بقصور ذايت وسبات ال تفيق منهوكل ما نشاهده مـن . فقدان قادة األمة املسلمة يف هذا املنعطف للرؤية السليمة للحاضر واملستقبل

مظاهر سلبية حمزنة هو نتاج غياب الرؤية، ومث االفتقار املطلق للجهد الرامي لبناء املـواطن املسـلم، . ليت يعتربها هي وطنه يف القرن الواحد والعشرينامللتزم بالعقيدة اإلسالمية وا

٦٥

)مبدأ النظام االقتصادي(التوحيد

املؤسس الروحي لباكستان، يف كونه أول من أكـد باسـم ) حممد إقبال(يعود الفضل إىل ومنذ ذلـك " جوهر العمل السياسي هو التعبري عن روحانية اإلسالم"اإلسالم يف العصر احلديث أن

هذه بكل فخر ) إقبال(احلني اقتنع املسلمون يف كل أرجاء العامل بتلك احلقيقة، واستشهدوا بكلمات . يف كل مناسبة

العمل : "إال أن اال ال يزال مفتوحا ألن يؤكد مفكر إسالمي بوزن إقبال باسم اإلسالم أنسلمون ذه احلقيقـة اجلديـدة وعندما سيقتنع امل". االقتصادي هو اآلخر تعبري عن روحانية اإلسالموسيمسك املسلمون بلباب تلك احلقيقة، كما ). إقبال(بكل يسر، متاما كما فعلوا من قبل مع مقولة

، املتمثل يف املغايرة بني املسيحية واإلسالم يف نظرة كل منهما للعالقـة )إقبال(أمسكوا بلباب مقولة . بني الدولة ودور العبادة

املسيحية الفصل بني الكنيسة والدولة، يرى اإلسـالم أن املسـجد حباجـة إىل ففي حني ترى . ين، وكذا احلال بالنسـبة للنشـاط االقتصـادي دالدولة، وأن وجود الدولة وعافيتها من صميم ال

ــالم ــميم اإلس ــن ص ــاره م ــة وازده ــاد األم ــاىل. فاقتص ــول اهللا تع ــروا ( :يق واذك بيوتا الجبال وتنحتون قصورا سهولها من تتخذون الأرض في وبوأكم عاد عدب من خلفاء جعلكم إذ

هو أنشأكم من ( :ويقول سبحانه] ٧٤: األعراف[ ) مفسدين الأرض في تعثوا ولا الله آلاء فاذكروامعتاسض واالأريهف كموباملثل فإن وجود روحانية اإلسالم مستحيل ما مل يوجـد ]. ٦١: هود[ )ر

. عمل اقتصادي عادل

٦٦

: مضمونات التوحيد الدنيويةوالعامل املمتلئ بالقيمة آية . إن استمتاع اإلنسان بالقيم األولية أو النفعية مباح وال غبار عليه

. ال داخلة ضمن محد اهللا تعاىل وعبادته من جانب اإلنسـان من آيات اهللا، واحلفاظ عليه إثراءه أعمومتاما كما أنه ال جمال . وكل شيء يف الوجود حممل بقيمة كونية عليا، بوصفه وسيلة لتحقيق املطلق

للتفضيل بني البشر إال بالتقوى والعمل الصاحل، فإنه ال جمال للتمييز بني زمـان وزمـان أو مكـان واه بوصفه وسيلة يف حتويل اإلنسان للوجود وفق النموذج اإلهلي املوحي ومكان، إال على أساس جد

. وال يوجد شيء مادي يف الوجود شرير بذاته. بهومثة مبدأين إسالميني أوليني آخرين، يعززان أطروحة دنيوية اإلسالم، مها أخالقيـة الفعـل

. اإلسالمي، واإلميان باليوم اآلخريلزم التوحيد اإلنسان بأخالقية العمل، أي بأخالقيـة تعـاير :الدنيوية وأخالقية العمل -أ

القيمة والالقيمة يف ظلها بدرجة النجاح الذي حيققه الفاعل األخالقي يف تغيري مسار املكان والزمـان وال يتنايف ذلك مع أخالقية النية، ولكنه يستلزم حتقيق مقتضـياا، باعتبارهـا . يف نفسه وفيما حوله

. مسبقا للدخول يف ساحة حتقيق متطلبات الفعل األخالقي شرطا أولياومعىن ذلك، أن التدخل يف جمرى املكان والزمان، أو حتويل اخلليقة، فريضة أخالقيـة علـى

وال يستطيع املسلم أن حييا . فاملسلم مطالب خبوض غمار التاريخ، وحتقيق التحول املنشود فيه. املسلموحىت يف تلـك . إال على سبيل التدرب على ضبط النفس والتحكم فيها حياة النساك واعتزال الناس،

احلالة، إن مل يؤهله ذلك التمرين لنجاح أكرب يف عملية حتويل الزمان واملكان، فإنه يعد مـن قبيـل األعمال األنانية غري األخالقية، ألنه يعترب تغيري النفس غاية حبد ذاته، وليس وسيلة لإلعـداد لتغـيري

. العامل

املبدأ األوىل الثاين املتعلق برؤية اإلسالم :الدنيوية والدار اآلخرة يف املنظور اإلسالمي -ب ونظرة اإلسالم لآلخرة خمتلفة بشكل جذري عن نظرة اليهودية . للدنيويات، هو اإلميان باليوم اآلخر

وهي مملكـة داود . نفىفمملكة الرب يف منظور اليهودية، بديل حلالة العربيني يف امل. واملسيحية إليهااليت تصورها من فقدوها باحلنني إىل املاضي، يف حلظة كانوا يعيشوا فيها يف الدرك األسفل يف السـيب

.واخلزيأما بالنسبة للمسيحية، فقد كان زمخها األساس موجها إىل مناهضة متركز اليهـود حـول

من هنا، كان من الضـروري أن تسـعى و. العرق وإفراطهم يف املظهرية واملادية واخللود إىل األرض . املسيحية إىل بث الروحانية يف مملكة داود على حنو خيرجها متاما من حيز املكان والزمان الدنيويني

٦٧

إن اإلسالم ديانة دنيوية، وأن املكان والزمان مها بالنسبة لإلسالم اململكة اليت يتعني جتسـيد واملعىن الوحيد لفالح العمل، أو للفالح يف العمل، وفـق . املطلق فيها، وأن ذلك يتم بواسطة اإلنسان

اللغة اليت يصف ا القرآن الغاية من الوجود كله، هو تغيري املواد األولية للخليقة مبا فيهـا اإلنسـان ومن اجللـي أن . نفسه واألار واجلبال والغابات وحقول القمح، والقرى واملدن، والبلدان والشعوب

. ليس أمرا مهما بالنسبة للدين فحسب، بل هو عني مهمة الدين بكاملةملء هذا العامل

: الدنيوية اإلسالمية واملسعى املادي لإلنسانما الذي يعنيه القول بدنيوية اإلسالم بالتعبريات الدراجـة : الفاعل األخالقي وشخصه .١

ادتني، هو الشخص الذي تتحـدد العملية احملددة؟ إا تعين أن املسلم حبق، وليس مبجرد النطق بالشهوتتعلق بعض أحكام الشريعة خبصوصياته الشخصية، كتلك املتعلقة بالشعائر، الرامية . أفعاله بالشريعة

واالحتياجات املؤثرة على جسده ماديـة بـالطبع، ويسـتلزم . إىل التأثري على وعيه أو على جسدهل أقصى ما يستطيع إنتاجه، وبقدر يفـوق إشباعها التصرف على حنو اقتصادي، مبعىن أن ينتج الفاع

حاجته، ليبادل الفائض عن حاجته مما أنتجه مبا حيتاجه من الفائض من السلع واخلدمات األخرى اليت وتقاس قيمتـه . أنتجها آخرون، مبا يكفل سد حاجته من املأكل وامللبس واملسكن والرعاية الصحية

يقول اهللا . جناحه يف السعي يف األرض ابتغاء فضل اهللاألخالقية يف هذا املضمار بشكل مباشر، مبدى بيع ذلكم يا أيها الذين آمنوا إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة فاسعوا إلى ذكر الله وذروا ال ( :تعاىل

يت الصلاة فانتشروا في الأرض وابتغوا من فضل الله واذكـروا فإذا قض ،خير لكم إن كنتم تعلمون ]. ١٠-٩: اجلمعة[ )الله كثريا لعلكم تفلحون

وخالصة القول أن الشخص املسلم هو النقيض التام للراهب سواء البوذي أم املسيحي، الذي بأمر نفسه وحدها؛ ألن اخلالص والفالح يف فهمه، يتمثل يف حالة وعـي ينعزل عن اآلخرين، ليعتين

. ميكن للمرء أن حيدثها لنفسه، وال يستطيع أحد غريه أن يكون حكما عليها

بوسعنا، مرة أخرى، تصـنيف التشـريعات :الفاعل األخالقي واألشخاص اآلخرون .٢ ات، إىل تشريعات متعلقة حباجام املاديـة املرتبطة بالضرورة بأشخاص آخرين، وهي أغلبية التشريع

ساحة "وتغطي التشريعات املتعلقة بالوعي قضاء حيسن تسميته . اجلسدية، وتشريعات متعلقة بوعيهمفاملسلم مكلف بتعليم من يعوهلم، والبشرية مجعاء، وإلسداء النصح هلـم علـى ". التربية والشورى

ومن األدلة علـى . باين الذي كلف اهللا البشر بتحقيقهالدوام، دف جعل حيام جمسدة للنموذج الرمسو شأن الفاعل املسلم األخالقي بفريضة التربية والنصيحة للمسلمني، أن اهللا تعاىل سوى بينها وبني

٦٨

ت إال الذين آمنـوا وعملـوا الصـالحا ، إن اإلنسان لفي خسر، والعصر( :يقول اهللا تعاىل. الفالح ].٣-١: العصر[ )وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر

والغاية النهائية لكل اجلهود . واألمر باملعروف والنهي عن املنكر هو التربية يف أمسى معانيهما فاإلسالم دين ال يقيم وزنا على اإلطالق ملقوالت . التربوية يف اإلسالم هي حتصيل الفضيلة واالستقامة

فما يوقره اإلسالم بوضوح هو املعرفة النافعة، أي اليت تساهم . رفة لذات املعرفة أو الفن لذات الفناملعبوضوح يف االنتفاع خبريات الطبيعة، وإنتاج السلع واخلدمات املرتبطة بإشباع االحتياجـات املاديـة

. لإلنساناجلسدية، أي دور اإلنسـان وبذا نأيت إىل التشريعات املتعلقة بإشباع اآلخرين الحتياجام

وهنا جند أنفسنا، مرة أخرى، أمام بيان قرآين كلـي، . املكلف يف إشباع اآلخرين الحتياجام املادية . يقول اهللا تعاىل يف سورة املاعون. ميتلك على اإلنسان كيانه كله

حـول يف ضوء ما سلف، يتبني أن اإلجابة على السؤال :الدنيوية واإلنسان االقتصادي .٣ فاإلنسان، حبق، كائن اقتصادي، . إمكانية تعريف اإلنسان بسعيه االقتصادي، هي باإلجياب بالضرورة

ولكن ليس باملعىن الذي أراده ماكس ويرب، الذاهب إىل خضوعه لقوانني اقتصادية ال معقب عليهـا االقتصـادي الـذي إال أن النموذج. فالقوانني االقتصادية قد تكون آمرة يف ذاا. يمن على نشاطه

فاإلنسان حر يف أن يسوس حياته بنموذج خيتاره . خيضع اإلنسان حياته له، ميثل خياره اخلاص املتعمدومن هنا فإن املقصود بكون اإلنسان كائنا اقتصاديا هنا، أن النموذج . من بني مناذج اقتصادية عديدة

. طبيعته، وفكرته عن نفسه االقتصادي الذي خيتار تنظيم حياته مبا يتوافق معه، حيدد

وال عمل للـذين . وتأسيسا على ذلك، اعترب اإلسالم الدين طريقة لتوجيه احلياة على األرض فالدين بعد من أبعاد احلياة الدنيوية، يتحقق بتمامه، حني حييـا اإلنسـان يف . غري حتقيق هذا اهلدف

حني يضطلع باملسئولية امللقاة على عاتقه حبكـم الدنيا ملتزما باألخالقية اليت كلفه اهللا تعاىل ا، أيوعلى النقيض من األديان األخرى اليت شيدت لنفسها مملكة . خالفته جتاه نفسه وجتاه الطبيعة واتمع

كاملة أخرى غري هذه احلياة الدنيا، حيكموا فيما وراء احلياة على األرض، فإن اإلسالم أعلن أنه هو . ذه احلياةنفسه ضمري هذه األرض وه

عاملية النظام االقتصادي اإلسالمي ال يصب موقف اإلسالم، السالف بيانه، من املادة، املؤكد على خرييتها وضرورا، على حنو

فريد من نوعه بني كل ما عرفه العامل من أديان وأيديولوجيات، لصاحل أي مجاعة مـن البشـر مـع . استيعاب اجلماعات األخرى

٦٩

م، من جهة أخرى، مبوقفه هذا إىل إفادة مجاعة ما بدرجة تفوق غريها مـن وال يسعى اإلسال فاألمر اإلهلي التكليفي لإلنسان حبضه على السعي من أجل تغيري ظروفه املادية، والكـدح . اجلماعات

. من أجل حياة الوفرة، واالنتفاع بالطبيعة، واالستمتاع بالطيبات، موجه للناس مجيعا

قدمة املنطقية املطولة للمضامني اإلسالمية للنظام االقتصادي، إىل مبـدأين وخنلص من هذه امل وثانيهمـا . أساسيني، أوهلما وجوب أال يستغل أي فرد أو أي مجاعة، أي فرد أو أي مجاعة أخـرى

وجوب عدم انعزال أي مجاعة أو انفصاهلا عن بقية اجلنس البشري، دف قصر وضعها االقتصـادي . ضع الثراء أم العوزعليها، سواء كان و

أخالقيات اإلنتاج خلق اهللا سبحانه وتعاىل اإلنسان لعبادته، وجعله خليفة بأمره يف األرض، وسخر لـه كـل

. شيء يف الكون، وأمره صراحة بالضرب يف األرض ليبتغي من فضل اهللا، ولينتفع بالطبيعة ويستمع ا ]. ١٠: اجلمعة [ )الله فضل من وابتغوا الأرض في فانتشروا الصلاة قضيت فإذا( :يقول اهللا تعاىل

: املبادئ األخالقية لإلنتاجيشمل اإلنتاج قيام املنتج باسـتخراج املـواد :ل للموارد يف اإلنتاجؤواالستخدام املس .١

والبـد أن يكـون . الصناعي األولية، أو استخدام القوى اإلنتاج، سواء يف جمال اإلنتاج الزراعي أمويترك اإلسالم للمجتمع، ممثال مبا يقيمـه مـن مؤسسـات . استخدام تلك املوارد الطبيعية مسئوال

ويتعـارض . مناسبة، تنظيم استخدامات املوارد الطبيعية على حنو يليب مطلـب االنتفـاع املسـئول .االستخدام املسئول مع اإلسراف والتضييع

– ٢٦: اإلسـراء [يف اإلسراف أو التبديد، بأنه من إخوان الشياطني ويصف القرآن من يقع ويفرض االستخدام املسئول للموارد الطبيعية على اإلنسان استعماهلا باملقـادير وباألشـكال ]. ٣٠

. املطلوبة لإلنتاج، وأن يكون اإلنتاج بدوره مربرا باحلاجة اإلنسانية إليه

. لو إنتاج السلع واخلدمات متاما من الغـش والتغريـر يقضي اإلسالم خب :طهارة اإلنتاج .٢ وليتمكن احملتسب من القيام ذه املهمـة علـى . وتتوىل مؤسسة احلسبة مسئولية حتقيق هذا الشرط

وجعلت من حقه، بل من واجبه، أن ال . أحسن وجه منحته الشريعة سلطة الضبط والفصل القضائيبل يبادر ويـذهب إىل امليـدان ويتحسـس الشـكاوى، ينتظر حىت ترفع إليه املظلمة من متضرر،

إال . واالنتهاكات، وما يقع من ضرر، بنفسه واآلن انتقلت مهام احملتسب إىل أجهزة حكومية جديدة

٧٠

أن تلك األجهزة تفتقر إىل ما كان يتمتع احملتسب به من حافزية وإقدام ومبادرة يف كشف التعديات، . هزة احلداثة ينقصها احلماس للخري املتولد من اإلميان باهللاوسبل وضع اية سريعة هلا، ألن أج

أن : أما يف ظل اإلسالم فإن املنتج حمكوم بأربعة مبادئ، تؤثر على إنتاجه بشكل مباشر، أوهلا دينه وشريعته ال يسمحان له باالخنراط يف إنتاج شيء ما دف الـربح وحـده فاإلنتـاج يهـدف

ر بأشياء نافعة ومفيدة، وميثل الربح أحد املخرجات الثانوية لعملية اإلنتـاج، بالضرورة إىل تزويد البشعدم إنتاج املـواد الضـارة باإلنسـان، أو احملرمـة : أما املبدأ الثاين، فهو . وليس اهلدف الرئيس هلا

. بالشرع، على اإلطالق، إال على سبيل االستثناء يف احلاالت اليت يقوم الدليل على وجوب إنتاجهـا : أما املبدأ الثالث فهـو . ويتم يف هذه احلالة اختاذ اإلجراءات الكفيلة مبنع ضررها من أن يطول البشر

وجوب تقدمي املنتجات على ما هي عليه يف حقيقة أمرها، وعدم متويهها على النحو الـذي يطيـب أما املبدأ الرابع، فهو .ومينع هذا املبدأ اللجوء إىل التعبئة والتغليف كفن للخداع. للناس أن تكون عليه

إن التزام املنتج بالتوحيد، يوفر الضمري املطلوب جلعله يلتزم الصدق من تلقاء نفسه، ويرعاه بصـرف وتقع قضايا انتهاك أخالقيات اإلنتاج، يف الشريعة اإلسالمية، . النظر عن اخلوف من حماسبة الدولة له

إىل تقرير احلق يف التعويض لكل مـن يقـع وباإلضافة . ضمن اختصاص القضاء اإلداري املستعجلعليهم الضرر أو التغرير، توقع عقوبات مناسبة على املتسبب، تتناسب مع جسامة املخالفة، بوصـفها

. حاالت من احلنث بالعهد مبخادعة اهللا والبشرية والدولة

أخالقيات االستهالك نـابع مـن التوحيـد، علـى شـرعية ينطوي مبدأ اإلقرار بالطابع اإلجيايب للحياة الدنيا، ال

فاالستهالك مبعىن إدراك القيم املادية، أو إشباع الرغبات واحلاجات، حق أسـاس لكـل . االستهالكوحدة األدىن هو ما به قوام حياته، وحده األعلى هي النقطة اليت ينقلب االسـتهالك . إنسان باملولد

. عندها إىل التبذير واإلسراف

ة اإلسراف هذه باحلالة اليت يتقرر استهالك السلع املادية فيها بتـأثري وميكن حتديد بلوغ نقط وحينما تكون السلعة أو اخلدمة املعنية ذات طابع . عوامل نفسية، أكثر من تأثري احلاجة املادية احلقيقية

نفسي، فإنه ميكن حتديد نقطة اإلسراف بأا تلك اليت متلي االستهالك فيها عوامل نفسية أخرى غـري ومن أمثلة احلالة األوىل شراء شخص ما منتجا مـا . تلك املتأثرة مباشرة بتلك السلعة أو بتلك اخلدمة

ومن أمثلة احلالة الثانية، شراء شخص ما تـذكرة حلضـور . ليس ألنه حيتاجه، وإمنا من قبيل التفاخررفه األكثر ثراء، يف حفل موسيقى، ليس من أجل االستمتاع باحلفل، وإمنا من أجل أن يبز جريانه ومعا

. الشهرة باإلنفاق

٧١

أما يف ظل التوحيد، فإن املرء يستهلك بقدر حاجته، وينفق بقية دخله أو ثروته على الصدقة ابتغاء وجه اهللا، أو يعيد استثماره يف مشروع أعمال، فيتسبب يف توليد املزيد من الثروة ومن فـرص

لنيب عن القدر الذي جيب على املسلم إنفاقه من ثروتـه وملا سأل الصحابة ا. العمل والدخل لآلخرين]. ٢١٩: البقرة[ )ينفقون قل العفو ويسئلونك ماذا( :أو دخله يف سبيل اهللا، ترتل الوحي باإلجابة

وتستبطن هذه اإلجابة القرآنية حتديدا للتبذير مبفهوم املخالفة، ببيـان . والعفو هو ما زاد عن احلاجة. وهو ختصيص كل ما زاد عن إشباع احلاجات احلقيقية لإلنسان للصـدقة أو الشـأن العـام نقيضه

املشار إليه " العفو"وزيادة اإلنتاج ومتطلباته من االستثمار ومهارات املقاولة متضمنة بالطبع يف مفهوم . يف هذه اآلية الكرمية

وبني النظام االقتصادي، بالفالح وخالصة القول، أن التوحيد يعد األمة، بالعالقة الوثقى بينه قل هل تربصون بنا إلا إحدى ( :يقول اهللا تعاىل. يف الدنيا واآلخرة، أو باحلسنيني كما مسامها القرآن

فتربصـوا إنـا معكـم الحسنيين ونحن نتربص بكم أن يصيبكم الله بعذاب من عنده أو بأيـدينا ، بتوفري السعادة املادية والنفسـية وحني تتقاعس األمة عن حتقيق احلسنيني] ٥٢:التوبة[ )متربصون

والروحية يف واقع احلياة على األرض على حنو أخالقي يضمن هلا رضا اهللا واجلنة، فإا تكـون قـد واملسلم علـى اسـتعداد . ليل على أم غري أهل لثقتها مفشلت على حنو يرثى له، وأقام قادا الد

بل إنه على استعداد للخضوع لنظـام . لتقبل القيادة والتوجيه والضبط والتعبئة بوصفه عضوا يف األمةوالبد أن يسفر ما يبذلـه . صارم عند الضرورة امللجئة، من أجل أن يضمن احلسنيني لنفسه وإلخوانه

ياته اإلنتاجية اليت تدوم أربعني عاما يف املتوسط، عن إنتاج يكفـي ويزيـد من طاقة يف العمل يف حومن الواجب تنظيم احلياة االقتصادية جيدا على . لتغطية متطلباته املعيشية هو ومن يعوهلم مدى احلياة

يعة، وإذا مل يتحقق ذلك، فإن املسئولية ال تقع على كاهل األفراد وال الطب. حنو يكفل حتقيق احلسنينيكما تكونـوا : "ومع ذلك، فإن اإلسالم يعلمنا بكل وضوح أنه . بل على عاتق قادة األمة وحكمها

وبالتايل، فإن مثل هذا الفشـل يتعلـق باألمـة يف . فال يوجد شعب أفضل من قادته". يول عليكم . جمموعها، ومعاجلته حتتاج لتغيري جذري يتجاوز جمرد تغيري احلكومة

٧٢

)بدأ النظام العامليم(لتوحيد ا

األخوة العاملية

وعمومية تلك األوامر . واحد أحد ال شريك له، فإن أوامره تسرى على كل البشر مبا أن اهللا . وعامليتها تنطبق على البشر بوصفني؛ من جهة، بصفتهم فاعلني مكلفني بتحقيق األوامـر التكليفيـة

وأقام البشر روابطهم . أوامر اهللا تعاىل التكوينيةومن جهة أخرى بوصفهم موضوعا هلا، تتحقق فيهم أما اإلسالم فجاء برابطة جديدة بني البشـر هـي . قبل اإلسالم على العرق أو الثقافة، أو عليهما معا

". األمة"وجاء اإلسالم مبسعى إعادة تنظيم العامل على أساس من رؤية اإلنسان للحقيقـة الواقعـة،

ه لنفسه ولعشريته ولذريته، ورؤيته للمصري النهائي لنفسه كفرد وللجـنس وللمثل األعلى الذي ارتضاوال حيرم اإلسالم غريا ملسلمني من شرف، . ويضم الدين كل تلك الرؤى حتت مظلته. البشري برمته

وعلى العكس من ذلـك، . اختاذ كل أصحاب دين منهم، من دينهم ناظما حليام، أسوة باملسلمنيى أن يتمتع غري املسلمني بشرف حتديد هويتهم بدينهم، ويرفض االعتراف ـم فإن اإلسالم يصر عل

ومن أهم مصادر الفخار لإلسالم أنه يعترب غري املسلمني منافسني . كأمة وكرابطة على أي أساس آخرللمسلمني يف أهم قضايا احلياة على هذه األرض، وال يعترف م إال كجماعـات متشـكلة حـول

. تعلقة بتلك القضايا الكربىالرؤية الكلية امل

٧٣

أن الدولة اإلسالمية ليست مكلفة بأن تضم طوائف مسيحية ويهودية، وطوائـف أخـرى ومن هنا كان من الضروري . كوحدات تأسيسية يف بنيتها فحسب، بل بأن تضم اجلنس البشري كله

وتتسابق يف الصـالح أن تتسع بنيتها لطريقة للعيش املشترك، حتيا يف ظلها كل اجلماعات يف سالم،وتوفرت كل تلك املقومات بدستور . واخلريات، وتتفاعل فيما بينها على أساس من االحترام املتبادل

. الدولة اإلسالمية

النظام العاملي اجلديد الذي يدعو اإلسالم إىل قيامه نظام سالم، شعاره هـو : السالم اإلسالمي األبد، بسالم عام ومفتوح للجـنس البشـري كلـه إزالة احلرب والعداوة من األرض إىل: وجوب

: البقرة[ )يا أيها الذين آمنوا ادخلوا في السلم كافة( :فاهللا تعاىل يأمر املسلمني أن. بأفراده ومجاعاتهن وإ (:يقول اهللا تعـاىل . ، ويأمرهم بدعوة البشرية كلها إىل السالم، واالستجابة للدعوة إليه]٢٠٨

يملالع يعمالس وه هإن لى اللهكل عوتا وله حنلم فاجلسوا لحن٦١: األنفال[ )ج .[

إذا جاء رد دولة ما على عهد السالم املعروض مـن جانـب الدولـة : قانون األمة اإلسالمية ي أو يف النظام العاملي اجلديد، وتصـري اإلسالمية بالقبول، فإن تلك الدولة تدخل يف السالم اإلسالم

على حنو آيل أهال للحصول على كافة احلقوق واالمتيازات املترتبة على العضوية فيه، دون أي مساس بل إن تلك املؤسسات تصري مستحقة . مبؤسساا الدينية والسياسية واالقتصادية واالجتماعية والثقافية

. حلماية الدولة اإلسالمية هلاوة على ما سلف، فإن من احملرم شرعا السعي إىل إدخال أحد يف اإلسالم بـاإلكراه أو وعال

ويؤكد التحرمي القرآين القاطع ألي إكراه يف الدين، أن لعنة اهللا تعـاىل . بالغش أو اإلغراء أو الرشوة: البقـرة [ )الـدين لا إكراه في ( :يقول اهللا تعاىل. على من يكره غريه أو يرشوهم ليعتنقوا اإلسالم

بل تصل الشريعة اإلسالمية إىل ما هو أبعد من ذلك، حيث در إسالم من يتحول إليه مبثـل ] ٢٥٦ . تلك السبل احملرمة، وال ترتب عليه أية آثار على اإلطالق

ال يطلب اإلسالم، يف مقابل كل هذه احلقوق واملزايا اليت تترتب على دخـول األفـراد : احلرب يف السالم اإلسالمي، غري الوالء للنظام العاملي اإلسالمي اجلديد، إىل جانب فرض ضريبة واجلماعات

سنوية على غري املسلم الذكر الراشد، أدىن بكثري من قيمة الزكاة املفروضة علـى املسـلم، تسـمى . اجلزية، مع إعفاء رجال الدين وغري القادرين ماديا منها

وضعه للزكاة، فإن الضريبة املفروضة على غري املسلمني، ويف حني خيضع كل مسلم أيا كان تقدر حسب أوضاع اإلقليم الذي يعيشون فيه، وتراعى فيها االستطاعة، ويعفي منها رجال الـدين،

. والذين مل يبلغوا احللم والنساء والورثة

٧٤

)مبدأ اجلمال(التوحيد

الوحدة الفنية اإلسالمية وحتدياا

فعلى الرغم مما قد يلمسه مؤرخو . ي حقيقة ال ميكن إغفاهلا أو التنكر هلاوحدة الفن اإلسالم ذلك الفن من تنوع كبري يف موضوعاته ومواده وأساليبه الفنية، املتمايزة مبعياري اجلغرافيا والتسلسـل الزمين، فإن احلقيقة الدامغة تظل متمثلة يف وحدة الفن اإلسالمي كله من حيث الغاية والشكل، على

عـن *فبمجرد الدخول يف اإلسالم، كشفت الفنون من قرطبة إىل مندناو. ختالف األمكنة واحلقباوحدة يف اخلصائص التكوينية، وعن جتنب حماكاة الطبيعة، والوصف التشخيصي والتطوير، وعن حتبيذ

. التنميط، والشكلية املولدة للحركات، والالحمدودية

آن الكرمي، واستخدمت منه كلمات بليغة ز الوجدان، جلأت كل الفنون اإلسالمية إىل القر وجلأت إىل احلديث النبوي والشعر العريب، والفارسي، جوامع احلكمة اإلسالمية، ورمستـها بـاخلط

وباملثل جتاوب املسلمون مجيعا يف كل العصور من صميم قلوم مع نداء الصالة، ومع التالوة . العريبنسبة لغري الناطقني بالعربية ممن ال يفهمون من معانيها إال النذر اليسـري، أو القرآنية املوجودة، حىت بال

فهم يف مثل هذه احلاالت ال يتفاعلون معها مبلكة التعقل والفهم، بـل . حىت ال يدركون معانيها باملرةايل ويتماثل ذلك الفهم اجلم. مبلكات احلس واحلدس اليت تتحرك بكاملها بإدراك جلي لقيمها اجلمالية

ذلك أن مكـان . يف قوته، مع الفهم النظري ملن لديهم القدرة على قراءة تلك النصوص وفهم معانيها

.من أكرب اجلزر يف الفلبني *

٧٥

أما فهم اخلطاب، فبعد جمرد عامل . الصدارة يف فهم القيمة اجلمالية يكون للحدس املباشر على الدوام . ثانوي مساعد له فحسب

رؤاهم على فرضية خاطئة، بل مغرضة، فحواها أن أولئك املستشرقني مجيعا بال استثناء، بنو أن اإلسالم مل يقف عند حد عدم املسامهة بشيء يف فنون املسلمني عرب العصور، بـل إنـه عرقـل اجتاهام الفنية، وقيدها وأفقرها، حبيث احنصرت اإلضافة اجلمالية الوحيدة هلم يف التفـنن الـدائم يف

وزعـم . بدوره بالتعصـب األعمـى ) هريزفيلد(هو ما نعته كتابة اآليات القرآنية باخلط العريب، و، بال أي تذوق فين، أن اخلروج على ذلك التقليد، بترمجة معـاين القـرآن إىل لغـات )اتنجهاوزن(

. أخرى، ميثل بداية اية هذا االحتكاروحاول كل منهم اإلبانة عن أن ما أنتجه املسلمون من أعمال فنية خاليـة مـن التعصـب

وزعموا أن النبالء أو السالطني املسلمني . ، إمنا جاء باملعارضة لإلسالم وباخلروج على تعاليمهاألعمىرعوا فنونا تصويرية يف قصورهم ومكاتبهم، واستمتعوا باملوسيقى الدافعة إىل معاقرة اخلمور وارتكاب

. الفاحشة باملخالفة لتعاليم اإلسالم

التعايل يف اجلمال فكل شيء يف اخلليقة، خملوق . فاصلة الوجودية بني األلوهة وعامل الطبيعة كلهيعىن التوحيد امل

وغري متعال، وخاضع لسنن الزمان واملكان، وال يصلح أي شيء منه ألن يكون إهلا أو إهليا بأي معىن، عامة، وباملعىن الوجودي الذي ينفيه التوحيد بوصفه جوهر اإلميان بإله واحد للكون، علـى وجـه

بـل إن التوحيـد . واإلله هو اآلخر املطلق املغاير بالكلية للطبيعة، املتعايل األوحد بالتايل. وصاخلصفاطر السـماوات ( :يقول اهللا تعاىل. يؤكد، عالوة على ذلك، أنه سبحانه وتعاىل ليس كمثله شيء

عالأن نما واجوأز أنفسكم نل لكم معض جالأرء وـيش ـهثلكم سلـي يهف كمؤذرا ياجوام أز( ومن مث، يستحيل أن يكون يف اخلليفة أي شيء ميكن أن يكون شبيها باهللا أو رمزا ]. ١١: الشورى [

ويستحيل بالنسبة له سبحانه وتعـاىل . فهو سبحانه، بالتعريف ذاته، أمسى من أي وصف. له، أو ميثله . ، فضال عن احلسياحلدس اجلمايل

وتعين التجربة اجلمالية، الفهم عرب املعطي العقلي بوجود جوهر أول ما ورائي، متجاوز لكل . ما هو طبيعي، يعمل كمبدأ معياري للشيء الظاهر، حمددا ما ينبغي أن يكون عليه ذلـك الشـيء

–ل يف حالة الكائنات احلية واجلمي. اقريبا من ذلك اجلوهر كان أكثر مجال ئيوكلما كان الشيء املرهو املطابق لذلك اجلوهر األول، بأعلى درجة مسـتطاعة، –النبات واحليوان واإلنسان بوجه خاص

حبيث يكون بوسع كل صاحب بصرية أن حيكم حبق بأن الطبيعة قد عربت عن نفسـها يف الشـيء

٧٦

عنه يف حاالت نادرة، اجلميل بوضوح وفصاحة، وأن الشيء اجلميل هو الكاشف عما تريد أن تفصح . من بني أوجه قصور ال حتصى

. فالفن هو عملية استكشاف داخل الطبيعة لذلك اجلوهر املاورائي، ومتثله يف شكل منظـور ومن الواضح أن الفن ليس حماكاة للطبيعة املخلوقة، وال هو تصوير حسي كامـل ألشـياء حقيقيـة

عيد إنتاج الشيء على ما هو عليه مفيـدا يف البيـان فقد يكون التصوير الفوتوغرايف الذي ي. طبيعيةالقراءة يف : "فالفن هو. ولكن ال قيمة له مبعيار العمل الفين. والتوضيح، ويف التوثيق، ويف حتديد اهلوية

. الطبيعة حبثا عن جوهر غري طبيعي، وإعطاء ذلك اجلوهر الشكل املرئي املناسب له

المي، ابتكر الفنان املسلم فـن الزخرفـة، وحولـه إىل وسريا على هذا اخلط الفكري اإلس ، اليت هي تصميم غري جتسيدي، ميتد يف كل االجتاهات إىل مـا "باألرابيسك"الزخرفة العربية املعروفة

شكل الشيء الطبيعي الذي يزينه، سواء كان نسيجا أم معدنا أم آنيـة، " األرابيسك"وحيول . ال ايةأم عامودا، أم نافذة، أم صفحة من كتاب، إىل منوذج طاف، شفاف، مرهـف، أم حائطا، أم سقفا،

وال يعود الشيء املأخوذ من الطبيعة هو نفسه، بل يصري شـيئا . ميتد إىل ما ال اية يف كل االجتاهاتوبالتعبري اجلمايل، يغدو الشيء الطبيعـي باملعاجلـة . جديدا حتولت طبيعته، وأصبح جمرد جمال للرؤية

ومبالحظة موحيات الالائية فيه، يدرك اإلنسان، عـرب النفـي . ، نافذة إىل الالحمدود"ألرابيسكيةا" . وحده، املعىن الوحيد من معاين التعايل، الذي ميكن متثله باحلس واحلدس

جتدر اإلشارة إىل أن حقيقة عدم وجود شيء يف اخلليقة، :الفتح املعريف اإلسالمي يف علم اجلمال تخدامه كمطية للتعبري عن الذات اإلهلية، ال تنفي بذاا إمكانية استخدام شيء طبيعي كمطية ميكن اس

فعـدم . للتعبري عن تلك احلقيقة ذاا من مدخل النفي، أي بيان أنه سبحان مطلق وجيل على الوصف والتعبري عن حقيقة أنه مستعص على الوصـف . وصف اهللا تعاىل لكونه مستعصيا على الوصف شيء

ومن املسلم به أن حتدي التعبري احلسي عن حقيقة استحالة الوصف احلسي هللا تعاىل، ليس . شيء آخرويف الرد على هذا التحـدي سـجلت . باألمر السهل بالنسبة خليال أي فنان، ولكنه ليس باملستحيل

. عبقرية الفنان املسلم فتحها الفين املبنيومتثل احلل الفريد واملبـدع . على نفسه أن يواجههالذي آل الفنان املسلم وهذا هو التحدي

واألصيل، الذي جادت به قرحيته يف تصوير النبات أو الزهرة املنمطة بتكرار نسقي ال ائي، كما لو فالشيء . كان يريد نفي أي شبهة تشخيص، ويزيل، بالتايل، مستها الطبيعي من الوعي مجلة وتفصيال

وإذا استطاع الفنان، أن يعرب مجاليـا . ماثل يعرب بالقطع عن الالطبيعيغري الطبيعي املكرر على حنو متبواسطة شيء غري طبيعي مكرر عن الالائية واستحالة الوصف، فإن النتيجة اليت يصل إليها قد ترقي

٧٧

، لكون مسيت اسـتحالة الوصـف "ال إله إال اهللا"إىل مستوى التعبري الشفهي واخلطايب عن شهادة أن . ية اللتني مها مضمون ذلك التصوير الفين مستوحيتني كخاصيتني لغري الطبيعيوالالائ

للتوصل إىل حل للسؤال سالف الـذكر، جلـأ الـوعي : مخرية اإلسالم التارخيية : الوعي العريب اإلسالمي إىل أساسه التارخيي املتمثل يف الوعي العريب، بوصفه املادة التارخيية اليت شـكلها الـوحي

وجتسد هذا الـوعي يف . ، واستعملها كسياق اجتماعي لترتله، وكمطية وحامل للحقيقة الربانيةاإلهليشخص النيب حممد صلى اهللا عليه وسلم، الذي ترتل عليه الوحي، وبلغه للجنس البشري يف هذه احلياة

يف فـن وكان ما حققـه . وكان هذا الوعي هو الوسط الذي جاءت فيه النبوة. الدنيا مبكاا وزمااواستوجبت تلك احلقيقة أن يكون منط الوحي اجلديـد . اللغة واألدب قبل اإلسالم، ميثل معجزة حبق

. غاية يف البالغة األدبية، بالنظر الستعداد الوسط الذي ترتل فيه له، وقدرته على محله وتبليغه

الذي خدم كخمرية ورحم هذا هو الوعي العريب : املأثرة الفنية األوىل يف اإلسالم :القرآن الكرمي ، بوصفه الكتاب املعجز، والتحقيق األمسى لكـل )القرآن الكرمي(وجاء الوحي اإلسالمي، . لإلسالم

ومن املؤكد أن . فالقرآن أحق ما يف الوجود مبسمى الفن. مثاليات وأعراف ذلك الوعي، دفعة واحدةذا التأثري قد بلغ درجة من العمق يصري وإذا كان ه. العقل املسلم تأثر بالقرآن أكثر من أي عامل آخر

فليس . معها مقوما تكوينيا لذلك العقل، يف أي جمال من ااالت، فإن ذلك يصدق على جمال اجلمالوليس مثة مسلم مل تنطبع . مثة مسلم، ال يهزه من أعماق كينونته، إيقاع القرآن ونظمه، وأوجه بالغته

. ه، ومل تعد تشكيله على منواهلاأعراف ومعايري مجال القرآن يف وجدان

اعتمد الفن املرئي الغريب، بشكل شبه كامـل، علـى الطبيعـة :التحقق اجلمايل يف الفنون املرئية البشرية، سواء بالتعبري عنها يف شكل آدمي، أو مبنظر طبيعي نابض باحلياة، أو حـىت بتصـميم أو ال

وملـا مل . أ بالطبيعة البشرية، بل اهتم بالطبيعة اإلهليةأما الفن اإلسالمي املرئي فلم يعب. تصميم جتريدييكن هدفه هو الكشف عن أوجه جديدة للطبيعة البشرية، فإنـه مل يبحـث يف مجاليـات الشـكل

. اإلنساين، أي أنه مل يصور دقائق التحوالت يف املظهر اإلنساين املعربة عن الطبيعة البشرية

سانية، والفكرة القبلية الذاهبة إىل إمكانية تقسيمها إىل ورأي الفنان املسلم أن الشخصية اإلن ماليني التفصيالت الكاشفة عن عمق آخر، أو عن مسوما يف الشخصية اإلنسانية، أمور هامشية خارج

والوقوف يف احلضرة اإلهلية بالنسبة . فاهللا تعاىل هو حبه األول، وشاغله األول واألخري. دائرة اهتمامهوهلذا اهلدف، أحـاط املسـلمون . وة سنام األصالة والنبل واجلمال، يف الوجود كلهلذلك الفنان، ذر

. أنفسهم بكل ما من شأنه أن تعزيز وحتفيز قابليتهم حلدس هذا احلضور

٧٨

بلغ استحواذ األلوهية املتعالية على وعي املسلم، حـد : الفن األرقى للوعي بالتعايل :اخلط العريب وبلغ شغف ذلك الوعي بالتنقيب عـن سـبل ووسـائل . عنها حيثما حل الرغبة يف أن يراها معربا

لإلفصاح عن احلضور اإلهلي حدا تفتقت معه عبقريته عن أعظم منط وأخصبه لتحقيق هذا املقصـود فلم تقف قرحية الفنان املسلم عند حد ابتكار األرابيسك الالمتنـاهي يف التنـوع يف . عرفه اإلنسان

وظلت قرحيته بعد . كل مادة فنية متصورة حبيث تصري مرآة عاكسة جلوهرها الفنون املرئية، بل طوع . ذلك كله متأهبة لتحقيق نصر ائي آخر يف هذا املضمار

وحشـد . وأدى تبجيل القرآن يف نفوس املسلمني كافة، إىل انتشار فن الكتابـة بسـرعة فق صارت . كل حلظات حياته املسلمون له أعظم ما لديهم من مواهب، وجعلوه مالزما للمسلم يف

وخبطوط بديعة، نقشت الكلمة العربية على احلجر أو اجلص . الكتابة العربية هي الفن اإلسالمي العامأو اخلشب، أو الورق، أو اجللود، أو األقمشة، وزينت ا املنازل واملكاتب واحلوانيـت واملسـاجد،

حضوره يف كل مكان، حدا مل يعد من املمكـن وبلغ تأثري هذا الفن، وتغلغله و. واحلوائط والسقوف . معه أن تتقاعس أي مدينة أو قرية مسلمة عن إنتاج عشرات الروائح الفنية منه عرب القرون